هرباً من الحاضر، أو ربما رغبة في الاستقواء بالماضي على واقع لم يعد محتملاً- هذا ما حاوله الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد في روايته الأحدث "السايكلوب"، إذ أحيا شخوصه الروائية من جديد، ودبت فيها الحياة بعد مرور عقود، حيث استعادها صاحب "لا أحد ينام في الإسكندرية" وتحاور معها وجعلها شاهداً على ما يجري من أحداث في السياسة والأدب والاجتماع والدين وكل شيء.
ولعل اختيار عبد المجيد لأن تصدر روايته عن دار مسكلياني في تونس هو في مضمونه اعتراض كبير على الحاضر، حيث إنه يفعل ذلك للمرة الأولى، لأنه ببساطة لن يسمح له بنشر رواية تعج بالإسقاطات السياسية وتستقرئ الأحداث السياسية والاجتماعية وتغير المزاج والمجال العامين بعد ثورة يناير، ولذلك ربما سافر بروايته إلى تونس.
و"السايكلوب" هو الكائن الخرافي ذو العين الواحدة الذي يأكل البشر، والذي خدعه يوليسيس وفقأ عينه الوحيدة وهرب من الجزيرة إلى السفينة مع بحارته، حيث صنع له يوليسيس النبيذ الذي أعجب السايكلوب، فشكره وسأله عن اسمه فقال "لا أحد" حتى إذا سكر السايكلوب وفقد وعيه فقأ يوليسيس عينه وهرب ومعه بحارته، وحين خرج وراءهم السايكلوب يصرخ وتجمع حوله زملاؤه من السايكلوب الذين يملأون الجزيرة وسألوه من فعل به ذلك قال "لا أحد"، وكانت هذه فرصة يوليسيس وبحارته لأن يهربوا.
تعد الرواية مغامرة كاملة الأركان، سواء على المستوى التجريبي، أو الغرائبي، وأيضاً على مستوى البناء والمضمون، يعبر فيها عبد المجيد عن اشتياقه الكبير لاستعادة شخصياته القديمة، هذه الشخصيات تخرج من الماضي لتعاين الوقائع الحالية وتعايشها ولكن بخلفياتها القديمة وتصوراتها التي مرت عليها السنوات، حيث إنه بمجرد تفكير صاحب "أداجيو" فيها فإنها تحضر وتشارك في الأحداث.
وتجد الرواية تقوم بالأساس على مؤلف يدعى سامح عبد الخالق هو الذي يريد الكتابة، وهو محض قناع يتخفى وراءه عبد المجيد الذي يتماهى تماماً مع بطله هذا، حيث تشير جميع المعلومات التي يعرفنا بها سامح عبد الخالق على نفسه إلى المعلومات المعروفة عن عبد المجيد، وفي إحدى الفقرات نقرأ صراحة: "هو في الأصل متحصل على دبلوم صنايع، وقد اشتغل في الترسانة البحرية، ودرس ودخل الجامعة، ثم صار أديبا" وهذه بالضبط تفاصيل تنطبق تماماً على سيرة حياة صاحب "الإسكندرية في غيمة".
ولا يتوقف عبد المجيد، المغرم بثورة يناير، عن تضمينها هذه النص الأدبي اللافت، إذ أن شخصياته القادمة من الماضي تفكر في أن هذا الواقع الذي تعايشه لا بد وأن يشهد أحداث انتفاضة 1977 التي كانوا جزءاً منها، وبينما يفكرون في ذلك يجدون أنفسهم في خضم ثورة الخامس والعشرين من يناير، محملين بقدر كبير من الدهشة والخوف والأمل أيضاً، غير أن الشعور بالخذلان تعاظم بعدما رأوا أمامهم أن الثورة تفقد كل شيء.
الفكرة المبتكرة للرواية أفسحت مجالاً كبيراً لمساحات من الدهشة والإبهار والتأمل، حيث نحن أمام شخصيات يبعثها عبد المجيد بعد عشرات السنوات على وفاتها في رواياته، وبالمناسبة هو يبعثها على حالتها الأولى، بمعنى أن شخصية مثل البهي، وهي إحدى شخصيات رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية"، يقوم ببعثها كما هي، وهي لا تزال في الثلاثينات من عمرها، رغم مرور أكثر من نصف قرن على وفاتها في الرواية القديمة، لتنضم هذه الشخصية إلى جوار عشرات الشخصيات الأخرى التي يقودها "سعيد صابر" وهو شخصية تمت استعادتها من الماضي أيضاً ليقود العمل كبطل في يد المؤلف الوهمي سامح عبد الخالق الذي جعله عبد المجيد يسرد أفكاره ورؤاه في حيلة فنية اختارها لروايته.
الشخصيات القادمة من الماضي لم تتحمل الواقع المزري، حيث رصدت هزائمه السياسية والاجتماعية، فضلاً عن تدني مستوى الذوق العام، والاستغراب من حالات الثراء الفاحش، والتقليد الأعمى للغرب في كل شيء حتى المأكل والملبس، والإدمان الرهيب للسوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي التي قطعت حبال التواصل بين الناس وبعضهم، فضلا عن التراجع غير المسبوق في مستوى الفنون والآداب ونظرة الناس للجمال، وهم الناس الذين باتوا أكثر سطحية من ذي قبل، وأكثر قابلية للصمت من الكلام، والقبول بالموت على الحياة، بعد ما رأوه من انكسار لثورتهم وآمالهم.
ووقفت الرواية كذلك أمام مآلات ثورات الربيع العربي التي كانت في لحظة ما بمثابة إعادة الحياة للبشر بعد مواتهم، تماماً كما فعل إبراهيم عبد المجيد في هذه الرواية، غير أن المآلات لم تكن جيدة على الاطلاق، واختطفتها أنظمة فاسدة ومشوهة، وأساءت إليها قوى متطرفة وتنظيمات إسلامية تشدقت بعبارات فضفاضة كي تصل في النهاية لمبتغاها على حساب أي شيء.
وعاينت الرواية أيضاً ممارسات السلطة العسكرية، وخصوصاً في مصر، حيث قتلت آمال الشباب في حلم أو طموح يشي بمستقبل ربما يكون أفضل حالاً، كما أشارت الرواية للطريقة الاستبدادية التي تتحكم بها السلطة العسكرية في مصائر الشعوب.
ويبقى اللافت في الرواية أن إبراهيم عبد المجيد استدعى شخصيات رغم أنها موغلة في القدم، بعضها من فترة الحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت محملة بقدر كبير من الوعي الذي يفوق الشخصيات التي تعيش حالياً، وهو الوعي الذي مكنها من مساءلة الحاضر، والاندهاش من طبائع البشر التي تغيرت، والأسف على مآلات الناس والثورة التي اختطفتها النظم العسكرية والدولة الثيوقراطية بعد أن ضربتا عرض الحائط بأحلام الشباب وآمالهم.
ضفة ثالثة