في خمسينيات القرن الماضي وبداية ستينياته، لجألت الدولة لانتزاع الأملاك الشخصية، بعمليات تقنين مساحات الأرض الزراعية، وتأميم الشركات، وتحول مالكوها إلي ما يشبه التسول، ومات من أثرها من مات، متأثرا بالوضع النفسي، أكثر منه بضياع مجهود السنين، والتحول الاجتماعي المفاجئ لهم. وفي الفترة الحالية من حكم مصر، فكرت الدولة في الدخول إلي العديد من الجزر القريبة من النيل بحجة تطويرها، مثل جزيرة الوراق، ومثلث ماسبيرو، وهو ما يؤدي إلي انتزاع البشر من بيوتهم التي تحمل تاريخهم الإنساني، قبل أن تنتزع مادياتهم، وهو مالا يمكن تعويضه، بالمادة، وكأنها تنزع الجذور من تربتها، ويمس جزءً من إنسانيتهم. وبالطبع، ولما كان القانون والدستور يمنع انتزاع الملكية، إلا للمنفعة العامة، فقد لجأت الدولة إلي غرس إناس من ذات المكان، كي يساهموا في تسهيل مهمة إقناع الآخرين، فضلا عن خلخلة الجدار الصلب الذي يمكن أن تواجهها من أناس تلك المناطق.
وبحرفية تتناسب مع العمل الروائي السادس، استطاعت سهير المصادفة أن تجسد تلك الرؤية النفسية لأناس تلك المناطق، وتجسيد المشكلة في روايتها الجديدة "يوم الثبات الانفعلي"[1] التي انتهجت فيه سمت الروايات البوليسية، لتمسك بتلابيب القارئ منذ البداية، فلا يغادر إلا مع هدوء الأنفاس، والوقوف علي الإمساك بالقاتل في النهاية. بادئة بعتبة من عتبات النص بما يشبه الإهداء، تضئ به شمعة يهتدي بها الداخل إلي مسارات الطريق الذي يتحسسه القارئ، تلمسا لما تحمله الرواية من رؤية جديدة، تقول فيها: {إلي كل الممالك الضائعة، والأحياء المنسية، والبيوت المهملة المغلقةعلي أطياف ساكنيها، وذكرياتهم التي انجرفت في ثقوب الزمن السوداء، واختفت ملامحها، وكأنها كانت مُشَيدة من رمل مبلول}. حيث يشمل الإهداء ما يمكن أن يكون عناصر الدخول إلي العمل.
تبدأ الرواية من النهاية، حيث ينطفئ النور فجأة في مطعم "لازانيا"، ويفاجأ الجميع بذبح الراقصة "صافي"، يهرول الجميع إلي الخارج، وتجد الساردة "راوية" المغنية في ذات المطعم ، تجد نفسها في مخبأ، وحيدة مع الرأس المقطوعة، وحيد لمدة أربع ساعات، ليتخفي الرمز وراء الشخصية الحية، تتأمل الرأس المفصولة عن الجسد، بتشوهات شكل الإنسان في هذه الحالة، الأمر الذي يعيد للساردة ذكري عروستها الجميلة، التي كانت تعبث برأسها، فتلويه مرة مع عقارب الساعة، ومرة ضد عقاربها، دون أن تجزع، أو تخاف، ولنعلم فيما بعد أن صافي لم تكن إلا رمزا لتلك المنطقة التي يريدون بترها من الوجود، والمسماة بمثلث ماسبيرو، وما أتت قدرتها علي تحمل المنظر البشع، إلا تمرينها لمدة ألف دقيقة ودقيقة علي الثبات الإنفعالي، وما عودتها لتلك العروسة التي، كانت، تعبث بها إلا الذكريات التي يريدون بترها، بإزالة ذلك المثلث. وتتقمص الساردة شخصية الباحث عن من قتل صافي من بين المجوعة التي تدربت معها علي اسطورة الثبات الانفعالي التي نجحت الكاتبة في تصويرها، لخلق تلك الكوادر التي لا تتأثر ولا تُظهر المشاعر الحقيقية إزاء المواقف، حيث رأت في تلك الليلة تحديدا لأول مرة حبيبها "ماسبيرو" بل كل مجموعة الثبات الانفعالي، علي غير المتوقع، داخل المطعم، وهي التي أخفت عن أهل حيها "ماسبيرو" عملها كمغنية باسم "شمس" والتي أشاعت بينهم أنها تعمل مُعدة برامج في مبني "ماسبيرو" ثلاثة عشر عاما، فكيف عرفوا بمكانها، وما الذي أتي بهم هذه الليلة مجتمعين هكذا.
