يرسم القاص المصري في نصه المكثف حياة أسرة مصرية وهمومها من خلال حدث يومي، رجل يعاني من وجع أسنانه لا يستطيع النوم تصاب زوجته بنوبة فيهرع إلى بنتها في الغرفة الأخرى التي تستيقظ بعناء لتتصل بالإسعاف فنعلم أنها مريضة وتتناول حبوب مسكنة، ثلاثة أفراد مرضى، والأم تلهج باسم ولدها المهاجر وهي تحتضر.

سياج

رجب سعد السيّد

 

لم أكن نائماً. جاءتني كلماتها القليلة خافتةً: "الحقني .. أنا أموت!"

نسيتُ آلام أسناني وانتفضتُ مغادراً الفراش. أسرعتُ ناحيتها، وانحنيتُ عليها. كان العرقُ يغسلُ وجهها، وأنفاسُها متسارعة.

هرولتُ خارجاً من حجرتنا. دققتُ باب (مفيدة). لم تستجب. فتحتُ الباب ودخلتُ إلى غرفتها. تقلَّبتْ ولم تستجب. هززتُها، وصحتُ بها: "استيقظي .. النوبة تهاجم أمَّك ..".

ولم ألبث أن أدركتُ عدم جدوى صياحي، فالمهدئات تجعلها خامدة هامدة طول الوقت. ومع ذلك، وجدتُني أصيحُ وأنا أغادر غرفتها عائداً إلى حجرة النوم لأرتدي ثياب الخروج: "ليتك تتصلين بالإسعاف". لم ترد، ولكني سمعتها تتحرك إلى مكان الهاتف الأسود، وتدير القرص. وبعد أن انتهت، قالت وكأنها تحادث نفسها: "إنهم قادمون". وسمعتُ باب حجرتها يُغلق.

إنتهيتُ من ارتداء ملابسي. الأسنان تنبح وتشتت تركيزي فيتضخم إحساسي بالارتباك.

تأكدتُ من أنها تناولت كل الأدوية في مواعيدها. فكرتُ في الاتصال بالطبيب المعالج. نصحني بأن أستدعي سيارة الإسعاف لتنقلها إلى أقرب مستشفى؛ واعتذر لاضطراره إلى إنهاء المكالمة، إذ كنتُ أهاتفه وهو يقود، وحركة المرور بطيئة.

وكان الصباحُ ثقيلاً، وعلينا أن ننتظر. أريدُ أن يمضي الوقتُ بسرعة لتأتي سيارةُ الإسعاف؛ وأريده أن يتمهل، فنبقى في المدى الذي يضمن لها رعاية طبية تنقذ حياتها.

مضيتُ إلى المطبخ لأعد لها عصير برتقال. عدتُ إليها بكوب العصير. أعنتها لتقيم رأسها وتبلل شفتيها. لم تكن مرحبة؛ وسمعتها تهمس: "محمود .. محمود ..". قلتُ أطمئنها: "لا تقلقي .. سأنقلك للمستشفى حالاً". عادت تردد اسم ابننا المغترب، وكانت – هذه المرة – كأنها تناديه.

تصاعد رنين الهاتف فتركتها وأسرعتُ إليه. كان موظف مرفق الإسعاف يقول إن الطريق إلى منزلنا مغلق، ويتعذر الوصولُ في وقت مناسب. سألته ضائقاً: "من أغلقه؟". لم يرد، وقطع المكالمة.

ألهبتني موجةٌ جديدة من آلام الأسنان. جاءتني مفيدة، شبه نائمة، وقالت: "بابا .. سيمر الموكبُ بعد قليل ..".

أسرعتُ إلى شرفةٍ، أطلُّ على الشارع. كان الجنود يُسيِّجون الشارعَ الرئيسي، الذي يتفرع منه شارعنا الضيق المسدود. تركتُ الشرفة، ثم عدتُ أطل منها، مضطرباً حائراً عاجزاً. رجعتُ إلى حجرة النوم. كان صوت زوجتي الواهن لا يزال ينادي على ابننا المهاجر في كندا. وكان صوتُ البكاء يتصاعد واضحاً من حجرة (مفيدة).