كما تُشيد الأضرحة، من مزيج معقد من الوقائع والصبوات، يبني القاص العراقي المرموق ضريحا سرديا باذخا لأخيه الأكبر، جديرا بألق الأخ الأكبر المترع بالإبداع والنضال والمحبة، وقد أُغتيل في بواكير التفتح والتوهج والعطاء، أم تراه مازال حيا/ مدمرا/ مشوها كالعراق، في واقع سُداته العنف ولُحمته الحزن والخراب.

رواية العدد

في متاهة الأعماق السحيقة

سلام إبراهيم

 

يغبشُ السادر الولهان كل صباح لملاقاة المرأة الساحرة الغامضة التي تطلع من باطن الضباب، وتقطع خط سيره اليومي في طريقه إلى مقر عمله، بعد أن ترمقه بنظرةٍ واحدةٍ حزينةٍ من عينين واسعتين سوداوين، قبل أن تغيب خلف بناية محكمة. الديوانية القديمة المتداعية ضائعة في اشتباك الأزقة المهدمة المهجورة، منذ أخر حربٍ مخلفةً عطرها الأسر. يدور بأرجاء المكان لافحاً وقفته المذهولة وسط الرصيف، وهو يتتبع بعينين مشدوهتين طرف عباءتها المرفرف، يختفي خلف زخارف الآجر المكّسر وعوارض الشبابيك الحديدية المعّوجة، واستدارات الأعمدة المقطعة التيجان، المجّرحة بآثار شظايا.

أقلقه هذا الظهور والاختفاء اليومي، وشعر بنفسه ينجذب نحوها بتوقٍ صار جارفاً في الآونة الأخيرة. فأصبح ينتظر لحظة اللقاء الصباحي بلهفة، فيبيت ليلته حالماً بمبادأتها الكلام، بعدما فشلت كل محاولاته للتملص منها بالتأخر عن موعد مرورها، إذ يجد نفسه منقاداً كسائرٍ في نومهِ في الساعة المحددة بالضبط لانبثاقها من كثافة ضباب الغبش، لينصب في وقفته اليومية مسحوراً مشدوهاً، يلاحق ظلالها تتلاشى خلف الحافة المكسرة لضلع مزخرف قائمة بقاياه، ناسياً عزمه المشحوذ طوال الليل على مبادرتها بالكلام. يقف معطلاً عاجزاً محاصراً بوجه ناهده زوجته الطيبة وأطفاله وعبق عطرها المدوخ، فتنزلق من أمامه انزلاق طيف لذيذ، لحظة استيقاظ ضاج. يلبث مخدراً في مكانه طويلاً يستعيد النظرة الفريدة الباعثة دفقاً من الأحاسيس هي مزيج من الود والأُلفة، الشهوة والحزن. يلبثُ غير قادرٍ على استحضار ملامحها التي سرعان ما تنأى، وتصير مثل ذكرى قديمة. كل ما يتبقى منها وضوح عينيها الواسعتين بأهدابهما الفاحمة الطويلة. العينان اللتان تشغلانه في لحظة مرورها البارقة، عن تفاصيل القسمات التي تضفي عليها أمواج الضباب مزيداً من الشفافية والسحر والغموض، فتبدو غير حقيقيةً وكأنها جنيةً من جنيات الأساطير.

وبالأمس بالغت في الدنو حتى كادت تصطدم به، فبدتْ جليةً فأربكه جمالها الباهر الصاعق، وشتَتَتْ ذهنه نبرتها الحالمة الهامسة، بكلامٍ لم يستوعب فحواه، إلا بعد حين. فقد خيل إليه إنه سمع أسم أخيه الغائب كفاح، مما جعله يندفع دون تفكير في الهرولة في أثرها، وينزل السلالم الحجرية القديمة المرطوبة إلى الزقاق الموحل المهجور الغارق بالضباب؛ ويرمي بصره لهفاً بين ركام جدران نصف مهدمة، وضيق دهاليز مغمورة بالماء الآسن، ومنعطفات متداخلة بركام آجرها المبعثر، والمبلول برذاذ خفيف يتساقط منذ بكرة الصباح، قبل أن يرجع خائباً، مشغولاً يفكر بالرابط بين هذه المرأة الغامضة التي ظهرت منذ حلول الضباب، وأخيه المجهول المصير، والذي احتدمت ذكراه مؤججةً الشجون القديمة، بعد أن طوت الحرب الأخيرة أيامها، ملتهمة المزيد من الأصدقاء والجيران والمعارف ورفاق الطفولة، وخلفته وحيداً مجرداً من ندماء كانوا يخففون من وطأة الفراق وتباريح الأشواق. لم يستطع الربط أبداً، فهذي المرأة الساحرة التي تلوح كل فجر، خارجة من جدائل البياض الشفاف، لم يرها مسبقاً. يضاف إلى أن أخاه الغائب لم يخبره عنها، حينما كان يلتقي به سراً في بغداد، في فترة اختفائه عن عيون الأمن، قبل أن تنقطع أخباره تماماً:

- كنتُ أمين أسرار محبته.

قال مع نفسه ذلك وأردف بصوت سمعه الفجر:

- ما السر إذن؟ .. ما السر؟ اللعنة ... اللعنة .. لِمَ لم أنتبه إلى كلامها؟.. ل.. لو انتبهتُ لعرفت السرَ .. وعرفت الرابطة المحيرة، لكنها روحي المتولهة بالجمال، روحي التي ترمي بيّ دوماً إلى شرود،ٍ يضعني في مواقف محرجة ومعيبة. وهي ترشف من عبق النساء الجميلات الغريبات القريبات، غير آبهة بالمحيط؛ فكيف إذن في خلوة الغبش الضبابي هذا؟ كيف .. وبسحرٍ كهذا السحر؟ من أين لي المعرفة بأن لها صلة به؟ نعم لها صلة، سمعت اسمه بوضوح، سمعته!

ولكن داخلهُ هاجس أخر زعزع يقين السماع، وجعله غير واثقٍ من الفكرة برمتها. فمن الجائز أن يكون ما تناهى إلى أسماعه، وهم أخر من أوهام هلوسته، التي استفحلت في الآونة الأخيرة. حيث بات يسمع أصواتاً تناديه، أو حفيف خطو يسعى في أثره، وهو يسير في أزقةٍ خالية أو غرفٍ فارغةٍ. خطوات وأصوات أصدقاء وأحبة ضاعوا، اختفوا، ماتوا، قتلوا في الأقبية والحروب، وفي المنافي البعيدة. تزايدت مع ازدياد شعوره بالوحدة وانفصاله عن الآخرين، وتفضيله العزلة والصمت وسهر الليالي، يصاحب وينادم صورة أخيه الفوتوغرافية، التي كبرها وعلقها في غرفةٍ صغيرةٍ منزويةٍ، زين جدرانها بتخطيطاتٍ فحميةٍ تركها الغائب، وببعض لوحاته الزيتية القديمة؛ رسمها في فترة اختفائه وسلمها له في إحدى لقاءاتها السرية. وبطول صبرٍ وأناة كان يستعيد تفاصيل حياتهما المشتركة منذ استيقاظ الذاكرة حتى أخر لقاء، عندما ودعهُ مساءً في ساحة الأندلس بقلب بغداد، على أمل لقاءٍ جديد.

فأصبح بمقدوره استحضار قسماته الحية، وتضاريس جسده النابض، فيراه ينهض حياً من تحنطه بإطار الصورة، مغادراً الورق القديم، ويشهق جواره بقامته الممشوقة، ثم يخطو دون أن يصدر عن خطوه المتمهل أي صوت، ليجلس على الأريكة المقابلة، صامتاً ينصت إلى شكواه حتى مطلع الفجر، كما كان يفعل قبل عشرين عاماً. كان المستيقظ من غفوة الورق يضم ساقيه الناحلتين إلى صدره الهزيل، متكوراً في طرف الأريكة، يرمقه من بين أهدابٍ طويلةٍ ذابلةٍ، بوجد محبٍ ضاقت به العبارة. وكان يعود مسرعا إلى صمت الورق، حال سماعه وقع أقدام تقترب من الباب نصف الموارب:

- أيكون ما تخيلت سماعه وهماً أخر من أوهام أحلام يقظتي؟! أيكون يا رب الأشواق؟ أيكون وهماً يا عارف شئون الغياب؟!. يا أيها الحاضر أبداً.

خبرني.. خبرني.. يا خالق الفيافي والقفار.. يا محرز الأسرار.. خبّرني.. خبّرني.. فلقد أهزلني وجده، وظللت وحيداً أعانق في بحر يومي حضوره الراسخ. صدى ضحكته .. وقع كلماته.. تهدج أنفاسه، وحيداً أعاني لوعة الفقد، وحيداً أنفجر في الغرف والزوايا، في الحقول والبساتين بكاءً مراً، وحيداً ظل يسكنني بكل حلاوته وألقه وبراءته وضجيجه رغم مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على غيابه الذي خلف فراغاً في الروح لم تعوضه الأيام والصداقات، ولم تخفف منه أربعة حروب وقعت منذ غيابه، لم تخفت من أواره كثرة القتلى الذين سقطوا بين يدي وتحت ناظري، بالعكس زادت وحشة الأيام وقسوتها من وطأة الفقد فاستولى الحزن عليّ، فأصبحت أكثر هشاشةً غير هيابٍ أو خجلٍ من النحيب، الذي ينطلق بغتة حالما يرد خاطره، فأنجرف بسيلٍ من البكاء وسط الجنود في الملاجئ، وسط الناس في المقهى، في السكر والصحو، بين أجساد القتلى، في الأعراس، في ضجيج الجبهة، وصمت ليل الجبل، في النوم واليقظة، في زحمة السوق والقطار، وحتى في فراش الزوجية، ثم تطور الأمر إلى نشيج مصحوب بهذيان من يريد الإمساك بطيف مستحيل.

ظل ينتحب بلذةٍ في حضن ناهده زوجته، دافناً وجهه بصدرها المنتفض، فيشعرُ بشيء من السكينة، وهي تربت براحتها الحنونة على ظهره المهتز، هامسةً بكلامٍ يواسيه ويطيب خاطره. أصبحتْ تلك اللحظات من أمتع لحظات حاضره المحزون، لكن حتى هذه النافذة الوحيدة انسدتْ سداً محكماً مع شعوره بمللها، وهي تحاول أن تخفي امتعاضها حينما تراه ينتحب ملتاعاً ويكرر هذيانه. اختلف إيقاع الربتة التي كانت حانيةً. أصابعها فقدت طراوتها. باطن الراحة تخشب، فعاد يطرق أضلاعه دون حنوٍ، مما جعله يكف عن البكاء في حضرتها، كاتماً أحزانه، فتفاقمت فاجعة الغياب، وأصبح أسير أحلام يقظةٍ احتلتْ ما تبقى من انتباهه الواهي أصلاً، يمارس شئون الدنيا كسائرٍ في نومه.

في فترة احتدام القتال في الجبهات كان يلقم المدفع طلقته، يسحب حبل القدح، ينظف السبطانة، يسافر. يتسكع. يلتقي ويتبادل الأحاديث مع البشر في المقاهي والملاجئ، في المحطات والقطارات، البيوت، يمارس الجنس مع زوجته بتلك الآلية المجردة من الحس ففقد أخر محطةٍ دافئةٍ كانت تلّمهُ من صقيع الدنيا، وبات موقناً إن الروح عصية لا تفهمها إلا ذاتها مردداً في خلوته:

ــ إيه .. إيه يا نفسي ليس لك سواي .. ليس لك!.

ورمى كيانه في قفر الروح جائباً أنحاءها البعيدة، طاحناً ألمه سراً، مستلباً أشد الاستلاب، ومنفصلاً عن الكل. يعيش في عوالمٍ اختلطتْ فيها الأزمنة والأمكنة، يأتي الغائب فيها طالعاً من مجاهل النوم والأحلام، من بيوت "الجديدة" القديمة، من نهر الديوانية الصغير، من الصورة الفوتوغرافية، من بساتين النخيل الكثيفة. يأتي بكل بهائه وعنفوانه يجالسه، يسرّه، يحاوره.

* * *

كانت تنسل من الفراش بهدوء. تنسل في الهزيع الأخير من الليل. تقطع الباحة المسقفة سائرةً على أطراف أصابعها حتى تحاذي الباب الموصد. تضع أذنها لصق فتحة المفتاح تنصتُ وصوته يمسي واضحاً. صوته الذي افتقدتْ نبرته منذ عودته من الحرب، ولزومه الصمت وهجره الفراش متعللاً بذرائع واهية. تسمعه الآن بنبرته القديمة. نبرة أيام الحب الأولى قبل الحرب، نبرة رقيقة واثقة لا انكسار فيها. كان يتدفق بالكلام، وكأنه يستعيد مع جليس ذكرياتٍ بعيدةٍ، نهر وبساتين، صبايا وطيور، جوامع وبدو يحتلون بجمالهم شارع العلاوي العريض، سواقي ضحلة جوار ضريح شعبان بيك الذي أندرس، دكان خليل الحلاق، عبد سوادي النجار، حمدي الحلاق، حانوت مكسرات أبي زهرة، فواكه سلمان الطبل، محمد دوحي الحلاق، وفكتور بائع الخمور، أسماء وأسماء.

حشد من البشر والأحداث لا تتذكر أنه حدثها عنها، جرائم قتلٍ واغتصاب، "حسين شاني" يقتل "علاوي البصراوي" في المقهى طعناً بسكين، صبي مقتول ومغتصب يعثر عليه في بستان "عجه" مفقوء العينين، زيارات لسجون قديمة بصحبة أمه، متظاهرون يشتبكون بالشرطة المعتلية ظهور الخيل، زيارات لمراقد الأئمة في النجف وكربلاء. تفاصيل يوميات قديمة عن سطوه ليلاً على بنت الجيران، وافتضاح أمره، عن حشره لجسده في زحمة النسوة المحتشدات لرؤية مواكب العزاء المارة، وإطباقه على مؤخرات الصبايا. تفاصيل قصص حب من طرف واحد، طريفة تجعله يضحك ضحكته المجلجلة الغائبة منذ عدة سنوات.

- يا ترى مع من يتحدث؟

تسائل نفسها وتنحني متلصصةً من شروخ الباب فتراه وحيداً يجلس على الأريكة تحت ضوء مصباح نوم شاحب الزرقة، فتنفجر بصمتٍ ساخطةً لاعنةً حظها العاثر، وتنسحب يتبعها حفيف ثوبها الشفاف، عائدةً إلى فراشها المهجور، شاعرةً ببردٍ قارصٍ رغم غطائها الثقيل. وفي أحدى الليالي أحست بخطوٍ خفيفٍ يهمس في أذنها المرهفة. خطو تميز وقعه من بين آلاف الأقدام. خطو طالما أطربها، فاستعدْ جسدها الذابل المهجور متوثباً متشهياً. سخن فجأة وأخذ يبث نبضاً من نار، لكنه سرعان ما ترمد مستسلماً لرعشة البرد القادمة من تخافت الخطوات المبتعدة المتلاشية خلف الباب.

- أي هاجس جعله ينأى عني؟!. هو الفحل الذي كان يلتهمني في الفراش نهماً ويقطع أنفاسي .. أي هاجس .. أثمة امرأة أخرى؟ امرأة أخرى بعد كل تلك السنين والحب؟! ولم لا.. لم؟!. فهو شغوف بالنساء، ليس شغوفاً فحسب بل شديد الوله، ولا يخفي ذلك. يحدق نحوهن بحضوري بطريقة تشعلني، وفي حضرة واحدة جميلة يستحيل إلى كائن أرق من عصفور. لا بل حتى نبرة صوته تترخم ويصبح وقعها عذباً ومؤثرا في القلوب. أرقني ويؤرقني هذا الهاجس، فأنهض من فراشي في عمق الليل، وأتسلل حافية القدمين لأتلصص على وحدته علني أكتشف شيئاً. أقطع الباحة المعتمة. أخلد جوار الباب .. أمد بصري خلل شقوق خشبها. أتأمله قابعاً في زاوية الأريكة يحملق حملقة طويلة مبهمة بالليل الحالك خلف النافذة، ثم يرفع رأسه محدقاً في الرسوم وصورة أخيه وأصدقائه المعلقة. أنسل عائدةً إلى فراشي محزونةً وجلةً يرن في راسي السؤال:

- ماذا.. ماذا جرى له بحق السماء؟!

كنت أعتقد إن نهاية الحرب ستضع حداً لارتباك مشاعرنا واضطرابها، فنصفو من جديد، ونعود كما كنا، فهو لا يدري كم أنا سعيدة بسلامته، إذ إنه لم يعطني فرصة للتعبير عن هذا الشعور بصمته المستديم وشروده وانعزاله في الحجرة التي كانت مخزناً. إلهي .. يا إلهي ماذا أفعل كي أجعله يفيق إليَّ ثانيةً ويؤوب إلى صدري لائذاً؟! ماذا.. ماذا أفعل.. ماذا؟! وهاجس المرأة الأخرى بدأ يستفحل ويسمم مشاعري، صرت مثل معتوهة شكاكة، أهرع في غيابه أنبش أرفف المكتبة، أوراقه الخاصة. أفتش حزم رسائلنا القديمة. أبحث تحت الأسرة متخيلة وجود مخابئ سرية ستكشف لي شخص المرأة التي أخذت عقل زوجي وحبيبي. أقلبُ محتويات خزانة الملابس، الروازين، أقلب صفحات الكتب القديمة صفحةً صفحة، عليَّ أعثر على ورقة تدلني، حتى أنني نبشت حقيبته الخاصة التي يحرص على حملها معه أينما حل منتهزةً فرصة وجوده في الحمام، لم أجد سوى يوميات مبهمة وأشعار عشقٍ قديمةٍ يستلها من الكتب، ورسائل قديمة أذهب الزمن نصاعة ورقها وصلابته. أقلبها على عجل وأقرأ في أذيالها أسماء أصدقاءٍ له فقدوا أو قتلوا في الحرب؛ وأصدقاء قضوا في المعتقلات والسجون. ورسائل أخرى مزدانة برسوم غريبة غير واضحة، كان أخوه المعدوم يبعثها من بغداد حيث يدرس في الجامعة التكنولوجية. كان النبش يشعرني بالخزي، لكن عذري في توقي إليه.

