في نصه القصصي يصور الكاتب المصري مريضاً يرقد بالمستشفى يعاني من انسداد الأمعاء فيرسم عالم الألم والمعاناة المنبثقة من داخل تكوين الإنسان فيجعل القارئ يتلمس الألم ويراه في رسمٍ محكمٍ وسرد رشيق متنقلاُ بين رسم المحيط بالمريض والغور في أعماقه وأحاسيسه وذاكرته أيضاً فنعرف أنه قد خاض حرب أكتوبر 1973 في سيناء وخبرّ الألم وقدرة الجسد وحدوده.

معذرة يا سيدي!

السيد نجم

 

-1-

معذرة يا سيد الألم

هبت الريح العاتية من شدة الألم.. تلبسته الدهشة.. أوقعته فى عتمة المجهول, وفى العتمة توصد أبواب البكاء, وتفتح أقبية قلاع لم يطأها من قبل.

أصبح جسده أكثر خفة, ليس بسبب أن فقد خمسة كيلوجرامات من وزنه خلال اثنا عشر يوما, ولا بسبب ذاك الألم الذي نهش أمعائه فجأة.

شعر وكأن خرطوم نقل المحاليل المثبت فى ذراعه اليمنى أو اليسرى, مع خرطوم "الرايل" الملعون الذي رشق إحدى فتحتي أنفه إلى البلعوم ثم المريء فالمعدة.. معا يحملانه ما بين السماء والأرض. وان بدا للرائي الذي يجهل ما يشعر به من خفه, أنه مثبتا على سريره.

"إن شاء الله خيرا..لا تحزن, اطمئن"

قالها الممرض المؤهل بشهادة دراسية معتمدة، وهو يدرك خطورة سقوط خرطوم "الرايل" قبل إتمام دوره. لم تنحصر مهمة الخرطوم على نقل إفرازات معدته الغامضة إلى كيس خارجي, هونت عليه أعراض القيء المستمر والفواق المزعج الذي ألمت به بسبب شلل أمعائه المفاجئ!

لم تطمئن زوجته كما طلب الممرض منها.. لم تترك للأماني فرصة لأن تزدهر, أسرعت إلى رئيسة التمريض. عادت فورا, أخبرت زوجها: "محمود الممرض أخبر الجميع, ووصل الخبر كما البرق إلى الطبيب الاستشاري الكبير المعالج"!

طلب من زوجته أن تقرأ له من الجريدة, وأن تضئ شاشة التلفاز, لعله ينشغل عن ألمه الذي لم يبرحه بعد, وان خفت وطأته قليلا..

.. هروب متعهد حفلات "أوبرا عايدة" دون سداد مستحقات الفنانين, المتعهد حمل معه مليونين ونصف المليون جنيه.

.. "ليندا فرانكلين", سبع وأربعون سنة, تعمل فى مكتب التحقيق الفيدرالي.. كانت تتسوق من المحل التجاري فى إحدى ضواحي واشنطون, وأصبحت الضحية التاسعة لقناص مجهول أزعج العاصمة الأمريكية.

.. يقول "بوش" رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أن الاعتداءات الإرهابية فى الكويت واليمن وإندونيسيا مخطط واحد.

كان يتمنى أن يقتنص أحلامه الطائرة هناك, لم يتابع اللعبة. يتجدد الألم الذي حير الطبيب الكبير, وطلب عمل أشعة مقطعية على البطن فورا.

  • المريض سماء تخصه وحده, خط شريعته, واعتنق الحكمة التي ما كان يعرف شيئا عنها. "الاعتياد" يفقد الرأس ملكة التفكير والتفكر, وفى الألم والعجز محطة لتجاوز اعتيادية الأيام والليالي والأشياء. وأن فى تناول "الطعام" نعمة لا يدركها أصحاب عادة تناوله ثلاث مرات يوميا, وربما أكثر.

تجاوز الرجل ما دار برأسه, سأل زوجته التي ما أن سمعته ظلت تضحك طويلا على الرغم من حزنها الدفين على جسده المعلق بالخراطيم. قهقهت وهو مازال يلح جادا يقول: "أريد أن آكل طبق "بصارة"!

حاول إقناعها, لعلها تتعاطف مع رغبته تلك: "هل تعلمين ماذا أرى منذ صباح يومنا العاشر هذا فى تلك المستشفى؟".. لم ينتظر إجابة: "رأيت طبقا معبأ بالبصارة يغازلني فى سقف الحجرة.. أنفى تشم رائحة التقلية والنعناع!"

خال نفسه مع "البصارة" يصطاد فاكهة محرمة سوف تنزعه من جسده المقيد إلى سماء أحلامه الغامضة!

تناول اللهفة نحو يوم آخر, يتمنى لو يعانق الغد وبعد الغد. لكن العصافير بلا أجنحة, وأحشائه التي قفزت من خلف جدران بطنه تعلقت بالسنة النار.

لم تكن تلك الورود المقيدة فى غلالة من الورق السيلوفان تشعره بالبهجة أو الأمل. لمحها تذبل يوما بعد يوم. وعندما قررت زوجته تسليمها إلى عاملة النظافة.. تجاوز كل ألم. ارتفع صوته ونهرها: "لن يحدث, دعيها تذبل ولا ترميها فى سلة المهملات"

صبرت الزوجة حتى انتهى من كلماته المنقوصة, وقد نطقها ممزقة. ثم قالت: "لن القي بالباقة غالية الثمن تلك..". كان يعلم أنها تتكلم عن تلك الورود الصناعية التي بلا رائحة, ولم تذبل. لم يجد فى نفسه القدرة على المناكفة.

