رسالة باريس.

كشف حساب السينما الفرنسية في حفل «السيزار 34»

صلاح هاشم

 

كنت أتساءل وأنا أتابع فقرات حفل توزيع جوائز السينما الفرنسية "السيزار 34" تري إلي أي حد استطاعت السينما الفرنسية خلال العام المنصرم أن تعكس صورة للمجتمع الفرنسي في مرآة السينما، علي سكة تطوير هذا الفن، والتعبير عن تناقضات وأزمات ومشاكل عصرنا؟ إن كل المحاولات السينمائية في أي مجتمع من المجتمعات تصب يقينا في النهاية في دائرة الوعي والثقافة، لتجعل من السينما الفن أداة للتأمل والتفكير، وليس للترفيه والتسلية، وتغريبنا عن هويتنا ومجتمعاتنا، كما في جل انتاجات السينما المصرية التافهة الركيكة الاصطناعية في الوقت الحاضر، التي دفعت احد كبار النقاد السينمائيين في مصر، إلي أن يعلن جهارا علي الملأ أن أفلام الشباب الجديدة في مصر الآن أصبحت تصيبه بالإحباط وخيبة الأمل، وإنها تنحدر نحو هوة من «السطحية، والابتذال، والتقليد الممجوج». ومعه حق بالطبع ـ هكذا فكرت ـ فقد صدمت إنا أيضا، واسمحوا لي للحظة أن أعود القهقرى. صدمت عند حضوري إلي مهرجان القاهرة السينمائي الدورة (32)، إذ لم أجد بين الأفلام المصرية والعربية التي شاهدتها أي عمل يرقي إلي مستوي الحد الأدنى من السينما، ويستحق أن أكتب عنه، إلا فيلم "بلطية العايمة" للمخرج المصري الاسكندراني علي رجب، وكان البعض من النقاد قطعوا الفيلم وذبحوه بالساطور، حتي قبل أن يشاهدوه! وأعجبني في الفيلم المذكور الذي بدا لي عملا وثائقيا في الأساس، ومركب عليه حكاية كفاح امرأة لتربية عيالها، ومقاومتها الفساد والاستغلال والقهر في بلدنا،أعجبني توثيقه لمدينة الإسكندرية الجميلة العريقة، ولإحياء المدينة الآخذة في الاختفاء كما جل الأشياء الجميلة في حياتنا. بل أن ذاك التوثيق وحده يكفي لصنع عدة أفلام، وهو الذي يمنح فيلم علي رجب وبطلته ـ تظهر هنا في أحد أفضل أدوارها في السينما ـ يمنحه جماله وعفويته وبساطته، ويجعلك تحبه بسرعة وتتجاوب معه وأجوائه وشخصياته وتتعاطف مع محاولته السينمائية الأصيلة في أن يوثق لـ "ذاكرة" مدينته الجميلة بتلك الحميمية العذبة، من دون ادعاء او فذلكة. في حين بدت لي معظم الأفلام الأخرى المشاركة في مسابقة المهرجان اصطناعية مفبركة ومركبة ومملة، وشاهدناها من قبل في أفلام قديمة لكن أفضل بكثير.

إلا أن السينما المصرية الشابة الجديدة، التي تكره وتخشي التحدي، تسير نحو الاقتباس الأعمى المفضوح والاستسهال والسطحية، في مناخات التدهور التعليمي، وانحطاط الذوق الفني، والانحسار الثقافي العام، وأتصور بالطبع مع الناقد المحترم أن أغلبية الشعب المصري مصدوم ومفزوع أيضا من تلك الأعمال "المسخ" الغريبة التي لا علاقة لها إطلاقا بفن وثقافة وحضارة السينما كما أحب أن أسميها، لا من قريب ولا من بعيد. في حيت تعتبر السينما هنا في فرنسا ثقافة وفن، وليس "بضاعة" تجارية، ويقينا سوف يمضي الكثير من الوقت للأسف، قبل أن تتغير نظرتنا للسينما علي المستويين الرسمي والشعبي في مصر والعالم العربي.