نأتيها دعوة مجهولة المصدر لرحلة مجهولة المكان، لتذهب إلي مرسي ماسبيرو، ولتجد تسعة آخرين من ذات المنطقة، منطقة ماسبيرو، رفعت جلال اليساري والأكثر ثورية، هشام المُلا، مصطفي رزة ، فرج الألفي، مدرس اللغة العربية بمدرسة جمال عبد الناصر الابتدائية، والمعروف في المنطقة برزانته واستقامته، وابنته سوسن، اشهر مذيعة في التليفزيون، فتحي الموان، والدكتورة فاطمة الساعي، التي لم تعرف إلا التفوق في الدراسة، من المدرسة وحتي كلية الطب، وهيثم المحمدي و "راوية"، التي هي في منطقة ماسبيرة، وشمس في مطعم "لازانيا" ، و"ماسبيرو" حبيبها، الذي لم يُكمل تعليمه الجامعي، التي لم تكن لتوافق علي الرحلة إلا لقضاء يوم معه. دون أن يعرف ايا منهم من صاحب الدعوة، فتحملة "مركب" بمجدافين، إلي جزيرة مهجورة، يتعرضوف فيها لمجموعة من التمارين، بعد أن حفرو شعار المنظمة علي أذرعهم ليسيل الدم منها. من بينها ضرب النار، وإن أُفرغت البنادق من الرصاص الحي، ووضعت طلقات بلاستيكية بدلا منها. وتأتي التعليمات {نفذوا إذن أولي مهامكم من دون أسئلة. جربوا أن تتركو أنفسكم للطاعة المطلقة}. تذهب الساردة بصحبة الوقور، مدرس اللغة العربية والدين "فرج الألفي" للسباحة التي تعلمتها من الصغر في النيل، بعد أن كان المدرب قد أعطاهم شيئا لم يعلموا ما هو، تسبق الساردة فرج الألفي ولتلتفت وراها، لتفجأ بأنه قد تمت إثارته ويُتم العادة السرية، ولما يعرف أنها عرفت الحقيقة، يهجم عليها ويغتصبها، ليظل بعدها في حالة ذهول، حتي شعرت هي ذاتها بالشفقة عليه، مبررة أنه فعل ذلك بتأثير خارج عن إرادته. وتعود للمجموعة، لتجد أن أفراد المجموعة الستة، عرايا ويقومون بعملية جنس جماعي مع ابنته "سوسن" التي تستمتع بالفعل، تبلدت مشاعره، رغم رؤيته لهم.وبعد أن يذهب مفعول ما تعاطاه، يتهم المجموعة بأنهم اغتصبوا ابنته، إلا أنها تدافع عنهم بأنهم لم يغتصبوها، فينهالون عليه بطلقات البلاستيك ، حتي يفارق الحياة، فيتركونه بلا مبالاة، بما فيهم ابنته سوسن، وكأن مجموعة الثبات الانفعالي تنفذ أولي مهامها بقتل فرج الألفي، الرمز، حيث أنه أكبر المجوعة سنا، فهو في الخمسين، بينما الباقي في نحو الرابعة والعشرين، وكأن المجموعة مكلفة بقتل كل ما هو قديم، حتي البشر. خاصة إذا ما ربطنا ذلك بما فعله محمد ابن مدام "فيرونا"، صاحبة المطعم، الذي عاد بعد وفاة والدته، من الخارج، حيث دفنها بسرعة لا تليق، وبعد تغيير اسمه إلي "ميدو" وقام بتغيير شكل المطعم وزاد من مساحته بضم شقة مدام "فيرونا" إليه، وأطاح بكل العاملين فيه من المغنية "شمس" التي قاربت الأربعين، وطرد الشيف العجوز إبراهيم، جالبا طهاة جددا، وكأننا أمام عملية إزالة لكل ما هو قديم، وزحف (للعصرنة)، إن جاز التعبير، تطبيقا للمبدأ الفرعوني الممتد عبر التاريخ، بأن يمحو كل قادم آثار من سبقوه، لتبدأ الحياة منه هو. وإن لم تخلو من الإشارة إلي تاريخنا المعاصر.
