تحاور مقالة الكاتب المغربي مفاهيم ماهية الجنس وحدوده، إبداعية النص النثري القديم، وحدود التجريب في النصوص القديمة، فتعيد قراءة مقامة التقوى عند الزمخشري رامية الكشف عن حدودها الجمالية وتفاعلاتها الإنسانية، مستمدة شرعيتها من محاولة خلق جسر يبن القديم والحديث والنظر للنص القديم بأنه ما زال ابن عصرنا.

الزمخشري قلقا

رفعت الكنياري

 

يعد الجنس مؤسسة ذات قيود تفرض نفسها على المبدع فترسم ملامح إبداعه، بيد أن الإبداع بما هو انفتاح لا محدود يتنافى مع هذه القيود، يبقى دائما مراوحا بين الانصياع لأحكام المؤسسة والانعتاق من ربقتها، ولو عرض نفسه للطرد خارج أسوار الجنس بل والأدب أحيانا، فكثيرا ما نسمع "ما هذا بالشعر ... ما هذه بالرواية ما القصة القصيرة جدا؟

لكن حدود التجريب تتفاعل مباشرة مع المتلقي مكتسبة شرعية الوجود من خلخلة مفاهيمه ووضعه أمام نصوص جديدة مقلقة تستدعي منه استنفارا وتهيئا جماليا جديدا. وقد عرف العصر ثورات على الأنماط التقليدية، وكسرا لآفاق الانتظار مرات متتالية، نتج عنه نصوصا جديدة خارج المؤسسات الجنسية التقليدية، ونصوصا هجينة تحتوى ركاما من الأجناس، وأحيانا نصوصا تشبه الهرطقة.

وقد لفت انتباهي الزمخشري حين داعب مؤسسة جنسية ذات قيود صارمة، هي "المقامة" فكتب مقامة على مقاسه الخاص. هل كان الزمخشري غير قادر على كتابة مقامة خاضعة لقوانين الهمذاني و الحريري؟ بالطبع كان قادرا، بيد أن الإبداع لحظة قلقة تشرذم القيود وترمي بالمبدع في منطقة البين بين، وهو ما سيبدو جليا من خلال الاستماع إلى حس القلق في مقامة التقوى للزمخشري. هذا الاستماع الذي يضع في حسبانه أن النص إنما هو تحقق في فضاء القراءة، وأنه لا وجود للنص خارج فعلها الحاكم.

حين يختار كاتب ما الكتابة في جنس معين، فإنه يذعن آنذاك ولو بسلاسة لسلطة مؤسسة، أي أنه يخضع لجماليات ذلك الجنس، ولأفق تلق مبني على أساس نصوص سابقة، إنه يخضع لقوانين لطيفة، ولمؤسسات مرنة، على قدر ما تقيد فإنها تترك مجالا للحرية[1].

وعندما أتلقى نصا فإنني أعيد إنتاجه، أمنحه حياة جديدة، أو أغتاله. يظهر أن العلاقة التي نصل إليها الآن هي: المتلقي (أنا)؛ النص؛ مؤسسة الجنس. فما نوع هذه العلاقة التي ستجمعنا؟ قد أتفاعل مع النص وأفهمه همسه الخفي فأحبه؛ قد أرفضه، وذلك تبعا لتمثلاتي الجمالية والتي لن تخرج عن إطار مفهوم الجنس، مادام هذا الأخير معيارا يوجه الأدب والنقد معا[2]، قد يكون فعل القراءة إنصافا للنص، أو إعادة اعتبار، أو جريمة في حقه إذا لم أحرص على عدم اجتراح هشاشة النص وعدم الاعتداء على خصوصيته.

وأنا أقرأ مقامة التقوى، بما ترسب لدي من تمثلات حول هذا الجنس وجمالياته وآليات تعبيره، أنطلق بعمائية وتيه تمثلات ما قبل القراءة إلى لقاء "مقامة"؛ لأواجه نصا ينفلت كالماء من بين أصابعي التي تكونت بفعل لقاءات سابقة مع نصوص من هذا الجنس، فيتمرد على ما رسخ لدي، ثم يدفعني إلى الحيرة، ولعلها تكون أول عتبة ألج منها الفِناء الجميل للنص، وفد أرغد في نعيم رياضه مادامت للنص لذة كما يشير بارت.

