يرى الناقد المصري أنه إذا كانت روايات كثيرة قد تحدثت عن الماضي بإعتباره تاريخا، للعبرة والدراسة، فإن الروائي في «وادي الدوم» يتحدث عن الفرص الضائعة، أو المُهدرة- في ذالك التاريخ- والتي كان يمكن أن تكون. وكأننا من جديد ننظر وراءنا في غضب. ونضع التاريخ في قفص الاتهام.

الإرهاب والسياسة في «وادي الدوم»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

بدأت العمليات الإرهابية في مصر، في ثمانينيات القرن الماضي، وتصاعدت، حتي باتت قضية المجتمع كله خلال، ذلك العقد، ولتستمر بصورة متقطعة في تسعينياته، ثم هدأت نسبيا في العقد الأول من القرن الحالي، لتعود للاشتعال بصورة أكبر وأشرس في العقد الثاني منه، خاصة بعد إجبار رموز الإخوان المسلمين، علي ترك حكم مصر الذي استولوا عليه في غفلة من الزمن. الأمر الذي حول الشك إلي يقين، في طبيعة كل الجماعات الإسلامية، وعلاقتها الجذرية به. وانبرت الدولة في مهاجمة تلك الجماعات بكل عنف. وإن كانت هذه المعاملة من قبل الدولة ضرورية لوقف نزيف دماء الأبرياء دون ذنب، إلا ان البعض رأي أن الحل الجذري لها، هو قطع الجذور التي امتدت بطول البلاد العربية.

وكما كانت الرواية حاضرة في كل القضايا المجتمعية، لارتباطها الجذري به، فتعددت الرؤي فيها بين من راح يكتبها بالرجوع لأصل الفتنة والتكفير (الفتنة الكبري)، ومن يبحث عنها بالبحث عن التاريخ المصري وكيف كانت علاقة المسلم والمسيحي، وغيرها من الرؤي. إلا ان الروائي الشاب علاء فرغلي، يبحث عن أسباب الظاهرة في مصرنا الحديثة، من خلال روايته الثانية "وادي الدوم"[1]، والتي يعود فيها إلي ما قبل تسعينيات القرن الماض، حيث أرخ لهجوم إرهابي علي واديه المتخيل "وادي الدوم" بدفتر "الصاير" ب الثلاثين من الشهر التاسع في العام ألف وتسعمائة واحد وتسعين من الميلاد. حيث ذهب "الشاهين"، الذي يقول عنه العمدة { عفريت أزرق يفرق بين ذات الحافر والظلف بنظرة واحدة. يعرف وزن الدابة من أثر حافرها. يقرأ علامات الريح والظل والنجوم، تماما كما كان يقرؤها الشيخ المهود قبل أن تنطفئ عيونه وتتخوخ عظامه}ص31. كدليل، بصحبة بعثة أجنبية إلي "الكُفرة" الليبية، مرورا بتل الشياطين، لاكتشاف الطرق المهجورة وبؤر الحياة القديمة، وفيها يكتشف واديا يصلح للحياة. فلا يكشف عنها للغرباء، رغم إنشغال باله، وما لفت إليه نظر المرأة الوحيدة في البعثة فتسأله {أنت اليوم غير يا شاهين. فيقول في نفسه: {وادي دوم بين أقدام الصخر وعين مياه حلوة مثلك يا شهية. تقرأ حيرته. تربت بأصابعها التي تمسك إحدي ركبتيه فيجفل. هذه المرأة تكمل صورة الحلم في دواخله! عين ماء مسكرة، وأحراج نخيل وطيور وامرأة ملونة ملمسها كزغب العصافير، وحبات في سيالته من شجر الأرجان أو "الفياش" كما يسمونه في عموم البوادي. مفردات حلم طويل سيكشف الضوء عن نهايته لا محالة}ص38.

وبعد عودتهم، يعود وحده لسيتطلع المكان، وإمكانية العيش فيه. ثم يصطحب معه بعد ذلك كل من مهود ، بوسنة و باجة. لنشعر وكأننا في سفينة نوح، التي ستبدأ الحياة من جديد. كذلك يبدأ الشاهين بلدا من جديد، حيث سوي الشاهين الآرض وأقام البناء{ ....... حتي بدت الدومة في عينه بلدا