ويكون ماسبيرو قد هرب من قبضة التنظيم، واختفي، دون أن يثير غيابه أي اهمية إلا حبيبته "راوية"، الذي يحذرها بعد أن يلتقيها في المساء ، بعد العودة من الرحلة {لا تثقي بأحد أبدا يقول لك: أخفي مشاعرك، أو افصلي مشاعرك عن عقلك، أو لا تجعلي مشاعرك تظهر علي تعبيرات وجهك، إياك أن تتبعيه، هذا ضد طبيعة الإنسان يا حبيبتي، هل تسمعينني؟ هذا ضد الإنسان}ص78. وإذا كان "ماسبيرو" أحد الهاربين من المجموعة التي تمثل أذرع التأييد والتسليم، كأحد أبناء المنطقة الشعبية (الجدعان) والرافض لاستضعاف الضعيف، فمن هو ما ماسبيرو، الذي أصر والده "سمير الترزي" علي هذه التسمية، بعد أن ذهب عم سمير الترزي إلي مكتب الصحة، وطلب تسمية ابنه ب"ماسبيرو، استغرب كاتب الصحة، ورفض في البداية، ليرد عليه الأب {هو أنا لما أسمي ابني ماسبيرو أبقي كفرت، وعلي الطلاق بالثلاثة لأسميه "ماسبيرو" يا أخي ابني وأنا حر فيه}ص63. ولنعلم أن عم سمير الترزي سبق له استخراج عشر شهادات ميلاد، وعشر شهادات وفاة. فلم يعش أحد من أبنائه أو بناته، حتي آخر الأبناء، قبل ماسبيرو" الذي عاش ثلاثين يوما، فظنه سيعيش {لكنني انتبهت قبل أن أنام أننا في شهر يوليو، ابن الحرام، ذي الواحد وثلاثين يوما، وقبل أن يُشرق صباح آخر يوم منه، كان قد مات وهو نائم، دون أسباب واضحة}ص64. لكنا نعلم أن عم سمير الترزي ليس موظفا، فليس كون الشهر ثلاثين يوما أو أكثر، لايهم، فعبارته {ذي الواحد وثلاثين يوما} غير ذات معني، إلا للتورية، ولتظل {ابن الحرام} علامة، أو إشارة. ولتجتمع تلك الإشارة مع الإشارة السابقة، والتي تشير إلي أن "فرج الألفي مدرس بمدرسة جمال عبد الناصر الابتدائية. والإشارة إلي السواتر أمام البيوت {كانت سواتر الأحجار ما زالت في مكانها أمام البيوت منذ عام 1967، خوفا من ضرب صوارخ محتمل}ص67، لتنضاف إلي رؤية "لهو الأبالسة" أولي روايات سهير المصادفة، لنعلم أن هذه الإشارات لم تأت مجانية، ولتشير إلي مفتتح هذه القراءة- خاصة إذا عرفنا أن سهير المصادفة في رواياتها السابقة كانت ، دائما، تبحث عن الجذور- ولتفتح مجال الرؤية إلي مساحة أوسع من مساحة الشخصيات، التي تحمل الرمز، فوق ما تحمل من عناصر وجودها الحي. وتعلم "راوية" أنهم جعلوها الأولي علي مجموعة التدريب علي الثبات الانفعالي، بينما تري هي، ما يكشف عن جزء آخر من جوانب شخصية "ماسبيرو" {كان ولابد أن يكون ماسبيرو هو الأول في دورة الثبات الانفعالي، ولست أنا، فلقد هرب من كل الفخاخ التي نُصبت له، هرب من الموت أولا، ثم تحايل علي الحياة ليعيش، خمش منذ أيام طفولته سرها: أن المنتصر هو من يتلقي الضربات ويصبر عليها ويحتملها، وليس من يكيلها له، هرب من جماعة رفعت جلال اليسارية، ومن جماعة هيثم المحمدي المتطرفة دينيا، ومن الحزب الوطني ممثلا في عبد الله الشوبكي، وظل حرا طليقا يفعل كل ما يحلو له، ننام وهو يبيع شرائط فيديو، ونستيقظ لنجده بائع أحذية، او جزارا أو عجلاتي..}ص169. كما توضح جانبا أخر من جوانب تلك الشخصية التي استأثرت بحبها دونا عن غيره، حين يصرخ في حديث زاعق ليسمعه كل أهل الحي، باللغة العربية {فيظل يصرخ حتي تنقطع أنفاسه وهو يتحدث باللغة العربية الفصحي دون توقف، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح، حتي همس أهل مثلث ماسبيرو أنه عليه عفريت عربي، ناسين أو متناسين أنه يجلس علي حًجرِه الأبيض شهورا بطولها لكي يطالع كل ورقة تقابله حتي أوراق القراطيس التي يلفون فيها الطعمية وساندويتشات الفول، منهمكا في قراءتها إلي درجة أنه يرد عليهم تحيتهم الصباحية والمسائية بهّزة من رأسه}ص198.