وعودة إلي جوائز "السيزار"، نقول أن الأهمية القصوى لتلك الجوائز تكمن في أنها تعلن عن آراء السينمائيين الفرنسيين المحترفين من خلال الاقتراع السري حول أفضل الأفلام من إنتاج 2008، وتكشف بالتالي عن نزاهتهم واستقلاليتهم. كما تكشف أيضا عن نظرتهم وتقديرهم ـ أهل الصناعة ـ للسينما الفرنسية التي يصنعون، فهم يرشحون بأنفسهم الأفلام التي يرون أنها ترقي بمستواها السينمائي والفني للدخول الي أقسام المسابقة في الإخراج والموسيقي والتصوير والمونتاج الخ، ولا يحسبون حسابا ـ هكذا أثبتت الترشيحات ـ لعائدات شباك التذاكر. ومن هنا جاء استبعاد فيلم "مرحبا بكم عند أهل الشمال الشتي" الفكاهي لداني بون (الذي شاهده أكثر من 21 مليون متفرج في فرنسا وحدها) من دائرة ترشيحاتهم، إلا في قسم أحسن سيناريو. ولم يرشح الفيلم مثلا لجائزة أحسن فيلم، فقد رأي محترفو المهنة كما أطلق عليهم المخرج الفرنسي جان لوك جودار أن "مرحبا بكم عند الشتي أهل الشمال" لا يرقي إلي مستوي الأفلام الفنية الأخرى التي تسامقت بها السينما الفرنسية في العام المنصرم وحصدت العديد من الجوائز في المهرجانات الفرنسية والعالمية، وكنت رشحت عدة أفلام للفوز بجائزة أحسن فيلم في حفل السيزار 34 الكبير، وتمثل في رأيي أفضل حصاد للسينما في عام 2008 من ضمنها.

فيلم «بين الجدران» للوران كانتيه
يحكي فيلم "بين الجدران" من إخراج لوران كانتيه عن مشكلة التعليم وعملية نقل المعارف في فرنسا، وهو مأخوذ عن رواية لفرانسوا بيجودو، ويقوم صاحبها بتمثيل دور المدرس في الفيلم، وقد تعرض الفيلم الذي أعجبني كثيرا لانتقادات بعض المدرسين المحترفين، وأعضاء الهيئة التعليمية في فرنسا علي اعتبار انه فيلم رجعي، يقدم فصلا دراسيا متخلفا، ومدرسا متساهلا الي حد كبير مع الطلبة، ولم يلتفت المنتقدين للفيلم انه لا يصور ولا ينقل أو يسجل حياة فصل دراسي ثانوي علي الطبيعة، بل يصور "رواية" في السينما. ومن هنا وقع الاختلاف واللبس، فمازال البعض يتصور أن السينما هي الواقع ولابد أن تعكس حقيقة الواقع، وهي أفكار عفي عليها الزمن، فالسينما من حيث هي إبداع لاتقدم ابدا الواقع بل تقدم واقعا جديدا متخيلا، وتترك لنا ليس محاكمته، بل تلمسه وتفهمه وتذوقه لكي تثقفنا وتمتعنا في آن، وتحثنا علي التأمل والتفكير. لأن السينما هي خلق وابتكار واختراع واكتشاف ورؤية وليست تصويرا لكلام مكتوب علي ورق كما في جل أفلامنا ومسلسلاتنا المتخلفة العقيمة، التي تعود بنا إلي الخلف. وقد أعجبني الفيلم للأسلوب الذي انتهجه في تصوير تلك الرواية في السينما، وهو أسلوب ينأي عن استخدام السيناريو الكامل الجاهز المكتمل (لا يوجد مثل هذا الشيء الآن في السينما الحديثة، إلا في جنس الأفلام التجارية التي نصنعها في بلادنا كتقليد للأفلام الأمريكية الهوليودية العرجاء، لكي تصبح مسخا وأقرب إلي روث الجواميس) او السيناريو المرسوم المصور "ستوري بورد"، بل يعتمد علي أسلوب "الارتجال العفوي المنظم" من خلال تفقد المخرج لفصل دراسي ثانوي حقيقي، ومعايشة الطلبة في الفصل لأكثر من شهرين، ومن ثم الشروع في كتابة سيناريو مبدئي، والاعتماد علي ممثلين غير محترفين من الطلبة أنفسهم في ذات الفصل، وجعلهم يشاركون في كتابة السيناريو، ووضع الكلمات التي تنطق بها الشخصيات التي يمثلون أدوارها في الفيلم، واختيار الزي المناسب لكل شخصية، ثم الاعتماد عند تصوير مشاهد "الرواية" التي يمثلونها في الفصل الدراسي علي "الارتجال".