قال مهود: بلد بغير عيال ونسوان؟

وقال بو سنة: بلد بغير دفتر الصاير؟

وقالت باجة: بلد بغير دحي ودجاج؟

وقال شاهين: لو جئتكم بها، تكون بلدا؟}ص110. وبالفعل تبدأ البلد في الاتساع والتكاثر، فكان الشجر، وكانت الثمار فتحولت الصحراء المهجورة، والمتروكة لخفافيش الظلام، ترتع فيها، ويبدأ هجوم تلك الجماعات، والتي يكشف فيها الكاتب رؤيته في التعامل معها، كما يكشف بعضا من شخصية الشاهين القائد، أو الرئيس الذي لا يتعامل إلا مع الرؤساء {عثمان أزرق قائد ميمنة عبد الرحمن النجومي في جيش الدراويش المهدي. جاء بين أنصاره فارين من معركة توشكي التي ملأت أنباؤها الأسماع ما بين مراكش والشام، ولم يكن عمر الدومة سوي أربع سنين بالتمام .... رابط عثمان علي أطراف الدزمة وأطلق رصاص باروده فوق عريشة أحد الأجران حتي اشتعلت، أصابت ابن زوجة الشيخ مهود، وابن جاد المرجوشي .. و .. و ساد الخوف وتعالي صراخ النساء والصبية وفزعت الدواب}ص117. نزل إليهم الشيخ شاهين.. وأخذوه إلي قائدهم .. فجادله، فقال عمر: {أنهم ما جاءوا معتدين يرجون الدنيا ومتاعها وإنما راجين رضا الله وكلمته. قال إن الدومة ستصير قبلة المجاهدين ومقصد أنصار الله ومنطلقهم إلي أرضه شرقا وغربا، سيبقي من فيها مأمونا إلا إن أتي بمعصية أو حض عليها........... وأيقن شاهين أن حديثه ينبع من قلب معمور بإيمان راسخ لا سبيل إلي زعزته، فأعلن ولاء دومته لجند الأمير ومهديه وخليفته، ورحب بهم وأكرم ضيافتهم}ص120. وعندها وُلد "المأمون" ابن شاهين وشمس ابنة ملك وادي البخت. وليكشف لنا هذا الموقف، منذ البداية، كيف أن هذه الشعارات، يمكن أن ينخدع بها الكثير من الناس، خاصة البسطاء منهم،غير أن الشاهين وإن كان واحدا من أبناء الصحراء، وإن لم يتلق علما، إلا انه تلقي الخبرة الحياتية، التي ستقوده فيما بعد لكيفية التعامل مع أمثال هؤلاء، مقدرا للظرف ما يحيطه، محددا نقاط قوته، التي سيتغلب بها علي نقاط ضعفهم، فإن كانوا يملكون القوة، فإنه يمتلك جغرافية المكان.

ويسير الشاهين بهم لخروجة لله، وغزوة جديدة، وهناك يضللهم، فيصفه عثمان الأزرق بالخيانة، فيرد عليه الشاهين {الخائن خائن نفسه، لا خائن الغزاة والمغاوير، أنا افتدي ربعي، تريدون أترككم تجلدون الصبايا، وتأخذون البعير! فيرد عثمان: نحن ما أخذنا منكم أو من غيركم من خردلة إلا لتعيننا علي طاعة الله وطاعة مهديه!}ص125. وهنا نتعرف علي بعض من طبائع هؤلاء الذين يحللون الحرام، بحجة أن النهب والسلب، ليس إلا لمساعدتهم علي طاعة الله.

ويستمر الشاهين ، الخبير في الأثر، في صحبتهم لحاجتهم إليه أربع سنوات، ويطلب العودة للدومة، كي يري ابنه المأمون، الذي لم يره إلا قطعة من لحم حمراء، فلا يملكون إلا الاستجابة لمطلبه، بعد تهديده لهم. ويَغُز السير حتي يصبح علي مشارف الدومة، و{يجلس سيدي مهود علي حَجرِه المسطح، علي يمينه المأمون وعلي يساره ولده المفلح. يشير إلي المأمون يمعن النظر إلي القادم من بعيد يقول: تري الممسك ب "كلسة" الجَمل هناك.. ذاك الشاهين أبوك عاد يا مأمون!}ص130.

وفي النهاية، تأتي جماعة من الجماعات الإسلامية لتغير علي الدومة، ويدور النقاش بين الشيوخ، وما نتبين منه أن كل الناس ليسوا الشاهين، وإنما الكثيرون من ينخدعون بشعاراتهم، عن حسن نية {هؤلاء دراويش معاتية، ينتحرون زهدا في الدنيا، ويسعون في خرابها.

  • نواياهم طيبة يا سيدي، والأعمال بالنيات،
  • يا توجالي، أريدك تسمع الكلام، الأبالسة يرون أن نواياهم طيبة، تفتح مخك وتفهم، أنت ما عدت صغيرا يِنضحك عليه براية وتكبيرة}ص363.