مازلتُ أحن إلى أيام مجد حبنا. يعذبني الشوق إلى دفء ورائحة صدره الرحب، إلى نبضه النابت بالعروق، إلى نبرة صوته الحنون لحظة البوح في سعير السرير. مازلت يا روحي .. مازلت.. وتلصصي الليلي على خلوته يبوح بحال عاشقٍ ولهان، لكن دون دليل، مازلت مشتتة بين الاحتمالات لا أفهم سر الانقلاب الذي ابتدأ منذ أعراضه عن ذكر أخيه، وكفه عن اللوذ بحضني باكياً هاذياً أشواقه المبرحة، مردداً أعذب الكلام. كنتُ اندهش لاكتناز قلبه بكل هذا الحب، وينتابني شعور بالندم لأنني لم أتعرف على أخيه الغائب إلا خطفاً. رأيتهُ مرةً أو مرتين لا أذكر بالضبط، وبعدها توارى عن أنظار السلطات في مدن أخرى، وغابت أخباره تماماً وقت زواجنا. صرتُ أتمنى أن يعود إلى تذكر أخيه والبكاء عليه في حضني لكن هيهات.. هيهات.. ما لديّ غيرك يا حبي؟

لابد أن ثمة شيئاً مهولاً جعلك تتبدل هكذا؟ ما هو يا حبي؟ ما هو يا ربي؟ مازالت ملامحك الحزينة المتحجرة ظاهراً تواري حناناً حبيساً لا يخطئه قلبي. لِمَ تُخفيه عني يا حبيبي؟ لم يا روحي لِمَ؟ لقد تعبت .. تعبت. أهلكني شرودك وإهمالك لأوضاعنا التي ازدادت سوءاً بعد الحرب. كنتَ أيامها تستيقظ مبكراً لتعد لنا الإفطار في أيام إجازتك القصيرة. كنتُ أستيقظ على صخبك الهازل وضحكاتك المجلجلة، وأنت تمازح الأطفال. كنت لا تكف عن المزاح والضحك طوال أيام الإجازة. ما الذي غير طبعك الحبيب يا روحي؟. أنت أيضاً تنهض الآن لا من فراشك، بل من كرسيك قبل صياح الديك، وتتسلل في أحشاء السحر إلى الحمام. تأخذ دشاً بارداً، وأنا البث خلف باب غرفتي ألصق عيني بشرخٍ يسمح لي برؤيتك حيث تغادر الحمام، وترتدي ملابسك في الباحة بتأنٍ متحاشياً إثارة أية ضجة.

أدلف إلى فراشي مسرعةً حينما ألمحك تتجه نحو غرفتنا. ألوذُ تحت الغطاء متوترة في الصمت والانتظار. أسمعك تفتح الباب بهدوء. أتتبع وقع خطاك الخافت البطيء. يصلني حفيف أغطية فأعرف أنك تغطي الأطفال. أسمعكَ تدنو من السرير. أحسكَ تقف جواري وتطل علي .. قريباً بعيداً. أكاد أقفز لعناقك والتهامك وأنت ترفع غطائي بهدوء وحذر شديد. أجمد تحت صبيب أنفاسك اللاهثة. تحاول كتمها دون جدوى. أتخيل الألم المحبوس في تقاطيعك الغارقة بظلال الغرفة التي يتسلل نور الغبش الهزيل من نافذتها الصغيرة. أتخيل قامتك الفارعة الشامخة وأنت تتملى طولي المسفوح على السرير. أتذكر قولك في أيامنا الغابرة؛

ــ يطيب لي أن أتأملك كل ليلة وأنت تسرحين في النوم والأحلام. أتدرين يا حبي.. الإنسان يصفو في النوم العميق، وتترسب شوائبه، فيطفو الطفل الذي أغرقته الأيام وصعابها.

في السكون المتوتر تضطرب أنفاسنا وتخفق روحي جنح عصفور ذبح توا.. أنزف في السكون. أنزف .. أنزف. أتبدد هباءً في عاصفة الروح الحبيسة. أي لحظات تلك .. أي لحظات. ما أمرها، وما أثقلها. ما أشقاها وأنا غير قادرةٍ إلا على السكون والهمود همود الموتى، ممنوعةً من الاستيقاظ والبوح والعناق، منتظرة لحظة التحطيم القادمة بصرير الباب الذي تسكّره على مهل، فأفتح عينيّ الدامعتين. أستحضر ظلكَ وأنفاسك التي خلفتها حيةً تحيط بي وتدور، فأتلظى .. أتلظى ملتهبةً بجحيمي، تصفعني الباب المسدود وخواء الدار. فأنفجر في نشيجٍ طويل مثل سيل من نار، نشيجٍ أخنقه مخافة إيقاظ الأطفال، فيستحيل شهقات عميقة تذري بقايا الروح الحزينة المخذولة. تنسل قبيل انبلاج الفجر. تنسل بصمتٍ. تنسل بهدوءٍ. لا أعرف إلى أين؟ ولا كيف تقضي سويعات ما قبل توجهك إلى مقر عملك، أشعر بشيءٍ ما يكاد يحطم قلبينا ويقضي على حبنا.

* * *

في مثل هذي الأوقات، قبيل مطلع الفجر كنا نغادر البيت لنتجول بشوارع المدينة الواسعة وأزقتها الضيقة. نجوب في الغبش بعيون أذبلها السهر مثقلين بخلافاتنا وافتراق قناعتينا. كنتُ متوجساً من تلميحاته الخاطفة إلى فراق قريب. يدوخني كتمانه وزوغانه من أسئلتي الواضحة المفحمة، شاعراً بقرب الفجيعة. ألح بالسؤال:

- ما معنى قولك يا أبا درويش؛ إذا قدر ولم نلتقِ؟!

- قلت إذا ...

- صارحني علام أنت عازم؟!.

- لم أعزم على شيء يا أخي!.

- وجهك ونبرة صوتك يا كفاح يقولان غير هذا!.

-ـ ...

- أفصح.. أرجوك!.

- قلت لك لا شيء .. ألا تصدقني؟!.

ورمقتهُ طويلاً في تلك الليلة التي كانت الأخيرة في بيت طفولتنا في الحي العصري. لاحقت عينيه المرتبكتين بنظراتي الحزينة، فشرد يدّور بصره في سقف الغرفة، وريشات مروحته الساكنة، في المصباح الأزرق الباهت المعلق أعلى الجدار إلى يسارنا، في حقول سجادة الحائط وغزلانها الشاردة، في صورتينا المعلقتين إلى جوار والدنا داخل الإطار الخشبي المحيط بالزجاج الشفاف. لم أزل ألاحقهُ وهو يرمي بصره إلى النافذة، حيث يظهر غصن مائل من شجرة النارنج، مضاء بمصباح الطريق القائم جوار باب بيتنا. كان ينظر إلى كل شيء عدا وجهي، ويعّبُ أنفاساً عميقةً متلاحقةً من سيجارته، وينفض الرماد بصدفةٍ بحريةٍ رخامية جلبها أبي من الكويت عندما سافر للعمل عام 1965

سحبتُ جسدي إلى الخلف. اتكأت إلى الحائط مبحراً في تقاطيعه وكأني أود احتواء رسمها إلى الأبد شاعراً بوحشةٍ تعصف بكياني. وحشةٌ قاحلةٌ سترافقني طوال العمر. أبحرتُ متأرجحاً على حافة هاوية فراغ مجهول غير سامعٍ ما كان يتفوه به، ثم استقمتُ في جلستي منفصلاً عن الحائط وقلت:

- أسمع .. اسمع.. هل فكرت بنا؟ بأمنا.. بأبينا بيَّ.. بأخوتك .. بأخواتك الست .. هل فكرت؟!

- ...!.

- أتدري كم ستسبب لنا من الأحزان؟!

- ...

- لا أستطيع.. لا أستطيع تصور البيت، الشارع، المدينة، الأيام دونك!

ردّ بصوتٍ واهن منكسرٍ:

- افترض في يومٍ ما حدث لي حادث مثلاً!.

رفعت صوتي غاضباً:

- ما هذا الكلام .. ما هذا؟!

- اهدأ.. اهدأ.. لم تصرخ ستوقظهم!.

- لم .. لم نفترض الفجيعة، لِمَ؟.

- ...

مدَّ يده واحتوي كفي المرتعشة المعلقة في الفراغ المحصور بيننا، فاستسلمتْ مستكينةً بين أصابعه الناحلة المعروقة الضاغطة ضغطات خفيفة متتابعة ودودة. كنتُ حائراً ماذا أقول؟ وكيف أعبر له؟ وأنا أسترق السمع إلى نبضات قلبينا الضاجة في صمت السحر الأخرس، وأمعن التحديق في عينيه السوداويين، في تضاريس بشرة الوجه الطرية الملساء، لاعناً ضيق العبارة. وسعت ذراعيَّ إليه. تلمست الذراعين والرقبة والشعر الفاحم ونحول الكتفين وكأني أريد أن أشكله بين أصابعي من جديد، قلت:

- اسمع يا غالي.. اسمع.. ما طعم البيت دونك.. ما النهر.. ما الشارع.. ما السوق.. ما أوحش حي العصري.. الفاضلية.. الجديدة.. السراي، المقاهي، الديوانية، بغداد، السفر، ما طعم الدنيا بعدك؟!

أبصرته يغالب عبرةً كادت تنفلت بنشيج.

- ...

- ألم تفكر في وحدتي ووحشتي؟!

رأيته يفلح في التماسك مستبقياً فيض عينيه، راسماً على شفتيه ظل ابتسامة قبل أن يقول:

- يبدو إنك أخذت كلامي مأخذاً جدياً وكأني ذاهب أبداً، أي وساوس أخذتك إلى خيالاتٍ موحشةٍ .. لك وساوس شاعر يا أخي!

زادت من هواجسي نبرة صوته المختلفة. أخذني الرعب، فغرقتُ في رجيفٍ نّبع من قرار نفسي التي اضطربت بشدة. قلتُ:

- قلبي يقول إنك تبطن أمراً خطيراً يا أخي كفاح ما هو؟.. ما هو؟ صارحني .. صارحني أرجوك!. – اهدأ.. اهدأ.. مالك ترتجف هكذا.. اهدأ..

قالها بصوتٍ منكسرٍ موشكٍ على البكاء، واستدار محدقاً في الليل المطل من النافذة كي لا أرى ساخنه الذي انصب متدفقاً مثل مطر مجنون. أضطربْ وهو يبحث في جيوبه ويستخرج بعد جهد منديلاً أبيض، وراح يكفكف دمعه مائلاً بجسده نحو النافذة. رميتُ بصري حيث كان ينظر. كان يتملى نخلة أبينا التي شهقت سريعاً تلمع عثوقها المثقلة بالضوء الساقط من مصباح الطريق، قلت: - أعلمتك السياسة أن تقسو على الأحباب؟!

لبثَ هامداً في جلسته يحملق بالنخلة سادراً عني، وبغتة قفز كمن يفزّ من نومٍ على وقعِ انفجار قريب. نهضَ بحيوية وبسطَ نحوي ساعده قائلاً:

- سيلوح الضوء.. هيا بنا!.

تمسّكتُ بكفه. أنهضني. لفَ ساعده حول كتفي، وفتح باب الغرفة لتتسلل نسمات السحر الباردة غاسلةً أشجان ليلنا الطويل. بهرتنا طلعة القمر باستدارته التامة المنيرة بالرغم من خفوت الظلام، وانسحابه إلى الزوايا والشبابيك وخلف أبواب الغرف، وفي المجازات والدهاليز. سرنا نجوب أرجاء الديوانية النائمة، أزقتها الضيقة، شوارعها الواسعة، حدائقها، ساحاتها. أخذنا طريق شاطئ نهر المدينة الصغير الذي يشطر جسدها نصفين، سائرين على ممرٍ ترابي يمتد جوار سياج بستان نخيل، ننصت لشدو البلابل وضجيج العصافير ونواح فاختة متقطع تنادي أختها البعيدة التي ضاعت في الفيافي:

- يا كوكتي .. وين أختي. أش تأكل .. باقلاء.. أش تشرب.. ماي الله؟!

شابكين أصابع كفينا مستمتعين بأصوات الصباح. انحرفنا عن الممر المسدود بأسلاك معسكر الفرقة الأولى الشائكة، مبتعدين عن النهر، وتوغلنا في حقول الحنطة الشاسعة معتلين كتف نهر بزلٍ مرتفعٍ. نلتفت بين الفينة والأخرى إلى المدينة التي راحت تتصاغر أبنيتها متضائلة قليلا.. قليلا إلى أن تحولت إلى خطٍ داكنٍ ثم نقطةٍ سرعان ما محقها الأفق. قصدنا تلال قديمة عالية قائمة جوار معامل الطابوق المهجورة خلف نهر اليوسفية القديم، الذي جف منذ زمنٍ ليس ببعيد، والذي طالما سبحنا فيه في الطفولة، مزاحمين الجاموس البارك بمائه الراكد المغطى بالنباتات المائية الخضراء. تسلقناها واستلقينا على قمتها الترابية نحدق بفسحة الضوء المتسعة السابقة لظهورها. أتذكر بوضوح كثافة صمتنا في ذلك الانتظار الموجع للصباح الأخير. صمتنا الخانق المضطرم بفورة روحينا اللائجتين الحادستين بفراقٍ أكيد. انتظرنا تفتق نورها. انتظرنا إلى أن بزغت وكأنها تطلع من رحم نخيل البساتين البعيدة.

كنتُ أتأملك. أنحتُ تقاطيعك الغارقة بشرودٍ لم يفارقها منذ مغادرتنا البيت. أحرزها في روحي، لكنها تنزلق وتتبدد متلاشية بالضوء الدافق من قرصها الكبير المنفصل لتوه عن رؤوس النخيل. تنزلق ضائعةً في يمّ الضوء الدامي المسفوح الذي أصبح يوجع أعين الناظرين.

لم أزر تلك التلال المنسية التي وجدتها تكاد تندثر، إلا بعد انقضاء الحرب الأخيرة مع إيران، وتسرحي من خدمة الاحتياط. لم أزرها إلا بعد أن أيستَ. غيابك طوّلَ وجعلني أكاد أصدق أبديته. غيابك المدوخ الملتبس. غيابك الذي دفعني لخوض غمارٍ لم أكن أفكر يوماَ بخوضها. دفعني حلم رؤيتك إلى التسلل خفيةً إلى الثوار في الجبال البعيدة الوعرة، بأوديتها العميقة وقممها الشاهقة وغاباتها البكر وسهولها الرابضة في الأعالي. صرت ثائراً رغم أنفي.

هل تتصورني أيها الغالي أتنكب بندقيةً وأقاتل دولة؟

أنا واثق إنك لو تسمعني الآن لاستلقيت على قفاك ضحكاً. تخيلني أتصنع القسوة والجد، وألبس ثوب السلطة. تخيل يا كفاح. إنه توق رؤيتك من ورطني بتلك التجربة القاسية، وجعلني أوهم نفسي وأجبرها على التوافق مع العنف، فجبتُ شعاب منسية وقرى البعيدة بصحبة رفاقك القساة القاطنين الكهوف المعتمة والأودية البالغة الضيق، المجانين، الحالمين بعدالة أبديةٍ. أشعروني أول الأمر بأنهم كلي القدرة، عارفين بك وبالزوايا والخفايا. لكن بمرور الأيام أيقنت إنهم يعيشون من أوهام يصنعونها ويغذونها بقصص من الماضي القريب والبعيد. أيقنتُ إنهم مثلي لا يعرفون عنك شيئاً. يعتقدون بك طليقاً تغوص في بحر الناس وسط المدن. أكمدني الكشف، وأحزنني التورط في العيش وسط بيئة غريبة وتفاصيل حياة لا تختلف عن تفاصيل حياة الخنادق في جبهات الحرب، إلا بكونها أشدّ وحشةً وأكثر التباسا.

واجهتُ صعوبةً بالغةً في التعامل مع بشرٍ لا يرون إلا حلمهم المستحيل، فاقدين اليقين في الباطن مبالغين في الجهر به في الظاهر، متوترين تحت ظلال موت متوقع في أية لحظة، يأتي من السماء بطائرات تقصف مواقعهم باستمرار، أو في كمائن الشوارع المبلطة، أثناء عبور ربايا الجيش المنتشرة على القمم والتلال، أو يتربص بهم في أعماق مقاتل يخون سراً، وقذيفة تنفجر بغتة في الجوار في جوف الليل ووضح النهار. عانيت أشد المعاناة مع رفاقك حتى جعلتهم يقتنعون بقدراتي الثورية. صورت نفسي بطلاً مقداماً أمتلك قدرات نضالية فائقة في العمل السري داخل المدن. من المؤسف أن تهدر في هذا الدوران اللا مجدي بين قرى بعيدة تتوزع بين خاصرات جبالٍ وقيعان أوديةٍ مهجورة، فسمحوا لي بالتسلل على ريبٍ إلى المدنِ. وما أن شممت هواء بغداد ثانيةً، حتى نسيت رفاقك غير أسفٍ.

عدتُ جندياً في الجبهة مستغلاً عفواً حكومياً عن الهاربين. رجعتُ إلى صحبة الجنود الطيبين في الخنادق الضيقة والملاجئ، وكان ذلك أرحم بكثير من قسوة الثوار في الجبل. في كل إجازة أخصص يوماً أسافر فيه إلى بغداد، حيث أقضي اليوم جائباً شوارعها، ساحاتها العامة، حدائقها، مقاهيها. أمرّ على الأمكنة التي كنا نلتقي فيها سراً أو التي وجدتك فيها صدفةً عسى وأن أراك أو تراني، مصادفةً أتخيل وقوعها في كل لحظةٍ، ويشدهني خاطرها شدهاً، فأهرع مسرعاً بأعقاب أحدهم يسير في زحام سوق، أو في شارعٍ خاوٍ له تضاريس جسدك من الخلف. أخوض في زحام الأسواق وخلاء الشوارع خافق القلب أحاول اللحاق بظلك الشارد. يضيع مني في الزحام مرةً وفي ترددي ووجلي مرةً أخرى، وفي ثالثةٍ أمسك بكتف له نحول كتفك وأنا أرتعش متوقعاً رؤية وجهك لأسقط في الخيبة لحظة مواجهتي لوجهٍ غريب، يتطلع إلى ارتباكي باستغراب، فأنسحب معتذراً، ويتكرر المشهد في الإجازات التالية دون أن أتعظ.

فوهم رؤيتك وعناقك واستنشاق عبقك يدفعني إلى ملاحقة رجالٍ ناحلين تحفر كتل أجسادهم الفراغ باستدارات وانحناءات لها شكل قامتك الممشوقة المغروسة في نفسي. لم أهضم فكرة غيابك، لم أستوثق منه أبداً، رغم أخبار الليلة الموحلة الرهيبة تلك. ليلة عودتي في إجازة. كنت منهكا، مصّدع الرأس بأصداء أزيز القذائف وانفجارها وصخب الطائرات وراجمات الصواريخ. قرعتُ البابَ حالماً بلحظة الاستكانة بحضن ناهده الدافئ والذوبان. لا أدري لِمَ خفق قلبي بعنف وخشية حينما انفتحت درفة الباب الحديدية منسحبة إلى الداخل، وظهرت خلفها شاحبةً مخدوشة الوجنتين، متورمة العينين، حزينة، ذابلة القسمات بثوبها الأسود الهابط حتى الكاحلين. نهبتني الظنون وعصفت بي المخاوف هاجسا بفاجعة تلوح من محياها. أحاطتني بذراعيها. ضمتني بشدة دافنة وجهها في إبطي. شمتني عميقاً. شمتني طويلاً، ثم تراجعت مرددةً بخفوت عبارات الترحيب والشوق ورفعت صوتها مناديةً على أهلها المحتشدين في الباحة الصغيرة المسقفة بالزجاج مبشرةً بوصولي.

