في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة يتابع محرر (الكلمة) مشاهداته في مهرجان أفينيون هذا العام، 2019، ويتأمل الاعمال العربية فيه وتخلي الغرب عن كثير من دعاواه الإنسانية، وعملين من الرقص الحديث، قبل أن يتريث قليلا عند بعض أعمال مهرجان أفينيون الهامشي، وكيف ساهمت عروضه في تنشيط مسرحية الممثل الواحد.

مهرجان أفينيون المسرحي الثالث والسبعون (3)

إسهامات عربية والرقص ومهرجان الهامش

صبري حافظ

 

يصعب الحديث في دورة هذا العام عن أي إسهامات عربية في المهرجان؛ ولكن هناك عملين تناولا جوانب من قضايا الإنسان العربي في مهرجان أفينيون هذا العام (2019). وهما عملان فرنسيان من حيث المنطلق، وحتى الانتماء المسرحي، برغم مشاركة عرب فيهما كتابة أو تمثيلا أو إخراجا. وهما عملان يكشفان عن أعراض تخلي الغرب، خاصة، عن الكثير من القيم الإنسانية التي طالما نادى بها، ورادت خطوات تقدمه وحضارته. وهو الأمر الذي سبق أن بلورت الباحثة الأمريكية الماركسية سوزان بَك-مورس خطوطه العريضة في كتابها المهم عن (عوالم الأحلام والكارثة: انتهاء اليوتوبيا الشعبية في الشرق والغرب). حينما كان الغرب يقدم عالمه على أنه عالم الحلم الجمعي بالثراء والحرية والفرص المتساوية والتحقق للجميع. فنحن الآن في عالم يقبع على قمة أقوى بلدانه الغربية اقتصادا وعتادا عسكريا أحمق هو دونالد ترامب. يتخلى بشكل سافر عن كل القيم والأعراف التي طالما تغنى بها الغرب وبرر بها هيمنته. وينعكس وجوده ومنهجه بالقطع على بقية البلدان الغربية وإن بدرجات متفاوته. لأن المسرحيتين تجلبان الإنسان العربي المغلوب على أمره في واقعه الرديء إلى فرنسا، بوهم إمكانية العثور فيها على خلاص ما، ولكنه يواجه فيها أعراض تخلي الغرب عن قيمه كل بطريقته الخاصة.

محمود ونيني وتخلي المؤسسات عن القيم الإنسانية
فمسرحية (محمود ونيني Mahmud et Nini) التي كتبها، أو بالأحرى أعدها هنري جول جوليان Henri Jules Julien وأخرجها للمسرح، تكشف في بنيتها نفسها، وعرضها بلغتين مختلفتين: هما لغة المصري محمود، والفرنسية فرجيني أو نيني عن صعوبة التفاهم عبر حاجز اللغة، وعن أننا بإزاء وضع استحالة التفاهم، لا صعوبته فحسب، مجسدا على خشبة المسرح. فالطريق بين الشخصيتين، والعالمين مليئة بألغام التحيزات المسبقة التي قد تنفجر في وجوهنا في أي لحظة. فالمسرحية تسعى لاستخدام الكليشيهات السائدة، والعبارات المتكررة، وتفكيكها والسخرية منها في الوقت نفسه. لأننا ندخل قاعة مسرح فارغة ليس عليها سوى مقعدين متباعدين عن بعضهما، وخلفهما في المساحة الخالية بينهما شاشة ستظهر عليها الترجمة (ترجمة ما يقوله محمود بالعربية للفرنسية، وما تقوله نيني بالفرنسية للعربية، بالرغم من أن جمهور العرض يفهم الفرنسية، ولم تكن ثمة حاجه لترجمة ما تقوله نيني للعربية، اللهم إلا الحاجة الدرامية ذاتها). فالترجمة نفسها والتي أتاح لها المخرج أن تحتل المكان المحوري وسط الخشبة بين الشخصيتين، من الموضوعات الأساسية التي تتأملها هذه المسرحية، وهل هي قادرة حقا على أن تكون أداة تواصل، أو أن تترجم كل منا للآخر؟ لأنها وهي تسعى لربط كل منهما بالآخر، لا تني تفصل كل منهما عن الآخر في نفس الوقت، وتبقي كل منهما في لغته بعيدا عنه. في توازٍ يجسد صعوبة اللقاء أو التواصل بالمعنى العميق والإنساني للكلمة. لأن اللقاء بالآخر أمر معقد كما تكرر كل شخصية على الأخرى.

ثم تدخل نيني وتجلس على أحد المقعدين، ويدخل من الجانب الآخر محمود ويجلس على المقعد الآخر. والترتيب مقصود، فهي صاحبة البلد وهو الغريب فيه. ويبدأ كل منهما في تقديم نفسه لنا، متحدثا بلغته ومخاطبا الجمهور مباشرة، وليس الممثل الآخر الجالس بالقرب منه على الخشبة. فالمسرحية تفترض أننا بإزاء غريبين تقابلا في قطار. يحكي كل منهما عن نفسه، والحديث للغريب فيه عادة قدر كبير من التحلل من الرقابة الذاتية،. وقدر أكبر من السخرية العفوية من الذات والثقافة معا. وبين الغريبين هناك الشاشة المعلقة التي تظهر عليها الترجمة، تجسيدا لوجود فعل الترجمة المستمر في أي لقاء بين غريبين/ الترجمة بمعناها الأوسع للثقافات والتصورات والاتجاهات والتحيزات والمواقف. ومن خلال إفضاءات كل منهما عن نفسه، وتعليقاته القليلة عما يقوله الآخر، تطرح المسرحية الكثير من الرؤى والقضايا، عن تغير طبيعة الحياة في عالمنا، وعن استحالة العودة إلى زمن كان البعض يزعم فيه بالنقاء العرقي أو الوطني أو حتى الثقافي. ناهيك عن التفوق الثقافي أو القومي.

حيث يؤكد لنا المخرج أنه حينما سُئل في بداية فترة عمله في مصر عما يريد أن يعمل عليه كان جوابه العفوي: إنه يريد أن يشتغل على موضوع الاستشراق. وهذا ما دفع محدثته وكانت ممثلة مصرية إلى أن تؤكد له بدورها أنها كثيرا ما تواجه بأسئلة، وخاصة من أشخاص غربيين، تكشف عن تحيزات استشراقية خالصة، لمجرد أنها امرأة ومسلمة رغم أنها فنانة وممثلة معروفة. أسئلة لا يمكن أن يسألها عادة نفس الشخص لواحدة مثلها في ثقافته. وكيف أن تلك التحيزات تبدو وكأنها بريئة وعابرة ومن الأمور الطبيعية إلى حد كبير، وهذا ما يجعلها مؤثرة وموجعة معا. ويتكشف في النقاش بينهما عن أن تلك التحيزات لا تقتصر على تصور الغربيين للشرقين/ الشرقيات، بل إن تصور الشرقيين للآخر الغربي أمر ينطوي هو الآخر على تحيزاته المناظرة.

لكن الأمر الذي حظي باهتمام معد العرض ومخرجه، هو ليس ما إذا كان للغربي أو الشرقي تحيزاته أو تصوراته عن الآخر، بل إذا ما كان باستطاعته أن يفرض تلك التصورات على هذا الآخر! هذا هو ما أراد أن يختبره، أو أن يدير تجربته المسرحية حوله كما يقول لنا. فقد كان يعرف كلا من محمود وفرجيني، ويريد أن يضعهما معا على المسرح. وقد أخذ النص الذي انتهى إليه العرض (في نوع من الكتابة الركحية القريبة مما يمارسه المسرحيون التوانسة) في التبلور من خلال سلسلة طويلة من التجارب المرتجلة بين محمود ونيني. حيث وضع أمام كل منهما ميكروفون وطلب منه أن يقدم نفسه عبره، وهذا بالضبط ما نراه أثناء العرض. الذي يلعب فيه وجود الميكروفون دوره في تأطير/ تغريب المواجهة. وأن يطرح أسئلته وتصوراته عن نفسه وعن الآخر. وهو الأمر الذي يكسر دينامية الحوار، بل يلغيه! لأننا نشاهد أمامنا شخصين يتحدث كل منهما لنا، أو أمامنا في ميكروفون، ولا يتحدث مع الآخر. في نوع من المنولوجات المتقاطعة، التي تنطوي بعضها على رد فعل على ما سمعه من الآخر أو بالأحرى ما سمعناه منه معا. بل عمد المخرج أن يبقي كل منهما في النصف الخاص به من المسرح. وأن يركز كل منهما على استكشاف نفسه أو / و الآخر وبمحض الصدفة، دون أي حرص على تجنب مزالق التحيزات أو التصورات المسبقة. بل لقد شجعهما على استكشاف حقيقة تلك التحيزات أو التصورات السائدة في ثقافة كل منهما عن الآخر.