ولا يعني الارتجال هنا ان تنطق بما يخطر علي بالك، أو ان تلعب حواجبك وتتشقلب كما يحلو لك أثناء تصوير اللقطة، بل يعني ان تضيف من عندك بقوة المخيلة ما هو مناسب او ملائم، ويحضر في التو واللحظة ويكون منسجما ومتوافقا مع الشخصية فيغنيها ويثريها. ولذلك فالارتجال يعني عدم التقيد حرفيا بالكلام المكتوب في "الورق" أي السيناريو، بل الانطلاق من عنده لاغناء وإثراء الفيلم بابتكارات واختراعات الفن المدهشة، كما في موسيقي الجاز حيث يقوم العزف أثناء عزف اللحن بالخروج علي اللحن أو "النص" ليضيف عليه من عنده من إبداعه وفنه وأريحيته. ويتواصل من خلال ذلك مع بقية العازفين لكي يدلف بنا الي عوالم جديدة رحبة، أكثر اتساعا وانفتاحا علي الحياة والبهجة والمتعة والألم والأمل. ولاشك ان كل هذه العناصر الفنية التي تتوهج في فيلم "بين الجدران" ببساطة شديدة ومن دون ادعاء وفذلكة فتؤسس عبر الفيلم جسرا مع الفيلم الوثائقي، إضافاته وانجازاته، وتجعل من "الرواية" عملا سينمائيا وثيق الصلة ب وأقرب شبها للأعمال السينمائية التسجيلية البحتة. بالإضافة الي البطولة الجماعية في الفيلم وعدم اعتماده علي نجوم، هو الذي جعل لجنة تحكيم مسابقة مهرجان "كان" 62 برئاسة الممثل والمخرج الأمريكي شون بن تمنحه بالإجماع سعفة "كان" الذهبية، علي الرغم من وجود أفلام أخري في المسابقة كانت ترقي بإجماع النقاد الي الفوز بالسعفة مثل فيلم "تبادل" للأمريكي كلينت ايستوود وفيلم "فالس مع بشير" للإسرائيلي فورمان، لكنها لم تفز بأي شيء، وكان فوز "بين الجدران" مفاجئة للجميع صدمت البعض، غير إننا رأينا إنه يستحقها عن جدارة، اذ يخرج بالسينما الفرنسية عن دائرة الأكاديمية والكلاسيكية "سينما الجودة" المحفلطة التي ثار عليها مخرجو الموجة الجديدة في أعمال تروفو وجودار في بداية الخمسينيات، والأفلام الفرنسية الوجودية الذهنية السيكولوجية بثرثراتها المعتادة.

وينحاز الفيلم إلي سينما الواقع، ويقدم من خلال الفصل صورة مصغرة لمشاكل المجتمع الفرنسي تعكس تعدديته العرقية الاثنية وحيويته في آن، فالفصل هو "بوتقة" ينصهر فيها التلاميذ من أبناء المهاجرين عرب وأفارقة وصينيين وغيرهم، بل ويجعل من الإخراج ممارسة ومشاركة حياتية، قبل ان يكون عملية تعليب لبضاعة تجارية داخل أستوديو بارد وعقيم بديكورات مصنوعة. وإضافة الي ذلك يذكرنا فيلم "بين الجدران" بمنهج جديد في رواية السينما الفرنسية الجديدة استحدثه بموهبته المخرج الفرنسي من أصل تونسي عبد اللطيف كشيش مع بعض المخرجين الفرنسيين الجدد، يعتمد علي الاستفادة من منجزات السينما الفرنسية والمتوسطية عموما عند الفرنسي موريس بيالا ـ كما في فيلم "نخب حبنا" ـ والايطالي روسوليني ـ كما في فيلم "روما مدينة مفتوحة" ـ والمصري صلاح أبو سيف ـ كما في "الفتوة" ـ والدخول مباشرة في "لحم" الواقع المعاش وتفصيصه وتشريحه، والإمساك بتلافيفه كما في فيلمه الرائع الأثير "كسكسى بالسمك" الذي يطرح في رأينا والعديد من نقاد السينما في فرنسا شكلا ومنحي جديدا لرواية السينما الفرنسية، ويدفع بها بعيدا إلي الأمام، لكي يصنع "صورة تشبهنا" تصبح وثيقة الصلة أكثر بحياتنا، و تقربنا أكثر من مشكلات مجتمعاتنا، وتلسعنا بتوهجها الفني الأصيل.