 

وفي ربط ضمني بين الأصل والفرع، استطاع الكاتب أن يضعنا أمام بشر حقيقيين، لا مجرد نماذج تؤدي دورا، فكانت حياة البلدة الجديدة، وسط الصحراء، وبظروفها، فكانت الفرع من الأصل. ورغم أن المواقف الحياتية التي عاشها أبناء البلدة الوليدة ، ومعارضتهم لتلك الجماعات الغازية، إلا أنه لم يكن معارضة للأصل، وإنما معارضة للخروج عليه، وباستخدام الحيلة، لا باستخدام القوة، التي لايملكونها- وهي الرؤية التي ستتضح فيما بعد -. فيكشف الكثير عن قناعات الشاهين ومجموعته، بالغيبيات، وحب ، أو التسليم، للأولياء، حتي إذا ما ظهرت الأجيال التالية، لم يتحدث منهم أحد عن هؤلاء المؤسسين، إلا متبوعا ب(عليه السلام)، وكأنهم يخلعون عليهم القداسة. وهو ما يبدو في لهفة الشاهين، لزيارة المهدي السوداني، عندما يأتيه البعثة، القديمة، الجديدة، يخبرونه بأنهم يحملون رسالة من المعتمد البريطاني للمهدي بالسودان {تحدد موعد لقائهم بالمهدي، لينقلوا إليه رسالة المعتمد البريطاني في القاهرة، وطلب شاهين أن يرافقهم ليراه، ويملأ عينيه بوجهه الوضاء، ويقرا في ملامحه نور الإيمان والرضا وفتحا علي طريق الحق. وحين انتهي اللقاء، وخلدوا إلي فُرشهم، تجرع الكولونيل ما تبقي من زجاجته. قال: المهدي سيغزو بلادكم يا شاهين!}ص45. { أطلقت الأجنبية ضحكة خليعة، نعس الشاهين علي أصدائها يحلم يوم يصير قائدا في جيش المهدي ويفتح بلاد الخواجات فتصير الأجنبية الملونة سبية في غنائمه، وحين استيقظ فرك المني المتيبس في إزاره واستحم في عين ماء يدعونها "المُرة".}ص45. حيث نتبين هنا الربط بين رؤية الشاهين للرموز التي يقدسها، في نفس الوقت الذي يكشف فيه عن طبيعة دفينة في أؤلائك الذين يرون في المرأة المتعة، وما يكشف عنه أيضا، في أمنية الحارس الأول- في المجموع – لمقام الشيخ . حيث يسافر الشاهين إلي واحة "أبو منقار" دون أن يعلق "مهود" في ذيل ثوبه كما اعتاد، وحين يسأله شاهين عما يريد عند عودته: فيقول {امرأة أركبها}. ولتكشف عن شهوة أؤلائك البشر لّلحَمِ، مأكولا ومركوبا.

وإلي جانب تلك الإشارة، والإشارات العديدة التي تشير لرؤية ناس الدومة للأولياء والصالحين، وتقديسهم، فجعل من الشيوخ الأربعة متبوعين ب"عليه السلام" فيدعو الشيخ تخلو{ ويبتهل إلي الله بعد نحو أربعة عقود كاملة، وهو يتحسس عمامة مقام الشيخ مهود بيقين المؤمن وعزيمنه، ان يرزق الله ابنتهم صبرنا سمكا تتوحمه في حبلها، وان تضعه ولدا، إكراما لوجه وليه وحبيبه المرحوم مهود عليه السلام. وستتحقق المعجزة فيؤمن من في قلبه ريب بمكانة الشيخ مهود ومقدرته}ص113 ،114.

يعود بنا الكاتب إلي النسق الثقافي الممتد عبر الأجيال – حيث كان استخدام الكاتب لتقنية الأجيال بالرواية موفقا – القائم علي ثقافة الصحرء، في مواجهة الثقافة العصرية أو الحضرية، القائمة علي العلم والقراءة والمعرفة. فنتبين النسق الثقافي في نظرة أبناء الصحراء ونظرة البعثة، إلي الآثار، كمواجهة بين النسقين، وكأن الكاتب يجمع كل الرؤي في روايات الأوائل توفيق الحكيم ويحيي حقي وسهيل إدريس والطيب صالح، الذين تركزت رواياتهم - في هذا الإطار – علي تلك النقطة {سارت القافلة غربا، حول "تل الشياطين"، مرت باودية جافة، وجبال ملونة. قضوا ثلاثة أيام في وادي صورة، يرسمون هيئات السباحين، ورؤوس الشياطين والمسوخ من جدران الكهوف إلي أوراقهم المقواه..... تعوذ من فعال العفريتة "دوزا" التي تسخط الأحياء – شجرا وبشرا – حجارة صماء حين يطؤون أرضها ويقلقون نومة أبنائها}ص43.