تركتني في حيرتي وقتاً صعباً نأت تحت وطأة ثوانيه، محنطاً على الأريكة وسط الباحة. أتتبعها وهي تفتر بأرجاء البيت خارجة داخلة من والى الغرف والمطبخ والحمام. تتعثر خطاها وتفعل أي شيء إلا الجلوس قبالتي. حاصرتني العيون. عيون أطفال ونساء، صبايا وصبيان، إخوتها وأخواتها، عماتها وخالاتها، أمها وأبيها. عيون تمسحني بشغف وشفقة. تواسيني. تلامسني. تعانقني وتميل بتلك الطلاوة السحرية التي لا تعرفها إلا العيون، وكأنها تشد من عضدي المكسور. حُوصرتُ. نفد صبري وفيما كانت تخطر أمامي قفزت نحوها وسحبتها من ساعدها الفتي وأجلستها جواري على الأريكة متصنعاً المرح والحبور، وهمست بإذنها:

- ما الأمر؟!

- ...

- لماذا تصمتين؟!.

- ...

- ما لذي حدث؟ وما هذه الخدوش؟!

تململت في جلستها قبل أن تجيب بصوت خافتٍ مكسور وهي تنهض متوجهة إلى الحمام:

- لا شيء. لا شيء!.

بقيتُ بمكاني مرتاباً. أحملقُ بالعيون المضطربة، المحرجة، الرازحة تحت وطأة سر تخشى البوح به، فتتحاشى نظراتي التي سرعان ما تشرد مقلبة الأمر، ثم تعود إلى الوجوه والعيون، فتجدها تتملى وجهي بحزن، إلى أن خلدَ الجميع لأسرّتهم بعد انتصاف الليل بقليل، فبقينا وحدنا في صمتِ الباحة الصغيرة. انتظرتُ ريثما يغطون في السبات العميق، متشاغلاً بالتحديق في تكوري بفضاء زجاج السقف، في ظلال قامتها الممشوقة الدائرة بأرجاء الباحة وهي منهمكة بنشر الغسيل. أنصتُ إلى حفيف خطواتها، صدى طلقات نارية تخرق صمت الليل البهيم، صراخ قريب يُكْتَمُ بغتة مخلفاً لوعته ووحشته تدوران في السكون. نهضتُ بعناء ورميت خطوي نحوها. التفتْ صوبي مرتبكةً، فسقط الثوب الذي أفردته على الحبل الرفيع القاطع طول الباحة. أمسكتُ رسغها الناحل اللدن المبلول، وقلت:

- ما الخبر؟!

- ماكو شي ما...ك...و!.

وتلكأتْ متعثرةً بالكلامِ، وترّني الغموض، فجعلتُ أشد رسغها شدا،ً طاعناً عيني في عينيها القلقتين، همست بخفوت:

- إنك تؤذيني.

- هيا.. دون مقدمات، ما الأمر؟.

- ...!.

اشتدتْ ضراوة الضغط:

- هيا .. هيا باختصار.

أطبقتْ شفتيها. شحبتْ قسماتها. تصلبت وهي تحاول استنهاض ما بداخلها من شجاعة، لتنتفض مفجرةً بمفردتها الوحيدة السكون وصمت الجدران والباحة والليل:

- أعدموه!

انحلتْ مفاصلي. تركتُ رسغها يسقط من بين أصابعي التي وهنت. عدت إلى الأريكة وتهالكت عليها مشتت الذهن، غير مستوعبٍ بعد من تقصد بالضبط. خلدتُ في الصمتِ مستكيناً، مفتتاً. أحاول تجميع شتاتي، كي أستطيع التفكير بمن يكون، فطريقة إخبارها تشي وكأننا متفقين بمن يكون، بينما لدي الكثير من الأصدقاء والأحباب الذين انقطعت أخبارهم بغتة بظروف غامضة، وضاعوا في مدن أخرى دون أدنى أثر. لكن جملتها تعني مقصوداً يبدو لا حاجة لذكر اسمه. رمقتها وأنا أتمالك صفاء ذهني. كانت تنشج بصمتٍ نشيجاً جعلتك تنبثق مثل ضوءٍ بارقٍ، فناحت بروحي النوائح، ورحت أردد بصمتٍ وسط نواحي الأخرس:

يا رب الكون. يا رب الكون.. أيكون هاجسي ذاك صحيحا؟! أيكون يا رب العذاب؟ أيكون هاجس العربة العسكرية المهتزة وأضلاعك الناحلة الملتصقة بأضلعي وهم ينقلوننا غبشاً معصوبي العيون إلى ساحة الإعدام في ملعب تكريت لكرة القدم .. أيكون يا رب السماوات أيكون صحيحا؟!

ومثل وميض برقٍ ارتسمتَ أمامي عاري الصدر، مشدوداً في الصبيحة الصاحية تلك إلى خشبتك وسط الملعب، منخباً بالرصاص وعسكري ببذلته الزيتونة الأنيقة ينهال بهراوة فولاذيةٍ ضرباً على رأسك المتدلي. تحجرتُ من مرآك أول الأمر، ثم شعرتُ بنفسي أهوي في فراغٍ سحيقٍ .. أتكون أنتَ إذن أيها الحبيب؟! أتكون لديهم في الأقبية طوال سنوات ضياع أثرك الثلاث؟! أتكون .. أتكون لديهم يا غالي؟! أي ذلٍ أذاقوك؟! أي رعبٍ أروك؟! يا الهي .. يا الهي.. يا رب العذاب.. أي ويلٍ رأيتَ.. أي هول؟! يا حبيبي.. يا حبيبي..

يا حبيبي.. و.. و.. انبثقتْ حيةً احتدام تلك الأيام العصيبة، فرأيتُ أبانا "عبد سوادي" يقفل باب غرفته عليه، وينفجر بعويلٍ ضاجٍ جعل الجيران يهرعون راكضين إلى دارنا متسائلين. قفل باب غرفته ثلاثةِ أيامٍ عازفاً عن الزاد، ينتحب طوال الوقت نحيباً مصحوباً بمناجاة طويلة موجهة إليك يا كفاح. يكلمك من بين البكاء والنحيب، يعاتبك على الغياب. ثلاثة أيام بلياليها ونهاراتها، كان ذلك بعد مرور سنتين على غيابك. كنتُ أمكث لصق الحاجز الخشبي. أعانق كائناتك الزيتية المذبوحة، المرمية في البرية، والمحاطة بنسوةٍ يصرخن خلف أسلاكٍ شائكةٍ. يوجعني لطمهُ الرتيب، ويمزقني هذيانه المتقطع، المتغني بحكايات طفولتك البعيدة وتفاصيلها المنسية، خالطاً بين لحظة ولادتك وغيابك، عن انتظاره في حوش بيت جدي القديم، وأنت تخوض في يم الرحم مستعجلاً الدنيا قبل موعدك بشهرين. لم تمكث في دفء رحم أمنا سوى سبعة أشهر فقط. خرجت ضئيلاً مثل قطعة لحم. كيف أسرت له القابلة تحت السدرة العالية باحتمال مغادرتك الدنيا بعد أيام طالبة منه عدم البوح، عن مواصلتك الحياة وفرحه الغامر ببقائك، عن مبلغ طاعتك وأنت تعمل مساعداً له في دكان النجارة، عن فصاحة لسانك وعقلك الكبير. كان يبوح ويبوح بمشاعرٍ حبيسةٍ يختنق تحت وطأتها. مشاعر كانت متواريةً خلف قسوته الظاهرة. كنتُ أسمعه يدور في أنحاء الغرفة حالما يفرغ من ألمه، يدور ويدور ثم يطلق صراخاً أجوفَ. صراخُ من يُطْعِنْ في تلك اللحظة، يصرخ كمذبوح:

- قتلوك يا طفلي الحبيب .. قتلوك يا بويه..

ثم يصرخ يا بــــــ ...و...يــــــــ ـــه.. يا .....بـــ و..يــــــ .....ــــــه.. صراخاً يذيقني مرَّ العذاب. كنت أتكسر لصق كائنات لوحتك الصارخة، حابساً صرخةً فاجعةً تجول في أعماقي حينما هزتني زوجتي، فعدتُ إلى صمتِ الباحة وصوتها الوجل الملهوف يردد:

- سلام ماذا بك .. ماذا؟!

استيقظتُ من ضجيج الصراخ المدمر الذي اخترق كائنات الزيت، ودفعها لتندب في أحشائي، فنططت في الهواء وهبطت إلى الأريكة، وأنا ألطم جبهتي بقبضتي المضمومتين. مطبق الأجفان أضرب. ممحوق النفس أضرب. شعرتُ بها تلقي بنفسها عليّ وتحاول الإمساك بذراعي. دفعتها بعنف. ترنحت ساقطةً على بلاط الباحة، فيما كنت أهرع راكضاً إلى درجات السلم المفضي إلى سطح البيت، صعدت درجتين، وأنهلتُ نطحاً بجبهتي للجدار الحجري إلى أن شعرت بسائلٍ ساخنٍ يسح مبللاً أجفاني. تضبب كل شيء في عيني، وباغتني إعياء شديد، فتداعيت على حجر السلالم غائباً عن الليل، وناهدة الناحبة والعيون الساهرة المحدقة بصمتٍ من عتمةِ شبابيك الغرف المطلة على الباحة. سقطتُ في غياهب نومٍ عميق مثلما هوى أبي في سحر الليلة الثالثة قبيل أذان الفجر في نوم طويل.. طويل استمر قرابة يومين.

سقطتُ.. فوجدتُ نفسي أركض خائفاً مرتعداً.. أركض في دهاليز معدنية خافتة الضوء حلزونية أفرزتني إلى متاهات بيوتٍ خربةٍ أدت بيّ إلى مخرجٍ وحيد مسدود النهاية، وعلى جانبه شرخ مائل في جدار من الآجر الأحمر القديم. ولجتُ منه فانحشرتُ في بئرٍ مظلم ضيقٍ ضحلٍ. أردت العودة. التفتُ باحثاً عن الشرخ، فشاهدته يلتئمُ وكأنه لم يكن. تحنطتُ بمكاني إلى أن تعودت عينايَّ الظلام. تحسستُ كتلَ الأشياء بأطراف قدميّ ويديّ. اصطدمتْ أناملي بقضيبٍ معدني يصعد بشكلٍ مائل، وقدمي بدكة معدنية واطئة. تمسكتُ بالقضيب القائم وسط العتمة، وارتقيتُ سلالم معدنية الطويلة أفضت بيّ إلى طابق معلقٍ مكون من غرف معدنية تؤدي إلى بعضها بفتحاتٍ وحيدةٍ مدورةٍ تتسع بالكاد لمرور إنسان. غرفٌ باردةٌ خافتة الضوء عارية الجدران. انتهتْ الغرفة الأخيرة بسلمٍ معدني ينزل إلى بواطن أبنية رطبة، وسراديب تغور في أحشاء الأرض.

نزلت وجلاً، وخضت في ظلام السلم الغائر في غور التيه الدامس. أدير راسي صوب كل الجهات عسى وأن ألمح بصيص ضوء. غصتُ في عالم الظلمات السفلية مرعوباً، أأمل بمنقذٍ مجهول ينتشلني. توقفتُ شاعراً باليأس، فرأيتُ نفسي أغطس عميقا في الصمت والظلام، شددتُ عزمي وعاودت السير، والسلم الهابط يحفر في جلد الظلام ويحفر .. ظننتُ أنني سأبقى أبد الدهر أنحدر عليه، فتأرجحتُ على حافة الجنون. كدتُ أتهاوي عندما أبصرت بقعة ضوء متناهية الصغر تلوح في البعيد مانحة لجدار الحلكة أفقاً. بقعةٌ تتحرك متموجة كسرابٍ تتوسع بحجم الكف مرة وتتضاءل بحجم القطرة في أخرى. حثثتُ خطوي، ثم سرت سيراً أقرب إلى الجري، ثم جريتُ على السلم طويلاً. أتعبني لعب الضوء:

- ليس لدي سواك أيها الغامز في البعيد في ليلٍ بدا أبدياً!

تخافتَ الضوء رويداً.. رويداً. عاودتُ الجري بوتيرة أسرع. تعالى لهاثي والضوء يظهر ويغيب متضائلاً إلى أن انطفأ متلاشياً في طيات دكنة أطبقتْ فمحقتني بحور الظلمات. سكنتُ لصقَ درابزين السلم ضائعاً حائراً أنتظر الفرج. وفي لجة حيرتي شممت عبق رائحتك قوياً تنبعث من الغور الحالك. عبقٌ مفعمٌ اجتذبني فنزلتُ منعطفاً نحوه، متتبعاً مصدر سريانها. دلتني الرائحة وأخذتني في ممرٍ يخترق جدار الفحم. أحسستُ بلفح أنفاسك الحارة ينعش روحي. صعدتُ ونزلتُ. استدرتُ ورجعتُ على وقع أنفاسك الطرية إلى أن أبصرتُ طيفكَ يتخايل، أخضر يتموج في الظلام. رف ورفَّ ثم تلاشي في أحشائه، مخلفاً باباً أخضر مضيء.

اقتفيتُ أثر ظلال ضوئه العشبي السائر في البعيد. بلغتُ مسافاته الخافتة التي أدت إلى لسان ثاقب طويل يمتد حتى عتبة باب الضوء الأخضر. خطوات وأصل. خطوات وتلمسكَ أصابعي. خطوات ورذاذ عطركَ يبللني. خطوات وأعبر العتبة. خطوات .. خطوات قليلة. تخايلتُ ظلكَ الطويل يرتمي على العتبة. خطوات ولمحتُ قامتك الفارعة تدخل شلال النور الأخضر الباهر. خطوات .. بلغتُ حافةَ الضوءِ ورميتُ نفسي في أعقابك فارداً ذراعيّ أود ضمك، فرأيت أبي يطل على سريري. يرمقني بحنان. رابط الجأش رصين القسمات. تبسّمَ وأحتوى كفي بين أصابعه الخشنة. راح يضغط برفقٍ ضغطاتٍ متناوبةٍ مطيلاً التحديق بوجهي، ثم مال نحوي وطبع قبلة على جبيني المعروق. عبقتني رائحته الفريدة، مزيج من رائحة جسده ورائحة نشارة الخشب ورائحة عرق العصرية العراقي. أجلسني ووضع الوسادة خلف ظهري. جلب لي ماءً:

- اشربْ .. اشربْ يا بني.

وأدنى الطاسة من شفتي سانداً مؤخرة رأسي براحة كفه الأخرى. تأملته طويلاً وكأنني أراه لأول مرة. رأيتُ تضاريسه تنضح صفاءً أبدياً يرشح بخلاصة الحزن، حزناً راسخاً مستديماً ممزوجاً بألمٍ دفين. كان يخفيه بشجاره، وسكره اليومي، وقسوته الظاهرة، أنعمتُ النظر بقسماته التي تغضنت وبان التعب عليها. بسكونها وتماسكها وهي تسرح من خلالي بالبعيد. بشعره الذي أشتعل شيباً، وببقايا خصلات متفرقة سوادها حائل.. بعينيه الجاحظتين الواسعتين الصافيتين، وهما تمسحان قسماتي بحنان، قال بصوت خافتٍ يرسم المفردة مثلما ينحت بتأني شديد:

- كن متماسكاً يا ولديّ!.

وكأنه نكأ جرحي انفجرت دافنا رأسي بحضنه الدافئ، كاتماً نشيجي بلحمه الحار ورائحته الأليفة. راح يفرد خصلاتي المعروقة بأصابع تبض حناناً:

- كف يا سلام .. كف!.

- ...

- ارحم حالك .. وارحمني!.

أسكنَ حضنهُ روعي قليلا. أرخيتُ راسي على ساعده الممدود. أنصت لنبض قلبه البطيء وتردد أنفاسه الصعبة. لبثنا في صمتٍ محكمٍ سادرين. تناولتُ كفه القريبة وقبلتها. كان يمسحني بنظراتٍ أعادتني إلى طفولتي البعيدة. مرغتُ وجهيَ بالراحةِ الوادعةِ بين يديّ. مرغتُ روحي بالكف الكريمة، فغمرتني لحظة سلامٍ عميق.

- اهدأ.. اهدأ يا بني!.

قالها هذه المرة برجاء. أومأتُ برأسي وسألتهُ بعد صمت وجيز:

- أصحيح ما سمعتُ يا أبي؟!.

- لستُ أدري يا بني، هذا ما أبلغوني به في مديرية أمن الديوانية! أخذوني من الدكان صبيحة 13-12-1983 وقالوا: أبنك خائن أعدمناه. سألتهم: أين الجثة؟!. قالوا دفناه. طلبت أن يدلوني على قبره، فقالوا: ليس الآن ننتظر التعليمات، سألتهم عن شهادة وفاته، فقالوا: لا شهادة ولا عزاء ولا فاتحة ولاهم يحزنون. استفهمت عن الوقت الذي يدلوني فيه على مكان ضريحه، فقالوا لا ندري خذ رقم التلفون هذا. لم أكف عن الاتصال والسؤال؛ إلى أن هددوني قائلين إذا لم تكف سنلحقك بابنك ومن يومها كففت.

انزلقتُ من حضنه لأنزوي ضاماً ساقي إلى صدري بوضع الجنين، وابتدأتُ أرتجف مثل محموم في زاوية الفراش. كورني الألم وأنا أتخيلك مرمياً في البرية تنهشك الوحوش، متذكراً وجه بدوي ملتاع سدَّ بقامته القصيرة الجادة الزراعية الممتدة بين المبزل العام وحقول الحنطة المترامية حتى حافة البادية الجنوبية. كنت في جولة أشراف وقت حصاد الحنطة في أرياف آل بدير. كان البدوي يتنفس بصعوبة لاهثاً، فارداً ذراعيه إلى الجانبين، مضيقاً طريق المرور مما أضطر السائق إلى التوقف رغم ضيق وقتنا. أخذ يطوح بعباءته المكورة، دائراً حول نفسه وهو يردد كلامٍ منغم لم أفهم منهُ شيئاً رغم أنني أنزلت زجاج النافذة لاستطلع أمره الغريب. سكن بغتةً وتوجه نحونا مقترباً من النافذة. حدق بيّ طويلا بنظرة غريبة، ثم راح يتكلم وعيناه مغروستان في زرقة السماء الصافية:

- الله أكبر.. الله وأكبر.. ألستم مسلمين؟ مللنا.. جزعنا.. تعبنا من دفن جثث شبان وشابات بعمر الورد تلقي بها هليكوبترات، في القفار البعيدة بين الكثبان وفي مجاهل الرمل، بعيدا عن الواحات؛ جثث مشوهة، محروقة، مقطعّة الأطراف مسمولة العيون ما الذي يجري في مدنكم الملعونة؟! أي فظائع ترتكبون بحق خلق الله؟!. أفقدتم الضمير والدين؟!. أسكنكم الشيطان؟! اللعنة على الكفرة .. اللعنة عليكم .. سيحرقكم العظيم بناره المصطلية. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله!.