تعقب الرجل المريض سبل المقاومة.. وان بدا مستسلما للشكشكات والخراطيم المعلق بها. ممدد الذراعين, يبدو الرأس بمستوى الجسد, ومع ذلك لا يشغل من مساحة السرير إلا القليل, ظن أنه تأقزم أكثر من اللازم.

تظن جماعات الزوار المتراصة بين جوانب الحجرة التي ضاقت بهم, وكأنه ليس متابعا لثرثرتهم. إلا أنه بقى متابعا ملهوفا, وبقى مشاركا وان لم ينبس ببنت شفه.

الخبيث عقد عقدا مع قوى غامضة وصادقته, قال لها: افتحي الأبواب أيتها الريح الشديدة, افتحي النوافذ أيتها العصافير العنيدة, افتحي الأرحام أيتها المولدات الماهرات, افتحي النار أيتها الحرب المقدسة.

-2-

معذرة يا سيد الحرب

كل صباح جديد, منذ بداية مرضه, كان يبحث عن يوم آخر, وعن غرفة بلا أبواب ولا نوافذ.. بلا سقف. يحلم لو يسير فوق طريق أخرى غير التي وجد جسده عليها.

تمنى لو يعتنق دربا يجهل الألم, فيه يسمع أصداء صوت خطواته عاليا, وأنفاسه رتيبة مستقرة, مع صوت فكيه ولسانه يلوك جرعة ماء.. الماء الذي لم يتذوقه منذ بداية الوعكة.

آه.. يا لمذاق الماء, نعم للماء مذاق, قالها ونظر إلى زائريه. بعد صمت قالوا: نعم.. نعم, للماء لون وطعم ورائحة!

خلال زيارته الأولى, اكتفى الطبيب المعالج بنظرته الباردة غير المبالية, لتؤكد ما صرح به لسانه: "سوف نفتح بطنك بنسبة سبعين في المائة, لعلنا نعرف سر شلل أمعائك ومعدتك, سر الانسداد المعوي الذي تشكو منه"

لما تعلقت عينا المسجى فى صمت بشفتي الرجل أكثر, سأله إن كان قد أجرى عملية جراحية منذ فترة قريبة, فأومأ المريض, ووجد الطبيب ما يقوله: "أخشى ما أخشاه أن يعود الالتصاق ثانية وبسبب الجراحة الجديدة!" , فالتقط الهامد على سريره ومضة جب لا يعرفه.

إلا أن يموت وحيدا, ذاك الذي يأتي من جهات شتى.. تحت رذاذ المطر وصفير البرد ووهج الشمس.. وفوق سرير العجز.

يوم ارتدى "بيادة" المجند مع زملاء كليته فى زمن الحرب الأخيرة بعد معارك 67, لم تطارده خفافيش الجب اللئيمة ليلا, ولا أشواك الصبار.

تذكر أيام تجنيدهم الأولى, كانوا يمزحون بالموت وعليه, فنشروا نعى "محروس", زميلهم (الراقد بينهم) فى الجريدة الصباحية! لم يهاب أحدهم الجب, وضحكوا لليلة كاملة حتى وهم داخل محبسهم فى سجن الوحدة, عقابا لهم وتنفيذا لأوامر قائد مركز تدريب الخدمات الطبية, وقد شاركهم الضحك فيما بعد قائلا: "تمزحون بالموت.. الموت!".

احتواه الأرق وشغل نفسه بالأسئلة لساعات طويلة. سأل أمعاءه العاجزة أن تلين, وربه أن يستجيب لدعاء الداعين, تلك الأدعية التى التقطها بأذنيه من بعضهم فور رؤيتهم له مسجيا فى هدوء, والتقطها بعينيه فى نظرات زوجته التي رافقته الغرفة.

لولا تلك البحوث المتتالية الكثيرة.. من أشعة مقطعية, ومنظار قولون, وأشعة تقليدية, لولاها لأعتقد أن الهلاك أقرب مما يتوقع. كلما بدا فحصا جديدا عاوده الأمل.

شعر وكأنه يحارب الآتي, وخلف عتبة الغرفة تنام جنوده البائسة...

ما كان يعرف عن جنوده إلا المشاكسة, غير مبالين. صوت انفجار هنا, وأزيز طائرة هناك, ودوى مدفع بعيد, وآهات لا تنقطع فى العنبر الذي يقوم على تمريض رواده بالمستشفى الميداني العسكري فى زمن الحرب.. عند الكيلو 105 طريق القاهرة-السويس.

مع بداية المعارك صام الجنود والأطباء, المصابون والمعالجون.. بغية ملاقاة ربهم تائبين, و فى فترة تالية وقد حاصرتهم القوات الإسرائيلية بعد ثغرة "الدفرسوار", ونجحت فى الوصول إلى طريق السويس الإسفلتي.

كان فى البداية يتفاخر بقدرته على الصوم وأنه يعف الطعام والشراب.. غير مجهد مع مشقة العمل ليل نهار, ومع آهات المصابين على أرض المعركة شرق قناة السويس بعد عبور القناة.

فى ذاك اليوم البعيد, اليوم الخامس عشر من بداية المعارك انتابته وخزه فى أمعائه للمرة الأولى ولم يكن يستشعرها من قبل. يوم أن صدمه مشهد علمهم أمام حدود وحدته عندما لمح الخطين الزرقاوين يحتضنا نجمة داود السداسية. تذكر شعارهم: من النيل إلى الفرات!