ولم يكن هروب ماسبيرو من المجموعة إلا رفضا لأهداف منظيميها التي اشتم رائحتها، في ذات الوقت الذي يرفض فيه ترك ماسبيرو. فعندما ينبري "عبد الله الشوبكي" ممثل الحزب الوطني، للدفاع عن عمليات الإزالة قائلا { سيتم تحويل هذا الركام العشوائي إلي مجمع سكني متميز، به متاحف وصالات وملاهٍ وحدائق تجري فيها الخيل ومسارات يسير فيها السائحون بحرية. يا أخي من حق القاهرة أن تكون مدينة جميلة} فيرد عليه ماسبيرو { يا أخي وأنا كل حلم حياتي أن يبقي الحي كما هو عليه... أستطيع أن أريك آلاف الحكايات المعلقة بين جدرانها، وأنفاس من مروا بها، ودموع عذراوات محبات ومهجورات سُكبت علي وسائدها، وشباب مثل الورد رموا أنفسهم في نيلها عجزا أمام أحلام كانت أكبر منهم .... عليهم أولا أن يدفعوا لي ثمن ذكرياتي كاملا، وهذه الذكريات لا تُقدر بمال، عليهم أن يدفعوا ثمن خطواتي علي كل ذرة تراب فيه، علي كل قطرة عرق سكبتها علي أرضه وأنا أسقي هذه اللبلابة}ص154، 170
وفي المقابل تكشف الكاتبة عن كل ذراع من أذرع المنظمة (المجهولة /المعلومة) لتنفيذ أهدافها. مثل مصطفي رزة. حيث تقول عنه الساردة { مصطفي رزة في بكالوريوس هندسة جامعة عين شمس أسود البشرة، ونحيف نحافة لافتة للنظر.. كل ما فيه يُعلن أنه فقير ويعاني من سوء تغذية واضح. ولكنه متقد الذهن دائما، ولا ينام تقريبا. يعمل أي عمل في مثلث ماسبيرو وطوال فترة المساء أثناء سنوات المدرسة، ثم بعد ذلك في الجامعة ليسدد مصاريف دراسته، ويرعي أمه المريضة بعد موت أبيه. دخل بيوتنا جميعا، فهو نقاش أحينا، ومبيض محارة أحينا أخري، وسباك في أغلب الأحيان، ولا يوجد جهاز كهربائي أو غير كهربائي لا يلين بين يديه ويعود إلي العمل مرة أخري}ص46.
وتتحدث –الساردة- عن هيثم المحمدي الذي لا تطيقه{كان شعره طويلا مثل البنات، متموجا وناعما وكأنه خارج لتوه من صالون حلاقة.. كانت علامات تقدمه في العمر قد توقفت به عند يوم تخرجه في الجامعة. كان الوحيد منا الذي لم تضف له دورة الثبات الانفعالي شيئا، فلقد كان جاهزا منذ البداية، يستطيع أن يسير علي جثث أهله كلهم لكي يصل إلي ما يريد.. كان هو ورفعت جلال يظهران علي الشاشة وفي المحافل السياسية وكأنهما عدوان لدودان.. قالوا عنه أن معارضته للحكومة محسوبة لتقويض كل الأصوات المعارضة الحقيقية الأخري لامتصاص غضب الجموع. أتذكر بعض مناوشاته وأسئلته التي تعطي المسؤلين فرصة للتبرير والشرح والرد علي هواجس الناس، فأصدق كل ما يقال عنه}ص201.