مقامة التقوى كيان أدبي فريد وبجماليات خاصة اجتهد ليصنعها، يبدو من أول لقاء أنه جاء على غير مثال سابق، فكيف ينتمي لجنس المقامة إذن؟ هنا نذكر أن المقامة جنس "ثوري"، فهي عند الهمذاني انبجست من رحم الغيب الإجناسي على غير مثال سابق[3]، حقيقة أنها استلهمت نصوصا سبقتها، كأحاديث ابن دريد والرسالة البغدادية كما يؤكد ذلك دارسو الأدب[4]. لكن هذا التفاعل لم يتعد الاستلهام إلى الاحتذاء. أفلا يجوز للزمخشري أن يأتي بنص جديد ليصنع نمطا جديدا من داخل الجنس؟

أكد الزمخشري انتماءه لجنس المقامة، لكن هذا الانتماء كان "قلقا"، يصنع جماليات خاصة، ولغة خاصة، إنها لحظة إبداع قلقة لها خصوصياتها الثائرة في دعة وهدوء. لم يختر الزمخشري الكدية موضوعا لمقامته، ربما لأنها تعلي من شأن الحمق وتمدحه، فتسير بذلك عكس خط سير الحديث النبوي[5]، أما هو فسيعود إلى التماهي معه، لذلك لا نستبعد أن يرد المقامة إلى أصلها اللغوي حيث هي خطبة[6]، وليس غريبا على الزمخشري أن يبدل مدلول الكلمات والمفاهيم، أن يقترح مثلا تعريفا جديدا للأديب يقول: "الأديب من أخذ نفسه بآداب الله فهذبها"[7]، وهنا تتبادر إلى الذهن تلك الجملة "اللازمة" التي وردت في نص مقامة التقوى وتواترت في جميع المقامات الأخرى: "يا أبا القاسم"، ياء النداء تمهد العمل للوصاية، وكأن الرجل فوق المنبر يعض ويرشد، واختيار الكنية لم يكن بريئا إنها كنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها العودة التي تحدثت عنها سابقا، ولكن هذه العودة يكتنفها غير قليل من القلق.

يخاطب الزمخشري نفسه في المقامة، وليست تلك النفس سوى النفس المذكورة في القرآن الكريم، والتي يحمل كلٌّ منا نصيبا منها، نفس لوامة لا تكف عن جر صاحبها إلى "مَضلّة ترديه"، فيجرها نحو "التقوى"، نفس "قلقة"، غير مستقرة – انتبه كيليطو إلى هذا الصراع حين صور الدنيا وهي تعود لتتسلل من تحت غطاء القدر الذي يحبسها الزمخشري فيه – فالخطاب للفرد كناية عن خطاب للجماعة، وذلك ما أكده بنفسه حين لم يجعل الكتاب لخاصة نفسه، بل أذاعه بين الناس، يقول: "وأن تأمر من انتسخها بأن يوشح نسخته بإثبات اسم المنشئ وتفخيمه والدعاء له"[8]. لكن لماذا يريد الزمخشري أن يفخم اسمه، ويذيع بين الناس وهو من دعا نفسه للخمول وحبسها في البيت؟ يعود حلم الظهور ليبرز من جديد، يتسلل من تحت كلماته هذه المرة، قلق جديد ينضاف إلى الزمخشري، ولربما هو الآن يحاول أن يتغلب على تلك النفس القلقة، فيأمرها "بالتقوى"، وبأن "تلوذ بالركن الأقوى"، وأن "تختار منهجا يهديها".