فى تلك الأيام البعيدة لم يشعر بالحصار, غرفته موصدة الأبواب والنوافذ هي الحصار...

راح المريض ينظر فيما حوله جاحظ العينين, لم تستطع زوجته الرد على سؤاله: هل لم يعد أمل فى شفائي..؟ انقضت خمسة أيام بلا طعام ولا شراب, مرشوقا فى سريري, معلقا فى كيس جمع إفرازات المعدة, وزجاجات المحاليل؟!

على غير توقع نظر بطرف عينيه نحوها.. زوجته صامتة على غير المعتاد, فشعر بالندم. يبدو انه عبء تنوء عن حمله, يعرف عنها قدرتها الفائقة على مداراة مشاعرها إلى غير حقيقتها. يعلو صوتها بالضحك مرة, وبالصراخ فى وجه الممرضات مرة.. ودائما تبدو قوية أكثر من اللازم!

انقطعت صلة جماعة الرقباء الطبيين فى المستشفى الميداني ليوميين متتالين منذ بدء المعركة. وهب الجميع نفسه لدشمته, يقوم بالعمل على رأس مجموعة الممرضين الجنود.

ولما كان المصابون قلة, والعزلة مره, ملوا محبسهم الاختياري. مع اليوم الثالث لبوا نداء زميلهم "بطرس" الذي شق هدوء المغربية, وصاح وسط الدشم قائلا: "ميعاد الرضعة يا جماعة!". خرجوا إليه, دخلوا دشمته, تناولوا ما أعده من طعام. أكل معهم وقد صام يومه عفوا أو جبرا, فقط حقق رغبته منذ أن التقوا للمرة الأولى بمركز تدريب الخدمات الطبية منذ سنوات.. أن تأكل مجموعة الرقباء الطبيين معا, حتى أيام الحرب!

حديث المسجى على سريره لزوجته الصامتة عن مذاق الطعام وحلاوته فى زمن الحرب, وهب هواء الغرفة نسمة ندية, معبأ بكل روائح الأطعمة المحرمة عليه, فأصبح الجو منعشا, وإلا لماذا علا صوته, وبدت بشرته هكذا مشرقة؟!

.. وافقت السلطات المركزية بدعم الحكومة الفيدرالية وإمدادها بكل الإمكانات المناسبة للقبض على السفاح الغامض فى واشنطون.

.. “بوش" رئيس الولايات المتحدة فى تصريح له: سوف نسقط النظام الحاكم فى العراق وعلى رأسه صدام حسين.. إن لم يوافق على عودة المفتشين الدوليين, وان وافق.

.. أحدهم أعلن أن متعهد حفلات أوبرا عايدة لم يهرب, بدليل أنه ترك مدير أعماله فى القاهرة, كما أعلن أن مدير الأوبرا سدد كل مستحقات الفنانين من خزينة الأوبرا.

تعثر ذهنه, لم يجد تفسيرا للألم الذي لم يبرحه على كل محاولات الطبيب الكبير. آخرها قالها صريحة: سوف انتهى من عمل منظار القولون, وهو الذى سيوضح الأمر كله بعد أخذ عينات لفحصها باثولوجيا"

أضاف مبتسما بعدها: "وسوف نحدد الجزء الذى سنقطعه فى العملية الجراحية.. إن كان قصيرا أو طويلا!" عرف أنهم يبحثون عن ورم خبيث فى أحشائه, فقال فى نفسه: "مازالت التفاصيل بعيدة .. مازالت الحرب مستمرة"

-3-

معذرة يا سيد الاحتمالات

شعوره بأنه كائن على طريق الانقراض, جعله يبدو وكأنه منتبها عنوة وشاردا فيما يسمع ويرى, عنوة أيضا ومدفوعا إلى عالم الاحتمالات.

أخبره الطبيب هذا الصباح: "الانسداد المعوي له أسبابه.. ربما التوت الأمعاء, أو إندغمت فى بعضها البعض, ولعلها انسدت بسبب ورم نجهل حجمه وأسراره. واحد منها وراء ما تشكو منه, ولا أستطيع أن أحدد أحدهم". ولأنه لا يجزم بشيء ولا ينفى, اكتفى بمتابعة أبحاثه, أمر بتجهيز مريضه لعمل أشعة "بالباريوم" على القولون.

بدا وكأنه قرر أن يفرض نفسه على هذا العالم, فتشاجر مع الممرض النوبتجى ليلا, والمتكفل بمتابعة تعليق زجاجات "الجلوكوز" و"كلوريد البوتاسيوم" و"رينجر".. الواحدة تلو الأخرى.

منذ وخزه الإبرة الأولى, اعترف الجميع أن مريضهم حالة خاصة لا ينجح معها سوى الممرض "على". أوردته اختفت, يظن من يبحث عنها أنها هربت منه, وان كانت حالة شائعة مع بعض المرضى إلا أنه كان أكثرهم إزعاجا.

نقلوا "الكانيولا" تلك الأنبوبة البلاستيكية المثبتة بإبرة مناسبة, ليتصل بها خرطوم عبوة المحاليل, نقلوها أكثر من عشر مرات من موقع إلى آخر على امتداد الذراعين والكفين. وان بدت ذراعيه متورمتين.. زرقاوتين.. لم يفلح معها دهان "الهيموكلار" شائع الاستخدام.

سب المريض عليا, اتهمه بأنه وراء آلام ذراعيه المتورمتين, لا هو ماهر ولا يجيد شيئا فى مهنة التمريض! كان الممرض الشاب أكثر ذكاء.. لم يعقب!