وعن رفعت جلال، ولماذا هو يساري. تقول الساردة {بيننا نحن سكان مثلث ماسبيرو وبين ميدان التحرير ومنطقة وسط البلد ألف وخمسمائة متر، ومع ذلك كنا نسمي القاهرة مصر. لم أحب ولم أحلم بمحبة رفعت بن وحيدة الذي وقعت في محبته كل بنات الحي. كنت أراه مغرورا وثقيل الدم، وكنت أهيم عشقا بماسبيرو. ولكنني أيضا كانت تعجبني جرأة رفعت في كتابة عنوان عشته المسقوفة بالصفيح، التي يعلم أول ما تراه زائرته منها سيكون أمه وحيدة الجالسة أمام عتبتها علي كرسي بلاستيك مكسور بين يديها غسيل في طست صدئ وصوتها يجلجل بشتيمة أحدهم أو إحداهن. لم يتبرأ أبدا من فقره أو من أمه الدلالة أو أبيه الكسيح. كان أنفه مستقيما ومرفوعا، ويُحكي أنه كان يحدث إحداهن قائلا بنبرة متعالية: أعيش في فقر مدقع، فقر لا تستطيع الكلمات وصفه، ولذلك أنا يساري، وثائر علي كل أولاد الكلب ناهبي ثروات شعبنا}ص34. وفي نهاية الرواية، يقول للساردة {تعلمين يا راوية أننا نتاج ما مررنا به ونحن شباب}ص252، وكأنها إشارة لاستغلال المُكِلِفين لنقاط ضعف عند من يكلفونهم، أو تكون هي المدخل إليهم. وتسأله عمن قتل الأستاذ فرج الألفي، فيجيبها: مع الأسف قتلنا أستاذنا أثناء لعبنا. وتضعه أمام الواقعة الأكبر، ومن أين أتي الشاب الفقير الجاهل قاتل صافي بالأموال ليشتري مركبا جديدا؟ ليثور رفعت ويتهرب من الإجابة التي نعرفها نحن، دون أن يقولها، خاصة أنه بعد ذلك بصيغة الجمع (نحن).وتستمر الساردة بما يشه الاستجواب لرفعت جلال {ما المهام التي تطلبها منكم جماعة الثبات الانفعالي؟
-لاشئ. لاشئ علي الإطلاق يا عزيزتي. المهمة الوحيدة التي طُلبت منا في هذا اليوم نحن نحققها .. يبتلع ريقه ويهمس بخجل: - تقريبا دون أن ننتبه.
أضع كلتا يدي علي رأسي: مهمتكم أن تكونوا ما أنتم عليه بالفعل. ثم أضحك فجأة وأنا أرفع يدي بالساعة الرقمية- المنزوع منها عقرب الساعات- قبل أن ألقيها فوق كومة قمامة:
ألف دقيقة ودقيقة يا رفعت، تمت المهمة بنجاح.}ص354.
وحينها، كان بلدوزر الإزالة الفاتح فاه كوحش خرافي، في انتظار شروق الشمس حتي يلتهم بيت عم سمير الترزي. ولتتكشف الرؤيا، وكأنها عودٌ علي بدء.
إذا كانت هذه الخطوط هي العمود الفقري للرواية، فإن الكاتبة استطاعت كسو ذلك العمود الفقري، بالكثير من اللحم والدماء، ليأخذ الإنسان شكله الجميل، ويُشعرنا بوجوده الحي، دون أن تخرج عن الرؤية الأساسية. فقد ظلت "أحلام" والدة "ماسبيرو" تكره "راوية" منذ طفولتها، دون سبب واضح، وليظل محل تساؤل "راوية نفسها، طوال صفحات الرواية. حتي أنها -أحلام- ترفض زواج ابنها ماسبيرو، فأشعلت النار في نفسها، حينما عارضها ابنها. إلا ان "ماسبيرو" كابن بار، يعرف قدر الأم، يعقد الكتاب علي من أرادتها والدته، ويتم الزفاف بالفعل، غير أنه يهرب منها في الليل، ويذهب إلي زوجته الفعلية "راوية". وتتكشف حقيقة الكراهية، وحقيقة طردها لزوجها " عم سمير الترزي. إلي أن والد عم سمير الترزي ، "محمد البرعي" والذي يبدو أنه قد اعتاد تلك الفعلة مع غيرها، حاول أن يعتدي علي الطفلة "راوية"، في دكان الخياطة، غير أن سمير الترزي، لحق بها قبل أن تتم العملية، وراح يرفع لها ما كان قد تعري منها، لتدخل عليه زوجته "أحلام" فتتصور أنه كان يفعل بها. فتنشأ الكراهية من حينها، دون أن يوضح حقيقة الأمور حفاظا علي والده. لنستشف منها جريمة السلف، التي يدفع ثمنها الخلف. ثم تنشأ معركة بين سمير الترزي وزوجته أحلام، وتظل تطارده حتي يختفي في مكان غير معلوم، ألازال حيا أم أنه في عداد الموتي، ليدفع ضريبة عدم فضح الآخر، وضريبة الدفاع عن "راوية" الرمز قبل الواقع. ولتنضم تلك الذكري المدفونة في أعماق "راوية" مخبوءة في قاع خزينة الذكريات، والتي تُشكل حياة بأكملها، والتي من أجلها ترفض "راوية" ويرفض "ماسبيرو" مغادرة أرض الذكريات، أرض الأحلام والآمال الضائعة، ولينضم إلي الأستاذ "فرج الألفي" الغير مرغوب في وجودهم في الحياة الجديدة. وقد لانكون مبالغين في التأويل إذا ما قرأنا أن "ماسبيرو" يعترف ل"راوية" في لحظة حميمة، بأنه يحب أباه أكثر من أمه، وبعد أن تعرفنا علي من يكون "ماسبيرو" الواقع والرمز. ولتضيف المصادفة عنصرا آخر من عناصر التشويق، التي تساهم في جذب القارئ للمواصلة.