الحجاج قوي في النص، يتخذ طابعا حتميا يوحي بعدم جواز النقاش، فـ"الجادة بينة" و "الشبهة مفتضحة" و"الحجة متضحة"... ركام من الدلائل التي يسوقها لهذه النفس التي تجاهد لـ"تكابر حسها"، وتغرق في التواني والتباطؤ، والعودة إلى الدنيا لذلك سيحاربها بالتقوى، وقد شبه التقي برجل يمشي في طريق به شوك فيتقيه مخافة أن يخدشه، أي أن التقوى تقتضي الحذر الشديد، واليقظة التامة، فليست النفس التي يخاطبها الزمخشري تلك النفس المطمئنة التي تماهت – وبلغة صوفية - بالمعبود فلم تعد ترى سواه، بل أصبحت تراه في كل شيء، فاطمأنت لزهدها فيما سواه، بل هي نفس بشرية ما زالت تقلق صاحبها، هي نفس نتقاسمها جميعا، قلقة حيرى بين الطرق الشتى أيها تختار.

إن اختيار الزمخشري المقامة لم يكن دون قصد، فقد حسم أمره مع الشعر بأن نبا عنه لأنه مقترن عنده بالتكسب واللهو، وهو قد اختار الجد سمتا تساوقا مع اختياراته الأخلاقية، واختيار المقامة في حد ذاته اختيار لجنس قلق بين جماليات الشعر وجماليات النثر[9]، ولقد تخلى الزمخشري عن مكونات كثيرة من جنس المقامة كـ(الراوي، الكدية، السرد..) ولم يتخل عن السجع بما هو مكون صوتي يقرب النص من الإيقاع الشعري، فأصر على لُبس القطعة القلقة من ثياب المقامة.

وقد تضافرت الوظيفة الجمالية والوظيفة الحجاجية في النص، فالنص يرسم صورة لإنسان حائر، وكأنه يقف في طريق وقد تفرعت أمامه السبل، فاحتار أيها يختار، مشهد تمثيلي ـ كناية عن بلاغة التمثيل كما أوردها الجرجاني ـ جميل، حيث الصورة تجمع بين الإمتاع والإقناع، وهو ما أشار إليه موكاروفسكي في شأن توتر وتنافس الوظائف الجمالية والتواصلية في النصوص[10]، قلق جديد ينضاف إلى النص قلق الوظائف.

سنظلم النص إذن إن قرأناه من وجهة نظر معيارية أو مفاضلة بين النصوص، فلا شك أننا نضعه حينها في درجة الصفر، لأننا حينها نحاكمه من زاوية جماليات نص آخر بذريعة الانتماء إلى نفس الجنس، علما أن هذا الأخير "لا يتحدد بثوابته وحدها إنه يمتلك حقلا هائلا من الإمكانات المتنوعة والمتغيرة أحيانا"[11]، وهو الحبل الذي لعب عليه الزمخشري، ليأتي بنص ذو جماليات خاصة وبلاغة متميزة، سمته القلق (قلق بين الشعر والنثر؛ القلق بين الانتماء الصريح لجنس المقامة والخروج عن نموذجها؛ قلق موضوع التقوى) وهو قلق الذات الخلاقة التي ما انفكت تساءل نفسها وما حولها في حيرة قلق، وهذا القلق هو ما ينتج عادة أعظم الأعمال.

 

[1] أنظر محمد مشبال البلاغة ومقولة الجنس الأدبي عن مجلة فكر ونقد البلاغة ومقولة الجنس الأدبي السنة الثالثة العدد 25 يناير 2000

 

[2] نفسه

[3] أنظر المقامات والتلقي ناذر كاظم ص 11

[4] ومنهم شوفي ضيف في الفن ومذاهبه في الأدب العربي وزكي مبارك في النثر الفني في القرن الرابع الهجري.

[5] أنظر محمد أنقار تجنيس المقامة مجلة فصول المجلد 13 العدد 3 خريف 1994

[6] كيليطو الأدب والغرابة ص 90

[7] عن نفس المرجع ص95

[8] مقدمة مقامات الزمخشري عن كيليطو ص 97

[9] أنظر محمد أنقار تجنيس المقامة مجلة فصول علما أنه يستعمل كلمة متوتر عوض قلق

[10] محمد مشبا ل البلاغة والسرد منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان المغرب ص23

[11] محمد مشبال المرجع السابق