فيلم «أنها تدعي سابين» لساندرين بونير
كما رأيت أن فيلم "انها تدعي سابين" للممثلة ساندرين بونير، وهو عمل أول لمخرجته، يستحق الحصول علي جائزة "أحسن عمل أول" أو جائزة "أحسن فيلم وثائقي" في جوائز السيزار 34، وتحكي فيه ساندرين بونير بحساسية قاطعة كما السكين عن أسلوب علاج المرضي النفسانيين في فرنسا ومن ضمنهم اختها "الانطوائية" التي تصغرها فقط بسنوات، فقد شاء الحظ أن يفتح لسابين، ومن أول فيلم تمثله "في نخب حبنا" إخراج موريس بيالا، أبواب النجومية والشهرة، في الوقت الذي كانت فيه أختها الموهوبة الجميلة التي كانت تعزف وهي صغيرة علي البيانو تنحدر إلي هوة العزلة والجنون. وتفضح ساندرين من خلاله آليات وميكانيزمات العلاج النفساني الفرنسي المتخلفة التي تحبس هؤلاء المرضي الانطوائيين المساكين بين أربعة جدران، وتعزلهم عن الحياة والبشر، وتجعلنا نتأسى في الفيلم لحال أختها وحالهم، وننفر من تلك القسوة التي تمارس عليهم خفية أثناء العلاج. وكان الممثل الفرنسي الراحل لينو فنتورا لديه ابنة انطوائية وكرس خارج دائرة التمثيل جل حياته للنضال من أجل هؤلاء المرضي حتي تعمل الحكومة علي بناء مصحات مناسبة لهم في الريف. واعتبر فيلم "أنها تدعي سابين" الذي يدفع في ذات الاتجاه من ناحية توفير وزيادة المخصصات المالية للعلاج النفساني، بل ويكرس أيضا للمعركة التي انشغل بها لينو فنتورا طوال حياته.

وأعتبره من أجمل الأفلام الوثائقية التي أنتجتها السينما الفرنسية في العام المنصرم، فهو يكشف أولا عن موهبة مخرجته، ويتوهج بموضوعة الإنساني، كما يجعنا كما في قصيدة من قصائد الزن اليابانية نتطلع إلي روح ساندرين في مرآة أختها، كما لو كانت قطعة من جسدها الإنساني الحي وقد انفصلت عنها بحد السكين، ويتضمن الفيلم مشاهد مؤثرة تجعلنا نتعاطف مع الأخت الانطوائية المريضة، ونكاد من فرط التأثر نريد أن ننهض لنشق لحم الشاشة، وندخل في أحشاء اللقطة، لكي نطبطب علي ظهرها ونخفف من ألمها. وقد نجحت ساندرين في توظيف الأفلام التسجيلية السوبر 8 التي التقطتها لأختها في الماضي في تكثيف إحساسنا بمأساة الأخت، جعلتنا كما في جل أفلام السينما الجميلة، نتطهر أيضا من الألم، ونقترب أكثر من إنسانيتنا. وأتساءل هنا لماذا تقتصر المهرجانات السينمائية الروائية في مصر كمهرجاني "القاهرة" و "الإسكندرية" علي عرض الأفلام الروائية الطويلة فقط، ولماذا لاتنفتح علي عرض أفلام السينما الوثائقية الطويلة كما في هذا الفيلم، وتشركه أيضا في مسابقاتها لتميزه الفائق؟ ألم ينفتح مهرجان "كان" السينمائي الكبير القدوة، علي مثل تلك أفلام وثائقية، وجعلها تشارك في مسابقته، بل وحصد بعضها في احدي دورات المهرجان سعفته الذهبية.