بينما انتهى فني الأشعة البدين القصير اللئيم من التجهيز السريع لإجراء "أشعة بالباريوم على القولون", توجس المريض خيفة من شردت الرجل الذي يبدو وكأنه يخلو من أي شئ تحت الجمجمة.. يتحرك فى آلية غريبة, لا ينطق, ولا ينظر إلى مريضه, ولا حتى إلى الأشياء والأجهزة من حوله. تابع الإجراءات برشق ذاك المبسم الطويل فى مؤخرة المتوجس خيفة والمرتعد بسبب الوهم الذي تلبسه أو بسبب برودة منضدة جهاز الأشعة المعدنية الباردة. ليبقى المبسم داخله حتى انتهى فنى جهاز الأشعة من تفريغ كل محتوى العبوة. سأله إن كانت الكمية لترا, أجاب الرجل بل أكثر من لترين: "وإن شعرت بالضيق أو الألم الزائد أخبرني".

حتى وإن شعر بالألم, لن يخبره, لن يضع العراقيل أمام قراره الخاص جدا: "لن أدع لهم فرصة واحدة لاغتيالي.. سوف أنفى كل معالم عالم الاحتمالات الذي فرض على فرضا".

كان علي فني الأشعة أن يلتقط له عددا من الصور قبل تفريغ "الباريوم" من بطنه.. فى وداعة وسكون كان ينفذ الأوامر ويلبى طلب السيدة "هند" رئيسة التمريض التي تبدو أكثر الوجوه انفعالا من حوله. كانت كل الوجوه فى مركز التصوير الكائن ببدروم المستشفى محايدة وربما بليدة, إلا إياها المفرطة النشاط والحركة والكلام والنظرات المحدقة عن غير داع.. السيدة هند والسيد الوقور أيضا.. ذاك الطبيب الذي التقطه منذ أول مرة.

فيما تركه الممرض على المقعد المتحرك بالممر الضيق, لمح ما لم يستطع تفسيره فى أول الأمر. التقط أحدهم مهيب الطلعة, وقور الملامح, يطل برأسه من خلال فراغ إحدى الأبواب المواربة والكثيرة والمطلة على الممر الضيق.

بقى صامتا على صورته حتى اضطر إلى أن يقلص عضلات وجهه على هيئة الابتسام. وكيف لا يفعل وقد انفلت الوقور المهيب من برواز باب الغرفة, تقدم نحوه.. سار بخطوات ثابتة, اقترب منه, ابتسم, ربت على كتفه, قال: "مساء الخير.. كيف حالك؟"

تعثر ذهنه, فقد القدرة على تفسير سلوك الطبيب, وقد تطوع لتحيته بلا معرفة سابقة.. هل الشفقة من جراء ما يعلم عن حالة المريض.. أم هو قدر من المواساة وبث الثقة فى مريض مضطرب. فلما أنهى الطبيب الوقور مهمته عاد واختفى خلف الباب الموارب ثانية؟! سأل المريض رأسه: لماذا أجد دوما تفسيرين لكل ما أسمع وأرى؟!.. ما كنت كذلك!"

قدره اعتياد الألم, وفى كل مرة يبدو كما الأنثى التي تلد للمرة الأولى أو حتى العاشرة, تشكو من ألم الوضع, وبعد الولادة تنسى أفاعيل الألم فيها!

سعد مره لأنه اكتشف حقيقة علمية فى الألم, اكتشفها على نفسه, يوم رفض طبيب الأسنان إعطائه ما يخفف عنه, ورفض أن يخلع الضرس المسوس. علل الطبيب رفضه, بأن الألم يبقى ويزيد حتى درجة يفقد فيها الإنسان الإحساس بوخزاته, وهو ما تحقق! منذ ذلك اليوم أعلن المريض شعاره الشهير عندما يشكو أحدهم من الألم: "سوف يتعب الألم ويذهب".

.. أعلن مسئول فى وزارة الثقافة, أن كل ما قيل حول منتج أوبرا عايدة مجرد إشاعات (ويؤكد أن احتمال هروبه غير وارد).

.. أعلن مسئول آمني أمريكي كبير أن الضحية العاشرة للسفاح لم يمت, وإن كانت إصابته خطيرة (ويؤكد احتمال أن يكون السفاح المجرم من الإرهابيين العرب أو المسلمين).

.. بوش يقول أن ضرب العراق والتخلص من نظام حكم سفاح العراق الذي قتل شعبه وجيرانه قريبا جدا (ويؤكد احتمال أن تكون الضربة الأولى بعد قرار مجلس الأمن أو بدونه).

القي الرجل بالجريدة, شعر بالاختناق, يرغب فى التنفس العميق, وكأن هواء الغرفة أقل من احتياجه. سدد نظرة إلى النافذة, سألته زوجته إن كان يرغب فى فتح النافذة, ابتسم لها على أمل أن يشعرها بالطمأنينة وعلى احتمال محو ما فهمته من نظرته الصامتة.

أحد الزوار اقترب من أذنه فور أن قبله على جبهته, همس قائلا: "إن الألم وهم صنعه عقل الإنسان وحده".

بدت الدهشة على وجه الراقد مستسلما, لم يعقب, وصنع بسمة مشجعة لأن يتابع صاحب اللحية البيضاء. وان كانت لحية فنية وليست صوفية.. إلا أنها أكسبته وقارا, وأحاطته بالأسئلة من كل أصدقائه وزملائه القدامى فى مجالى الصحافة والأدب.