وقصة أخري تستنبتها الكاتبة من قلب الأحداث، ففي لحظة تيه، تقوم "راوية" بجولة عشوائية، تذهب فيها إلي "مصر القديمة" و "فُم الخليج"، وكأنها تبحث عن تلك المناطق التي تتشابه مع المثلث الذي يريدون إزالته، لتحمل، ضمنيا، ذلك السؤال الذي يتبادر للذهن، وماذا أنتم فاعلون بها؟ ولماذ الجزر تحديدا ما تريدون إزالته؟ ألا يعضد ذلك ما يشاع عن استخدام تلك الجزر؟. ففيها تَعبُر {إحدي فتحات السور–في فم الخليج- لأجد نفسي فوق جبل من مخلفات الهدم، أكاد أتعثر في سيخ ملتو من حديد خرسانة قديمة، هنا ومنذ أشهر قليلة فقط كانت مدابغ الجلود التي سينقلونها إلي مدينة الروبيكي الصناعية الجديدة. كانت ورش صناعة الجلود متراصة خلف السور إلي جوار بعضها بعضا أتأمل أنقاضها الآن في الظلام. ماكينات صدئت مواتيرها، براميل ضخمة تختبئ فيها القطط من مطاردة الكلاب، عربات كارو مهملة ومكسرة...}ص96.
ورغم التشعبات العديدة، التي تعمل كروافد للنهر العظيم، إلا ان الرواية، تأخذ تقنية القصة القصيرة، التي تدور حول حدث واحد، بل ربما لم تتعد الأحداث ذاكرة الساردة حين تُقر في النهاية {ربما وقعت في فخ ألعاب الذاكرة، لأتذكر حياتي كلها، وأسائلها في زمن لم يتعد ألف دقيقة ودقيقة، نهار ونصف ليلة، قالو أنها المدة الكافية لإزالة مثلث ماسبيرو من الوجود، وهي المدة الكافية لذبح صافي والقبض علي قاتلها}ص254. وأقول: وهي المدة الكافية لالتهام تلك التجربة الخيالية الحية، والمسماة ب"يوم الثبات الانفعالي".
محطة جديدة، تقف عندها سهير المصادفة في مسيرتها الروائية، هي المحطة السادسة، المحطة الأكثر تشويقا، والتي لم تفقد فيها الجرأة المحسوبة، ولم تخش الموانع أو المحرمات، في الوقت الذي لم تخرج فيه عن ضرورات الإبداع، وخصائصه، لتثبت أن لديها المزيد من الرؤي، التي تُثَبِت بها أقدامها في عالم الرواية الفسيح، بعنوان جديد، وغير مألوف في عناوين الرواية، و تغرس فيها قلمها في عمق الواقع المعيش، بتجربة جديدة، تدور حول مقتل الراقصة "صافي" وكانها عملية اغتيال لكل أسباب البهجة والمتعة، اغتيال لكل الذكريات، التي هي عمر الإنسان وروحه، وكأننا أمام عملية قتل للبشر، كي نُشَيدَ الحجر.
Em:shyehia48@gmail.com
[1] - سهير المصافة – يوم الثبات الانفعالي – منشورات إبيدي – ط1 2019.