لكن بعد سلسلة طويلة من الارتجالات كان لابد من تثبيت النص، كما يحدث عادة في الكتابة الركحية الجيدة. هنا بدأ المخرج يطرح على نفسه أسئلة إدوار سعيد الأساسية في (الاستشراق). بأي حق يحرر/ يحذف/ يضيف أو حتى يعيد صياغة ما يقوله كل منهما؟ وكيف له أن يطلب منهما أن يطرحا ما يبدو مهما بالنسبة له، وقد لا يكون مهما لأي منهما؟ وما هي مشروعية تمثيله لهما، أو تحويلهما إلى شخصيات في عرض يفرض عليه رؤيته؟ خاصة وأنه لا يريد أن يقع في فخ مقولة الاستشراق الافتتاحية/ الاستنكارية التي نقلها إدوار سعيد عن ماركس في حديثه عن فلاحي فرنسا في القرن التاسع عشر: «إنهم لا يستطيعون أن يمثلوا أو يعبروا عن أنفسهم، لابد أن نمثلهم/ نعبر عنهم!» والتي طورها سعيد على الصعيد الجغرافي إلى وقوع الشرق كله، ببلدانه الشاسعة في أسر تمثيل الغرب له أو شرقنته المغرضة، بطريقة تيسر إخضاعه واستنزافه والسيطرة عليه والتحكم فيه.

ها هو كمخرج/ مسرحي فرنسي في الخمسين من عمره، يجد نفسه على وشك الوقوع في شرك تمثيل الشاب العشريني محمود/ الشرقي، وفرجيني/ المرأة الثلاثينية الفرنسية، والتحكم فيما يقولان، وفيما يحذفان من منولوجاتهما الارتجالية، بزعم أنه يفرض عليها حوارية أو درامية أو نسق ما. وقد عمقت هذه الأسئلة من حيرته، ولكنها ساهمت في الوقت نفسه في طرح رؤى العمل وبلورة قدرته على التأثير، واحتفظت له بشيء من الطزاجة باعتباره في بعد من أبعاده عمل عن التمثيل/ تمثيل الذات إزاء الآخر، واستيعاب الآخر كدافع يساهم في بلورة الذات أو وعيها باختلافها/ تفردها/ ذاتيتها أو بالأحرى تحيزاتها وتصوراتها عن نفسها وعن الآخر معا.

وقد فرض اختلاف اللغات/ والثقافات نفسه في نوع فريد من تعابر الثقافات وتقاطعها/ حيث تعبر كل منهما الأخرى دون أن تتفاعل معها، برغم تقاطعها معها في الكثير من الأفكار والتصرفات. فاللقاء بالآخر، كما يكرر كل من محمود ونيني في العرض أكثر من مرة، أمر صعب على الدوام. فمحمود الذي يتحدث بالعامية المصرية وتعلم بالعربية الفصحى، يحمل على كاهله الثقافات العربية، والمصرية والنوبية بمرجعياتها الإسلامية. ويحمل معها إلى الغرب تناقضاتها الناجمة عن كونه مثلي، يعاني من الاضطهاد في ثقافته تلك، بينما نجد أن اخته منقبة تخضع بمحض إرادتها لأقصى ممارسات تطرفاتها الأصولية. وأن ما جاء به إلى فرنسا هو الأمل في أن يمارس حياته المثلية بحرية في بلد يعتقد أنه يقدر حرية الإنسان الشخصية، وينتشله مما يعانيه من اضطهاد، بأن يمنحه حق البقاء فيه/ اللجوء في هذه الحالة. لكن المسرحية تقرأ علينا قرب نهاية العرض رد المؤسسة الفرنسية على طلبه للجوء بالرفض. وهو الرد الذي يكشف بما ينطوي عليه من تناقضات تهكمية على تنصل المؤسسة من عبء مسؤوليتها الإنسانية عن الآخر، والتعلل بالكثير من الأمور الواهية. وهو العبء الذي سنكتشف بالتوازي أنه هو الذي قاد حياة نيني إلى ما تعانيه من إحباط.

ذلك لأن نيني التي تتحدث الفرنسية بخلفيتها اللاتينية ومرجعيتها المسيحية، تعيش هي الأخرى تناقضات ثقافتها التي تربت فيها على وهم عبء الإنسان الفرنسي في نشر حضارته في مجاهل القارة الأفريقية؛ وهي التجربة التي دفعتها إلى السفر إلى أفريقيا الفرنسية هذه المرة، وليس مصر بطبيعة الحال. ولكنها عادت منها محبطة إلى حد كبير. لذلك ما أن تتاح لها بادرة فرصة للقيام بهذا الدور حتى تقترح على محمود بعد أن يتلقى خطاب رفض اللجوء، وبالتالي ضرورة العودة إلى الواقع المصري الطارد الذي هرب منه، أن تتزوجه «زواجا أبيض» كما تقول. فهي تعرف أنه مثلي. لأن مثل هذا الزواج سيتيح له حق البقاء في فرنسا برغم غباء المؤسسة.

إننا هنا بإزاء تجربة وضع اللقاء الذي حدث في قطار ما بين ممثل مصري شاب وممثلة فرنسية أكبر منه سنا، على خشبة المسرح، وتحويله إلى عرض يستطيع سبر أغوار كل منهما، وجذب اهتمام المشاهدين في الوقت نفسه. عرض يكشف عن أن كلا منهما، وربما كل منا، هو مجرد كولاج معقد من الثقافات والتصورات والتواريخ والتحيزات والصبوات المتداخلة والمتنوعة المصادر في آن. وأنه ليس هناك ما يمكن القول بأنه هوية أصلية نقيه أو خالصة ومتكاملة كما يطرحها الخطاب الأصولي القومي منه أو الديني أو حتى الأيديولوجي. وليس هناك في الوقت نفسه من هو مبتوت الجذور أو متحرر من أي من الثقافات التي تشكل الكثير من تصوراته وتحيزاته. فسعي المخرج لتفكيك التصورات الاستشراقية/ الاستغرابية معا، هو ما يطرحه في مواجهة تلك الوثوقيات التي تشد عالمنا المعاصر في الشرق والغرب على السواء إلى ما قبل عصور التنوير والعقلانية. وتزري بحقيقة أن الكثير من انجازات العالم المعاصر التي توفر لنا الكثير، هي بنت التلاقح الحضاري، والاستنارة العقلية، والتسامح الإنساني، على مر العصور.

مكان وتمارا السعدي:
وإذا انتقلنا إلى المسرحية الثانية التي كتبتها وأخرجتها تمارا السعدي Tamara Al-Saadi العراقية/ الفرنسية بعنوان (مكان Place) سنجد أننا بإزاء عمل أكثر نضجا وتركيبا، يستغل الفضاء المسرحي بشكل خلّاق، ويستخدم ما أدعوه بمفردات لغة المخرج لإثراء لغة النص علما بأن كاتبة العرض هي مخرجته في نفس الوقت. عمل استغرقت كتابته ثلاثة أعوام كما تقول لنا كاتبته، ولم تستطع أن تكمله حتى سافرت إلى بغداد، للتعرف على البيت الذي ولدت فيه وأمضت به سنوات طفولتها الأولى. عمل يعي دلالاته السياسية فقد درست صاحبته الفن والسياسة في مدرسة العلوم السياسية المرموقة في باريس Science Po، وأسست مع فلسطينية/ فرنسية ذات تجربة مماثلة هي مايا صنبر Mayya Sanbar فرقة مسرحية أو محترف درامي يدعى القاعدة/ الركيزة La Base تقدم ورشها المسرحية لتلاميذ المدارس الثانوية في منطقة سان دينيس بضواحي باريس، حول موضوع كيفية بناء هوية مجتمعية للمهاجرين في سياق المجتمع الفرنسي. لأن تمارا السعدي تؤمن بضرورة ربط العمل الفني بالفعل السياسي. خاصة وأنها ساهمت في تأسيس MYST وهي جمعية تركز بحثها الذي يستخدم تعدد المقتربات على مسألة الحدود في الصراعات الحديثة.

هذه الخلفية المتميزة التي يمتزج فيها العمل السياسي بالإبداع المسرحي هي التي أضفت على مسرحيتها (مكان) قدرا كبيرا من العمق وتعدد المستويات الدلالية والدرامية على السواء. فهي في مستوى من مستوياتها، توشك أن تكون مسرحية سيرذاتية؛ حيث بدأت كما تقول لنا من الشخصي، لتطرح عبر عملها المسرحي عليه، عددا من القضايا المهمة التي تكشف عن الكثير مما يمور في الواقع الفرنسي الراهن، من ناحية، وبعض ما يجري في عالمنا العربي من ناحية أخرى. فقد انطلقت المسرحية من تأملها لحلم تكرر معها كثيرا وهو نسيانها لكلمة من لغتها العربية الأم. لماذا تصحو منه منزعجة لنسيانها كلمة؟ وما هي دلالة هذا النسيان وأسباب الانزعاج منه؟ خاصة وأن ما كانت تنساه كانت كلمات عادية، بسيطة، تستعمل في الحياة اليومية. أعلى المهاجر أن ينسى لغته الأم كي يتم قبوله في تلك الثقافة الفرنسية الجديدة؟ وما هو ثمن الاستيعاب فيها، خاصة وأن فرنسا تركز على مصطلح استيعاب assimilation أي هضم وامتصاص الأجنبي الآخر فيها، وليس integration أي اندماجه وتكامله مع ثقافتها.