واستدار قافياً أثر قافلته ليضيع في أفقِ الرمل، ومن يومها ظل مشهد جسدك المشوه يا كفاح، وهو ملقى في قفر الصحراء يتجسد أمامي ويلاحقني. أراك تتمدد عارياً تغطيك العواصف الرملية وقليلا .. قليلا يغطيك الرمل وتضيع غاطسا في بحور الصحراء. انفجرتُ ناحباً من الأعماق مرة أخرى. تلقفني أبي وضمني إلى صدره بشدة، فاستكنتُ محطماً في رحابة صدره الدافئ.

رغم ذلك لم يخمل ذكرك، بل استعر عند عودتي من الحرب. تحول مروري اليومي بالأمكنة التي كنا نرتادها كل يوم إلى طقسٍ يخصني وحدي دون الكل. أنسلُ في غبشة الفجر، أصافح بخطوي وعيني صباحَ الشوارعِ والأزقةِ، كما كنا نفعل عقب سهرنا حتى الصباح في غرفتنا المشتركة. وأقصد التل الذي تحول إلى علية ترابية قريبة من البيوت الزاحفة من قلب المدينة. أخلدُ على ترابها منصتاً لزقزقة العصافير البرية، لصياح الديكة. أستحضر قامتك الرامحة جواري، حزن عينيك المخضلتين لحظة طلوع الشمس، أنفاسك المنثورة في روح المكان، وأعود منتشياً إلى المدينة، لأدور في أزقة وشوارع أوائل الضجيج. أخترق سوقها المسقف بالصفيح المثقب. تعبقني روائح الأقمشة والتبغ، البهارات والهيل، البخور والحناء، المسك والزعفران. أعبها بعمق متذكراً ولعك بها وقولك:

- أينما حللت في سفري ترافقني روائح هذا السوق مثيرة أشجاني وأشواقي للأهل والأحبة.

يا ترى كم عذبتك في فترة اختفائك في مدن أخرى؟ كم عذبتك في ضيق زنزانتك؟ أقطعه قاصداً حشد الباعة المزدحمين في نهايته. باعة الحريرة والقيمر والكاهي والخبز المنقوع بماء الباقلاء، والبيض المسلوق، وشوربة العدس والحليب الساخن والكلاوي والقلوب المشوية. أجلس على صفيحة معدنية يستخدمها القهوجي أبو جميل كمقعدٍ على حافة الرصيف، أحتسي الشاي على مهلٍ متابعاً حركة الناس المنشغلين بشأنهم. يطربني ضجيج الجنود المزدحمين حول عربات الباعة المنادين على بضاعتهم بأصواتٍ جهيرةٍ. وأردد بصمت أغنية أحمد فؤاد نجم المريرة:

السجن.. السجن.. السجن.. مافيش في السجن زمن

الوقت.. الوقت.. الوقت.. ماليش للوقت ثمن

أيام بتمر وليل بيعدي

وأحنه بدوامة والأفكار بتروح وتجري

العالم بره بتعمل أيه

الناس فاكرنا وساكتين ليه

الناس بتروح الشغل أزاي

الناس.. الناس

شغلتنا الناس!

أكيد كنت تغنيها وحدك في الزنزانة، كما كنا نغنيها في غرفتنا المشتركة في بيت طفولتنا، في الحقول المجاورة، في البار عقب عدة كؤوس، في البساتين وعلى جرف شط الديوانية، بعد أن نهلك من السباحة. وكما كنت أدندن بها مهضوماً أكاد أبكي في زنزانتي وحيدا قبل سنوات. أكاد أراك في ليل الزنزانة تعيدها مراراً، وأنا أرى العمال والكادحين المتعبين ذاهبين إلى أعمالهم غير عابئين بما جرى لك ولرفاقك.

أزجي الوقت حتى السابعة حيث أغادر الرصيف ميمماً وجهي شطر تقاطع الشوارع الكائن قرب مقهى الضويري أفضل الأمكنة للتمتع في النظر إلى أكبر عددٍ من تلميذات الثانوية القريبة، أفضل مكان انتقيناه معاً. أجلسُ على نفس المكان الذي كنا نجلس فيه أتطلع إلى وجوه وقوام الصبايا المعجونة بطين الفرات، طراوة البشرة .. ألق العيون .. تورد الخدود. أتصيدُ الزغب الناعم في السواعد الناعمة الماسكة طرفي العباءة تحت الحنك. الزغب الذي تحرص على إبرازه في أجساد نسائك العاريات الخارجات من الأنهر والحمامات، المستلقيات في غرف النوم، وتحت الكلل في سطوح الصيف. أتذكر جوابك حينما أبديت ملاحظةً حولها:

- أيفوتك هذا يا صديقي!.

الزغب هو السحر .. سر الأنثى .. السر الإلهي، هل تخيلت يوماً أصابعك تمسحه كما تفعل نسمة صيفٍ خفيفةٍ هل؟ .. تخيل يا صاحبي.. تخيل.. علّك تذوب مثلما أذوب في خيالاتي!.

أنسحبُ مع خلو الشارع منهنَّ وسماعي جرس الحصة الأولى، لأهيمَ حانقاً متضايقاً من بلاط الشارع، الرصيف، الشمس، الظلال، الضجيج، العصافير، الصبايا، السماء والناس

(والناس ساكتين ليه!

الناس.. الناس شغلتنا الناس)

أستعر غضباً من هذا العنفوان الصباحي الفتان، الحيوية الدافقة والجمال، الأجنحة والعشق والعشب، من كل شيءٍ يجري وكأنك لم تَغِب. لم تضِع في المجهول.. ليس الأشياء فحسب بل حتى الأهل أيضاً فبعد ضجيج أيام الفاجعة الأولى بعويلها ولطمها وهذياناتها وشق الزياق وتخميش الصدور والخدود والضرب المبرح على البطون تخافت ذكرك رويداً.. رويداً بجريان الأيام وانشغال الآخرين بهموم الدنيا والحروب المتلاحقة. إلا أنا لم يشغلني عنك شيء. ظل خمول ذكرك يكمدني وتغمني بوادره إذ عادوا لا يتذكرونك إلا أحيانا مثل ذكرى قديمة، مثل حلم. وجلَّ. ما كان يغيظني استغراقهم في البهجة والسرور وقت الأعراس والأعياد، فأعمد في اللحظات تلك إلى إثارة ذكرك، فتتلبد الوجوه، يغادرها المرح وتحتقن احتقانا يسبق عاصفة الحزن التي ترمّد القلوب والوجوه وتعصف بالنفوس؛ حينها أنتشي وأسترخي مطمئناً لفكرة رسوخك في الضمائر، قبل أن أنفجر معولاً حال شروع أمنا بالعويل، جارةً الأخوات والإخوة إلى مناحةٍ وكأن مصابك حدث قبل لحظات. ظللتُ أفعل هكذا إلى أن سألت نفسي يوماً:

- إلى متى أبقى أعذب الآخرين يا ربي الى مَ؟ وما هذا الوله المريض والرغبة المشوهة في إثارة الألم لدى أعز الأحباب؟!

انتشلتُ روحي من ذاك المنحدر، من سلالم اللؤم. كففتُ طاوياً حلمي الراسخ برؤيتك في نفسي، ذلك الحلم المستمد ديمومته من عدم التحقق المادي من مقتلك كما حدث مع العديد من الأصدقاء والجيران الذين قضوا في الجبهات ورأيتهم يودعونَ صرة الأرض، عدا أن العديد ممن أُبلغ عن إعدامهم شفهياً، أطلقَ سراحهم لاحقاً، أو أخرجهم الناس من سجون سرية عندما اقتتلوا في آذار عقب الحرب الأخيرة 1991 ظللت محاصراً بأسئلتك:

- أتكون معتقلاً في سجن سري لم يعثر عليه المنتفضون؟!

- أتكون مختفياً؟!

- أتكون قد متَّ تحت التعذيب في الأيام الأولى لاعتقالك المفترض، قبل عقدٍ ونيف؟!

كلما سلمتْ السلطات العسكرية جثة معدوم لأهله، أُثار ويحتدم شأنك باعثاً المزيد من احتمالات مصيرك المعذبة، فيحضرني طيفك البهي في اليقظة والأحلام، تحضرني في رؤيا تتكرر بأشكالٍ وأحداثٍ وأزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفةٍ لكن بجوهر يصب في مجرى واحد؛ تظهر لي طالعاً من بطون الأزقة المظلمة، من بساتين النخيل، من زحام الأسواق، من مراقد الأئمة في أفجار زرقاء وظهائر قائظة، في ليالي البرد والمطر تطلع بغتةً فأجدك بلحمك ودمك بجواري، تأخذني إلى صدرك الناحل، تتلمسني، تهمس:

- تعال يا حبيب .. تعال .. تعال!.

أنقاد مخدراً بين يديك لتدور بيّ في متاهات أزقة متداخلة، غريبة، متداعية البيوت تؤدي إلى بعضها البعض، عبر أحواشٍ مفتوحة ودهاليز معتمةٍ وثقوب في الحيطان وسلالم نازلة صاعدة، مهدمة سليمة، نرتقيها وننزلها إلى غرفٍ مقببةٍ تساقطت زخارف جدرانها وحروف آياتها، تقوم وسطها أضرحة مغطاة بخرقٍ خضراء حائلة اللون مغبرة. تسقيني ماء من حباب مركونة في الزوايا. نتوضأ بباحاتٍ مفتوحةٍ قبيل دخولنا، ونسجد على سجادات مطّبعة بأروقة مراقدٍ مقدسةٍ، بقبابها المسلتة خيوط ذهبها ونقوش جدرانها العالية وصحونها الواسعة. نطيل الصمت والصلاة، نردد الأدعية المتضرعة الحزينة.

أنصت لنبرة صوتك المتهدجة في سجعها الداعي لمحق الظالم ونصرة المظلوم، نتيمم بتراب القبور المهجورة، وننزوي لصق تدوير جدران الأضرحة. تحدثني همساً عن أشجان سنين الفراق وأيامها المبرحة، عن أشواقك المستحيلة، تقّبلني في مدخل دهليز ينفتح على سوق مسقوف فسيح مكتظ، وتعود لتغور في بواطن الأزقة، في عتمات المساءات الخفيفة زورتني الكثير من الأضرحة المنسية الضائعة بغرفٍ مهجورةٍ في تيه الخراب، وصارت لحظات لقاءنا في أحلام اليقظة والمنام أسعد لحظاتي، فاختصرتُ علاقتي بالأشياء والبشر مفضلاً الصمت في حضور الآخرين، مما جعل زوجتي تسّر أمنا همساً سمعته وأنا مستلقٍ في شبه إغفاءةٍ على أريكتنا القديمة:

- عمة يعزل نفسه طوال الوقت في غرفة المخزن ويحكي مع نفسه في الصحو والمنام! سيفقد جوهرته يا عمة، هكذا تسمي زوجتي العقل، سيفقدها وييتمنا!

سمعت أمنا تُهدئ من روعها قائلة:

- اصبري .. اصبري يا بنتي .. فأنت لا تعرفين مدى علاقتهما كانا لا يفترقان. اصبري أبني وأعرفه. ما بزوجك ليس جنوناً بل أشواق وتباريح .. ليتدروش علَّ حزنه يليّن قلب الغائب الجافي، فيحن ويظهر لنا خفيةً لنطمئن عليه، ويبرّد من نيران قلوبنا قليلاً ثم ليغيب بعدها. دعيه يشجن ويحّن دعيه .. ولا تضايقيه .

وما إن هدأتْ أوار الحرب حتى اضطرمتْ أوار نفسي. صار حضورك ماحقاً. تنبثقُ أمامي طالعاً من شقوق الأشجار، من شبابيك البيوت، من تراب الأزقة، من السواقي الصغيرة والبساتين، في الليل والنهار، في السكر والصحو، في اليقظة والمنام، وقت الجد والهزل، طفلاً تارةً، ويافعاً تارة، ورجلاً في أخرى. ترن بأنحائي الدفينة ضحكتك، وأجد نفسي أردد مراراً بصوتٍ نائحٍ لازمة أغنية قديمة تدلهت بها منذ الطفولة، وكنتَ ترددها دون وعي كلما شتَّ ذهنك:

(مالي صحت يمه أحاه

جا وين أهلنه ؟

جا وين

جا وين أهلنه؟)

أصبح التل والنهر والبساتين والمقاهي والحقول والأسواق لا تخفف من وطأة الأشواق كما كانت تفعل في سنين الحرب، بل تسّعرها فأضطرم مرعوباً من رسوخ الغياب وتقادمه، ويعصف بيّ حنين جارف إلى أيامٍ صارت غباراً تذرى في عتمة السنين. تخنقني الوحشة، فأتسلل إلى دار أبينا، إلى غرفتنا المشتركة، إلى سريركَ المعفر بأنفاسكَ العالقة بالفراش والجدران والكتب واللوحات. مازالت أمنا تنظف وترتب وضع السرير بانتظار عودتك، وكأنك ستأتي الليلة، مازالت تمد ذراعيها المغضنتين الواهنتين نحو سماء الغروب الكالحة عقب إتمامها الصلاة، وتدعو الحكيم الجليل القدير أن يحميك، وأن تكون في تلك اللحظة هني البال قرير العين، ثم تحصّنكَ بعلي بن أبي طالب داحي باب خيبر وماحق الجن وحاضر الشّدات، مازالت تبكيك في مسك ختام الأدعية الطويلة الذليلة .

* * *

في عصرِ ذلكَ اليوم الذي ظهرتْ فيه المرأة الغامضة، استعرتْ وحشته وشعر بتوقٍ جارفٍ جعله يسرع قاصداً دار أهله القديم. وجدَ البابَ مفتوحاً. استوقفتهُ نخلة أبيه الشاهقة، فسكن نحوها للحظات قبل أن يرمي خطاه ليجتاز الممر الإسمنتي المؤدي إلى ظلال الطارمة، لينعطف دالفاً من خلال الباب نصف الموارب إلى غرفتهما القديمة الغارقة بالعتمة والبرد والسكون. تهالك منهكاً على السرير. واستلقى مسترخياً مسدل الأجفان. لم يسقط في الغفوة، إذ كان مرهف الحس والسمع، شبه مخدرٍ يتسمع أصداء خطواته ورنة ضحكاته وصدى صوته المتردد بين الجدران. تلاشت الأصوات القديمة على وقع خطواتٍ متمهلةٍ تدنو من باب الغرفة، يلاحقها حفيف ثوبٍ يخط ماسحاً البلاط. أحسها تجتاز العتبة وتقترب من أقدام السرير المعدنية. ليس بمستطاعه مباعدة أجفانه المطبقة، ليس لديه الطاقة على الكلام. كان مستسلماً يعبُّ من أنفاسِ الغائبِ المسكرة النائمة في نسيج الفراش، من عطره الذكي. ازداد وقع الخطوات وضوحاً، قبل أن يتلاشى إلى جواره. فسحة صمتٍ قصيرةٍ، وانسكبت عليه أنفاسها المضطربة وصوتها الحزين المصحوب بوقع خطاها الذي تعالى مرة أخرى، وهي تروح وتجيء بحدود قامته المشلولة في الفراش وكأنها تكلم نفسها:

- ماذا ألمّ بك يا بني؟! دوختك الدنيا يا بعد روحي وعمري. ماذا ألمّ بك.. ماذا؟!.

وشعر بغطاء يلقى عليه بحرص وهدوء شديدين. سربهُ الغطاء الساقط في نومٍ عميق .. عميق.. نوم صافٍ يشبه الموت لا أحلام فيه. استيقظ من رقدته. لبث مستلقياً دون حراك ينصت لنشيجٍ متقطعٍ مخنوق يتناهى من المدخل المفضي إلى المطبخ. يصاحب آهات صوت المطربة "وحيدة خليل" المنطلق من مذياع الجيران وهي تهدهد وليدها:

(يمه يا يمه هبْ الهوى وإفتكتْ البابْ

حسبالي ييمه خشتْ أحبابْ

أثاري الهوى والبابْ جذابْ)

أنطفأ صوت المغنية، فأنفردَ النشيجُ واضحاً متقطعاً بهذيانٍ خافتٍ شجنٍ، تعاتبُ فيه البطن والذراعين، النهدين والحليب مندمجة بلحظات تخلقهُ في الأحشاءِ. خلدَ دون حراك بائساً مخذولاً يحدق في الجدران المرطوبة المتآكلة الآجر، في صفوف الكتب الصامتة المرصوفة على أدرج المكتبة، رائياً بصمات أصابعه مطبوعة على الكتب، والجدار، وزر الضوء، والمنضدة، ومقبض الباب، والشباك؛ شاماً عبق رائحته في كل أشياء الغرفة. استدار بعنقه دون أن يحرك جسده نحو الحاجز الخشبي، ليرتحل في اللوحة الزيتية الكبيرة التي تشغل مساحة الحاجز الفاصل بين غرفتهم المشتركة هذه وغرفة أبيه، والتي رسمها في أخر عطلة صيفية له في المدينة.

ارتحل في حشود نسوةٍ يندبنَّ لاطمات صدورهنّ العارية الممزقة الدامية، نسوة محبوساتٍ خلف أسلاك شائكة تستدير بشكلٍ بيضوي يجثم في مركز اللوحة تماماً، في سمائها الشاحبة الزرقة المندمل أفقها البعيد بليلٍ حالكٍ يطبق مؤطراً كائنات الزيت، في أيادٍ مجروحةٍ مسلوخة الجلد، ممدودة من الفتحات الضيقة بين تشربك الأسلاك الصدئة، أيادٍ نازفةٍ تومئ إلى أشلاء قتلى متناثرين على تراب ساحة تغور بعيداً حتى الأفق المغبر الزرقة. ساحة مضاءة بأنوارٍ شاحبةٍ، كامدة الصفرة تترذذ من شموسٍ ذابلةٍ مسلولةٍ وأقمار باهتة. جفلَ متجمداً، حينما أبصرَ الضحايا تنهض من رقدتها، قائمةً بأشلائها الممزقة، نازفةً يتدفق دمها القاتم أنهاراً. أنهاراً راحت تسيح مغطيةً تراب الساحة، وتنحدر متجمعةً في حوافها المحصورة بالإطار.

هدرَ الدم الفائر واندفع فائضاً من زاويا اللوحة جارفاً بمجراه حشود النسوة عاريات الصدور، الطافيات اللواتي بدأنَ بالندب واللطم وتقطيع الشعور وخرمشة الوجنات والأثداء المرتجة من الردس وهزّ الصدور، ثم تقدمن صفاً متشابكاً نافذاتٍ خلل الأسلاك الشائكة، مقتربات من قيامة الأجساد المقطعة الميممة شطر الأفق المسلول. انفضَّ اشتباك النسوة عندما بلغن الجموع النازفة، فجعلنَّ يرتمينَّ نحو مواضع النزف ويطلينَّ بأكفهنَّ الوجوه والبطون والنهود واستدارات الأفخاذ. أزداد صبيب الدماء شدةً، فغطى فسحة الغرفة مغرقاً أقدام السرير. بالغ في تكوره المذعور وعويل النادبات يختلط بخرير الدم القاني المنهمر ويتخافت رويداً .. رويداً مع ارتفاع الدم الحار واقترابه من أمكنة الانهمار من حافات اللوحة السفلى، معقود اللسان يحملق دون أن يطرف بالسائل القاني الحمرة، وهو يصعد ملامساً حافة درج المكتبة وينزّ مبللاً محيط السرير، وينقع أطراف الفراش.