تابع "علام": "من يعتقد أن قوة الاحتمال تتوقف على قوة الإيمان أي قوة إيمان المرء.. فهو على خطأ"

سأله المريض وقد شعر بالاستفزاز: "كيف ؟ هل تعنى أنها تتوقف على العقل؟"

تابع صاحب اللحية الشهباء: "وأيضا لا تتوقف على قوة الفكرة فى العقل.. وان استندوا على ظاهرة رجال السيخ أو السائرون فوق جمرات النار."

أشاح المريض برأس, لم يشعر برغبته فى الجدال, ولا فى وضع الاحتمالات والجري خلفها, مل اللعبة.

فهم الصديق, تابع وحده: "الأفضل هو الانصهار بين حدي البعد الإيماني والفكر البشرى.. فإذا كان الألم يواجهنا من واقع الحياة اليومية أو من داخل أحشائنا, فهو قدر من أقدار الله, لذا فالعمل على مواجهته واحتمال تحطيم الألم هو قدر أيضا"

-4-

معذرة يا سيد السقوط

هل كان يطير عندما خال نفسه يسقط؟.. شعر وكأنه يمشى على سحابة متحركة, فتلاشت!

تمنى لو أصبح حبة لقاح تحملها الريح إلى حيث تشاء؟.. أينما تسقط سوف تبقى "حبة لقاح", قادرة على الإخصاب لو صادفها "تويج" زهرة أو لم يصادف.

كان موقنا من قدرة خفية لا يدريها فى نفسه من قبل. أن يتحمل الجوع والعطش, وإن لم تطاوعه الأمعاء الغاضبة.. وإلا لماذا يشم روائح طشة تقلية الملوخية, وشواء اللحم الضأني؟ ولماذا يسمع صوت هرس العيش الناشف, وفسخ الطيور المحمرة؟! بل بما يبرر رؤيته لألوان الخضراوات والفاكهة على غير مسمى ألوانها.. أحمر الطماطم غير الأحمر, أخضر الكوسة غير الأخضر, كل الألوان على غير التي يعرف!

ثم لماذا تفرغ لمشاجرة زوجته لأن تأكل ولا تنشغل بشيء فور إحضار عاملة البوفيه لصينية الطعام؟ فضحكت فى ذكاء قائلة: "لا تقلق سوف آكل لي ولك!"

كثيرا ما كان يسأل رأسه: لماذا هم هاهنا حول سريره, بينما هو هناك.. مع زملاء الحصار فى زمن الحرب البعيد؟

غلبته لحظة اعتراف, فتذكر واقعة نقل المصابين من وحدته إلى مستشفى السويس العسكري. فى اليوم الخامس من الحصار, قرر قائد المستشفى الميداني الانسحاب, بعد إصلاح إحدى سيارات "الزل" لنقل الأحياء من نزلاء المستشفى الميداني. زاد العدو الإسرائيلي من استطلاعاته, وهو ما فسره البعض باقتراب ميعاد اقتحامهم لموقع الوحدة.

منذ الثانية عشرة حتى الرابعة بعد الظهر, نفذ مهمة حمل المصابين من داخل الدشم إلى السيارة, ظنوا أنهم أسوأ حالا من أفراد الوحدة, وتحمل عبء حملهم واعتلاء السيارة. تكدست الأجساد المنهكة المريضة, حتى سعت السيارة الخمسين مصابا!

عملوا جميعا فى صمت وهدؤ, حتى جاء الشيطان الطائر.. طائرة على ارتفاع منخفض تزأر.. لا يدرى إن كانت للعدو أو من طائرتنا. تقترب.. فيعلو الزئير أكثر. قبل أن تتجاوز الطائرة موقع الوحدة, وقد همت السيارة بالتحرك.. كانت جملة المصابين على الأرض.. يزحفون!

خلع خوذته, وضعها تحت عجزيه وجلس صامتا. استطاع أن يفسر المشهد, هؤلاء الجنود ارتبط صوت الطائرة معهم بصوت الانفجارات والآهات والموت.. فسعوا للنجاة!

تمنى لو يتماسك, وقف مستجمعا قواه على الرغم من الرضعة الهزيلة التي يتناولها مع مجموعة الرقباء الطبيين بعد الحصار, بعدما حرم الجميع من الوجبة الساخنة, فقط قطع من البسكويت الخشن الصلب المغموس فى كوب من اللبن البودرة غير الذائبة فى بعض من محتوى زجاجات الجلوكوز.

عندما وجد فى نفسه القدرة على النطق, قال: "من منكم يستطيع اعتلاء السيارة وحده يفعل.. لن أتحمل معاودة حملكم ثانية". ما كان خلال الدقائق التالية يرشق لحظات التذكر بالألم... فقد

تذكر أحد المصابين, وقد تعلق به, طالبا إعطائه الزمزمية المعلقة فى قايش بنطاله.. فتخابث وافتعل الغفلة, تركه وذهب بعيدا. برر ما فعله لنفسه متمتما: "ماذا لو أخذ مدخر المياه منى, ثم قرر القائد الانسحاب , والفرار إلى جبل عتاقة؟!"

على غير توقع صاح فى زوجته: "افتحي جهاز التكيف يا "عزة".. أشعر بالاختناق".

  • "مفتوح على أعلى درجة!"

رتابة الأيام والليالي جعلته يعجز عن حساب عددها. تلك الرتابة التي جعلت عامل المصعد فى انتظار الزوجة كل صباح, للقيام بمهام اليوم الجديد.. شراء الجريدة وبعض الكتب التي تظن أنها تليق باهتمامات زوجها. ربما تسعى لأن تجذبه إلى دائرة يحبها بعيدا عن الألم, لم تكن تعلم أنها بذلك تشجعه على السقوط أكثر فى دائرة ألم جديدة .