وقد انشغلت تمارا السعدي في محترفها المسمى القاعدة/ الركيزة La Base بتأمل الفرق بين المصطلحين، والمنهجين: حيث يجبرك الاستيعاب على التخلص من خلفيتك الثقافية السابقة، واحتضان الثقافة الجديدة كلية. وهو الأمر الذي عاشت بعض فصوله في مسيرتها، وتقوم بنوع من التفكيك الدرامي له في مسرحيتها. بينما ينهض الدمج أو التكامل على إضافة ثقافة جديدة دون التخلي عن الثقافة السابقة. أيهما أفضل لها في سعيها لبناء حياة جديدة لها في فرنسا؟ وليس لأسرتها التي لاتزال رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما، تتصور أن وجودها في فرنسا وجود عابر ومؤقت، وأنها ستعود آجلا أو عاجلا. وتواصل حياة قريبة من تلك التي كانت تعيشها في بغداد قبل المجيء لفرنسا. وأين موقعها هي بين العالمين؟

وأخذت هذه الأسئلة تردها إلى ذكرياتها الأولى حينما وجدت نفسها، في الرابعة من العمر، في فرنسا التي جاءت أسرتها لها في زيارة أثناء أزمة حرب الخليج الأولى. ثم اندلعت الحرب أثناء وجودهم في فرنسا، فأغلقت دونهم باب العودة. وبقيت الأسرة – التي دفعت بابنتها إلى المدرسة وهي لا تعرف كلمه واحدة من اللغة الفرنسية المستخدمة فيها – بشكل مؤقت في فرنسا حتى يتغير الوضع. لكن المؤقت، ونحن نعرف ما جرى للعراق منذ ذلك التاريخ الكئيب، سرعان ما تحول إلى بقاء، ولا أقول استقرار دائم؛ عاشت الابنة فصامه أكثر من أي شخص آخر. فقد ظل البيت يتحدث العربية العراقية، بينما وجدت البنت نفسها تعيش عالما فرنسيا خالصا في المدرسة والشارع، ثم الجامعة. تتم فيه عملية التكوين الأساسية لمعارفها وقيمها ولغتها الجديدة وشخصيتها.

وبدأت بنية المسرحية في التبلور من خلال تنامي تلك الأسئلة، ومن أين تتعلم الشخصية الصح والخطأ؟ من الذي يمرر لها تلك التصورات؟ وهي التي دفعتها إلى تجسيد عملية الانشطار تلك بشكل درامي من خلال خلق شخصيتين للبطلة ياسمين: إحداهما عربية تنشد إلى تواريخها الأولى وجذورها العربية/ العراقية، تتحدث العربية ولكنها لا تقرأها ولا تكتبها؛ والأخرى فرنسية تشعر بالخجل من أجنبيتها ولغتها المغايرة، وتقرّع ياسمين العراقية على عجمتها وتذكرها بشعورها بالعار، وهي طفلة في المدرسة، لأنها لا تعرف أبسط المفردات الفرنسية، وأن عليها أن تحفظ تصريف الأفعال الفرنسية الأساسية. بينما تسعى، دون أن يجبرها أحد، إلى التماهي مع الثقافة الفرنسية والحياة مع تناقضاتها؛ التي يكشفها بشكل واضح في المسرحية التعامل مع الأجهزة الحكومية سواء في الحصول على أوراق بعينها، أو في عملية التجنس بالجنسية الفرنسية، وهي من أكثر مشاهد المسرحية تهكما وفكاهة.

من هذه الناحية توشك المسرحية أن تكون دراسة في سطوة الواقع الخارجي ومؤسساته على الفرد عامة، والأجنبي بصفة خاصة، مؤسسات كالمدرسة، أو السياق الاجتماعي، أو الشارع وما يدور فيه من عبارات عنصرية عابرة، أو التي تلقى على سبيل الدعابة الموجعة. وهي في الوقت نفسه، وقد استوعبت كثيرا من مفردات تجربة تمارا السعدي الشخصية ومسيرتها في الحياة في فرنسا، دراسة في الثنائية التي يفرضها المنفى غير الاختياري الذي فرض على الأسرة التمسك بعراقيتها، بينما فرض عليها الانشغال بفرنسيتها. هكذا أخذت هويتها المزدوجة أو بالأحرى المنشطرة بين واقعين وثقافتين في التشكل. ولم يتوقف هذا الازدواج عند الجانب الثقافي وحده، وإنما تجلى في اختيارها العملي والعلمي. حيث درست التاريخ والعلوم السياسية في الجامعة، ثم درست المسرح الذي شغفت به منذ صباها المبكر. بعد ذلك، وها هي تتأمل هذا كله بشكل درامي.

فقد حولت تمارا السعدي الفضاء المسرحي إلى فضاء يجسد العالم الداخلي لشخصية البطلة ياسمين: التي تنشطر فيه إلى شخصيتين: ياسمين 1 التي تعيش في فضاء البيت الداخلي، وتتوارى فيه باستمرار، و ياسمين 2 التي تعيش في الواقع الخارجي وتتعامل مع مؤسساته الفرنسية المختلفة. بينما تبقى بقية شخصيات الأسرة الأربعة كما هي: والأب والأم خاصة في ثيابهما المنزلية. وكأنهما يبقيان دوما في عالم البيت الداخلي، ولا ينكشفان على العالم الخارجي إلا لماما. كما حرصت على أن يظل الفضاء المسرحي أقرب إلى التجريد منه إلى التجسيد، لا يعمره إلا عدد كبير من الكراسي (أربعون كرسيا) تحيل المكان إلى مدرسة مرة، وإلى قاعة الانتظار في مؤسسة حكومية فرنسية أخرى، وإلى مكان تعرض للقصف في بغداد ولم تبق به إلا أشلاء ثالثة. ولكنه ليس مكانا فيه أي شيء من خصائص البيوت وحميميتها أبدا. وكأن البيت هو نقيض المنفى، أو كأن المنفى يفرض غياب البيت بالمعنى الباشلاري العميق للبيت/ السكن/ الكِنّ/ السكينة. ولأن الأحدث التي ترويها من سيرة حياة ياسمين ليست مرتبة أي ترتيب زمني، وإنما يتزامن بعضها ويتداخل؛ فإن الشخصيات الخمسة تظل دوما على المسرح. بصورة يصبح فيها الوجود قرين الغياب لا نقيضه. وتصبح فيها النجاة مما دار في العراق من قتل ودمار، فعلا لا يخلو من إحساس غريب بالذنب، تكشف عنه تلك اللغة المترعة بالحنين إلى عراق لم يعد موجودا. وهي اللغة التي تصوغ أمامنا شخصية ياسمين بوجهيها العراقي والفرنسي. ذلك لأنها لم تستطع أن تكمل المسرحية، وأن تكتشف عبرها حقيقة نفسها كمسرحية وناشطة فرنسية/ عراقية، إلا بعد إن ذهبت عام 2016 للمرة الأولى لبغداد للتعرف على البيت الذي عاشت فيه كطفلة، وعلى خلفية أسرتها وعلى جذور ثقافتها.

والواقع أن ما يكشف عنه العرضان – اللذان يصعب أن نسميهما عربيان – من هم مشترك هو الرغبة في تعرية تناقضات المؤسسة الفرنسية الرسمية، وكيف تجذرت فيها كثير من ترسبات تحيزات الثقافة العنصرية، والتوجهات الاستشراقية تجاه الآخر. فكما أن نيني تقترح أن تأخذ أمر محمود على كاهلها بعدما خذلته المؤسسة، فإن أكثر مشاهد هذه المسرحية حدّة وسخرية هو موقف استجواب المؤسسة الرسمية لياسمين حينما طلبت الحصول على الجنسية الفرنسية. وهو المشهد الذي تختار المسرحية أن تديره لا على خشبة المسرح، وإنما بين مقاعد المشاهدين، وكأنها تريد أن تكشف عن مدى تواطؤهم مع تلك المؤسسة، أو ربما تحثهم على فعل شيء إزاء تفشي الغباء فيها.

الرقص الحديث:
لا شك أن الرقص الحديث أصبح أحد فنون المسرح المعاصر الأساسية. فلا يمر مهرجان من مهرجانات أفينيون دون أن يكون به أكثر من عرض من فنانيه الكبار. فقد ترسخ هذا الفن بعد بداياته الباكرة في نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان هذا الرقص الحديث قد انبثق في نوع من التمرد أو التعارض مع قيود فن الباليه الكلاسكية المعقدة، وخاصة في بداياته الأولى على أيدي أمثال إيزادورا دانكان Isadora Duncan، أو مود ألان Maud Allen في بلورتهما للرقص الجمالي الحر، فإنه سرعان ما أخذ يبلور مفرداته الخاصة، التي تستوعب قدرا كبيرا من استراتيجيات الفنون الاستعراضية من ناحية، وآخر من الارتجال والتنويعات على حركات بعينها ذات دلالات اجتماعية أو عاطفية كاشفة عن تغير التصور القديم للجسد، ومكانه في العلاقات الاجتماعية من ناحية ثانية، وقدر من التجريدات الطليعية والحداثية التي تسعى للّعب على مهارات الحركة والتشكيلات الجسدية من ناحية ثالثة.