فيلم «سيرافين» لمارتان بروفوس
كان فيلم "سيرافين" إخراج مارتان بروفوس الذي اضطلعت ببطولته الممثلة البلجيكية يولاند مرو من أجمل الأفلام الفرنسية من إنتاج 2008 في رأينا، ويحكي عن خادمة فقيرة في الريف الفرنسي من بلدة "سانليس" تعمل عند أسرة برجوازية تستقبل تاجر لوحات ألماني في دارها، وتطلب من سيرافين أن تحضر ثلاث مرات في الاسبوع لتنظيف غرفته. ومن خلال علاقتها بهذا التاجر الذواقة الفنان نتعرف علي حياة هذه الخادمة البلهاء، التي تعيش وحدها في غرفة ضيقة معتمة، وتتهرب من دفع إيجاراتها المتأخرة، ومسكونة بأرواح وأصوات ميتافيزيقية علوية تجعلها تصرح لصاحبة الدار ان ملاكها الحارس همس لها أن تتفرغ لرسم اللوحات الزيتية، ولذلك تقوم سيرافين في الخفاء بسرقة الدم من صحن كبد جاموس في المطبخ، وتعرج عند عودتها إلي غرفتها علي خردواتي يبيع لها الورنيش ولا يعرف ماذا تفعل به، ويعتقد الجميع بسبب تصرفاتها وتلك الأصوات العلوية التي تسكنها وتجعلها تغني بعض المزامير من الإنجيل في وحدتها، أنها لابد وأن تكون مجنونة وتستحق منهم كل شفقة وعطف. يوثق فيلم "سيرافين" في عمل سينمائي أقرب إلي أفلام السيرة الذاتية كما في فيلم "فان جوخ" للأمريكي فانسان مينيللي الذي يلعب فيه الممثل كيرك دوجلاس دور الفنان الهولندي فان جوخ، يوثق لسيرة الفنانة الفرنسية الفطرية سيرافين لوي في اوائل القرن العشرين. ويحكي عن ظروف حياتها وكيف كانت ترسم في وحدتها وكيف استطاعت بفضل علاقتها بذلك التاجر الألماني الشاذ الذي اكتشف موهبتها واشتري لوحاتها، أن تطور من فنها وأن ترتقي سلم الشهرة والمجد وتصبح فنانة من أشهر الفنانين الفطريين في تاريخ هذا الفن في العالم. غير أن الفيلم الذي بدا لي مثل "سوناتة" من سوناتات شكسبير أو مقطوعة موسيقية ليوهان سباستيان باخ أو لوحة لسيزان، بفضل كل تلك العناصر الفنية المجتمعة في الفيلم من ناحية السيناريو والتصوير والموسيقي والإخراج وفي طليعتها ذلك الأداء الرائع للممثلة يولاند مورو التي تشمخ في تجسيد سيرافين في قلب الطبيعة في ذلك الريف الفرنسي الساحر، وهي تنصت إلي أنشودة الطير وتروح تعانق الشجر، وتتحدث مع الزهور والحشرات والفراشات، وتخاطب السحب وهي تستحم عارية في مياه الجداول.

هو فيلم فلسفي روحاني صوفي بالدرجة الأولي، إذ يوظف حكاية سيرافين في الفيلم لكي يغرسنا في قلب الطبيعة، ويجعلنا نتأمل ونقارن بين الحياة المادية الاستهلاكية التي صارت إليها مجتمعاتنا الرأسمالية الصناعية وجعلتنا ننفصل عن الطبيعة الأم والجذور، وبين تلك الحياة البريئة الفطرية التي عاشتها سيرافين، وما تتضمنه من أفكار وقيم فلسفية وروحانية علي المستويين الإنساني والطبيعي. علي المستوي الإنساني من خلال علاقات سيرافين المتباينة المتعددة التي تتكشف لنا عبر الفيلم: مع التاجر الألماني وجارتها وصاحبة البيت والخردواتي ومع صاحبة الدار البرجوازية التقليدية الرجعية التي تنتقد في جلسة عشاء في الفيلم صالون فني جديد للفنانين المستقلين في باريس، وتطلب من تاجر اللوحات الا ينشغل بلوحة زيتية رسمتها سيرافين وأن يتذوق طبق ألحلوي الذي أعد خصيصا له. و كذلك علي المستوي الطبيعي من ناحية علاقة سيرافين بتلك الطبيعة البريئة الخلابة التي تحضرك "شخصية" آسرة في الفيلم، ثم تحضر ثانية بزهورها وحشراتها وكائناتها في لوحات سيرافين الزيتية وتذهلنا بجمالها وروعتها، بل وتشملنا أيضا بحنانها وحبها وعطفها، فتجعلنا نحن أطفالها اليتامى نتصالح في ذلك الفيلم الأكاديمي الكلاسيكي الفني البديع الذي ينساب هادئا مثل قارب فارغ في بحيرة لوتس، نتصالح مع أنفسنا والعالم، ونتواصل مع كل الكائنات والموجودات، ونخرج من قاعة العرض بعد مشاهدة الفيلم ونحن نشعر من فرط سعادتنا كما لو كانت نبتت لنا أجنحة، وعلي وشك أن نطير.