ويواصل الشاهين {أسر لهم الشاهين بما علمه عن "دوزا" التي اختطفت أبناء واحته ممن خرجوا بحثا عن "زرزورة" في أزمان مختلفة. عفريتة من مردة الجن والأبالسة لها شعر ثعبان وجسد إمرأة لعوب. عارية الصدر لا يسترها خجل} ولا تتركه الأجنبية الملونة ليكمل حديثه، وتُخرِج صورة من كتاب موجهة حديثها لرفاق الرحلة { شاهين يقصد "ميدوزا"[2] يا رفاق.. كيف وصلت الربة اليونانية إلي هنا؟} ص44.

وبين كل ما كان الحديث يدور في الصحراء، وحياتها، تعمد الكاتب أن يرسل بعض الإشارات، التي بدت في حينها، كما لو أنها منفصلة عن الموضوع، إلا انها تُنبئ بأن شيئا وراءها، مثل تلك الإشارات إلي عبد الناصر، ثم مبارك. ولنتساءل، وأين السادات في الموضوع؟ . غير أن استكمال القراءة، يكشف عن أن شيئا لم يأت إعتباطا، وإنما هي رؤية، أوحي بها الكاتب دون أن يصرح، ولنبحث نحن عنها.

فيبدأ ذكر عبد الناصر {وهو يؤكد أن الدزمة صارت في مأمن من المتسللين واللصوص منذ ضرب جمال عبد الناصر مدقات الجمال بالطائرات النفاثة، ليغلق المسارب علي حدود الغرب والجنوب، ويمنع طارقيها من برابرة وتبو وطليان وجُرعان، وأرسل هيئة التعمير لتحفر الآبار وتزرع الحبوب والقصب}ص16. ولنتبين بعد ذلك، أن احدا في الدومة لم ير أو يسمع عن تلك الطائرات النفاثة.

وتمر صفحات كثيرة قبل العودة لعبد الناصر حيث نقرأ {وعاد جابر الوكيل من سفره الطويل ومعه ابنه بيومي بعد أن صار شابا يرتدي قفطانا وعمامة حمراء يصطحبان عددا من السواحلية البُرسعادوة والسويسة المهجرين من مدن العدوان، وأقاموا بيوتا بامتداد ضرب السنيورة وضرب "المقام"، وسُميت بيتوهم "ضرب السوايسة". وفي إحدي جلسات السقيفة التي حرص جابر الوكيل وابنه علي حضورها منذ رجعا إلي الدومة، قال بيومي ابن جابر الوكيل إن المحافظة الجديدة التي يتبعونها أُنشيئت لكي يقول عبد الناصر للسوريين لاتخافوا، المصاروة لن يهاجروا إلي بلادكم بعد الوحدة هربا من الزحام، عندنا أراض خالية ومياه فرات وواد جديد يتسع لخلق الله أجمعين}ص338. ليضعنا - الكاتب – أمام سؤال كبير عما كان، وما كان يمكن أن يكون. في ظل تقديم الرؤية للقائد الذي استطاع أن يُنشئ بلدا، وأن يحافظ عليها من المغيرين المسلحين، مُقَدِرا قوته وقوة المغيرين، ممثلا في شخص الشاهين، والذي وصف بصفات القائد المُحنك، والقادر علي تقدير الواقع {الشاهين كان لسانه حلوا وكلامه يدخل الراس ويَقْعُد ويُقر، كان يقول نحن أبناء المَيّ والخضار لا أبناء البارود وحصد الأرواح .. الشاهين رجل حر لا يخشي.. الشاهين كانت له هيبة، يده بلا سيف وجنبه بلا غِمد ولا يمتطي فرسا لسفر ولا يركب جملا لمسيرة تقل عن يوم، وحين يسأله أحدهم لماذا لا تركب مطيتك يقول: وماذا تقول نسائي، ذهبت عافيته فركب مطية؟ عَلَمَ الناس الصبر بصبره والجلد بجَلدِه .. الشاهين لم يخاطب الدراويش السودانية وهم مدججون بالسيوف والرماح والبارود وقال لهم بفم ملآن بالعظمة وهامة علية لا تنحني: أكلم كبيركم!}ص353.