وقد جنح هذا الرقص الحديث في ألمانيا خاصة إلى الاهتمام بتطوير رؤى تعبيرية تستخدم الجسد كأداة تشكيلية في المحل الأول، وتعتمد على سرعة الحركة وجمعيتها في صنع لوحات حركية مبهرة، أو تمزج بين الرقص الحديث ومفردات مختلفة من الرقص الكلاسيكي في فن البالية، أو الرقص الفلكلوري بأشكاله الشعبية المتباينة. واستمر هذا الميراث الأوروبي في التطور وقد أدخل في مفرداته وتكويناته الكثير من عناصر الرقص الشعبي في الثقافات الزنجية والآسيوية المختلفة، وفي غيرها من الثقافات. وأتاح لسيولة الحركة فيه أن تعبر عن المشاعر الداخلية للراقص، وعن التصور الفني أو الموقفي لمصمم الرقصات الذي تتزايد استعانته بعناصر العرض المشهدية واللونية المختلفة، لإثراء عرضه وتحويله إلى لوحة حركية لونية ومشهدية، على أنغام موسيقى غالبا من تكتب خصيصا لتلك اللوحات.

وقد حرص مهرجان أفينيون هذا العام على أن يجلب له عملين لعلمين من أعلام الرقص الحديث في بريطانيا. أولهما هو أكرم خان Akram Khan الذي دعاه المهرجان ليقدم آخر أعماله على خشبة مسرحه الكبير في ساحة الشرف بالقصر الباباوي. وقد ولد أكرم حسين خان عام 1974 في لندن لأبوين من داكار في بنجلاديش، وانتظم منذ طفولته في المدرسة الهندية للرقص التقليدي Kathak. واختاره بيتر بروك وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره للعمل في عرضه الشهير المأخوذ عن الملحمة الهندية القديمة (المهابهاراتا Mahābhārata) ثم واصل الرقص ودراسته مع دراسة تصميم الرقصات حتى كون فرقته للرقص الحديث عام 2000 والتي أصبحت أحد أبرز الفرق البريطانية في هذا المجال. وعرضت بعض أعمالها على خشبة المسرح القومي الانجليزي.

وقد جاء إلى مهرجان هذا العام بعمل بعنوان (تجاوز دهاء الشيطانOutwitting the Devil) أو الاحتيال عليه، وهو عمل يثير عنوانه الغامض الكثير من الأفكار. ويقول أكرم خان أنه استوحاه من أحد أحدث الألواح التي اكتشفت مؤخرا عن ملحمة جلجامش، وعن ترويض الإنسان للطبيعة وتحضره. فالشيطان في العنوان هو الجشع بما ينتج عنه من دمار وعنف وشعور بالذنب تجاه ما نفعله بالطبيعة ورغبتنا في التغلب على هذا كله؛ وهو أيضا الزمن الذي نحاول أن نتجاوزه أو نحتال عليه، أو نوقفه بلا جدوى. وهناك أيضا كما يقول استلهامات كثيرة أخرى من (دون كيشوته) وجلال الدين الرومي الذي حكمت رؤيته للحقيقة التي كانت مرآة في يد الله، ولكنها سقطت وتناثرت شظاياها. وكل من عثر على شظية تصور أنها الحقيقة. هذه الرؤية الشذرية للحقيقة هي التي حكمت بنية العمل كله. كما كان آخر استلهاماته في هذا العمل أيضا، لوحة ليوناردو دافينشي الشهيرة عن العشاء الأخير. عن المشاركة والرفقة وعن الخلود والخيانة في آن. وقد سعى العرض ليجد تجسيدا عضويا وحركيا لهذا كله، وتعبيرا عن الكثير من تلك الرؤى والأفكار. في الوقت الذي لا يغيب فيه عن العرض الوعي بكيف يلتهم الجشع والشره والطمع عالمنا، ويدمر الكثير من الرواسي القيمية والأخلاقية فيه. لأن أحد أهم الأفكار التي يعبر عنها هذا العرض هي علاقة الإنسان المعقدة بالطبيعة، منذ ترويض جوانب منها منذ زمن جلجامش وحتى اليوم، دون التغاضي عن الخوف من فوضاها وقوتها العارمة. فحدود جسد الإنسان تفرض حدود فهمه للطبيعة وسيطرته على بعض جوانبها، دون البعض الآخر.

هذا كله يقوله لنا مصمم العرض ومخرجه، أكرم خان، لكن كيف حقق كل تلك التصورات والأفكار المعقدة أمامنا على خشبة مسرح ساحة الشرف في القصر البابوي الشاسعة؟ وكيف ترجمها إلى حركة وتشكيلات بصرية تنقل لنا شيئا من هذا السعي للتغلب على جشع الإنسان وتدميره للطبيعة المحيطة به؟ وكيف عبر عن مسألة الحدود: حدود الجغرافيا، وحدود الجسد البشري معا؟ وقد استطاع العرض أن يعبر عن هذه الحدود من خلال تصميم المشهد الذي دار فيه العرض، حيث اقتطع أقل من نصف خشبة مسرح ساحة الشرف في القصر البابوي للرقص بينما ترك باقي المساحة على الجانبين وقد وزع فيها بشكل هندسي عدد من المكعبات السوداء، خلقت نسقها الهندسي ولكنها حددت المساحة التي يتحرك فيها الراقصون في الوقت نفسه. هذا التحديد الجمالي للمساحة، بتلك المربعات أو المكعبات السوداء، وكأنها أحجار دومينو مصمتة على جانبي المسرح، يحرص على ألا تبدو المساحة كلوحة الشطرنج، وإنما تنويع مغاير عليها. وكأنها بقية المجرة التي لا نشغل منها إلا مساحة محددة، هي المساحة التي يدور فيها الرقص ولا يخرج عنها.

وتظل بقية الخشبة على الجانبين بمربعاتها المصمتة حاضرة طوال العرض من خلال تسليط الضوء عليها وتغيره. بينما ينحو العرض الذي يستخدم ستة راقصين إلى الاستحواذ على انتباهنا من خلال تدفق الحركة وسيولتها من ناحية، ومهارة الراقصين في استخدام أقصى ما في طاقة الجسد الإنساني على الحركة وتطويعه لتشكيلات تتحور وتتبدل أمامنا باستمرار. وقد حرص العمل الذي يعتمد على ست راقصين على تنوع أعمارهم، فبينهم راقصة عمرها خمسين سنة، وراقص عمره 67 سنة أما الأربعة الباقين فأصغر. هنا تهتم الفرقة، برغم توقف مؤسسها نفسه عن الرقص بعدما جاوز الأربعين وتركيزه على التصميم والإخراج، بأن تكشف عن طبيعة علاقة الراقص بجسده وبطاقته على الحركة مع التقدم في العمر. وكيف يختزن الجسد الزمن في ذاكرته العضوية. من هذه الذاكرة العضوية يسرد علينا العرض لوحاته، التي تستغرق كل منها عدة دقائق وتفصل بينها لحظات صمت وكأنها علامات ترقيمها الزمنية، جوانب من رحلة الإنسان مع الطبيعة ومواجهته لها، وللآخر في الوقت نفسه. وجوانب أخرى من قدرة الجسد البشري على التعبير بطريقة لا تقل فصاحة في بعض الأحيان عن اللغة.

وقد أخذ هذا الرقص الحديث يطور لغته ومفرداته وحتى تراكيبه السياقية. ولأن للجسد حدوده، فقد فرضت هذه الحدود على العرض، وعلى كثير من عروض الرقص الحديث، بنية أبيسودية تمنح كل لوحة إيقاعاتها المتميزة والمغايرة، وأحيانا المناقضة أو المعاكسة للوحة الأخرى، وهو الأمر الذي تساهم فيه الموسيقى التي تلعب هنا دورا لا يقل أهمية عن دورها في رقص الباليه التقليدي. ومن خلال تتابع لوحات العرض وتحاورها يبني العرض تأثيره العام على الجمهور الذي لابد هنا من الإشارة إلى أنه يتجاوب مع تلك العروض بشكل واسع. وهو الأمر الصعب نسبيا على الذائقة العربية التي تدرّبها الموسيقى العربية والرقص الشرقي معا على التطريب والتنويعات المستمرة على نغمة سائدة، بدلا من التركيب والدرامية التي تعد عماد كثير من تلك العروض، ومنها عرض أكرم خان البديع هذا.

سيرة ذاتية وتجسيد الشفرة الوراثية:
أما العرض الثاني للرقص الحديث الذي شاهدته في مهرجان هذا العام على خشبة مسرح «ليسيه سان جوزيف» فكان أيضا لأحد أشهر أعلام هذا الفن في بريطانيا، وهو وين ماكجريجور Wayne McGregor؛ وكان بعنوان (سيرة ذاتية Autobiography). وقد أسس ماكجريجور فرقته للرقص الحديث قبل أكثر من ربع قرن من الزمان، وبالتحديد عام 1992، بعد دراسته للرقص في لندن ثم في نيويورك. كما عمل لسنوات عديدة كمصمم للرقص في فرقة البالية الملكية الانجليزية، وطور أدواته خلال رحلة طويلة مع الرقص وتصميم الرقصات، وها هو يشعر بعد تلك الرحلة الطويلة من التحقق في مجاله، وبعد أن بلور لغته الخاصة التي تتسم بسرعة الحركة وسيولتها وتدفقها واهتمامها بالبنية التشكيلية للمشهد، أن يقدم عملا يدعوه بالسيرة الذاتية. عمل يتحدى فيه بنية عروض الرقص الحديث الإبيسودية، ويخلق عبره بنية تتابعية خطية تركز على الماضي. بنية لا تجسد أي سيرة ذاتية تقليدية، ولكنها تركز على أن جوهر السيرة هو الذات، هو الحياة، هو الكتابة معا. وكيف يوظف هذا المزيج في استكشاف الذات العميقة وبلورة بيولوجيا الجسد وحمضه النووي، والتعبير عنها كمصمم رقصات.