الرتابة تلك جعلت انتظار الزوار من مهام العمل اليومية للزوجة, لعلها بذلك تخرج من دائرة ألم ملاحقة زوجها وحدهما, فلا تلحظ ملامح انهياره لحظة فلحظة.

بعض الزوار بدا معذبا بتلك الزيارة, ومع ذلك يعاودها, كما الفراشة التي تنجذب إلى نور النار فتسقط فى لهيبها.. منهم من لم يخف دمعاته, وفضل الاكتفاء بالاتصال التليفوني.. ومنهم من لم يره فى فترات الصحوة, جاء لأن فى زيارة المريض ثواب لا يتركه مؤمن صادق الإيمان.

أما أصدقاء القمر من الزوار, فقد عرفهم للمرة الأولى وإن كان منهم أصدقاء عمره! يدخلون الغرفة فى صمت, يجلسون على مقربة منه, يمضى الوقت دون كلمة واحدة, يختمون صلاتهم, ويذهبون.. كأنهم يقولون: يا شمس أوجعنا, خبئه أنت خلف العيون والألسن" .. ولا يدرون أن الخبيث المسجى على سريره, قرأ كلمات كتابهم كلها!

واتته صحف قديمة, تمنى ألا يطالعها ثانية, فرضت وجودها عنوة. طالعها:

.. القبض على رئيس البورصة وبنك الائتمان الزراعي ووكيل وزارة الزراعة, وثلاثين وظيفة قيادية أخرى!

أقسم لنفسه أن السير فوق الماء أهون مما يقرأ عنوة, عن ذاك القاتل بلا هدف إلا القتل:

.. طالب مفصول من الدراسة بأمريكا, اقتحم مدرسة للأطفال, وأطلق النار عشوائيا على التلاميذ الصغار.

أما وقد انتابته رعدة لا يدرى سببها, القي الجريدة التي واتته: "بوش" يعلن أمام الصحفيين وكاميرات المصورين, كان سائرا ولم يتوقف لشرح وجهة نظره يقول: "إنها حرب صليبية جديدة.. ما حدث لن يمر على الإرهابيين وأعوانهم ومن يأويهم فى بلاده".

ربما نسى أنه أول من أوى أمثال هؤلاء؟! فلما اقتربت زوجته تسأله إن كان يريد شيئا منها, أسقط الجريدة, كل الجرائد عن رأسه.

بدا وكأنه سقط فى هوة النوم اللذيذ, ولم ينتبه لخطوات الطبيب المعالج. قال الطبيب كلاما كثيرا بطريقته الواثقة المطمئنة.. ثم خرج حتى دون أن يغوص بأصابعه فى بطن المستكين أمامه.

-5-

معذرة يا سيد اللذة

إليه انساب درب اللذة فانتشى, لم يصمت كعادته كلما قدمت الممرضة التي يجهل اسمها. أول ما جذبه فيها صوتها الذي يشي بجنية فى قلبها تكفى العالم كله! وربما بسبب "المجال المغنطيسي" أو "الأورا" أو "المغناطيسية" أو "الكهربية الحيوية" أو "اللهب الروحاني" أو "الإحساس الطليق" أو "أشعة الحياة".. أيا ما يكون الاسم, يعرفونه منذ قديم الزمان: ذلك السيال المنطلق من أحدهم إلى آخر حاملا فكرة أو رغبة من العقل الواعي أو الباطني. رسموه على هيئة مجال إشعاعي حول المرء, بيضاوي الشكل من الرأس حتى القدمين.

انتهت من واخزات الإبر, افتعل غضبة بسبب ذاك الممرض الصامت, وجده موضوعا مشتركا مناسبا فى حضرة الزوجة. فوجئ أن شاركته اللعنات وزادت! لم تعد فى عجلة من أمرها كعادتها فى مرات سابقة.

اعتذر لزوجته بعينيه صامتا عن طول فترة تجاهلها, فوجئ أن سمعها تقول للممرضة: "لم أجده مستعدا للحديث مع أحد, كما أراه معك, اجلسي".. جذبت المقعد الوثير المكسو بالجلد الأبيض.. وكانت صادقة إلى حد الإصرار. نفذت صاحبة هالة السيال الجميل, ثم انشغلت طويلا بارتشاح دموي فى عضده, تتحسسه وتتفحصه. ولم تخرج من الغرفة قبل أن مسحت عنه ببلسم يدها وعينيها السوداويتين وبالمرهم.

لم يشأ أن ينظر إلى عيني زوجته, أغمضهما, شرد قليلا.. قال فى نفسه:"أقسم أن مشاعر اللذة والألم متلازمان, بل وينشط أحدهما الآخر.. كلاهما خبرة حسية وشعورية.. أقسم أنك صادق يا صاحب كتاب "روضة المحبين", قلت أن اللذة تابعة للمحبة فى الكمال والنقصان.. وأن اللذة والألم ينشأن عن إدراك الملائم والمنافي, وأن الإدراك سبب لهما.”

لم يختف الألم , نعم.. لكنه أقل وطأة, بدأ الألم شديدا, شعر وكأن بطنه جوفاء, ثم أصبح أقل وطأة فبدا ألما باردا لشعوره برغبته فى الدفء, ثم هان قليلا مع الوخز بالمسكنات والمحاليل فأصبح ألما تشنجيا, موصولا بمغص, ومازال على حال الألم الثقيل.. يأمل لو يهون!