انزوى في طرفِ السريرِ معتلياً المسند المعدني ودفء السائل تمس أطراف قدميه المرتعشتين. تطوى .. وتطوى غارقاً بصراخ الندابات، اللواتي غادرن اللوحة عائمات مع الكتب الطافية على نهر الدم، الذي بدأ يفور ويرتفع غامراً قدميه. انتفض واقفاً على مسند السرير، متشبثاً بالحائط والسقف والدم الفائر يرتفع ويرتفع غامراً الركبتين والفخذين والحوض والبطن والصدر والرقبة بسرعة متناهية، ليتباطأ عند ملامسته حافة الحنك، ويبدأ الصعود بروية ليبلغ الشفة السفلى. تذوق طعمه الحار الفريد، فانتفض مطلقاً صرخة مدوية، اختنقت في حنجرته ولم تغادر الفم المختنق بلزوجة السائل المتدفق بغزارة نحو الأحشاء. انتفض ثالثة، فعام في فضاء الغرفة للحظات، قبل أن يسقط على السرير مخطوفاً، يحملق بعينين مرعوبتين بكائنات الزيت الساكنة، الغارقة في عتمة الحجرة وسكونها، والمنصتة للنشيج الخافت المتسلل من المطبخ. عبَّ نفساً عميقاً من هواء الغرفة الراكد ونفض رأسه ثم اتكأ إلى الجدار البارد وأجال بصره في الجدران المزينة بلوحاته وتخطيطاته؛ نساء عاريات بزغبهن الناعم، يتخذنَّ أوضاعاً مثيرةً، بقاماتهنَّ الرشيقة، وتدّور الأكتاف والأفخاذ والنهود والسيقان، رسوم بالفحم على ورقٍ ناصعٍ، مرتب بمسافات متناسقةٍ، تفصل بينها لوحات زيت صغيرة الحجم لنساء تعاني آلام المخاض، وتحملق بعيونها المظلمة عبر أسلاكٍ شائكةٍ صارخةً صراخاً هلعاً تقشعر له الأبدان.

على الجدار الأخر عشرات من كائنات الفحم المبهمة الأشكال، الصارخة، الحالمة بالطيران، أو المرمية في القيعان، مسلوخة الجلود، موردة البشرات. تاه بصره في غورِ دربٍ ضيقٍ يضيع بدوره في سحيق سواد اللوحة. يسير في وسطه رجل وامرأة عاريين يسحبان طفلاً هو الأخر عارياً؛ صُوّروا من الخلف بالأسود والأبيض. تتبع الدرب الذي يبدأ عريضاً ثم يضيق ويضيق إلى أن يستحيل وسط مجاهل الدكنة إلى ما يشبه اختلاط بقايا الغسق بحلكة الليل. فوق اللوحة هذه تلكأ نظره على صورته الفوتوغرافية داخل إطار خشبي كبير، وإلى أثر صورة رفعت من جواره. رنا إلى وجهه القديم طويلاً، بقسماته البريئة، الناصعة، والتي بدت خابية، وكأنها تستشعر وحشة صورة أخيه، التي رفعتها العائلة بتوصيةٍ منه، حينما اختفى خشية وقوعها بأيدي رجال الأمن.

تصفح قسماتِ أبيه المحدق للناظرين بعينيه الجاحظتين الواسعتين العميقتين القويتين. تلوى لوعةً وهو يستذكر لحظات احتضاره في عربة الإسعاف، مات كمدا. فمنذ أن أعلمه قلبه بالفاجعة في لحظة سكرٍ، جعلته يحبس نفسه ثلاثة أيام كاملة بلياليها ونهاراتها، يلطم ويهذي وينوح ولا يقرب زاداً، منذ ذلك الحين زهد في الكلام، وصار لا يشارك بحديث إلا عند الضرورة. يزجي الوقت بين غرفته المتطرفة المطلة نافذتها على الحوش والحديقة، يعني بمزروعاته ونخلته يسقيها ويشذبها ويطيل التأمل في سعفها المبسوط في ضراعة نحو السماء. كان واثقاً من مقتله عكسنا جميعاً، رغم أنه لم يبعث لرؤيته مرة وقت اختفائه، لذا فعندما أبلغوه لاحقاً بإعدامه لم يهتز، أو ينهار، ظل رابط الجأش رصيناً رزيناً ملازماً صمته العنيد، لكنه بدأ يهزل إلى أن تغّورتْ ملامحه وشاخت، وما لبثَ أن تدهور ذاوياً يكتم أنينه طوال الليل ويتجلد في الصباح.

وفي صبيحة يومٍ ماطر وجدوه يحتضر بصمتٍ في غرفته. تذكر كيف كان ينحني فوق رقدته على سرير عربة الإسعاف المسرعة النائحة بصوتها الموحش، وهي تقطع الشارع الواسع المشجر الرابط بين حي العصري ومستشفى الديوانية الجمهوري. يعدل وضع الشرشف الأبيض الذي ينزلق بين لحظة وأخرى، ويحبس نواحاً ابتدأ يفور في أعماقه، مع تصاعد أنين أبيه الذي تورد وجهه بغتة وهدأت حركته، وراح يرمقه بعينين مخضلتين ويهمس:

- أين كفاح.. لماذا لم يحضرني؟!

قالها وصبَّ دمعه. مسحَه بمنديله وهو يغالب عبرةً تكاد تنفلت مردداً كلاماً محفوظاً عن الصبر والاستعانة بالعزيز الحكيم. في تلك اللحظة والإسعاف تلج بوابة المستشفى العريضة أسلم أبوه الروح.

هاهو يرنو إلى جلسته ويطليه بصفاء نظراته القديمة. خنقته الغصة. أطلق حسرةً، واعتدل دافناً وجهه براحة كفيه. لبثَ جامداً مستسلماً لأقصى الحزن حيث ينمحق الإنسان فلا يفكر بأي شيءٍ على الإطلاق. انتشلته وقع خطاها وصوتها الأنيس:

- كيف حالك يا بني؟

- رمقها من بين أصابعه. قامتها الممشوقة بثوبها الطويل الأسود الفضفاض، شالها الناصع البياض، يضفي على قسماتها الصارمة مزيدا من المهابةِ، ومزيدا من الجمال. كانت حزينة منتظرة. أنزل ذراعيه وارتكز عليهما عند نهوضه. خطا نحوها بإعياء ليرتمي إلى صدرها الدافئ. مسحّت خصلاته المعروقة بأناملها الطويلة، وأمعنت في ضمه. شمَّ في أنفاسها ذلك العبق الآسر القديم المعجون باللحم. لبثا زمناً متعانقين، متداخلين وسط عتمة الغرفة الباردة، وكائنات الزيت وأنفاس الغائب المنبثة من أشياء المكان. فلّتْ ذراعيه الواهنتين وأخذته إلى الغرفة الأخرى. أجلستهُ على البساطِ الأزرق وظاهرتْ الجدار. رغبَ بالخلودِ في حضنها فتمدد. ضمتْ رأسه في حجرها الدافئ، وراحت تهدهده بتنويمتها الحزينة مثلما كانت تفعل في طفولته:

- (دِلِللولْ.. دِلِللولْ.. يالولدْ يبني دِلِللولْ

- عَدوكْ عَليلْ وسْاكِنْ الجول

- أني من أكول يمه

- يطيح قلبي يمه)

- أنصتَ إلى النبرة الحزينة المتروية مطمئناً في الحجر الودود، ناسياً وحشة العمر والأيام، وهبط درجة .. درجة إلى سنةٍ أخذته عبر طلاوة اللحم الساخن الأليف اللصيق عائدةً به إلى بحوره الأولى، فخاض في يمها الدافئ الممتد إلى آبادٍ لا متناهيةٍ، غائراً في الأعماق العذبة الأمينة، باحثاً عن شريكه الضائع في مناحيها المجهولة، فرآه ينبثق من عتمة الأعماق صغيراً نحيلاً، ويسعى نحوه إلى أن أعتنقه في خضم ماء زلال، ماء التخلق، التحما في شفافية السائل الأبدي وتقلبا، انفصلا وتماسكا، مالا واعتدلا، تماسكا بالأكف، وساحا في تيه المحيطات الشاسعة إلى أن ألقت بهما في ظلال جامع سوق" الديوانية" الكبير في سوق البهارات القديم. يجلسان لصق جدار قاعته العالية والواسعة في ظهيرة من ظهائر تموز الفائرة. يتأملان بصمت أقواس الزخارف والحنيات وعناقيد ثريات الكريستال الضخمة المدلاة من السقف، وينصتان إلى دوران ريش المراوح السقفية، ولغط المصلين المتناثرين بأرجاء القاعة الفسيحة، بنوافذها العالية، وأرضيتها المفروشة بالسجاد الفارسي الوثير.

يندمجان رويداً.. رويداً في السحر المنبعث من تلوي زخارف الأعمدة الرخامية المتقابلة، من تدرجات تيجانها الساندة سقفها المحشود بخطوط كوفية لآيات قرآنية، من حفيف أردية المصلين القائمين القاعدين الراكعين الساجدين، من لغطهم المبهم الرتيب، من كرسي المقرئ الخشبي الفارغ بدرجات سلمه الثلاث، والموشح برداء أسود، ينسدل معانقاً زخارف السجاد. من المحراب الحافر أسفل الجدار جهة القبلة، من كسر شظايا الشمس المتسللة من النوافذ ومناور السقف والساقطة على السجاد والجدران وظهور المصلين واستدارات أسافل الأعمدة. يغادر موضعه مخترقاً الظلال، وبقع الشموس، ولغط المصلين وهم يركعون ويستقيمون ويسجدون منشغلين بشؤون ربهم الذي يكاد يراه في فضاء الجامع.

يتناول بوجلٍ من رفٍ مثبتٍ بالجدار المقابل قرآناً مصحفاً، ويعود سالكاً ذات الفجوة التي فتحها مروره خلل غلالة الأشياء. يهبط متربعاً إلى جواره. يقلب الكتاب بأناة. ينتقي آيةً ويشرع في التجويد الخافت بنبرته الخاشعة المتهدجة الورعة، في فسحة الراحة بين آية وأخرى، يلتفت إليه ملقياً نظرة سكران بالحروف والمعاني، فيجده مستكتفاً يضم ساقيه إلى صدره، ممعناً في تطويه حتى يستحيل جنيناً، يصغي بذهول مسحوراً بسجع الكلمات الصعبة، على مدارك من لم يبلغ سن المدرسة بعد. يفرغ من التلاوة. يجلب كتاب الأدعية السجادية. يختار دعاء الممتحن المحاصر المهدد الذي ليس له سند غير الله، يرجو النجاة من عقاب أبيه الصارم. يلحّن إيقاع الكلام المتذلل، جاراً أحرف التوسلات بصوتٍ يتهدج، حتى يختنق في العبرات التي تنسكب. يقفل الكتاب ويلتفت إليه فيجده يصّبُ دمعاً غزيراً. ينتبه من وجده فيسارع مكفكفاً ساخنه بِكَم قميصه ويسأله:

- هل ستخلصنا الأدعية من عصى أبي؟!.

- فيردد بصوتٍ منكسرٍ:

- إنشاء الله.. إن شاء الله!.

- ويرفع ذراعيه بالدعاء ناظراً إلى رقعة السماء الصافية الزرقة الظاهرة من منور مخروطي محاط برسوم طيورٍ بيضاء وأزهار ملونة موشومة في جسد السقف، لكن هيهات لم تفعلها تلك الأدعية مرةً واحدةً .. لم تفعلها وتجعل أباه سَمِحَاً.

- آب من رحلته مباعداً أجفانه فوجدها تحنو عليه مائلةً بجذعها فوقه ترمقه بحنان:

- نوم العوافي .. كيف حالك يا بني الآن؟.

- استند على كفيه ونهض منفصلاً عن دفء الحجر وطلاوته. اتكأَ إلى الجدار. أصبحَ قبالتها تماماً. أمعنَ التحديق في ثنايا غضون وجهها وظاهر كفيها الطافيين على ماء السجادة السائح. وثبت ناظريه في عينيها، خائضاً ببحريهما البنيين الساكنين أول وهله، والمرتبكين لطول الصمت والتحديق، فجعلتا تطرفان وكأنها أدركت بحدسها ما يعنيه هذا التملي الطويل وما يحملهُ من أسئلةٍ، فشردت بعينيها إلى رقعة سماء الظهيرة القائظة المرئية من خلال باب الغرفة المفتوح على الطارمة والحديقة الصغيرة.

- أمي!.

- ها يمه..

- أين صورته التي كانت معلقةً في الإطار إلى جوار صورتي؟!.

- - ..!.

- مذهولة، مصبوبة بالصمت والتوتر، تتناهبها الحيرة والأسئلة، عن سر اهتمامهِ بها بعد كل تلك السنين الطوال.

- لماذا تسكتين يا أمي؟!.

- - ..!.

- ظلت تدور في صمتها حائرةً بم تجيب؟ فلو أدعت أنها مزقتها سيجلب له الجواب مزيداً من الحزن والألم، ولو قالت له أنها مخبأه سيطالب بها فتضطر إلى تسليمها له مما سيستعر تباريحه ويفاقم وضعه. كانت ترزح تحت حصار خانقٍ، وتتشاغل بالتحديق نحو شمس الظهيرة، التي تسللت إلى فسحة الطارمة، متذكرة تلك الليلة القائظة البعيدة، التي قضتها معه في صحن سيد "إدريس" في "الكرادة " في بغداد. ليلة كانت الأخيرة. لم تره بعدها قط. كانت حالكةً لا قمر فيها، باهرةً بأنجمها الثاقبات المتدليات فوق حشد ذكر دراويش الطريقة القادرية، المحتلين زاوية الصحن القصية، والذين شرعوا بعد انتصاف الليل بقليل في قرع الطبول وضرب الدفوف والتمايل الخفيف والترديد:

- الله حي.. الله حي.. الله حي

إيقاع مخّدر يتصاعد إلى ذروة الوجد. صراخ أجوف ينطلق راشقاً وجه الليل البهيم.. مـــــــــــــدد.. مــــــــــــــدد.. حــــــــــــــــــــــــيييييييييييييييييي.. من الحلقات الدائرة حول محورها، والتي تنحني تارة حتى تمس الصدور العارية بلاط الصحن، وتنتفض في أخرى قافزة وهي تصرخ في الهواء، دون أن تفك اشتباكها مما جعلهما يأرقان حتى انبلاج الفجر، كان يهمس لها:

- يمه تعرفين الكثير من هؤلاء الدراويش هم رجال أمن!

- معقولة يمه

يهمس:

- أي يمه معلومة مضبوطة، لذا هذا المكان من المستحيل يتوقعون يبات به شخص مطلوب!

فتصمت مفكرة بحكمته وذكائه، وتأسف لتضييع نفسه في السياسة، لكنها لا تستطيع قول شيء، لا تستطيع جرحه، فهي تعرف عناده منذ الطفولة.

يسهران حتى فضة الصباح، وصمت الدفوف والطبول والأصوات.

في زاوية منفردةٍ عن جموع الزوار المتناثرين في فسحة الصحن، دنا منها وهمس بأن تتلف كل صوره له، حتى لا تقع بأيدي رجال الأمن. رفعتها من الإطار فور عودتها ذلك اليوم إلى الديوانية. همّت بتمزقها لكنها أحست بألمٍ في قلبها مثل نذير. أحست وكأنها تنفي وجوده. ظلت أياماً تحاول تنفيذ وصيته، لكنها لم تستطع أبداً. ففي كل مرة يعاودها ألم القلب مثل دبوس يغرز فيه فتأخذها الوساوس والمخاوف، فقررت أن تقصد وليها في النجف يوم الخميس في زيارة مخصوصة لفرج كرب قلبها عليه. أمسكتْ بشباك الذهب وسط زحمة الزوار، قبلته وبللته بدمعها وهي تفضي لروح النائم في الأعماق، في الضمائر، أمامها القريب علي بن أبي طالب بهمها الثقيل وحيرتها، فهدأ قلبها واستكان قليلا. آبت من الزيارة لترتب لصورهِ مكاناً أميناً بين طيات كفنها الأبيض المخبوء في عتمة صندوق عرسها القديم المصنوع من الصاج المتين. لكن لا رجال الأمن داسوا البيت، ولا هو ظهر منذ ليلة الدراويش في صحن إدريس. ومع تضارب أخباره وخمول ذكره، فضلت بقاءها بين طيات ثوبها الأخير، ولم تفكر بإعادتها للإطار المعلق، حتى لا يكون مصدراً مضافاً للحزن. تركته يرقد مطمئناً في حلكة الخشب، ودأبت على التسلل خفيةً لزيارته في أوقاتٍ اشتداد أشواقها أو في الأعياد، وكأنه مرقده أو مهده، وكانت راضية لنتائج إخفاء الصور، إذ خفف كثيراً على أبنائها وبناتها المحزونين أصلاً بالحروب ومآسيها، وهموم المعيشة الصعبة. ها هو أكبرهم يتذكرها ويسأل عنها. أي أفكار تتناهبه، وإلى أين سيفضي به هذا الشرود المستديم الذي طالما أوجع قلبها، وجعله ينبض جزعاً وخشيةً وهي تراه جهماً سادراً أو تعثر عليه غافياً على سرير الغائب.

- أمي لم تصمتين .. أمي؟!

- ..!.

- قلت أين الصورة؟.

- ..!.

- الصورة.. الصورة.. يا أمي!.

أدكنه سكوتها الطويل وأثقل قسماته فأحسها خاويةً، بائدةً مما أوهن بصره، فعاد لا يستطيع التحديق في تضاريسها المحزونة، التي تماسكت مستعيدةً رزانتها القديمة. نكّسَ رأسه محملقاً بذهولٍ في بحرِ السجادةِ الزرقاء السائح، خائباً، مطعوناً، فارغاً من كل شيء. وبينما هو ينوء تحت وطأة شعورٍ بالعجز والخواء أحس بكفيها يحتويان وجهه الناضح، ويعدلان رأسه من إطراقه المستكين، وصوتها القوي الواثق يطالبه:

- انظرْ إلى عينيَّ يا بني.. انظرْ..

أبحر في عينيها البنيتين الغامقتين، المخضلتين فرآه هناك، في يمها الهائج يسبح مسروراً، طفلاً مرحاً عارياً ويصيح باسمه بصوت عالٍ شديد الوضوح ثم راح يضيع بغشاوة دمعه الذي أنصب كانت تردف:

- الصورة مخبأة بمكان أمين.

ارتج بين يديها.

- أين يا أمي؟ أين هي؟ أريدها الآن .. الآن!.

- ...