وإذا ما لاحظنا استخدام الكاتب ل(شاهين) معرفا بالألف واللام. سنتبين أن الشاهين يعني الصقر، وهو الأقرب للنسر المستخدم في علم مصر. الأمر الذي يدعو للتأمل بين الاختيارين، والعلاقة التقاربية بينهما. وكأن الكاتب يشير إلي مصر بالوادي المُتَخَيل. خاصة إذا ما تأملنا العنوان "وادي الدوم" حيث يعتبر "الدوم" شجرة فرعونية بالأساس، وهي شجرة معمرة، تضرب بجذورها في الأ{ض، ولذا جاء استخدام تقنية الأجيال في الرواية، استخداما مقنعا. بالإضافة إلي تداخل تلك الأجيال كثيرا في الأحاديث والحوارات بها، حيث يكون المتحدثون من الجيل الثالث، ونفاجأ بتدخل واحد من الجيل الأول، وهو ما يوحي بالتأثير المباشر، والتفاعل الدائم بين الجيل الحالي والأجيال السابقة، وهو السمة الغالبة في رؤي السلفية، الإسلامية، والسياسية.

حيث في المقابل، يستنبت الكاتب من الدومة ما يشير إلي ما كان يمكن أن يحدث في عهد سابق، حيث تُركت الصحراء العامرة بالأرض والخيرات، وبعد الحديث عن عبد الناصر، فنقرأ عن الصحراء { الذين لا زالوا يحرصون علي الخروج للفلاحة في مرابع القصب والحبوب صاروا قليلين، جاءت الهيئة ومعها أحلام السفر إلي العمار........ والطرق المستوية والشمس اللينة والقطارات الهادرة والبحر ذي الزرقة المتسعة، أو علي الأقل إلي "دومة" أخري في الصحراء المديدة لا تتلاصق منازلها تحت سقف واحد، فترجها بازوكة مدفع أو قذيفة بارود... لا تتعثر في أديمها أقدام الغزاة والمحتلين والمهربين وقطاع الطرق والعابرين علي طريق الحرب، وتشير إليها نقطة ضئيلة في خريطة علي حائط}ص346 ، 347. ولنربط بين تلك الإشارة، وما سبقها من إشارة، لتتم الرؤية المبتعاه.

وفي رؤية لوضع العمالة في أيام عبد الناصر، أجمع المأمور بحماره "الملك جورج" ومعه تخلو وحرب والمفلح لمتابعة أعمال الهيئة (هيئة التعمير)، قال: عمل بلا همة! عشرة أنفار لعمل ثلاثة ولا ينجزون إلا اليسير. الذين يجلسون تحت المظلات أكثر ممن يعملون خارجها. أغلق التوجالي كور الحدادة وأغلق أبناء الفخراني فاخورتهم وأغلق أبناء جابر الوكيل نجارة أبيهم، وأغلق آخرون مصالحهم لا يفتحونها إلا عَرَضَاً لأعمال سريعة ليشاركوا في العمل الحكومي المضمون ويبيتوا في كامبات الهيئة}ص341.

وجاءت الهيئة برجال آثار، يبنون قواعد أسمنتية عالية لتماثيل المنزلة وأعطوها رقما مسلسلا لتكون رقم إعتمادها بالمخازن. وتم تعيين بيومي (الشيخ) ابن جابر الوكيل حارسا عليها لحين نقلها إلي المخازن، بخمسة جتيهات وثمانين قرشا يقبضها من ميدرية أثار المحافظة كل شهر إفرنجي { ولم يُشَاهد بيومي يوما قائما بمهمة حراستها أو مارا إلي جوارها، ولم تُنقل إلي مخازن الحكومة. بينما حرص بيومي علي السفر في سيارة المرتاض الشريف ليتلقي راتبه بانتظام، لا يمنعه عارض أو مرض}ص342.

وتأتي الهيئة بحفارات لحفر العيون، ولكن{ لم يشبه دولاب الهيئة الدولاب الذي صنعه شَروفة الفريج ليحفر بئر "صبارة" وحده دون شريك أو مساعد... ينزل شروفة البئر قبل إطلالة النهار الأولي بجارورة مياه وكسر خبز وقطعة جبن، ويخرج متهدما كأنقاض بناء قديم. سنتان لم يغب يوما عن عمله الدؤوب ... أما بئر الهيئة فحفروه في ثلاثة أسابيع ، لا تزيد باعا ولا ذراعا. لكن مياهه جاءت ذات ملوحة لا تخفي علي اللسان، قيل أنها تخرج من نفس الحوض الأرضي الذي تخرج منه مياه البئر الحامضة}ص343 ، 344. حيث يكشف الكاتب هنا عن رؤية غير مُدرَكة، بعودة التطرف، إلي ذلك الفراغ الذي صنعته سياسة عبد الناصر في حياة الإنسان المصري، رغم ظاهر الأمر الذي يشير لإتاحة العمل، وكأنها البطالة المقنعة، فضلا عن إفراغ الإنسان من الحافز الشخصي، والدافع النفسي لتحقيق الذات، حين يرتبط الناتج بجهده، بينما الرؤية الظاهرية تقول بالجماعية، وهي ذات الرؤية التي تري إنسحاق الدافع الشخصي، والشعور بالهامشية، التي تكشف عنها الإشارة إلي حسني مبارك، حينما يربط الكاتب بين ما يحدث في الدومة، وما يجري علي أرض مصر، من تغييب لدور الفرد، أو الغيبوبة عن إحساسات الشعب في الحديث عن عدم مغادرة الترانزستور ليد الشيخ (الطيب– حفيد تخلو)- { وفي الأيام الأخيرة صارت إشارة الراديو تنقل إحصاءً لعدد الميدليات التي يحرزها المصريون في "الدورة الإفريقية" علي أرضهم أولا بأول، وإعادة بث غناوة ذات موسيقي صاخبة لشاب يصيح "إفريقيا"}ص20.