تعلق بشفتي الطبيب, صاحب السيال الصوفي واللحية المهذبة بامتداد الشارب حتى أسفل الذقن, وقد سأله حالا: "أي خطأ ارتكبته حتى تلبسني الألم يا دكتور.. بحرماني من الطعام والشراب, وبواخزاته, وبشعوري بالعجز؟!"

هانت بسمة مطمئنة من الطبيب الصوفي, وقال: "لم تخطيء ولا أبويك.. فقط لنرى فيك, ولترى فى نفسك.. أعمال الله وإرادته"

..."زهقت!"

لم ينتبه لغروب الطبيب, انتبه أكثر للذة كف ناعمة حنينه يعرفها, كانت تربت على كتفه!

لا يدرى لماذا تذكر واقعة "الحفرة البرميلية"؟! عندما أطلقوا عليه دفعة من رشاش سريع الطلقات كان فى طريقه إلى ملجأ مبيته الخاص لإحضار بعض الكتب لسلامة موسى, ورواية "آنا كارنينا" لتولستوي. هان عليه الرحيل بأوامر من قائد المستشفى الميداني بعد اشتداد الحصار, ولم يهن أن يترك الكتب التي يعشقها!

فوجئ أن شعر أنه سقط فوق كتفي أحدهم, سمع صوتا مبحوحا شحيحا: "ماتخافش يا أخويا.. ما تخافش يا خويا"....

استسلم لذراعي الجندي تجذبانه إلى أسفل, وبكل طاقته حك هو جدار الحفرة بكتفيه وعجزية, فالحفرة لا تكفى إلا لأحدهما بالكاد. أخيرا نجحا, التصقا إلا من وجهيهما, فلما بحلق إلى وجه صاحب الصوت الشحيح الذي يدعوه لعدم الخوف, عرف كيف يكون للخوف وجه وملامح وقد كسته الأتربة؟1

تابع: "حاولوا قتلى قبلك,اليهود يحتلون المنطقة المواجهة للمستشفى, لا تخرج من هنا, أنا هنا منذ الصباح, قادم من كتيبة النقل المجاورة, تركوا سيناء كلها, واجدعنوا على الوحدات الإدارية غرب القناة". فشل الرقيب الطبي فى إقناعه بالخروج من الحفرة والاحتماء بجماعة أفراد المستشفى, والتصرف معا. فشل, فتركه وحده مرشوقا فى الحفرة وخرج. عندما عاد أفراد الوحدة من جديد إلى موقعهم فى شهر يناير من السنة التالية, وبعد انسحاب الإسرائيليين, أسرع وحده إلى الحفرة.. لم يجد الجندي, لكنه لاحظ بعض العظام وجمجمة!

بدا منتبها تماما وقد أفرج جفونه, يسأل زوجته: يحتمل أن أكون قد قصرت مع الجندي؟! لم تفهم ولم يشأ أن يبوح لها بسر سؤاله.. ولم تعقب الزوجة.

...

يبدو أن الزوجة فضلت أن تدير الحديث بعيدا, قالت بعد أن القت بالجريدة بعيدا: "جددوا حبس يوسف عبدالرحمن.. الموضوع جد".. وقالت: "متحدث رسمي مصري يعلن أن مصر ملتزمة بالشرعية الدولية لتجنب استخدام القوة.. بينما يدعو "بوش" فرنسا وروسيا والصين المشاركة فى مواجهة الخطر العراقي!"

أشاح بوجهه لتتابع وحدها, فلما طال صمته, مالت نحو وجهه حتى شعر بسخونة بشرتها, تقول: "بدك فى شيء؟"

تبادلا قبلة طويلة.

-6-

معذرة يا سيد الطعام

غازلته الأطعمة واختزلت إلى روائح غامضة تشاغله عن غير قصد. تواتيه رائحة البصل كلما ضاقت به السبل! منذ يوم أن أخبرته أمه أنه ولد صامتا, لم يبك كما المواليد, ولم يبك إلا بعد أن دسوا بصلة فى أنفه.

الرائحة الكريهة لأنفاس زميلة العمل لم يبررها إلا بعد أن علم أنها تتناول الثوم يوميا منذ عشرات السنين, فطلب منها أن تكف عن فعلتها.. الآن يشعر بالندم على فعلته!

الرائحة الهينة الملساء لحبيبته التي كانت, لم تبرح مناخيره . قادر هو على استحضارها وقتما شاء. فلما حضرت سألها: لماذا تموتين قبل الأوان؟! ولأنها قليلة الكلام, مطمئنة النفس.. ابتسمت صامتة وافتعلت انشغالها بشعرها الكستنائى الناعم, ثم ذهبت ولم تذهب رائحتها.

أما رائحة أمه التي ظن أنه نسيها, واتته, كان قد حفظها خلال فترة غيبوبتها الأخيرة. ما كانت تتقبل علاجا إلا بعد أن يجلس إلى جوارها, يملأ أنفه برائحة الأمونيا المنبعثة مع أنفاسها- من جراء الفشل الكلوى الذي نال منها- يسألها أن تقبل أوامر الأطباء, فتمد ذراعها وسط دهشة الجميع مستسلمة لشكشكات غير راغبة فيها.

فلما جاءته رائحة جده, وهو تحت إبطه يحميه بالمعطف الأسود الصوف, فى طريقهما إلى المدرسة الابتدائية, أيام الشتاء الممطرة.. ظن أن الروائح كلها ما خلقت إلا لحمايته كلما ضاقت به الدنيا.. فتمنى لو يبكى..لم يبك!