رمقته طويلا.. ممعنةً في تأمل لهفة روحه المرفرفة، شحوب وجنتيه الناحلتين، انتظار عينيه المنكسرتين، أصابعه الناحلة الطافية على السجادة مفكرةً فيما قد يسببه هذا الوله المجنون من مضاعفات على وضعه التعبان أصلاً، وهو العائد من جبهات الحرب الطويلة مع إيران.

قالت:

- ألتزيد من عذابك يا بني؟!

- ...

خاضت بكفيها الواهنتين حتى قاع السجادة وأنهضت قامتها الممشوقة مطلقة حسرة طويلة، استدارت متجهة نحو السلم الظاهر من باب الغرفة المفتوح على باطن الدار. تابعها وهي تتمسك بسياج السلم الحجري، وترتقي بعناء درجاته العالية إلى أن غيبتها فسحة استدارته المؤدية إلى سلالمه، الصاعدة إلى فسحة ضيقةٍ تنتهي بباب غرفة العلية التي يستخدمونها كمخزن. ساد صمت قصير ثم تعالى أزيز باب خشبي يفتح فانتشرت رائحة غبارٍ خانقة في أرجاء الدار قبل أن يظهر مرئياً بذراته المتراقصة في حزم ضوء النافذة. أسره روح الغبار المتلاطم في شلالات النور المخروطية وشدهته حركة العشوائية فانفصل للحظات عما يجري مفكراً في كينونة الغبار المبهمة ووشائجه الخفية الرابطة هذا العدد اللا متناهي من الذرات الدقيقة الدائرة المهتزة المتداخلة في حلقات الضوء الساقطة حول عتبة الباب، متسائلاً عن معنى وجودها. هل لها أحزان كأحزان البشر، أم إنها مرمية بلا معنى في فراغٍ سرمدي تمارس عبث وجودها في الكون بلا مبالاة.

عند هذه النقطة من التفكير حسدها، حسد مطلقها السعيد وتمنى لو يستحيل إلى ذرةٍ منسيةٍ في مخروطٍ منسي مثل تلك الذرة الحائمة التي لم يكف عن ملاحقتها دون غيرها، منذ حين إلى أن غارت في حافة حلقة الضوء. فاء على صوت أقدام تهبط على السلم، فرمى بصره إلى جزئه المرئي من جلسته منتظرا،ً فظهر أول ما ظهر على أخر درجةٍ أذيال ثوبها الطويل، ثم تترى السواد المخرم بالورد، قدماها، قامتها الفارعة، كفها اليمني ماسكة بالصورة، ثم وجهها الحزين وهي تهبط الدرجة الأخيرة وتستدير نحوه.

أبصر قسمات أخيه القديمة حائلة اللون تهتز بين أصابعها المرتعشة، فهرع نحوها ينقل نظراته الملهوفة بين الصورة ووجهها الحزين. وضعتها بحرصٍ شديدٍ على راحةِ كفه المبسوطة. استكنتْ براءة القسمات والبسمة العذبة التي أسرتها عين العدسة وجمدتها في الورق. رفعها إلى شفتيه. قبلها. شمها فهجمَ عليه عطره العبق. عطر غرفتهما المشتركة. العطر نفسه الذي شمهُ وهو يرسف بالأغلال معصوب العينين ساقطا في ظلمة القماش، في حوض عربة سيارة النقل العسكرية. عبقٌ ينبعثُ من جسدٍ لصيقٍ به، وهم ينقلونه إلى ساحة الإعدام.

خبأها بأناة في جيب القميص. ركع على ركبتيه جوار السلم. تلقف كفيها المنتفضين. مسّح وجهه بهما مرددا:

- شكراً أمي.. شكراً.. شكراً!.

أنهضته. أخذها بين ذراعيه وراح يبوس جبهتها عينيها وجنتيها المعطلة بالألم قبل أن يستدير مغادراً الدار قاصداً أقرب بار. لم يخرجها من جيبه طوال الجلسة مستمتعاً بخدرين خدر الخمر وخدر خاطر الصورة المخبوءة في جيب القميص عازماً على تكبيرها لدى أفضل مصوري المدينة بحجمٍ يناسب جدار في الغرفة.

رجع في ساعة متأخرة يترنح بمشيته، متمسكاً بالحيطان الملساء تارة ويتعثر ساقطا على الرصيف تارةً أخرى في سكون الليل الأملس الملتهم شوارع المدينة الخاوية.

* * *

ظل يجلس في غرفة البيت المنزوية، إزاء صورته المعلقة بالجدار والمحاطة بحشد لوحات بقلم الرصاص خططها الغائب في فترة اختفائه لوجوهٍ بشريةٍ مذعورةٍ صارخةٍ تعاني من عذابٍ أليم، وأجسادٍ عيونها حفر معتمة تثقب بياض الورق. ونساء عاريات يتحممن بأوضاعٍ مختلفةٍ. وغزلان برية رشيقة وادعة تفترش العشب في برارٍ شاسعة تلتحم ببياض أفق الورق. يجلس كل يوم إزاء إطلالته الأبدية على ثوابت الأمكنة في هدوء الليل، عند خلود الزوجة والأطفال إلى النوم. يجلس مبحراً في تيه أحلام الغفوات المتقطعات المختلطات بأحلام اليقظة وهواجس التوقعات. يجلس كل يوم ليستحضر كتلة الغائب بتضاريسها الحية، ويحرك أبدية البسمة المحنطة، فتتحول إلى ضحكةٍ طويلةٍ ترنّ في نوافذ نفسه الدفينة. يتوغلُ في فيافي العينين البنيتين الرانيتين إلى شروده وهما تبوحان بمحبةٍ اغتيلتْ في أول صباها. محبةٌ تفور في الضوءِ الأبدي اللامع في جمود الورق الحساس.

بين غفوة واستيقاظ يقضي الليل ملازماً كرسيه، ترفرف في أطيافه البسمة التي رافقته مخففةً من صعاب أيام جبهات القتال، بملاجئها وقتلاها ورعب أوامر ضباطها، وأيام الاعتقال المهولة في أقبية مدفونة في ظلمات باطن الأرض، وسط أعداء وأصدقاء عاشرهم في الجندية وحرب العصابات في الجبل، في القطارات النازلة والصاعدة في ليل الجنوب الحزين، في المحطات وقرى الحدود المزدحمة بالمهربين والسياسيين الهاربين والدجالين والجواسيس. ينود في جلسته حتى تسلل خطوط الضوء الباهتة من النافذة المفتوحة على ساحة الدار الواسعة، فيؤوب من غمار أسفاره المضنية، متشوفاً لما تخفيه امرأة الغبش من أسرار. المرأة التي شغله حضورها اليومي الخاطف بملامحها العصية على التذكر، ورائحتها المدوخة، ونظراتها الجانبية الآسرة، قبل أن تختفي في المكان والساعة نفسها، نادماً ندماً شديداً تفويت فرصة الكلام معها، وغاضباً أشد الغضب على خرس الذهول الذي جمده صبيحة البارحة لحظة دنوها منه، حتى كادت أن تمسه بعباءَتها. أربكه جمال قسماتها المتناغمة المتجسدة في دنوها الخاطف، مما جعله لا يستوعب كلامها الخافت رغم وضوحه. لم يستوعب ما قالته رغم أنه أحرزه. لم يستوعب إلا بعد غيابها في الضباب، إذ كان لا يتوقع أبداً أن يكون متعلقاً بأخيه الغائب:

- كفاح.. كفاح أخوك؟!.

أيقظته رنة الاسم من خدر الذهول، فلعن روحه التي تبهت كلما وقع بصره على وجه جميل، يضيعها في مسارب العسل، فتغوص بلذة النظر سكرانة عن فحوى المعنى والكلام.

- ما الذي قالته هذي الجنية البارحة عن حبيبي؟!.

لم يبارحه السؤال منذ صبيحة البارحة.

- ســــأكلمها .. ســـأكلمها! وحق السماء ســأكلمها هذا الصباح!.

قالها بعزمٍ، وغادرَ كرسيه المركون لصق الجدار، قدام إطلالته اليومية، على مشارفِ الفجرِ الساري خلف النافذة. انسل في حذرٍ إلى غرفة الزوجة والأطفال. عَدّلّ الأغطية المنزلقة عن الأجساد المبعثرة، وانسحبَ دون ضجة خارجاً إلى غبش الشارع الغارق بالضباب، سالكاً دربه اليومي، متوجساً من احتمال عدم ظهورها. وفيما هو يغور في سورة ظنونه ووساوسه، ظهرت طالعةً من رداء الضباب منفصلةً عن حافته الواهية في الموضع نفسه؛ في المسافة المحصورة بين الجسر الحديدي القديم، وبناية محكمة الديوانية القديمة المهجورة. توجهتْ صوبه بجرأة أربكته، فتعثر واختّلَ من سحر الملامح الفاتنة المقبلة المحاطة بحاشية العباءة السوداء. مسّتهُ بطرفِ العباءة المرفرفة على إيقاع الخطو، فعبقته رائحة أنثى برية متوحشة الشهوة، وكأنها حواء طردت لتوها من الجنة، سكرانةً بطعم التفاح والاكتشاف.

- اتبعني.. ودع مسافةً بيننا!.

لم يحر جواباً وكأن الجملة أغرست قدميه في إسفلت الرصيف، فاستحثته:

- هيا .. أسرعْ قبل أن يتبدد الضباب!.

قالتها، وتمهلت بخطوها المتجه، نحو حافة جدار المحكمة المتداعية، نقطة غيابها اليومي المعتاد. انتزع قدميه انتزاعاً، واستدار مقتفياً أَثرها، يتفرس في قامتها الممشوقة المنتصبة خلف أمواج نسيج العباءة السوداء، ملاحقاً اهتزاز رمانتي الكتفين، انتصاب الظهر القائم، تموج منخفض الخصر اللين، وتدوير الورك البارز الصلب المهتز في تمايله على الجانبين مع إيقاع المشية القافزة.

هبط درجات حجرية خمس في الزقاق المحاذي لبناية المحكمة، ظاناً بأنه سيدخل محلة "الجديدة". خاض في وحلٍ مترسبٍ في عنقِ الزقاق الخفيض الممتد طويلاً، حيث تشتبك نهايته البعيدة، بمنعطف أزقة ودهاليز تتوسع قليلاً وتضيق كثيراً، متحولةً إلى متاهةٍ من أزقةٍ لا تمت لـمحلة "الجديدة" بصلة. أزقة ضيقة بيوتها مهجورة، مجرّحة الأبواب، مطعونة النوافذ، تساقطتْ واجهاتها كاشفةً أحشاء الغرف، أسرة نوم مغبرةٍ، خزانات ملابس مفتوحة الأبواب، مبعثرة المحتويات، وساحات بيوتٍ ضيقةٍ وواسعةٍ تتوسطها أحواض إسمنتية معطلة الحنفيات، تتبعثر حولها أوانٍ ودوارقٍ وصحونٍ بلون التراب. كان يوزع انتباهه بين أشياء المكان المتروك وظلال عباءتها المرفرفة على بعد خطوات. مرَّ ببلابل ميتة في أقفاصها المعلقة في سقوف الشرفات الخفيضة وفروع الأشجار، بأبراج طيور مخسوفة السقوف، وأفران خبزٍ مكسرة الآجر، وأسفر خطفاً مع وجوه شبان تطل من إطارات صورها الفوتوغرافية المعلقة بحوائط الغرف الداخلية، رامقةً الأثاث المكسر المغبر والجدران المتداعية ونثار الآجر والجص بعيونٍ مرحةٍ لا مباليةٍ. تَعَجبَ من نفسه أشد العجب، مستغرباً من سهوه عن هذا الخراب الذي أصاب قلب المدينة، رغم مروره الإجباري صبيحة كل يوم في طريقه إلى دائرته الزراعية بعد انطواء أخر حربٍ.

- لكن هذا المكان ليس "الجديدة" أأكون في حلم أخر من أحلام يقظتي؟!

تساءل وهي! يلاحقها تخوض في عمق الأزقة والدهاليز واثقة الخطوات وكأنها تعرف المكان وخبرته.

غابا في عتمةِ دهاليز طويلة مستدلين بخيوطٍ من الضوء ترشح من شقوق بيبان مخارجها التي تنفثهم إلى أفنية عديدة المسالك. كان يتبعها مشدوهاً لكنه شديد الحرص على الاحتفاظ بمسافةٍ معقولةٍ عنها خوف أن تضيع في بواطن مجازاتٍ تكاد تتلاصق جدرانها، أخذتهما إلى قاعات خفيضة السقوف وأخرى عالية، ألقيت بهما بدورها إلى فيء أروقةٍ مقوسة السقوف تنتهي بسلالم تنزل إلى أفنية صغيرة دائرية الشكل. مع زوال دهشته في سيره المتئد خلف العارفة بمتاهات المكان أعمل التفكير طويلاً:

- من تكون هذه السائرة وسط الأطلال؟!

- لم انقاد خلفها انقياد أعمى؟!.

- أبسبب ما خيل إليّ صبيحة البارحة بأنها قالت شيئاً ما يتعلق بأخي الغائب؟!

- نعم.. نعم.. بسبب ذلك.. بسبب ذلك!.

رددَ مع نفسه بصوتٍ كادَ أن يكونَ صراخاً، لكن قد يكون ما سمعه مجردَ وهم أخر من أوهام يقظته، التي استفحلت في الآونة الأخيرة، فأصبح يرى خيالاتِ أشكالٍ تنبثق من الفراغِ والعتمات، تهبطُ من السماءِ أو تطلع من أغوارِ الأرض مكتسية أبعاداً واضحة، ويسرح مع الغائبين والقتلى وهم ينزلقون مغادرين تحنطهم من إطارات الصور الفوتوغرافية، مالئين الأمكنة التي يحّلون فيها بلحمهم ودمهم، حدث ذلك أول الأمر مع صورة أخيه، ثم سرى ليعم صور الأصدقاء والأحبة الذين قضوا في جبهات الحرب وساحات الإعدام، في السراديب والأقبية المهولة. ثم إن الغائب لم يرتبط بامرأة ارتباطاً وثيقاً. صحيح أنه كان يشب وينطفئ عند مرور جميلة فاتنة، ويعكف على استحضارها عارية على بياض الورق، مجسماً تخلّق تفاصيلها الساحرة في خياله، وكان مهيئاً لقصة حبٍ جارفة، لكن عمره اللاهث الراكض سريع الجريان، لم يدعه يتعرف على المرأة المحبة، ليس المحبة فحسب بل على المرأة.

- فمن تكون إذن هذه المتقدمة في قفر فناء شاسعٍ، أنفسح أمامهما قبل لحظات؟.

- من هذي المارقة عباب الخراب تحت وهج الشمس اللاهثة؟!.

- من تكون.. مــــــــــــــن؟!.

- أيكون قد تعرف عليها في سنين تواريه الثلاث في مدن أخرى؟!

هذا جائز، لكن كفاح لم يطرق هذا الموضوع حينما كانا يلتقيان سراً في حدائق بغداد وأزقتها، وجوامعها وأضرحتها المقدسة وفي الحانات، ولم يشر مجرد إشارة إلى وجود امرأة في حياته، لا بل كان يقاوم هذا الوجود الساحر الذي يجسده على بياض الورق مفكراً في الثورة والناس والعدالة، متوجساً من مصيره الغامض في تلك الظروف المضطربة.

في أخر لقاء وفي حانة منزوية في بغداد، حاول فتح موضوع المرأة لجس نبضه، ومعرفة سر الورقة التي عثر عليها صدفةً، عندما كان يقلب كتب مكتبته. تجاهل الموضوع وأسمعه المزيد من أشعارٍ بدأ يكتبها للتو في دفتر رسومه عن الصمود، وزنزانة التعذيب، والوردة والجلاد، والأغاني وحب الناس، مما أضطره إلى الكلام المباشر ومصارحته بالرسالة التي بعثها إلى تلميذة ثانوية كما تبين من سياقها، يرجو منها الكف عن التفكير به، لسبب بسيط هو أنه بلا مستقبل، وينتظر المستحيل. تحاشى الخوض في التفاصيل مكثفاً القصة:

- لماذا تهيج أشجاني يا أخي لماذا؟! وأنت خير من يعرف أن المواضيع العذبة العابرة مصدراً للأسى، وفي وضعي لا أريد أن أتأسى وأضعف، بالعكس أحتاج من يشد من عزمي ويصلب إرادتي، باختصار يا عزيزي إنها زميلة أختنا سلمى في المدرسة، لم أرها لحماً ودماً، رأيتها في صورة ملونة جلبتها أمنا في لقاء قبل شهر موضوعة بمظروف قائلة:

- هذا الظرف من أختك سلمى.

- طبعا مزقتها فور فراقها، شاعراً بمرارة وكأني أقطع قلبي. ووجهها الأسمر المحمص يتحول مزقاً صغيرةً بين أصابعي، مخافة أن تقع بأيدي رجال الأمن في حال وقوعي المحتمل في أية لحظة، وما سوف يجره عليها الأمر من وبال. إنها بنت حالمة علقت دون أن تراني.

- أطلقَ حسرةً، وَرَسَمَتْ سخريةٌ مريرةٌ ملامحه الناحلة وهو يستطرد:

- هل تتصورني زاهداً؟! لا.. لا لم أكن أبداً، بالعكس يا أخي أنت لا تدري بحالي عندما يحاصرني الليل الأحمق، حيث يغيب العقل في النوم والأحلام، ويسهى عن الواقع الذي أنا فيه، فتشتعل الرغبة وتشب بي الشهوة إلى السماء، فأصرخ بصمتٍ متلظياً، لأنساق في دروب الخيال عابثاً معانقاً مداعباً نساء مخيلتي الضاجة، والتي تتجسد شبه حية، وكأنها تجلس جواري فنشبع لمساً وعناقاً وتتلاشي مثل دخان وتتركني بائساً. أترك الموضوع يا سلام أترك وخبّرني عن الحال والأحوال .. عن أخبار الأهل والأحباب وديوانيتي!

- مازال يلاحق امرأة الفجر الغامضة المتوغلة في فناءٍ مشمسٍ واسعٍ، متجهةً صوب أبنية واطئة قديمة، لاحت في نهايته كأنها قامت للتو من أحشاء التراب، بحيطانها الحائلة المتآكلة الآجر، ومداخل أزقتها الخاوية. يخطو سادراً في أثر العباءة الخافقة بريحٍ ابتدأت بالهبوب من الشرق. يخطو مفكراً يقلب القصة والتفاصيل فتذكر تلك الصدفة النادرة التي أتاحت له اللقاء بصاحبة الرسالة. كان ذلك بعد مرور سنةٍ واحدةٍ على تبليغ السلطات بإعدامه، أي في عام 1984. في المساء الحزين ذاك كان عائداً من مأمورية عذبته عذاباً أليما، وكلفت نفسه الكثير. صعد دائخاً مثولاً السيارة الـ o m النازلة جنوباً إلى الديوانية والمكتظة بالجنود اللاغطين العائدين في إجازة من الجبهات. تمهل عند حافة السلم قرب الباب المفتوح مغموراً بالأنوار الخافتة المنصبة من مصابيح سقفها المعدني الملامس "بيريته" الغامقة الزرقة. يبحث دون تركيز عن مقعدٍ فارغٍ. كان مشدوهاً برسم الجندي الحزين الذي سلمه في الصباح الباكر إلى حراس المحكمة العسكرية الخاصة في معسكر الرشيد، مشغولا بهلع وجهه الأملس المذهول، بعينيه المذعورتين المتنقلتين بين وجهه ووجوه القضاة الصارمة. بعينيه اللتين خوتا لحظة تلاوة حكم الإعدام من فم عقيد مفرط السمنة، بارد النبرات، مطرز الصدر بالنياشين والأوسمة.