ويحسب لمهرجان القاهرة السينمائي 32 الذي عقد في الفترة من 18 الي 28 نوفمبر 2008 انه كان سباقا الي اكتشاف المستوي الفني الرائع لفيلم "سيرافين" وتقديمه إلي الجمهور المصري في مسابقة المهرجان، وكان قرار لجنة التحكيم موفقا للغاية في منحه جائزة الهرم الذهبي لأحسن فيلم في المسابقة، كما منحت اللجنة جائزة أحسن ممثلة الي بطلته الممثلة يولاند مورو، وذلك قبل الإعلان عن جوائز السيزار في الحفل الشهير..

جوائز السيزار 34
في حفل كبير أقيم يوم الجمعة 27 فبراير2009 في مسرح "الشاتليه" في قلب باريس، وبحضور حشد من نجوم السينما الفرنسية والعالمية،أعلنت أكاديمية السيزار عن جوائزها التالية لأحس الأفلام الفرنسية من إنتاج عام 2008 برأي السينمائيين المحترفين والعاملين في الحقل من مخرجين وممثلين ومصورين وفنيين وغيرهم، وقد تم التصويت بطريق الاقتراع السري..

جائزة أحسن فيلم: منحت لفيلم "سيرافين" اخراج مارتان بروفوس
أحسن ممثلة: يولاند مورو في دور "سيرافين"
أحسن ممثل: فانسان كاسيل في فيلم "مسرين"
أحسن اقتباس: فيلم "بين الجدران" للوران كانتيه وكاتب الرواية فرانسوا بيجودو
أحسن سيناريو: فيلم "سيرافين"
أحسن تصوير: فيلم "سيرافين"
أحسن موسيقي: فيلم "سيرافين"
أحسن ديكور: فيلم "سيرافين"
أحسن أزياء: فيلم "سيرافين"
أحسن مخرج: جان فرانسوا ريشيه مخرج فيلم "مسرين"
أحسن فيلم وثائقي: فيلم "بلاجان أنياس" للمخرجة أنياس فاردا
أحسن صوت: فيلم "مسرين"
أحسن فيلم أجنبي: فيلم "فالس مع بشير" للإسرائيلي آري فولمان
سيزار الشرف: منح للممثل الأمريكي داستين هوفمان

حصاد السينما الفرنسية 2008
تشير آخر إحصائية صادرة عن المركز الوطني للسينما في فرنسا إلي "انتعاشة" فائقة للسينما الفرنسية في العام 2008، فالإقبال علي دور العرض ازداد بنسبة سبعة في المائة، مقارنة بالعام الذي سبقه، ووصل عدد المتفرجين الي 190 مليون متفرج، ترددوا علي 5300 صالة سينما، أي بزيادة حوالي 10 مليون مقارنة بعام 2007. وكان فيلم "مرحبا بكم عند الشتي، أهل الشمال" للفرنسي دان بون حقق عام 2008 أضخم معدلات تردد علي فيلم في تاريخ السينما الفرنسية، وحطم الرقم القياسي المسجل من قبل (أكثر من 17 مليون متفرج لفيلم "لنزهة ألكبري" لجيرارد أوري) فقد بلغ عدد المشاهدين لفيلم داني بون أكثر من 20448416 متفرج ولحد الآن. إلا أن أكاديمية السيزار كما أشرنا استبعدت الفيلم ـ علي الرغم من النجاح التجاري الساحق الذي حققه ـ عن جميع أقسام المسابقة، ورشحته فقط لقسم أحسن سيناريو، وخرج من الحفل بلا جوائز. وكان مخرجه داني بون أستنكر وهدد بمقاطعة الحفل، إلا انه عاد وحضره، واقترح أن ينضم قسم جديد إلي أقسام جوائز السيزار العشرين، وتمنح جائزة لأحسن فيلم فكاهي. في حين فاز فيلم "سيرافين" الذي تم انجازه بميزانية صغيرة، فاز بسبعة جوائز سيزار دفعة واحدة، ولا شك ستدفع إلي إقبال جماهيري أكبر علي الفيلم الذي أستقطب إليه أكثر من 900000 متفرج ولحد الآن، وبدأت طوابير طويلة تتقاطر علي صالة "سانت أندريه دي زار" في حي سان ميشيل في قلب باريس حيث يعرض حاليا لمشاهدته.