وقد استلهم العرض من شغفه بتكوينات الحمض النووي البشرية DNA وشفراتها المتعددة باعتبارها البصمة الفردية الأكثر صدقا وتركيبا في آن. وكيف أنه وقد حلل حمضه النووي واستوعب تفسير العلم له يستطيع أن يتعرف عبره على شيء من ماضيه وأصوله العضوية، وعلى قدر من مستقبله وما قد يتعرض له من أمراض/ أخطار. بالرغم من أن العلم لم يتمكن بعد إلا من قراءة 9% من تلك الشفرة الجينية المعقدة. لذلك لاتزال هناك مساحة شاسعة للتأمل والخيال (91%) بالنسبة لحيواتنا الخاصة، ولدورنا في منح سيرتنا الذاتية المعنى، معنى وجودنا. وفي الواقع فإن هذه الاستقصاءات العلمية تكشف لنا عن حقيقة أننا مجموعة من الشذرات والأفكار التي تتحرك وتتحول باستمرار، وهو الأمر الذي يقول وين ماجريجور أنه يسعى للتعبير عنه في رقصاته التي يفتحها على أكثر من احتمال تأويلي، وعلى قدر من الوعي بأنه مهما حاولنا التعرف على حقيقة أنفسنا، وهو في واقع الأمر مسعانا في الحياة، فإن محاولاتنا تظل دوما ناقصة، وهذا النقص بما يتركه من توق للكمال ومساحات غامضة هو أحد دوافع الاستمرار في الحياة والاستمتاع بها.

ويخبرنا وين ماجريجور أنه اختار أن يتكون العرض من 23 لوحه تناظر من حيث العدد عدد الكروموسومات التي تتكون منها شفرة الحمض النووي البشرية. وأن هذه اللوحات يتم اختيارها بشكل عفوي/ عشوائي كل ليلة من عدد أكبر، وفق لوغاريتم/خوارزمية Algorithm مستقاة من علوم الحمض النووي. كما يتغير ترتيب تتابع تلك اللوحات كل ليلة أيضا، بالصورة التي تمنح العرض قدرا من الجدة والطزاجة من ناحية، وتواجه المشاهد بالجديد كل مرة من ناحية أخرى. لأن هذه العرضية/ العفوية Random تحتل مكانا محوريا في تفكيره، منذ دعا فرقته الأولى بفرقة الرقص العفوي Random Dance. فالعفوية عنده كامنة في جوهر الطريقة التي نعيش بها حياتنا وتتحرك بها أجسادنا، ناهيك عن أنها كامنة في بنية تركيبات الحمض النووي التي تتغير تبدياتها وتمظهراتها إلى أكثر من 24 ألف احتمال للمكونات نفسها. ويقول لنا أنه ثبّت لوحتي البداية والنهاية، لأنهما تتناولان الميلاد والموت، أما ما بينهما فإنه يتبدل ويتحور كل ليلة إلى ما لانهاية، كما هو الحال في الحياة نفسها. غير أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال التخلي عن الصرامة في الحركة والتكوين في كل لوحة. فهذه الصرامة أيضا من خصائص الشفرة النووية.

وهي التي استلهم من وحيها تصميم المشهد الذي يسيطر على المسرح من الناحية المعمارية. فحينما ندخل المسرح نجد أمامنا خشبة خالية كي تتيح للراقص أوسع مساحة للحركة. مغطاة باللون الأسود، وليس عليها سوى صف من الكراسي السوداء يتماشى مع اللون الأسود الذي يلف كل شيء. وفوقها سقف بنفس اللون علقت فيه تكوينات أشبه في تعقيداتها بتكوينات الشفرة الوراثية. وهو سقف متحرك سوف يهبط ليطبق على الراقص في لوحة رقم (6 النوم)، وكأنما ليلتحف به، أو كأنما العرض يعتبر النوم، كما هو الحال عند المتصوفة، الميتة الصغرى. وما أن يبدأ العرض حتى تحول الأضواء المساحة إلى عالم ملفح بالضباب والألوان يلف الراقصين. ويجسد نبض العرض وكأننا بإزاء نبض قلب كوني كبير، تساهم الموسيقى الالكترونية في بلورته. بينما يكتب الراقصون العشرة بأجسادهم المدربة تلك السيرة الشيقة التي تتفتح مسيرتها أمامنا.

وفضلا عن لوحتي البداية (الميلاد) والنهاية (الموت) اللتين ثبتهما العرض فإن الواحد والعشرين لوحة التي تقع بينهما، يتغير تتابعها كل ليلة. وهذا التغير في التتابع قد يشوش عملية التلقي أحيانا. لأنه ما أن يبدأ العرض حتى يظهر في أعلى المسرح اسم اللوحة الأولى ورقمها (1 كائن Avatar)، وفي الليلة التي شاهدت فيها العرض لم تتبعها اللوحة الثانية، وإنما كانت اللوحة التالية تحمل رقم 20 وهي بعنوان (التقدم في العمر)، وتلتها لوحة تحمل رقم (16 العالم) وبعدها ( 15 الغريزة) ولا تجيء اللوحة التي تحمل رقم (2 التوازن Equilibrium ) حينما يتعلم الإنسان الوقوف على قدميه إلا في منتصف العرض تقريبا. أما اللوحة التي تتناول عملية تنشئة الإنسان الصعبة (8 تنشئة Nurture) فلا تجيء إلا قرب نهاية العرض بينما نكون قد تعرفنا قبلها على عمليات التعلم والمعرفة وغيرها من اللوحات/ اللحظات/ المراحل الأساسية في السيرة البشرية مثل التعليم أو الطبيعة أو التوهج Lucent أو الحب أو الاختيار أو الآثار Traces أو غيرها.

أما الموسيقى المصاحبة للرقص والتي تلعب دورا أساسيا في تحديد دلالات تلك اللوحات فإنها تستخدم مزيجا من أصوات الطبيعة، كزقزقة الطيور، أو نباح الكلاب أو عواء الذئاب أو أصوات الأمواج التي سجلها من منطقة ديفون التي يعيش فيها، فضلا عن الموسيقى الالكترونية بنشازها وفحيحها وقرعها وخشونتها معا. والواقع أنني لابد أن أعترف بأن بنية هذا العرض، ووجود نوع من التسلسل الخطي، وإن تغير ترتيبه، وطبيعة الحركة التعبيرية فيه، فضلا عن عناوين اللوحات التي كانت تقدم نوعا من المدخل التأويلي لعملية التلقي، جعلني استمتع بهذا العرض أكثر من عرض أكرم خان الذي قدم له المهرجان أكبر فضاءاته.

المهرجان التجريبي وتعزيز دور المسرحية القصيرة

لا شك أن مهرجان أفينيون الهامشي Festival Off Avignon لا يقل أهمية عن المهرجان الرئيسي. حيث يتجاوزه من حيث عدد العروض وتنوعها عشرات المرات. فقد كان في مهرجان هذا العام أكثر من ألف عرض جديد في المهرجان الهامشي، وأكثر من خمسمئة عرض عائد إليه، أي سبق عرضه فيه من قبل في دورة سابقة أو أكثر، وعاد العرض من جديد هذا العام. وهي عروض تغطي جميع أشكال العرض المسرحي وأجناسه الدرامية والمشهدية المختلفة. من مسرح الحكواتي أو السرد، إلى المسرح الدرامي بأجناسه المختلفة من المآسى إلى الملاهي والمهازل، وبتواريخه المتنوعه من المسرح الإغريقي إلى الكلاسيكي إلى المعاصر، ومن المسرح الشعري إلى المسرح النثري، إلى مسرح البوليفار، وما يسمى بالمؤتمر المسرحي، أو المحاضرة المسرحية، والمسرح الغنائي، والمسرح الراقص، والمسرح الشامل، إلى المسرح المرتجل، إلى عروض السيرك وعروض المهرجين والحواة التي تكتظ بها شوارع المدينة طوال المهرجان، إلى مسرح العرائس، ومسرح أجناس العرض المتعددة Pluridsciplinaire، ومسرح الأقنعة، ونوع جديد أقرب إلى المسرح الوئائقي يدعونه في تصنيف برنامج المهرجان التجريبي، والذي شبهه أحد الأصدقاء بدليل التليفون لأنه يقع في أكثر من 450 صفحة في كل منها عدة أعمدة، بمسرح المواطن.

كما أن هذه العروض، جديدها والعائد منها، تجيئ للمهرجان من شتى بقاع فرنسا التي يزدهر المسرح في كثير من مدنها ومقاطعاتها المختلفة، بما فيها ما تعرف بمقاطعات ما وراء البحار في منطقة الكاريبي. وإن كان نصفها تقريبا يأتي من منطقة باريس الكبرى التي تعرف باسم «جزيرة فرنسا». كما تجيء إليه عروض كثيرة أخرى من بلدان أجنبية كان بينها هذا العام: الجزائر، وسوريا، وألمانيا، والنمسا، وروسيا البيضاء، وبلجيكا، وبوركينا فاسو، وكندا، والصين، وإسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، ولوكسمبورج، وهونج كونج، والمجر، وإيران، وإيطاليا، واليابان، والمكسيك، وهولندا، ورومانيا، وبريطانيا، وروسيا، والسويد، وسويسرا، وتايوان.