لَعَنَ ضابط وحدته الذي أمره بتنفيذ مهمة إيصال الجندي السجين وتسليمه إلى المحكمة، كان يأكل نفسه شاعراً بتأنيب ضميرٍ حاد، وكأنه هو من دفع بالجندي إلى ساحة الإعدام لا القوانين العسكرية الصارمة زمن الحرب. وقفَ ساخطاً على وجوده ينظر إلى صفيّ المقاعد الخشبية المشغولة بالجنود ولا يرى، شارداً من ذلك المساء البارد الموحش، من المدن والأحلام، من الآتي، من المجهول. وبغتة انتابهُ وهنٌ حلَّ مفاصله. وهنٌ مصحوبٌ بتقزز من حديد بندقيته البارد الذي لامس ظاهر كفه العارية. في اللحظة تلك سمع صوت أنثى تنادي باسمه. التفتَ بلا اهتمام نحو وجهٍ معتمٍ ينزوي في ركن مقعدٍ خلف مقعد السائق يسع لنفرين، وجه تضيّع ملامحه ظلال نور مصباح الجادة الكائنة خلف جلستها:

- أهلاً سلام.. أهلاً أقعد هنا!

- وأشارت إلى المقعد الفارغ جوارها. كان معقود اللسان، مرتبكاً، يلاحقه ويشله طيف الجندي، وملامحه التي شوهها الرعب، وحوَّل العينين إلى حفرتين حالكتين تصرخان بالفجيعة، وهما تبحثان عن موضع وقفته قبل أن يغيبونه خلف الباب الخفيض الموصل إلى ساحته الأخيرة. تمنى طوال الطريق من معسكر الرشيد حتى كراج العلاوي أن يجلس على مقعدٍ لصق الزجاج جوار شخص لا يعرفه يحدق في صمتِ الظلام الذي ستطويه العجلات، لكن المقاعد كانت مشغولة ماعدا قلة. لم يجد بداً من الجلوس فهبط جوارها، وأطرق يحملق بكتل الطين اليابسة المتناثرة في الممر وبين المقاعد، معطل الحواس، منفصلاً بالتمام عمن حوله، يفكر في عبث الوجود البشري الهش، فجملة قصيرة أطلقها عسكري سمين متجهم شطبت عمر فتىً بهي الطلعة ظهيرة ذلك اليوم في غرفة مختنقةٍ بروائح أردية العسكر والشاي المحروق والدخان. كان منطفئاً في مقعده لحظة تصاعد زمجرة محرك الـ o m الصاخب وضجيج الجند. وقليلا .. قليلا أعاده عطر بري هبَّ من جواره. عطرٌ أنثوي آسر أخرجه من دوامة الأسئلة والمصائر والأفق المسدود بالحرب والأيام الثقيلة، فجعل يعب منه، متذكراً أو هكذا خيل إليه أن الجالسة جواره نادته باسمه. كان العتمة تعتم ملامحها السمراء، لكن يستطيع تمييز زيها الجامعي الموحد وقتها؛ قميص أبيض، وتنورة غامقة الزرقة طويلة، وسترة زرقاء. وجدها ترمقه بعينين حالمتين نصف مغمضتين وفي وجهها انتظار:

- من تكون يا ترى؟!.

- تسائل مع نفسه وتفرس في ملامحها:

- من تكون؟!

- رنَّ السؤال ثانيةً، وهو يبحر في القسمات الغارقة بظلال مصابيح الجادة المارقة خطفاً خلف زجاج النافذة الساند ظهرها المنتصب وهي تميل صوبه. انتظر تغير انعكاس الضوء عند استدارة قادمة منار وسطها مما سيسمح له برؤية قسماتها بوضوح، على ضوء المصابيح التي ستسقط لا محالة قويةً من خلف ظهره. عند الاستدارة والضوء تباغت ببشرتها السمراء، وتقاطيعها الجميلة المنحوتة بدقة، المتماسكة والمشدودة وكأنها فخرت لتوها بالنار.

- ألا تتذكرني؟!

- - ..!..

- تلكأ في الإجابة مرتبكاً:

- من المؤكد إنك لا تستطيع!

- معذرةً.. لا أدري ماذا أقول؟!

- حقك.. كنتُ أراكَ تدخل غرفة الضيوف في بيت أهلك بالحي العصري .. تلقي علينا التحية دون أن ترفع ناظريك!.

- - ..!..

- أنا وفاق!.

- أَفْلَتَ آهةً خافتةً، ضاعت بضجيج المحرك المزمجر بعنف قرب أقدامهم. مالَ نحوها قليلاً وراح يتملى ملامحها التي تضيء وتعتم في تناوب ضوء وعتمه مصابيح الطريق التي أصبحت خلفه الآن.

- أَصحيح ما قِيلَ؟!

- - ..!..

- لم يفهم ما عنته بالضبط، فظل مستقراً في صمته وإبحاره في البشرة المفخورة بالنار.

- هل ذهب إلى الأبد؟!

- - ..!.

- لم يزل مبهوراً بسحرِ القسمات، المنطفئة المشتعلة، في لعبة المسافة الفاصلة بين المصابيح الراكضة، فلم يدرك ما كانت تعنيه.

- معنى ذلك إنني سوف لا أراه قط!

- هزّتهُ النبرة المتوجعة، وغلالة الحزن العميق التي هبطت، لتكمد اللون الناري وتحيل البشرة السمراء المعسولة، إلى لونٍ قاتمٍ ممزوجٍ بالرماد.

- لم تصمت؟

- - ..!.

- انزلقَ هوَ الأخر في مسافاتِ الكمدِ المرّ ووحشة الشعور بالفقدان!.

- قلْ شيئاً.. أرجوك!.

- قال مع نفسه:

- إنها لا تدري أن الأسئلة التي تعذبها تعذبني أيضاً!.

- ولها:

- عن ماذا أحكي وماذا أقول؟!

- رشقته بنظرة استغراب، وهي تهز ساقيها بتوتر، ومن خلفها ترامت سهوب الجنوب مغمورةً بنور القمر المستدير المتوهج في أحشاء الظلمات.

- عنه.. عنه..

- قالت بانفعال ونفاذ صبر:

- عن أي شيء فيه؟!.

- كل شيء.. كل ما يخطر على بالك في هذي اللحظة!

- كيف أبدا؟ فالحديث عنه يعني حياتي، طفولتي، صباي، شبابي، نضجي، تفاصيل وتفاصيل كنا متلازمين تقريبا، وسريرينا متجاورين في غرفة نومنا مشتركة حتى غيابه عن ماذا؟ اسألي عن شيءٍ محددٍ.

- عن ماذا أسألك، وأنا أريد معرفة كل شيء يخصه. أتدري أنت إنني لم أره مطلقاً، تعارفنا برسائلٍ سريةٍ، كنا نتبادلها عبر عائلتك، بعد أن تعلقتُ بهِ أشّدَ التعلق من خلال أحاديث أختك سلمى التي لا تكف عن ذكره حتى حببته إلى نفسي. أطلعتني على رسوماته وأوراق يومياته، رسائل غرامه القديمة لبنات لا أعرفهن، أوراق اختلست منها عدداً، صورة طفولته، أوراق وأوراق، حكايات وحكايات، جعلتني أود مسكه بأصابعي، فكاد حلم رؤيته بلحمه ودمه أن يجنني. أتدري يا سلام، أتدري كم حلمتُ بهِ في ليالي أرقي طوال ثلاث سنواتٍ مضنيةٍ. لقد هدَّ قلبي حلم لقائه، ورفضه المتكرر لدعوتي مبررا ذلك بقوله:

- لا أريد أحداً يتعلق بيّ فأمري محسوم مسافر قريبا!

كتبت له:

- ألحقك لأخر الدنيا يا حبيبي

ولم أفهم وقتها ما كان يرمي إليه بموضوع السفر. عضضتُ أصابعي ندماً، لأنني لم أتعرف على سلمى إلا بعد اختفاءه. وأسفت على عمري الذي ذهب هدراً دونه. توسلتُ في الرسائل، وتجرأت على مناشدة والدتك كي تقنعه ليلتقي بيّ مرةً واحدةً .. واحدةً فقط. كنتُ على استعداد لدفع حياتي ثمناً من أجل أن أتحقق من وجوده. ألمسهُ بأصابعي. أتملى لونَ عينيه الحييتين اللتين أضناني الرنو والإبحار فيهما كل ليلة في صورة فوتوغرافية سرقتها من أوراق أختك. صورةٌ أوجرت عطشي وجنوني.

وفي يومٍ أسرتْ بأذني أختك "سلمى" بخبر موافقته على اللقاء في بغداد طبعا،ً وقالت أنها ستخبرني بالوقت والمكان لاحقا. يومها لم تلمني الدنيا. فقدتُ اتزاني .. يــاه.. ياه .. أية أحلام مجنونة أخذتني وأنا أنتظر اللقاء الحلم، أية أحلام. استخفَ بيّ الطربُ وسكنني الغناء .. صرت أغني .. وأغني في البيت والمدرسة والشارع. وصفتني زميلاتي وأمي بالخفة والطيش، كنت أضحك وأضحك، لا بل أستخف باللائمين.. فأين لهم أدراك حجم البهجة التي تجول في نفسي، وكيف لهم الإحساس بما أنا فيه. تقتُ إلى لحظة الحلم القادم توقاً، دفعني إلى حافة الجنون. قبيل السفر قضيت ساعات جالسة بمواجهة المرآة أتمعن قسماتي المتوردة، ومن خلف زجاج نافذة الـ o m المتوجه إلى بغداد احتضنتُ السهولَ بحقولِ حنطتها، وبساتين نخيلها، وقراها البعيدة. احتضنتها .. عانقتها شاعرة بحلاوة الحياة رغم كل شيء، بالرغم من مخاطر اللقاء واحتمالاته. كان لا يهمني شيء حتى لو قبض علي معه .. سأعانقه وليقتلوني .. كادت صرختي تنفلت فرط بهجتي العميقة، وسحر الحقول الراكضة صوب الجنوب.

رغم وصولي المبكر وقرب المسافة بين كراج العلاوي وحديقة "الزوراء" مكان الموعد أخذت تاكسي. كنتُ أود الاختلاء مع نفسي، وترتيب مشاعري قبل وصوله. أبحرتُ في بحور وبحور، جبت فيافٍ وقفار، زرت مدناً بصحبته، وانتبهتُ إلى عقارب الساعة. لم يبق سوى دقائق، وبغتة خالطَ بهجتي هاجس عدم مجيئه. هاجسٌ جعلني أغادر المصطبة الخشبية، وأدور قلقةً في المماشي المبلطة حول مكان الموعد، أتوسط لوح العشب، أصعد درج الجنائن المعلقة المجاورة. أرمي بصري بعيدا إلى كل الجبهات والحديقة الواسعة تمتد تحتي، تشوش بصري كثافة الأشجار، أنزل لألزم المصطبة ثانيةً قائلة مع نفسي:

- سيأتي .. سيأتي!.

والوقت يمر لاهثاً، مسرعاً، ثوانيه من نار، ودقائقه مع عبور الموعد، كل دقيقة صارت جمرا يشعل كياني. تخلبص عقلي والساعة تتجاوز الموعد المضروب بعشر دقائق. رحت أدور حول المصطبة. أدور وأدور قائلة لنفسي:

- قد يتأخر قليلا أو كثيرا، قليلا من الهدوء يا روحي قليلا. فأنت لا تعرفين ظروفه، ومن الجائز أنه تعمد ذلك زيادةً في الحيطة والحذر!.

أصّبرُ نفسي وعيناي تدوران بجزعٍ بين المماشي والجهات متأملةً ظهوره من أماكن غير متوقعةٍ، كأن يطلع من دغل البحيرة القريبة، أو ينزل من سلالم الجنائن المعلقة، أو يظهر من بين أشجار اليوكالبتوس المشتبكة على طول الممرات. انتظرت. وانتظرت من الثانية بعد الظهر حتى المساء، لكنه لم يأتِ لم يأتِ .. لم يأتِ يا سلام .. لم يأتِ، فعدت منكسرةً موجوعة تنوح الفاجعة في روحي، شاعرة أنني فقدته إلى الأبد وكان إحساسي دقيقاً.

اتكأتْ مسترخيةً إلى مسند المقعد المهتز، الملاصق لزجاج النافذة، ورمت بصرها، إلى الليل الساكن الصافي، فأضاء قمره السابح عينيها المخضلتين. لبثت تحدق سارحة منفصلةً عن لغط الجنود، وأزيز المحرك الرتيب، ثم فاءت إليه قائلةً بخفوت وألم:

- أرجوك.. أرجوك.. حدثني عنه.. حدثني.

في ليونةِ الفضةِ المنسكبة من جلالِ العتمة، في تيه حقول الفضة الناهبة ليل الجنوب، في الأزيز الرتيب، وعلى إيقاع اهتزاز مقعديهما المخدر حدّثها. حدّثها بصوتٍ خافتٍ متهدجٍ غارفاً من الماضي البعيد أشجانه، رانياً إلى التقاطيع الناعمة، المنصتة، المنحوتة قدام النافذة، والتي تضاء وتعتم في تناوب مصابيح الطريق والقمر، مستحضراً صغائر الأشياء المشتركة، حيث عاشا في غرفة واحدة منذ الطفولة. أحسَ بأصابعها تتسلل في العتمةِ الباهتةِ لتحتوي أصابعه المرتعشة. غمرهُ دفء الراحة النابضة اللدنة، وإطباق الأصابع الطويلة. بثّها تباريح الغائب وأشواقه المستحيلة، حكاياته، طفولته، أحلامه. زحزحتْ جسدها مقتربةً، وعيناها تصّبُ نهراً من الفضة يتدفق في أتون الوجنتين المستعرتين. انزلقتْ في مقعدها. لامستْ جنبه. خبأت رأسها تحت إبطه الأيسر، وراحت تعب لاهثةً من رائحتهِ أنفاساً عميقةً، ثم ما لبثتْ أن وهنت قوها، فتخافتت أنفاسها لتستكين غافيةً تحت جناحيه. تحّنطَ في جلسته طوال ما تبّقى من مسافة الطريق غير آبه بتعليقات الجنود الحاسدة.

مازال يلاحق ظلال المرأة المنحسرة تحت وهج انتصاف الظهيرة، وهي تقترب من الأطلال السادة امتداد الفناء الصيفي، وتلج زقاقاً ظليلاً طويلاً، تتعانق شرفات بيوته الخشبية المترنحة وتتداخل. قبل أن تنعطف يميناً تأنت في خطوها. التفتتْ ورشقته بنظرة خاطفةٍ، لتندفع في عتمة دهليز خفيض السقف. أوسعَ خطاه في أثرها محاولاً تقليص المسافة الفاصلة، كي لا يضّيع حركة العباءة التي تكاد تتلاشى في ظلام الدهليز. أصبح لا يفصله عن أمواج العباءة سوى خطوات إلى أن خفت العتمة قليلاً واستبانْ ضوءٌ مستطيلٌ مقوسٌ من أعلاه، امتصهما، وألقى بهما في ساحةٍ مرصوفة بالحجر، مغمورة بالشمس، ترتفع قليلا عما حولها. تشمخ وَسَطها شجرة سدر تنتشر فروعها في السماءِ. قصدتْ سلماً حجرياً، وطفقتْ ترتقي درجاته القديمة صاعدة إلى رواقٍ طويلٍ عالي السقف، يتمكن من موقعه قبل بلوغ السلم رؤية باب غرفة وحيدة ينزوي في نهايتها، يلوح من بين الأعمدة الضخمة الساندة سقف الرواق العالي. ارتقتْ السلالم الأخيرة على مهلٍ. توقفت في أعلاها، واستدارت بكامل جسدها نحوه. كان يتمسك بدرابزين السلم ويتطلع إلى إطلالتها. تبدو من راس السلم شامخة شاهقة وسط الأمكنة الخربة. تمهل في صعوده متساوقاً مع إيقاع مشيتها المتأنية متتبعاً قامتها تخترقُ ظلال الرواق وامتداده المقطوع من موضعه بالسقف وبإنصاف الأعمدة العلوية. كانت تسعى نحو الباب الخشبي، الذي لاح لعينيه إطاره العلوي عند بلوغه الفسحة في وسط السلم.

عندما أنهض جسده من أعلى درجة في السلم أرجفت جسده هبة نسمة باردة قديمة موقظةً في أعماقه أحاسيس منسيةٍ، جعلته يتريث قليلاً، ويتكئ إلى أقرب عامود. شيءٌ أليفٌ تحّرَكَ في النفسِ، لكنه عصي على الإدراك. حاولَ وحاولَ شاحذاً ذاكرته دون جدوى، فاستدار عن الذاكرة ليتأمل من وقفته العالية، فسحة الدار الواسعة العالية المشرفة بدورها على البيوت المهدمة المهجورة المترامية حتى الأفق. تأمل المآذن المعطلة المجّرحة الأعناق، المقطّعة الرؤوس، والقباب المذهبة المضروبة الأجساد، الرازحة تحت وطأة صمتٍ قاحلٍ يبث مزيداً من الوحشةِ أغرقته. أغرقته برذاذها المتساقط الصامت، ولم تنتشله منها إلا سدرة الساحة المعمرة الشامخة بساقها الضخم المتين المجرح بشظايا الرصاص، وأفرعها الكثيفة القريبة المتهدلة معانقةً البلاط القديم.

غرز ناظريه في أصابع الحناء والدم المطبوعة على التفاف الجذع المتين، في خرق أقمشة النذور الخضراء المعقودة حول الأغصان الرفيعة. تسلقت عيناه لتصافح كتلة الشجرة المنتشرة في السماء المطلة على الدور المخربة المهجورة، الكتلة المكتظة بأعشاش العصافير ورويداً .. رويداً انزاح غبار السنين عن الإحساس الغامض الذي جعله يلاصق جسد العامود ويسرح، فأدرك فحواه شاعراً بألفة المكان، ألفة قديمةً تبض في عروقه عرَّفتهُ بآجر حيطان غرف واطئة تستديرُ مع استدارة سياج ساحة البيت، بأشكال أبوابها الصاج المتين المحزز بالدوائر والأقواس والمرصع بأزرار فضية صدئة تحيط بمقارعها النحاسية الثقيلة المتدلية، والتي مازالت تحتفظ بلون طلائها النحاسي، بدكك الأبواب عند مداخلها المظللة، بتطليعاتٍ خشبيةٍ تمتد من سقوفها المرئية من وقفته، بحوض الحنفية الإسمنتي القائم تحت ظلال الشجرة والمغطى بالأوراق اليابسة. وبغتةً رجَّه ضجيج قوي انبثق من الزوايا، من البلاط، من الحنفية التي تقطر ماءا، من برج الطيور؛ ضجيج حياة، لغط نسوةٍ.. هديل حمام.. صياح أطفال.. صفير.. خفق أجنحة.. ضحك صاخب.. صراخ.. صياح ديكة، ودوي فريد طالما أنصت له في الأيام الخوالي من على سطح البيت. دويٌ يميز الأحياء الفقيرة، دويٌ له صفير. صياح وكلام وصراخ أطفالها المالئين شوارعها المتربة، ويتوحد صاعداً إلى السماء. تراءت له جدته "أم عبد" تطلع من لحاء الشجرة حاملةً سطلاً نحاسياً وتخطو نحو حنفية الحوض القريب مطلية بفضة فجرٍ هبط بلونه الحالم:

- أيكون هذا بيت جدي القديم ؟!