إلي جانب تلك الإشارة التي تكشف عن تغييب المصري، بأحاسيسه وتفاعلاته، عما يجري في قمة الهرم السياسي، يوجه "سيدي تخلو" سؤالا إلي "سيدي بكر الفريج" { تري من هؤلاء الملاعين يضربون "البازوكا" يا الفريج"

  • مالكم تسألون كأني حسني مبارك

أخرج الطيب حفيد تخلو جهازه الترانزستور الصغير، وفتح سلك الإشارة الهوائية. يحاول التقاط خبر ما عبر الإذاعة. خبر يشي بما يدور في عموم البلاد. لم تأت غير ابتهالات "النقشبندي" في إذاعة القرآن الكريم، وتماوجات صوت المعزف وأغنية سمعها الطيب تتردد يومين متتاليين دون توقف علي كل الموجات الأخري. يغني فيها أحدهم لبلدان إفريقيا وشعوبها السمراء علي أرض القاهرة في الألعاب الرياضية يتلوها إحصاء الميداليات التي حصدتها الفرق المنافسة. بدا كل شئ طبيعيا، وان ما يُقذف نحوهم من فوق الجروف يخصهم وحدهم وليس جزءً من حرب عظمي أو معركة حربية قريبة}ص97.

وما أتصوره أن غياب الحافز الشخصي، وتغييب الإنسان وتهميشه، من الأساسيات التي تُغيب الشعور بالانتماء، الذي جُبل عليه الإنسان عموما، حيث منذ مولده يشعر بالانتماء إلي الأم ثم إلي الأسرة، ثم إلي العائلة فالبلد فالمجتمع. وإن لم يجد من ينتمي إليه.. بحث عمن يشعر معه بالانتماء، فكانت جماعات التطرف، اقدر وأقرب لاجتذاب مثل هؤلاء المغيبون في مصر.

ويُزيد الكاتب تنويرا –بالإيحاء – حول دور حسني مبارك، وما دار حول الحديث عن التوريث، مُوَلَداً من داخل الدومة، وأحداثها {كلاهما يتجاهل الآخر ولا يعقبه في الحديث أو الإدلاء بالرأي أو المشاركة بعمل، إلي أن يتداخل بينهما ثالث كأنه مُحلل لطلقة ثالثة، وتظل جمرة القطيعة متقدة تضطرم. قطيعة تسبب بها سيدي تخلو ذاته قبل عدة سنوات، بعد أن أعلن جابر الوكيل ميلاد الطريقة المهودية المحمدية، وجعل المقام مقرا لها وصار ابنه بيومي الوكيل خليفة لها، وبقية أبنائه نقباء ومريدون. اندس سيد ابن تخلو بينهم، مطالبا بمنابه من خدمة المقام، فأُعلِنَ خليفة للطريقة. لكن أبناء جابر الوكيل ظلوا يحوزون مهمة تلقي الهبات والنذور، ويعيدون توزيعها علي الأتباع والمريدين والفقراء}ص98.

التقنية الروائية

اللغة

علي الرغم من الإفاضة في حديث الحروب والمعارك، التي أدت لزيادة حجم الرواية (400 صفحة) فتباطأ الإيقاع كثيرا، ولم يُضف الكثير إلي حركتها، إلا أن الأساليب التي اتبعها الكاتب، وبكارة الرؤية العامة، ما خفف كثيرا من ثقل بطء الإيقاع. حيث جات اللغة وتركيب الشخصيات، ما ساعد علي معايشة القارئ، للواقع والأحداث. فنجح الكاتب في إجبار القارئ علي معايشة الصحراء وناس الصحرا. باستخدام لغة الصحراء، التي تطلبت منه كثيرا، تزييل الصفحة بشرح المفردة، وهو يرمي إلي استخدام الكاتب للمعلومة، وإن جاءت المعلومة هنا للكثيرين الذين لم يعايشوا الصحراء أو ناسها، وكأننا نقرأ عن بلد آخر. إلي جانب إنطاق الشخصيات بما يتوافق مع طبيعتها وقدراتها وإهتماماتها. فعندما أصيب الفُريج، وتولي تخلو تطبيبه، موجها حديثه للفريج { زندك لا يشيل عودي برسيم يالفريج، وتضرب البارود؟} ويبدأ تخلو في تجبير الفريج، الذي يقسم {يمين بالله ما تجبرها!