ويغلب على معظم هذه الأعمال أن تكون قصيرة أي من مسرحيات الفصل الواحد، بالصورة التي يمكن الزعم معها أن المسرح التجريبي هنا يعتمد على المسرحية القصيرة ويساهم في تنميتها كجنس مسرحي متميز. حتى لو لجأت بعض العروض إلى أصول كلاسيكية طويلة من المسرح الأغريقي، أو من مسرح شكسبير، أو من كلاسيكيات المسرح الفرنسي عند راسين وموليير وغيرهما. حيث يتم تكثيف حبكات تلك المسرحيات الطويلة وتحويلها إلى مسرحية قصيرة، تناسب الزمن المتاح لمثل تلك المسرحيات في الفضاءات المسرحية المختلفة، من باحات الكنائس أو قاعات الاحتفالات، أو مسارح المدارس الصغيرة، التي يتم تطويعها للعرض المسرحي أثناء المهرجان، واستخدام أكثر من فرقة للفضاء الواحد على مدار اليوم. حيث تعرض بعض الفضاءات خمس أو ست مسرحيات/ عروض مختلفة في اليوم. وقد أقنعتني العروض الثلاثة التي شاهدتها في المهرجان التجريبي هذا العام بدور المهرجان في تعزيز قدرة المسرحية القصيرة على تناول الكثير من القضايا التي تتناولها المسرحيات الطويلة، وعلى أهميتها كجنس مسرحي متميز.

ومع أنني أركز اهتمامي على المهرجان الرئيسي، وما يعرض فيه من أعمال تقدم أهم ما في جعبة المسرح العالمي من تجارب وتقنيات، فقد حرصت على مشاهدة عدد محدود من أعمال المهرجان التجريبي. وقد لاحظت أثناء تصفحي لبرنامج المهرجان التجريبي أن موضوع التيه والمنفى، والمهاجرين الشرعيين منهم وغير الشرعيين قد احتل مكانه واضحة في مهرجان أفينيون الرئيسي هذا العام، لكنه تحول إلى أحد المحاور الأساسية في المهرجان التجريبي أو الهامشي Festival Off Avignon. فقد كان فيه عدد كبير (أكثر من سبعين عملا) يمكن أن نقول أن موضوع التيه والمنفى والهجرة تسيطر عليها، أو أنها موضوعها الرئيس وشغلها الشاغل. أعمال تتفاوت في الطول وطبيعة التناول. وقد جاءت المسرحية التي اخترتها من هذا النوع، بسبب أنها تتناول موضوعا قريبا من هموم القارئ العربي وهو المأساة التي تعيشها سوريا منذ اندلاع شرارة الربيع العربي فيها، واستخدام قوى الثورة المضادة، المشغولة صهيونيا والمدعومة أمريكيا، ذلك ذريعة لتدميرها بعد نجاحها في تدمير العراق من قبلها، كما وعد المحافظون الأمريكيون الجدد.

مولانا وخراب المجتمع السوري:
وقد كانت هذه المسرحية بعنوان (مولانا). وهي من جنس مسرحية الممثل الواحد، أو المنولوج الدرامي متعدد الأصوات. كتبها السوري فارس الذهبي، وأخرجها وأداها باللهجة السورية بالطبع نوّار بلبل (وكانت هناك ترجمة فرنسية أعلى الخشبة لما يقول). وهو عرض يقدم عبره الممثل الواحد الذي يلعب عدة أدوار، وينتقل من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، دراما مسرحية كاملة. كان مدار اهتمامها أن تقدم عملا دراميا قادرا على مخاطبة المشاهد مهما كانت خلفيته. من خلال هذا العرض الذي ينتمي إلى المسرح المتقشف الذي يتعزز فيه الاعتماد على الممثل في المحل الأول، وعلى المفارقة التهكمية في بنية النص، ولا يستخدم إلا الحد الأدنى من الإكسسوارات: مجرد منضدة مغطاة بملاءة، تتحول مرة إلى حامل لوحات في المرسم، وتصبح ملاءتها هي اللوحة التي يمارس عليها الرسام عمله، وينتهي بها الأمر لأن تصبح قبرا.

ويقدم لنا العرض رحلة التكوين والتيه الصعبة داخل أحراش المجتمع السوري المثقل بالقهر والاستبداد في زمن الأسد الكئيب. فنحن هنا بإزاء شاب سوري «عابد»؛ وللإسم دلالاته على الخضوع والانصياع القطيعي والتدجين. يبحث عن طريقه بعيدا عن الثقافة التي ترسخ عقلية القطيع. في حي دمشقي شعبي قابع تحت حماية أو بالأحرى سلطة مولانا محي الدين بن عربي. يهيمن عليه في البيت أب يتعيش من الدين، ولذلك يستحق عن جدارة اسمه «الحاج زين العابدين» ويريد أن يستلم ابنه المسجد الذي يعمل فيه، ويتعيش منه من بعده. وينشر الأب في وجهه من البداية مقارع التحريم، ولغة الانصياع: فالفن حرام، والغناء والموسيقى حرام، والتدخين حرام، والحديث في السياسة من الكبائر. ويجبره على حفظ القرآن بالترغيب أولا، لو حفظ نصفه سيعطيه ألفي ليرة، ولو حفظه كله سيعطيه خمسة آلاف؛ ولما لا ينفع معه الترغيب يبدأ بالوعيد والتهديد والضرب.

بينما يمضي الإبن في حياته يبحث لنفسه عن طريق يقتنع به أو يتحقق فيه، ولا يفوته كيف يستخدم الجميع في الحياة من حوله الدين في غير مقاصده. حيث تمتلئ دمشق بالكثيرين الذين يمارسون الكذب في حياتهم، والغش والتدليس في السوق، ولكنهم يسبقونه إلى المسجد لآداء الشعائر قبله، والتظاهر بالورع والطاعة ومخافة الله حد البكاء. لكنهم في الوقت نفسه جاهزون لارتكاب المعاصي إذا ما أتاحت لهم الربح، وحتى للوشاية بالآخرين للمخابرات، وما أدراك ما المخابرات. فكل ما يحيط به في حياته اليومية يدفعه إلى التطبع بأخلاق القطيع. وحينما يدفعه أبوه إلى الشيخ «صلاح صديق»، والذي نعرف أنه لا علاقة له بالصلاح ولا بالصدق، كي يحفظ لديه القرآن، بالقهر والتعذيب، نكتشف كيف أن معاهد الأسد لتحفيظ القرآن تخرّج أفواجا من وعّاظ السلاطين. كل هذا في كنف شيخ العارفين في دمشق.

ولا يجد «عابد»، الذي ينفر من أخلاق القطيع المرائية تلك، أمامه إلا الهرب إلى مرسم عمران، الذي تمرد على أخلاق القطيع وأنشأ لنفسه فسحة من ممارسة الحرية والإبداع. وهو المكان الوحيد الذي يعد حقا بأي عمران بالمعنى الخلدوني الواسع له. إنه مكان الحرية والخلق والإبداع وتبديد الأوهام. حيث يعلق في مرسمه لوحة تقول «إن الله لا يحب الفقراء». ويمارس حياته في الرسم بحرية. ويوشك مرسم عمران أن يكون الفضاء الوحيد الذي يمارس فيه البطل حريته، حتى حريته في الآذان بالطريقة التي تحلو له، لا يستطيع أن يمارسها في مسجد أبيه، وإنما في مرسم عمران. ولا يستطيع أن يعبر عن أشواقه للفتاة المسيحية التي أسرت قلبه «ماري/ مريم» إلا لصديقه الرسام الذي يشجعه على أن يعيش حياته ويمارس حريته.

وليس فضاء المرسم هو فضاء ممارسته لحريته فحسب، ولكنه يوشك أن يكون الفضاء الحر الوحيد في العالم الذي يسعى البطل لمعرفة نفسه وتكوين شخصيته فيه. بعيدا عن القهر الذي يتغلل في كل جوانب حياته. بدءا من علاقته بأبيه، وبالمؤسسة الدينية التي لا تفرخ إلا الإرهابيين أو الانصياعيين من وعاظ السلاطين، وصولا إلى بطش السلطة المستبدة التي حرمته في النهاية من فسحة الحرية الوحيدة التي عاشها حينما اعتقلت الفنان عمران، وحطمت مرسمه. لذللك تنتهي المسرحية تلك النهاية الحزينة التي ينزوي فيها الممثل تحت المنضدة وقد تحولت إلى قبر لكل أمل في الحرية في المجتمع السوري المنكوب.