قال أحد الزوار أن روائح ومذاق الفاكهة والخضراوات ما عادت كما كانت, باتت مسخه حتى "الخيار" أصبح شائخا بلا طعم. فعقب أحدهم بأن أهل العراق يصنعون الخبز من نوى البلح بعد الحصار.. وساد الصمت حتى تابع ثالثهم:"بينما أمريكا تلقى الحبوب فى المحيط بما يكفى سكان أفريقيا شهورا"!

علق الهامد على سريره: "الأسمدة الصناعية والمبيدات مع الجشع والجنون.. السبب فيما نشعر به من مرارة فى الحلق والقلب والعقل أيضا"!

خلال زيارة تالية قال لهم: "لكن الألم نعمة يا جماعة!".. رفع رأسه عن الوسادة متحديا صمتهم, وتابع: فى زمن الحرب, ومع دخول الدبابات المعركة, تلك التي نقلوها فى جسر جوى من أمريكا حتى العريش.. زاد عدد المصابين, حتى امتلأت الأسرة والممرات حتى المدخل. فى التاسعة مساء وقد ظننت أنني انتهيت من مهمتي, اكتشفت أحدهم صامتا فوق المحفة.. لا يتألم! سألته عما به, أشار إلى بطنه, رفعت الرباط الصوفي عن بطنه, وجدتها مبقورة, والأمعاء حولها!".. صاح يدعو كبير الجراحين, عنفه لترك الرجل طوال تلك المدة, برر بقوله: "لم يكن يتألم.. أو على الأقل لم يقل.. آه!".

اضطر الطبيب للضحك, ومنذ ذلك اليوم البعيد ما عاد يعبا بأصحاب الصوت المرتفع, القادرون على التألم.. اعتنى أكثر بمن لا يصرخ "الآه"!

-7-

معذرة يا سيد البشرى

فى صباح اليوم الثاني عشر, أصبح كل شئ حوله غير محتمل. المرتبة التي ينام عليها غاصت, الكوميدين امتلأت بأشياء تخصه ولا تخصه, الخراطيم الموصولة بذراعه وبطنه, السكون الممزق بآهات أحدهم فى الغرفة المجاورة, بياض لون الحوائط وملابس الممرضين.

كل شئ من حوله هادئ إلا رأسه, نفر جسده فجأة بعصبية, رسم جسده زاوية قائمة. فأدرك فى تلك اللحظة الجهنمية أنه كان شغوفا بجسده إلى حد الجنون.. ولم يسأل نفسه: لماذا؟؟

لماذا كل شئ.. أن يكون جسده طهورا ومدنسا, وربما مقدسا أيضا.. يراه أزليا وهو موقن بالزوال؟! كان جسده كل ما يملك فى هذا الكون.. يملكه بحق, ومساحة وجوده المتحقق. لا ينسى يوم ضبطته أمه فى ركن الغرفة منطويا على نفسه, يكتشف سيف الذكورة فيه. وان ابتسمت لم ينس قدر الورطة!

حرضه جسده على اكتشاف سر القبلة والرائحة واللمسة وأطراف اللذة كلها, جعله مقداما في مواجهة المهالك, ويرى في الألم لحظة قاسية ومقدسة معا! جسده المحرض جعله منتبها حتى الآن لأن يتذكر النهاية, كل النهايات حتى سديم الأكوان البعيدة.

ما عاد يدرى.. هل يعيش الآن لحظة انتظار النهاية, لأنه أدرك حدود جسده وإمكاناته؟ أم لحظة فتوح لم يقرأ عنها من قبل.. يعيشها ويقبض عليها.

  •  

فلما حضر الطبيب، انتبهت الزوجة وتابعت أوامره.. أن يتناول المريض فنجانين أو ثلاثة من الينسون أو النعناع, ولاحقت قسم التغذية لتنفيذ المطلوب. فلما شربها كلها ولم يتقيأ.. كانت البشرى التي زفتها لكل زوار النهار وأول الليل!

سألته إن كان يريد منها أمرا, لم يعلق, تابعت وحدها وهى تقلب صفحة الجريدة قائلة: "قبضوا على اثنين من الزنوج الأمريكان, يحتمل أنهما وراء القتل فى واشنطون. الأول شابا فى العشرين اسمه"روهان مالفو" مع زوج أمه وانتبه جيدا لاسمه "جون..دانيال..محمد"!

ولم تسمع تعليقا, تابعت بأنهم جددوا حبس "يوسف عبد الرحمن" أربعين يوما.

شد انتباهه للمرة الأولى, ذاك الشيف صاحب التوك أمامه على شاشة التلفاز. يرفض تلك البرامج مدعيا بأنها تسخر من عقول وحافظة نقود المشاهدين.. كان يعتقد ذلك. الآن طلب ورقة وقلما, كتب طريقة إعداد طبقا للحلوى لم يذقه من قبل.

بودرة كريم شانتيه, مع جيليه, وعصير فراولة.. معا فى الخلاط الكهربائي. يصب الخليط فى كؤوس زجاجية, يوضع على سطح كل كأس حبات من الفراولة والكريز, وشرائح من الكيوى والشكولاته.. ثم توضع فى الثلاجة لمدة ساعة!

فلما انتهى من انهماكه, سألته زوجته عن "البصارة" التي زرعها خياله من قبل.. ابتسم وأخبرها بأنها ستصنعها وهى إلى جواره فى المطبخ فور عودتهما! لم يشأ أن يخبرها بأنه بدأ يعانى من الجوع أكثر كثيرا من الأيام الأربعة عشر الماضية.. وأن ما تناوله من ينسون ونعناع وجيلى لم يجب عن أسئلة أمعائه الخاوية.