  • نجبرها أو تتعفن ونقطعها غصبا عنك؟
  • تقطعوها ولا أتعذب بالهرشة كما صار

وذكَّره الفريج بيوم وضع له جبيرة ليده اليسري حين انكسرت وهم يحاولون رفع فناطيس المياه علي الحوامل الخشب، فضحك تخلو ضحكته المتخابثة، وتذكر صرخات بكر الفريج التي كانت تتعالي كل ليلة من مراح جِماله يلعن الجبيرة ويلعن من وضعها، يريد أن يحك جلده تحتها متحرقا مثل ناموسة وقعت في وجاء حطب مشتعل، يقسم لمن يراه تخلو ربط الجبيرة فوق نملة تسرح في شعر ذراعه، بينما يقسم تخلو "أنك يا الفريج أجرب.. تحت جلدك جراد كلاب"}ص351.

كما كشفت الرواية عن الكثير من عادات الصحراء، التي تبدو غريبة علي من لم يعايش الصحراء، فتساعد في المعايشة، والاستزادة، مثل تلك العادة { تأبي العروس أن يكشف برقعها عن وجهها حتي يفض مغلقها ويضع بذرته وإلا راحت البركة وحلت اللعنة وصار للشياطين حيز في بيتهم. فيناكحها الشاهين دون أن يري شيئا من ملامحها، وحين يفرغ تزيح برقعها عن وجه يليق باسمها شمس، صبيح مشرق ذي ملامح عربية ناصعة}ص116.

التقديم/ الاستباق

إلي جانب استخدام الكاتب، بكثرة، لعمليات الاستباق، والاسترجاع، التي ساهمت في عملية التشويق،من جانب، وزيادة حركية الفعل من جانب آخر، فتسارعت بالإيقاع الذي يمنح الحيوية في القراءة في مثل:

{وحينما ستلتئم جلسة الأشياخ تحت السقيفة الكبيرة بعد خمسين عاما في ذات المكان، سيسألهم الشاهين بروح غائبة: تدرون ما كانت أول كلمة تُلفظ في هذا الوادي.. كانت سبحان الله! فتتعالي الصيحات والتكبيرات إجلالا للبركة}ص37. حيث تشير إلي رؤية الماضي، وتزرع النسق الذي سيمتد إلي الأحفاد.

و{هبط شاهين الجرف، وتدحرجت في إثره حجارة، صار قريبا من عين الماء، لم تكُ سرابا، أو سبخة ملح جافة، أو مياه بركة راكدة التأمت أسفل مخرات سيول، بل عين ماء انشقت عنها الأرض ذات يوم، فروت ثمار دوم ألقتها يد الله ذات يوم، فأنبتت واديا للدوم صار موطنا لطيور مهاجرة، وسيصير موطنا له ذات يوم}ص36.

و، يظل "تخلو وفيا لسيدي "مهود" ويتعهد برعاية مقامه ويذود عنه بروحه { ويُعد إليه العمامة التي ستطير بين النواصب الصخرية والجروف ويشاهدها الكافة}ص166. وبعد صفحات . نقرأ عن هجمة للسنوسيين أصروا معه علي هدم مقام الشيخ مهود، ولم تفلح شفاعة الدوميين في إثنائهم، وتهديدهم بأن من يعيد بناءه فهو مشرك يستحق حد الردة، { وسرعان ما شهدوا عمامة الشيخ مهود فوق أعلي تبة وراء الجرف، فنسبوا هذه الفعلة إلي الصبي تخلو الذي جهر برفضه وتذمره من هدم المقام، وحكموا بحبسه وجلده}ص184.

و يمكن أيضا قراءة عملية الاستباق حين يكون علي رأس القافلة "الكولونيل أسناو" { وعندما ستصير بذرة الدوم التي سيغرسها شاهين في طرف الجرف القبلي نخلة ولادة لجيلين أو ثلاثة، سيعود أسناو علي رأس جيش إنجليزي كبير حاكما لكل هذه القارة، وسيتذكر الشاهين رحلته القديمة ويضحك مجلجلا ويوصي به مرؤوسيه}ص33.