إيفيل مهندس الثورة الصناعية بفرنسا:
أما المسرحية الثانية التي شاهدتها في المهرجان التجريبي فكانت هي الأخرى من مسرحيات الممثل الواحد، بعنوان (جوستاف إيفيل: بالحديد وضد الجميع Gustave Eiffel: En Fer et Conter Tous) وهي المسرحية التي كتبها ومثلها الكسندر ديليموج Alexandre Delimoges وفازت بجائزة أفضل نص مؤلف في مهرجان العام الماضي، ولذلك عاد بها إلى مهرجان هذا العام. وهي كما يقول عنوانها مسرحية عن جوستاف إيفيل (1832-1923) صاحب برج إيفيل الشهير، الذي أصبح علامة على باريس، بعدما شيده للمشاركة به في احتفال فرنسا بمئوية ثورتها الكبرى عام 1889. وقد كان إيفيل رائيا سابقا لعصره استشرف الكثير مما جاء بعده. لهذا يؤكد العنوان الفرعي للمسرحية هذا المعنى حينما يطرح الحديد في عنوانها، لأن جوستاف إيفيل كان صاحب النقلة الكبري في العمارة من الحجر إلى الحديد، والتي لاتزال تجلياتها تحيط بنا حتى اليوم، ليس في الجسور العديدة التي شيدها، ولاتزال شاهدا على نبوغه في شتى ربوع فرنسا، بل والعالم من ورائها فخسب، ولكن أيضا في المباني العديدة التي أضافت الزجاج السميك والمضغوط للحديد، وأصبحت علامة على عمارة القرن الحادي والعشرين.

هنا افتح قوسا استطراديا لأذكر القارئ بأن لهذا المهندس العبقري الذي كشفت لي المسرحية عن الكثير من جوانب حياته الثرية بالعطاء، أياديه البيضاء على مصر. فقد كلفه الخديوي إسماعيل عام 1866 في بداية حياته العملية (كان إيفيل وقتها في الرابعة والثلاثين) وبعد نجاحاته السريعة في تشييد محطات السكك الحديدية والجسور الحديدية في فرنسا، ببناء 33 قاطرة للسكك الحديدية المصرية، ثم كلفه، بعدما أنجز هذه المهمة في زمن قياسي، ببناء جسر جديد على النيل، هو جسر أبوالعلا، الذي كان يربط بولاق بجزيرة الزمالك، ويفضي إلى القصر الشهير الذي أقامت فيه أوجيني أثناء احتفالات افتتاح قناة السويس وقتها، واستمر الجسر يعمل بكفاءة لأكثر من قرن من الزمان، حتى فككه العسكر وأزالوه، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ولا أدري ماذا جرى له، ضمن تدميرهم المنظم لكل ما هو تاريخي وجميل في مصر، بدءا من أجنة النظام السياسي الليبرالي فيها الذي استبدلوا به استبدادا عسكريا مقيتا ساهم في تدهور كل ما كان نافعا وجميلا في مصر، وصولا إلى الكثير من معالمها الحضارية التي أسسها الخديوي اسماعيل، مثل دار الأوبرا الشهيرة (والتي كانت أفضل أوبرا في العالم وقت افتتاحها عام 1869) والتي تم حرقها في زمن السادات الكئيب.

بعد هذا الاستطراد أعود للمسرحية التي اختارت أن تبدأ أثناء بناء إيفيل لبرجه الشهير في باريس، والذي بدأ تشييده في 28 يناير 1887، والتوقف قليلا بعد انتهاء العمل في وضع القواعد الخرسانية الأربع التي يقف عليها البرج، حيث تحتوي كل قاعدة على أربع مكعبات خرسانية لأركان الرجل الأربعة، كل منها بعمق مترين، بينما قامت القاعدتان المواجهتان لنهر السين، حسبانا لتأثيره عليهما على نفس القواعد الأربعة، ولكن تحت كل منها قاعدة من الزلط المضغوط والمدكوك في التربة بعمق 15 مترا وقطر ستة أمتار، وقد انتهي العمل في تلك الأساسات وأرجل البرج الأربعة الكبيرة في 30 يونيو، ثم توقف العمل قليلا لبناء أرصفة خشبية، تمكن العمال من العمل في التكوين الحديدي الضخم الذي يربط هذه الأقدام الأربعة في رصيف حديدي ضخم ينهض عليه البرج. عندها اندلعت موجة ثانية حامية من النقد. حيث لم يتوقف النقد والتشكيك في إمكانية بناء البرج الذي يبلغ ارتفاعه 300 مترا، ويرتفع على كل من قبة الإنفاليد، وكنيسة نوتردام، وقوس النصر، والساكريكير (أي كنيسة القلب المقدس الشهيرة)، وهي كلها معالم باريسية مقدسة تقريبا، فكيف يمكن لنصب علماني، كالبرج، يخلد أكبر ثورة علمانية في التاريخ، أن يرتفع أعلى من أكبر كنيستين في العاصمة الباريسية معا؟! وفي بلد كانت فيه الكنيسة، قبل قرن واحد من الزمان، ظل الله على الأرض.

يخبرنا جوستاف إيفيل في منولوجه المسرحي الطويل أن نقد مشروعه، والعمل المستمر على تثبيط همته لم يتوقف منذ وقّع على العقد في يناير عام 1887، ومنح بلدية باريس مليون ونصف مليون فرنك له لتشييد البرج؛ خاصة وأن المناقصات الأخرى كانت تتجاوز ستة ملايين. وقد تشكلت لجنة من 300 عضو، بمعدل عضو لكل متر من ارتفاع البرج، لمراقبة العمل ومتابعته. لكن الهجوم عليه هذه المرة، وعند توقف العمل مؤقتا لبناء أرصفة رفع الأجزاء الكبيرة، فلم تكن المصاعد قد ركبت بعد، وصل حد وصفه بالجنون، والدعوة لإيداعه في مصحة الأمراض العقلية. لكن ربط الأرجل الأربعة بتلك البنية الضخمة الرابطة للبرج اكتمل بنجاح في مارس 1888. وفي يونيو 1888 وصل العمل إلى الرصيف الثاني، والذي أطلقت منه الألعاب النارية في عيد الثورة 99، أو يوم الباستيل كما كان يسمى في 14 يوليو 1888. ومع هذا لم يتوقف نقد المشروع، والتشكيك في أهميته وجدواه.

وكان إيفيل دائما ما يرد عليهم بالربط بين برجه وبين الأهرام في مصر، باعتبار كل منهما رمزا لعصر ولحضارة، ودليلا على قدرة الإنسان وعظمة مشاريعه. يقول إيفيل: «هل يعود تأثير الأهرام القوي على مرّ العصور لقيمتها الفنية؟ إنها ليست أكثر من جبال من الحجارة. إن قوة التأثير الجمالية للاهرام تكمن في ضخامة الجهد وعظمة النتيجة وجمالها. وسوف يكون برجي أعلى تكوين بناه الإنسان حتى الآن. فلماذا يصبح العمل الذي حظي باحترام الناس وإعجابهم في مصر، عملا يستدعي الاستهجان والسخرية حينما نحقق نظيره في باريس؟!» هذا التساؤل الاستنكاري لم يخفف من حدة النقد الذي تواصل حتى افتتاح البرج. وحقق من البداية نجاحا كبيرا، جعل الكثيرين يغبطون إيفيل عليه، وعلى بعد نظره الهندسي والتجاري في آن. ذلك لأن إيفيل برغم تأكيده على القيمة الهندسية والفنية للبرج، لم ينف عنه غايته الاستعمالية. لأنه قبل بناءه بهذا المبلغ البخس، على أن يكون له حق الانتفاع بإيراداته لعشرين عاما. فقد قال:«لن يمثل البرج فن الهندسة الحديثة فحسب، ولكنه سيكون رمزا لما تحقق في هذا القرن من ثورة صناعية وعلوم. الأمر الذي يمكن اعتباره نتيجة طبيعية لما حققته الثورة الفرنسية، والتي سيصبح البرج تعبيرا عن امتنان الشعب الفرنسي لتلك الثورة في عيدها المئوي». وكان الإقبال الكبير على البرج، والذي لم يتوقف حتى الآن، تعبيرا عن الامتنان لإيفيل نفسه ولرؤياه السابقة لعصرها بعدة عقود.

وتكشف لنا المسرحية عن جوانب كثيرة في عبقرية إيفيل، بالصورة التي يعد معها أحد واضعي أسس فن إدارة الأعمال الكبيرة، والتعامل مع العمال وما ينتج عن ردود فعلهم من مشاكل. فنعرف مثلا أن إيفيل لم يوظف في بناء البرج أكثر من 250 عاملا. فقد كان لديه مكتب صغير يرسم كل قطعة، ويحدد مقايسها وأدق مواصفاتها إلى حدود المليمتر، كي تنتج تلك القطع في المصانع وتجئ للموقع جاهزة للتركيب. وقد أنتج مكتب الرسم الذي أسسه للبرج ووظف فيه حفنة من المهندسين 1700 رسما عامل، و3629 رسما تفصيليا، و18038 رسما لأجزاء مختلفة تنتج في المصانع وتجلب لتركيبها في الموقع. وكان من العوامل التي برهنت على براعته في إدارة العمل الذي كلف به، هو الطريقة التي تعامل بها مع العمال حينما أضربوا عن العمل مطالبين بزيادة أجورهم لزيادة ما يتعرضون له من مخاطر. ومع أن هذا الأمر كان طبيعيا في بداية الثورة الصناعية في فرنسا، فإن استجابة إيفيل لمطالبهم، والتي أصبحت من القواعد التي تدرّس الآن في مناهج الإدارة، كان مشروطة، بأن يكون هذا آخر إضراب وتوقف عن العمل، وأن يلتزموا بالعمل حتى إنهاء البرج في موعده، عندها يحصلون على الزيادة التي يطالبون بها، والتي تراكمت لهم.