والتأخير/الاسترجاع

وكما ساهم التقديم في خلق التشويق، واللهاث وراء المعرفة، كذلك جاء التأخير، كعملية كشف لما سبق تقديمه مبهما. مثلما ظللنا نقرأ عن الملك إدوارد، ولم نعلم من هو، أو ما دوره بالواحة، وقبيل النهاية نتعرف علي أن الملك إدوارد، ليس إلا حمار المأمون بن الشاهين.

يحدثنا السارد عن أفراد مجموعة النشاة، في تلاحمها، الذي منه نتعرف علي بعض نوادرهم، حيث ترد الإشارة كثيرة عن أن الشيخ تخلو، أتي بابنه الأول من فنطاس الماء، ليثور التساؤل والدهشة، وبعد العديد من الصفحات، نتعرف علي أن الشيخ تخلو في بداياته، وحين كان مساقا ضمن قافلة العبيد، وقع في فنطاس الماء الذي كانوا يخبئون فيها العبيد علي فتاة إنهوس بها أثناء القافلة ، حتي حَبُلَتْ، وقد سماها توتة، لسمارها، وقد أثمرت تلك الواقعة ابنها الأول، وهو ما نتج عنه أن قدمها الأفندي - تاجر العبيد - هدية لقافلة حجيج قابلتهم في الطريق، ولما علم بذلك تخلو، شاط وتمكن من الهرب، ومرضت في طريقها، وكانت القافلة قد أنهكت، قابلهم الشاهين واستضاف الشيخ شاهين القافلة، وعند رحيل القافلة تركت جاريتين أشرفتا علي الموت، واحدة بالحمي والأخري بحمل سفاح في فنطاس مياه{ صبرنا ست الدومة ودُرة تاجها، وتوتة أم أهلها الولادة أولي زوجات تخلو}ص158. ثم يأتي الشيخ شاهين الهاتف من سيدي "مهود" ليخرج مرة أخري لتسوق الأقدار في طريقه تخلو في حالة إعياء شديد، يحمله الشاهين –أيضا – إلي الدومة، ولم تأت هذه الحكاية إلا في الفصل التاسع من الرواية. ثم يعود في الفصل العاشر، ويحدثنا عن رحلة "صبرنا" و "توتة" لينخدع القارئ برواية أخري .. ثم يتبين أن الحديث عن رحلتهما مع قافلة الحجيج. وكأن الكاتب يلعب مع قارئه، كي يظل في حالة اليقظة.

التناص

ساهمت عملية التناص كثيرا في إضفاء الروح الدينية التي هي السمة الغالبة علي ناس الصحرا، سواء في الدومة، أو التاريخ، كمرجعية لحياتهم. فجاءت عمليات التناص، لتتلامس مع القراءة والأحاديث مثل:

{لكن تخلو، كعادته، لايترك ما يقوله يمر علي مسامعهم يسيرا هينا، وبيده أن يحيله قاسيا عصيا، سرعان ما يرسم صحكة صفراء فاقع لونها – كما يقول المأمون – تَغُم الشاهدين، تضيق حدقتاه...}ص105 لتتماس مع الآية القرآنية [ قالوا ادعو لنا ربك يبين لنا ما لونها. قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسُر الناطرين][3] .

وفي الحديث عن البيت والزروع التي أنشأها شاهين {أراد أن يدخر عافيته لشئ أنفع. عبادة يتعبدها، أو امرأة ينكحها أو كليهما}ص108. لتتماس مع الحديث الشريف:

(عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي، فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله، فهجرته إلي الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلي ما هاجر إليه) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

فإذا كانت روايات كثيرة قد تحدثت عن الماضي بإعتباره تاريخا، للعبرة والدراسة، فإن علاء فرغلي في "وادي الدوم" يتحدث عن الفرص الضائعة، أو المُهدرة- في ذالك التاريخ- والتي كان يمكن أن تكون. وكأننا من جديد ننظر وراءنا في غضب. ونضع التاريخ في قفص الاتهام. ويكشف عن المسكوت عنه، أمام عَبَدةِ الماضي، والعائشين فيه، سواء باعتناق السلفية الدينية، أو السلفية السياسية، التي استطاع أن يدمج بينهما في عمل يستحق الإشادة.

 

شوقي عبد الحميد يحيي

Em:shyehia48@gmail.com

 

 

[1] - علاء فرغلي – وادي الدوم- دار العين للنشر والتوزيع – ط1 2919.

[2] - ميدوزا: ربَّة الحكمة والثعابين الأمازيجية بحسب الميثولوجيا الإغريقية، قادرة على تحويل الرجال والأشجار إلى حجارة بمجرد النظر.

[3] - سورة البقرة الآية 69.