وكان نجاح إيفيل في حل المشاكل التي واجهت الفرنسيين في إنشاء تمثال الحرية الشهير في نيويورك والذي يستقبل القادمين إلى أميركا، وأصبح رمزا لها؛ من الأمور التي عرفتها من هذه المسرحية. فقد لا يعرف الكثيرون أنه تمثال فرنسي أهدته لها فرنسا. لكن إقامة فرنسا للتمثال اعترضتها مشاكل كثيرة ناجمة عن ضخامته، وضرورة قدرته على مقاومة الرياح القوية، بسبب الموقع الذي أقيم له. وكانت أبحاث إيفيل المهمة عن قوة الرياح والتعامل الهندسي معها، هي التي مكنته من طرح الحل الذي مكن فرنسا من إقامة التمثال، بل ومكن التمثال من الصمود في وجه عوادي الزمن لأكثر من قرن الآن. لكن ما انتهت به المسرحية، كان صفحة محزنة من تاريخ حياة هذا المهندس العبقري. فقد كان نجاح فرديناند ديليسبس في شق قناة السويس قد فتح شهيته لمشروع مماثل لشق قناة بنما. وقد كون شركة لذلك وكلف إيفيل بتصميم المشروع الذي كان مختلفا كلية عن قناة السويس لمرور القناة في منطقة جبلية. ومع أنهم لم يلتزموا بتصميماته، ولم تنجح المحاولة، مما أدى إلى إفلاس الشركة التي أنشأها ديليسبس لهذا الغرض، وانتحار عدد ممن خسروا كل ثروتهم فيها، فإن إيفيل لم ينج من اللوم على ما حدث، وحمله الكثيرون المسؤولية عمن فقدوا ثرواتهم، بل وحياتهم فيها. وهو الأمر الذي دفعه للعزلة في نهاية حياته الحافلة بالانجازات الكبيرة.

جورج صاند وسارة برنار:

أما المسرحية الثالثة التي شاهدتها من مسرحيات المهرجان التجريبي فكانت (جورج وسارة George and Sarah) من تأليف بول بريير ليتل Paul Perrier Little. وهي مسرحية تقوم على واقعة حقيقية جرت في فبراير عام 1870، وهي زيارة جورج صاند (1804-1876) لسارة برنار (1844-1923) في منزلها الريفي، كي تقنعها بأن تقوم ببطولة مسرحيتها الأخيرة التي رفض أكثر من مسرح عرضها. وأرادت جورج صاند بإقناع سارة برنار التي كانت في قد بدأت شهرتها وقتها في لفت الأنظار برغم حداثة تاريخها المسرحي وقتها، أن تنقذ مسرحيتها وسمعتها الأدبية بهذا العمل. كانت جورج صاند قد وصلت إلى سمت شهرتها، وقد عاشت حياة ثرية وحافلة بالعلاقات مع أشهر رجال عصرها. فقد حظيت بالكثير من النجاحات، وكانت أكثر الكتاب الفرنسيين شعبية في بداية حياتها الأدبية وعلى مدار سنوات طويلة بعدها. فقد فاق ورواياتها المتتابعة توزيع روايات بلزاك وفيكتور هوجو مجتمعين. وكانت صاند قد عاشت بعض أخصب الخبرات الأدبية والتاريخية والسياسية في الحياة الفرنسية، خاصة وقد شاركت في الحكومة التحضيرية لكومونة باريس الشهيرة الأولى عام 1848. وكان قادتها يذهبون لاستشارتها في أكثر الأمور، حتى انقلبت ضدهم حينما انزلقت الكومونة إلى العنف. وكان أشهر رجال عصرها من فنانين: يوجين ديلاكوروا إلى شوبان، وكتاب: من بلزاك وفيكتور هوجو إلى جوستاف فلوبير وحتى مارسيل بروست، الذي ماتت وهو في السادسة من عمره، ومع هذا يذكرها بكثير من التقدير في الجزء الأول من (البحث عن الزمن الضائع) كانوا جميعا يرومون ودها ويكنون لها التقدير والاحترام.

لكن رفض أكثر من مسرح لمسرحيتها الأخيرة، ذكرها بأن قمر ابداعاتها التي ملأت أنوارها الحياة الفرنسية في مختلف جوانبها قد بدأ في الأفول. فقد كانت وقتها في السادسة والستين من عمرها. وأخذ الوهن يدب في مفاصل حياة كانت ثرية بالكتابة في الرواية والمسرح والنقد الأدبي والسياسة؛ وثرية بنفس القدر بالعشاق والمعجبين. وأرادت أن تدفع هذا الوهن عنها بأن تجلب إلى عالمها موهبة جديدة طالعة، تدفع بنجاحها الوهن الذي كرهت أن تراه يقترب منها؛ ورأت بنظرتها الثاقبة وحدسها الصادق أنها موهبة المستقبل في الحياة المسرحية الفرنسية. فقد كانت سارة برنار وقتها في السادسة والعشرين من العمر، وقد حققت نجاحاتها الأولى المبكرة مع مسرح الأوديون الشهير في باريس. ولفتت أنظار الحياة الثقافية لها، لا باتقانها للتمثيل بعد عدة إخفاقات سابقة، ولكن بسرعة بديهتها، وقدرتها على السيطرة على الجمهور. حينما اعترض جمهور (مسرح الأوديون) على تقديم المسرح لعمل لألكسندر دوما (الأب) أتاح لها المسرح فرصة القيام بدور البطولة فيه، صارخين وقد بدأ التمثيل: «يسقط دوما، نريد هوجو!» فما كان منها، برغم حداثة سنها وموقعها في الفرقة معا، أن تصدت لهم بلباقة: «أيها الأصدقاء أنتم ترومون الدفاع عن حرية الاختيار وقضية العدالة! فهل تحققون ذلك حينما تعتبرون السيد دوما مسؤولا عن غياب السيد هوجو؟» فصفق لها الجمهور، وكف عن الشغب وشاهد مسرحية دوما حتى نهايتها. وأعرب عن إعجابه الكبير بسارة برنار في نهاية العرض. وهرع دوما في نهاية العرض إلى غرفتها يثني على حسن تصرفها ويشكرها، وأصبح منذ ذلك التاريخ أحد رعاتها البارزين على مد مسيرتها الفنية.

لذلك ما أن يعلن مدبر منزلها، الذي نكتشف أنه كان عشيقها في الوقت نفسه، فلم تكن تطيق منذ مراهقتها الحياة بلا عشاق، قدوم جورج صاند لزيارتها حتى لا تصدق سارة برنار أذنيها وتسأله، هل يعني جورج صاند؟! ولكنها تتصرف بلباقة الفنانة الموهوبة، فتهب للترحيب بزائرتها، وتعد بأن تقرأ المخطوطة التي قدمتها لها بعناية. وتصرّ على استضافتها في منزلها حينما تهطل الأمطار بصورة تجعل عودتها لمنزلها صعبة. وبالرغم من أنها باتت في منزل الممثلة الشابة ليلة واحدة؛ فإنها استطاعت بعين المرأة والكاتبة المتفحصة، أن تكتشف بسرعة حركية جل العلاقات الإنسانية في هذا البيت. وأن مدبر المنزل الذي لم تفتها وسامته، بل ولا حتى فرصة غوايته، عشيق سارة، ولكن الطاهية مغرمة به في الوقت نفسه. ولذلك فإنها تنصحه بألا يفرط في الطاهية، لأنها هي من سيبقى له. أما سارة فهو ليس إلا نزوة عابرة بالنسبة لها. وهو الأمر الذي سيتحقق بأسرع مما توقعت.

فنحن هنا بإزاء مسرحية محكمة من فصل واحد تسعى لتطوير الحدث بسرعة، مع تفعيل درامية العلاقات بين الشخصيات فيه. لأن تردد جورج صاند على بيت سارة أكثر من مرة، كي تناقشها في المسرحية، وتقنعها بالقيام ببطولتها، أتاح لها الكشف عن دراما العلاقات الداخلية فيه. كما أن ولع سارة برنار بأن تعيش حياة لا تقل درامية عن الأدوار التي تؤديها على خشبة المسرح. بالصورة التي جعلت النعش/ التابوت أحد قطع الأثاث الدائمة في منزلها، حيث كانت كثير من أدوارها، في تلك الحقبة الرومانسية من تاريخ المسرح، تنتهي بالموت. أقول أن تضافر وعي جورج صاند بدرامية الموقف في بيت سارة، أتاح لها أن تكون عنصرا دراميا فاعلا في شبكة العلاقات الخفية بالمنزل. فما أن تكشف لسارة عن ولع الطاهية بمدبر المنزل حتى تستشيط غيرة، وتمثل أنه أرداها قتيلة بخيانته، وتنام في التابوت. هنا يلعب ولع سارة بدفع الأحداث إلى ذروة الدراما دوره في إرهاف درامية العمل المسرحي على الصعيدين: صعيد نجاح جورج صاند في إقناع سارة بتمثيل مسرحيتها، والتي أدى نجاحها الكبير، لندم المسارح التي رفضتها بعد هذا النجاح. وصعيد العلاقة بين مدبر المنزل والطاهية، والتي تنتهي نهاية سعيدة بعد تخلي سارة برنار عنه. وكأن العودة لهذا الزمن الرومانسي بساهم في إضفاء روحه الرومانسية على العمل ككل، ويجعل العرض برغم قصره سهرة مسرحية ممتعة.

 

(2019)