هنا في هذا البيت ولدتُ! وولد كفاح أيضاً!

كيفَ عدت إلى بيت جدي المندثر؟

تسائل لحظة اندماج كتلة الجدة في كثافة اللحاء المفتوح ثانية، مخلفةً وقع أقدامها يترددُ في خباياه. استجمع قواه. انتصب منفصلاً عن العامود، وتلفتَ باحثاً عن المرأة الغامضة، فلمحها تشرع بدفع باب الغرفة القصية، وتلتفت مؤشرةً بذراعها العارية الظاهرة من العباءة كي يسرع إليها. اندفع صوبها متشوفاً ملهوفا ووجلاً خشية فقدان أثرها. جاوز العتبة الخشبية البارزة قليلاً، فضمتهُ باحة صغيرة مضاءة بثلاث مناور زجاجية دائرية موزعة في السقف تتسلل منها ثلاث شموس صغيرة، يسقطنّ في وسط وطرفي الباحة المصقولة البلاط. تبعها وهي تفتح باباً مقابلاً وتختفي في باطن غرفةٍ أكثر عتمةً من باحة المناور الثلاث. عند أول خطوةٍ في الحجرة عصَّتْ عليه الرؤية فلبث بمكانه يوسع حدقتيه، ويحملق في أمواج الظلام المتراقصة، التي سرعان ما أخذت بالتبدد مظهرة حواف الأشياء وأبعادها. سرير ذو مساند معدنية عالية في الزاوية القصية، إلى جواره باب خفيض مسدود، لا يُلاحَظْ إلا بعناء، لأنهُ بلون الجدار، وتكاد حوافه المستطيلهُ تندمج بسطح الحائط التبني الفاتح. مقابل السرير لصق الجدار الأيسر القريب من وقفته تدرجت أرفف خشبية قائمة على مساند معدنية مثبتة في الجدار صفتُ عليها أوانٍ فخارية قديمة، صف كتب، قناني عطور صغيرة تبث مسكاً وفلاً، قرآن مفتوح على حامل بحيث تبدو حروفه المذهبة الكبيرة مشعةً واضحةً مقروءةً رغم ظلال العتمة الخفيفة. إلى جانب الرف علقت لوحة مرسومة بالزيت كبيرة لفرسٍ بيضاء، تدور حول جسدٍ نازفٍ مثخنٌ بالجروح، يعانق تراب البرية تحت شمس غروب تعانق الأفق، تنزف هي الأخرى من عينها الواسعة فيضها الدامي. أسفلها تقوم سجادة صلاة مطوية، ومركونة جوار رفٍ صغيرٍ بحجمِ الكف مغطى بشرشف أسو،د وضعت عليه ترب الصلاة. الرف يظلل إبريقَ نحاس رفيع العنق يستخدم عادةً للوضوء.

في منتصف المسافة بين زاويتي الجدران أبصرها تقف ساكنةَ ترنو إليه. لم تنزع عباءتها. أراد أن يبادرها الحديث، لكن قوة خفيةً عطلت لسانه، وسحبت أنظاره إلى صورةٍ فوتوغرافية كبيرةٍ معلقةٍ في الجدار فوق موضع وقفتها تماماً. الصورة مؤطرة بإطار من خشب الصاج العتيق، تسقط عليها أضواء فضية خفيفة، وزرقاء غامقة، وحمراء خافتة، مزيج مسلط من أمكنة لم يستطع تحديد مكامنها، رغم أنه دوّرَ عينيه المشوشتين في أعالي الجدران والسقف وبلاط الأرضية. المزيج الخافت من الأضواء يجعل الناظر يطيل التحديق والتملي كي يشخص ملامح الجالس في الجدار. أجهدَ ناظريه دون أن يتبين من يكون؟ تقدمَ متوسطاً الحجرة دون أن تفارق عيناه الشاخص داخل الإطار. لَمَعَ ضوءٌ في رأسه فانحلت مفاصله. كاد يهوي فشدَّ جسده مقاوماً ليونة الساقين تحت أنظار أخيه المطلة من بين الإطار. كان يرمقه بنظرةٍ حالمة عارفةٍ مطمئنةٍ، تبصر مالا يبصره الناظر.

هدأ روعه من السكينة المنسكبة بروية من التقاطيع القوية الحالمة المحفوفة باللحية المسترسلة حتى الصدر الناحل.. و.. و.. هجمت عليه الأشواق فجعل يفور محتدماً بالتذكر، يتشوف له نابضاً في تلك الصباحات البعيدة. صباحات الهيام في فجر المدينة وشوارعها مع صياح أول ديك. نهضَ الصباح الأخير الموجع وهما يقفان فوق تل جوار معمل الآجر المهجور، في انتظار قيام الشمس من غفوتها في أحضان بستان الأفق الشرقي. صبَّ دمعه فضببَ الرؤية. كفكفه بكم ردائه. هدأ قليلا .. قليلا فأصبح بمستطاعه مشاهدة الأشياء ثانيةً. فتش عنها فوجدها في مكانها ساكنة دون حراك. تراقبُ تبدل أحواله في وهج الأشواق والكشف المباغت. وترمقه بودٍ وحنان أغرقه، فوهنت قواه مرة أخرى. تداعى هاويا. تبعثرَ على البلاط. لبثَ قليلا، ثم لمَّ شتاته ضاماً ساقيه المنثنين إلى صدره، وشرع ينود في تكوره الجنيني، وعيناه لا تغادران إستكانتها الطويلة، تحت ظل أخيه المستيقظ متوقدا في الجدار.

نادَ طويلاً بصمتٍ، غارقاً بشجنٍ خانقٍ منتظراً لحظة البوح. ناد .. وناد مغمض العينين، إلى أن سمع حفيف ثوبها، ففتح عينيه. رآها تخطو نحو السرير المرتب بعناية. يصدر من خطوها نغمة خافتة مصحوبة بغمغمةٍ وهمسٍ غامضٍ، يأتي من خلف الجدران. تملى قدميها الحافيتين الصغيرتين الظاهرتين من ذيل العباءة المرفوع قليلاً. صعد بنظراته إلى وجهها والعباءة اللينة تنزلق وتتكوم قرب أقدام السرير، كاشفةً قوامها الممشوق والملفوف بثوبٍ أسودَ يضيق عند الصدر الصلب الناهد والبطن الضامرة. ليهبطُ فضفاضاً من قوس الحوض حتى القدمين. جلستْ بهدوء على حافة السرير مثنية ساقيها فانحسر الثوب وبانت ربلة الساق اللدنة الممتلئة قطعة ضوء أبيض. سكنَ في جلسته ليعّبَ من بهجة طولها المثني في السرير، من الوادي المحصور بين قبتي النهدين العامرين، من منبت النهدين، من الرقبة الطويلة البيضاء كقطعة مرمر. أبهرته التقاطيع المنحوتة في تناسقها البديع، والمسكونة بظلال حزن دائم يلوح في إيقاع البشرة، وموج العينين البنيتين الواسعتين. ترسّبَ في السكينة مستسلماً يتطلع إلى لحظة انفضاض الصمت الذي استطال وَثَقل، فعاد ينود متأرجحاً على حافة النعاس المتسلل إلى المسام والأجفان.

ينود تنطبق أجفانه فيجفل منتفضاً بين آونة وأخرى، فاتحاً عينيه بكل مستطاعه، مقاوماً رغبة عارمة في النوم، لكن سرعان ما تعود على إيقاع الصمت، فتسترخي أجفانه وتتشبح الأشياء؛ السرير، الصورة، الأواني وجلستها. اختلطت عليه الأشياء والأوقات والأماكن ولا يدري كم خلد في تهويماته وهو ينود؟! ولا يدري أكانت سنة قد أخذته أم لا؟ لكنه شد من عزمه، وهزَّ رأسه بقوة، طارداً أطراف النعاس المسكرة، وحدق نحوها. كانت شاردةً تتكئ إلى مسند السرير، وعيناها لا تفارقان جلسته. فلَّ اشتباك ذراعيه المعقودتين حول ساقيه، ونطق بصوتٍ وجلٍ مترددٍ:

- من أنتِ؟!

- ..!.

- قلت من أنتِ؟!.

لم تغادر صمتها، فأقفل فمه محدقاً إلى جمودها المريب. ظلتْ قابعةً في شرودها لدقائق معدودة، قبل أن تنفصل عن مسند السرير، وتعدل ميل جلستها لتصير في مواجهته تماماً. ارتدَ مبهوراً إلى الخلفِ قليلاً وذراعاها ترميان ضفيرتين طويلتين فاحمتين سمكيتين كانتا تلوذان خلف ظهرها. هزّهُ إيقاعيهما قبل أن تتكور نهايتيهما عند ملتقى الفخذين. بوغِتَ بإطلالة النهد الأيسر من زيق الثوب مشعاً بقبته المرصّعة بنتوء الحلمة الداكن. نَهَدَ منتصباً رامحاً أحس بصلابته وتوتره من موضع جلسته في مركز الغرفة. أبهتهُ لمعان البشرة المشدودة، وكأنها مطليةً بالزيتِ. رفعت ذراعها وأشارت له بالاقتراب. استند على ساعديه ونهض بعناء. خطا نحوها ببطء شديد، وخطو ضعيف، واجفاً، مأخوذاً ومستثاراً باستدارة النهد الكافر، زائغ النظرات وعندما بلغها تكوم جوار قدميها. لفَّ ذراعيه حول ساقيها، دافناً وجهه بالثوب الفضفاض. انحنتْ عليه. احتوتْ كتفيه المهدودين بكفيها. اقتحمتهُ رائحة النهد العاري العبقة الفريدة، وأحس بألفتها المطبوعة في أعماق نفسه. أرمّدَ تدفق العطر الأليف شهوته، ورماه إلى أمكنة المدينة القديمة التي لا يدري كيف غادرها، متتبعاً خطى هذي المرأة البرية المكتظة بالأسرار. رائحةُ الغائب نفسها التي يشمها كل لحظة من ملابسه المهجورة في الخزانة الخشبية القديمة، من سريره، من بين كتبه، ومن لوحاته. الرائحةُ نفسها التي خدرته في ظلال الجوامع وغبش العصافير، في العربة العسكرية وهم ينقلوه إلى ساحة الإعدام من زنزانة التوقيف، معصوب العينين، مكبلاً بالحديد. الرائحةُ التي تسربت من جسدِ محكومٍ لاصقهُ في زحمةِ العربةِ.

- لا يدري إلى الآن حقيقة ما جرى في ساحة كرة القدم أكان حلماً أم علماً؟!

الرائحةُ المعذبةُ نفسها مفتتح الأشواق، وباب التذكر والأشجان. الرائحةُ التي تهاجمه بغتة وهو مارق جوار شجرة، ساقية، شخص، في زحام سوق، في المحطات، في القطارات، في حفرة ملجأ بجبهة الحرب. الرائحةُ تتدفق من كتلة النهد، من الضفيرة، من الثوب، من القسمات، من فراش السرير:

- يا إلهي .. يا إلهي

تردد الصراخ المكتوم في أرجاء روحه.

أحاطت رأسه براحتيها ورفعته برفق، فأضطر للتطلع نحوها. أوقدتْ عينيها شهوتهُ من جديد، وبدأ يعبُ عطرها المهيج الذي هبَّ عاصفاً من أنحائها، ممتزجاً بالرائحة القديمة المستيقظة في نفسه. عطران وتكوير النهد الصلب النافر المحدق بدكنة حلمته الصغيرة المتوترة تحديق شرس أضرم شهوته، فتمنى لو تكشف عن النهد الأخر المظلوم خلف نسيج الثوب الناعم الضيق الخانق. تأجج وصرخ الدم في عروقه العميقة، وهو يغرق ببحر رائحتين، رائحة أخيه المعذبة، ورائحتها المهيجة، أشتعل وراح يفرك جبهته وخديه وشفتيه بالضفيرتين، بالفخذين الساخنين، نائياً عن الأسئلة، ذائباً بحلاوة أصابعها التي اندست بين خصلاته الناعمة، وراحت تداعب منابت الشعر بحنان، همست بخفوتٍ سمعهُ بالكاد:

- ارفع رأسك .. ارفعه ودعني أراك!.

استنشق بعمق من الثوب والضفيرتين قبل أن يعدل رأسه ويبحر في عينيها رائياً في بحريهما الصافيين تهدم قسماته التي شاخت لحظة بوحها:

- أنا زوجة أخيك!

تحجر تمثالاً من صخر صلدٍ رغم وضوح كلماتها التي حرصت على نطقها ببطء شديد، كأنها أرادت تخفيف وقع الخبر. ظلَّ جامداً يحملق في نحت القسمات، استدارة الوجه، ورد الخدين الناضجين، نحت الأنف المتناسق الدقيق، وساعة العينين البنيتين الداكنتين الصافيتين، الأجفان الطويلة الفاحمة، الحاجبين الكثين، الشفتين المكتنزتين المضرجتين المنتفضتين، الضفيرتين السميكتين المتأرجحتين بحركة خفيفة حول عري النهد الرامح من القماش المزاح. من باطن الذهول، حيث ترّسبَ مشلولاً راح يتصفح بعينين غير مصدقتين بشرتها الغضة الدانية متخيلاً أصابع وشفاة أخيه مطبوعةً على ليونتها الصافية. أكتظ بهما معاً، واحتدمَ متسائلاً بصمتٍ:

- ما معنى هذا.. ما معناه؟! أي زواجٍ خاطفٍ هذا؟! فبين انقطاع أخباره وأخر لقاء معه في آذار 1980 أربعة أشهر فقط. أيكون قد تزوج في اليوم التالي لفراقنا، لكن كيف.. كيف؟! فهو لم يشر لا من قريب ولا من بعيد لشأن كهذا عدا موضوع تلميذة الثانوية. كان الحديث في اللقاء الأخير مختلفاً في زاوية خافتة الضوء، ببارٍ منعزل أسمعني أشعاراً وأراني رسوماً له، وباح لي ببارح أشواقه للأهل ثم عانقني وضاع.

فعن أي زواج تحكي هذه الفاتنة الغامضة؟!

وفيما هو في لجة حيرته وذهوله هجمت عليه رائحتها المربكة بدفقٍ عارمٍ، هبَّ من نهدها العاري، من البشرة المطلية بزيت الرب، من الضفائر، من أصابعها الطويلة الملقاة على جانبي كتفيه، من بحر عينيها المحزونتين، من فراش السرير، من الجدران، من صورة أخيه الحية وهو يحملق بجلستيهما بعينين عارفتين، أشعرته نظراته والرائحة بآلفة معها أمّحتْ المسافة، فاسترخى في حضنها خَدِراً وأصابعها الطويلة الحانية تمسح خصلات شعره المنزلقة على جبينه:

- أصحيح ما تقولين؟!.

سأل بنبرةٍ متهدجةٍ مختنقةٍ، ولف ساعديه حول استدارة البطن الضامرة. ذابتْ الأصابع في سعير منخفض الخاصرة المضطرم، أثناء مرورها المتأني في طريقها إلى مرآة الظهر. وتخافتت روحه متأرجحةً على حافة نعاسٍ جديد. فّركَ جبهته بالخاصرة النابضة. اعتدل محدقاً من غور الحضن، متصاغراً تحت شموخ قسماتها وهي ترنو بعينيها نحو الباب نصف الموارب، والضوء المتسلل من مناور الباحة الصغيرة.

- أرجوكِ احكِ لي .. احكِ أرجوك!

قالها بوسنٍ وأراح جبهته المبلولة لصق جنبها الدافئ المسكر، ينصت لنبض أحشائها المحتدم في كونه الدفين. ينصتُ للسكون الدوار، لنبض قلبه الضعيف .. ينصت.. وينصت منتظراً، يلامس بحدقتيه أشياء الحجرة من خلال الضفيرتين اللتين طفقتا في التأرجح ذهاباً وإياباً حاجبتين تارةً ومظهرتين في أخرى، أخاه المستيقظ في همود الورق والراني بعينين باسمتين إلى تكومه بحضن المرأة النائدة بصمتٍ، وهي تحاول الشروع بالحديث، فتختنق متعثرة، ويتحشرج في فمها الكلام مما يزيد من وتيرة نودها، مغالبةً انهيارٍ وشيكٍ. أستحثها بصمتٍ ضاغطاً براحته الخصر الضامر ضغطاتٍ متناوبة. انكفأتْ بناظريها المخضلين نحوه. أمعنت به طويلا، و.. و.. وتسللتْ أصابعها مندسةً تحت القميص. راحت تمسّح كتفيه الناحلين قبل أن تتدفق بخفوتٍ ساكبةً من أعماقها ما كان خبيئاً:

- في هذي الغرفة قضينا أهنأ الأوقات .. كانت ملجأنا الآمن في ليالي الرعب نتشبث في حلكتها ببعضنا، هاجسين بفراق طويل قريب تحقق بمرور الأيام. في أيامه الأخيرة اضطر للبقاء محبوساً لأيامٍ متتاليةٍ. أسعدني ذلك رغم الرعب، وهاجس اقتراب الخطر، كنت أستمتع حتى بالصمت قربه؛ حيث كان يكتسي معانٍ مختلفةٍ. كنا نظّلُ متلاصقين في السرير. نعبثُ بأصابعِ بعضنا البعض، ونبحر في السقف طويلا إلى أن تنبعث من روح الخشب القديم كائنات مسالمة تتشكل من أرواحنا وروح الخشب طاردةً الريب مخففةً الوحشة. تؤنسُ صمتنا ووحدتنا وحصارنا. تبصّر عيوننا التائهة وتصّير أرواحنا الخائفة وتسفر بيّ إلى مسافة الحلم، فأحلم طوال الوقت. أحلمُ بمدينة آمنةٍ نائيةٍ، أشيدها في خيالي من نثار حكايات جدتي، من مدن الطفولة، من مدن الكتب والأساطير. أشيدها وأطير بهِ إلى مناحيها، لننزوي في طرفٍ قصي منها، نبني بيتاً من القش والطين، على ضفة ساقية منسية.

وهناك في البعيد .. هناك في مدن الأمان أطعمهُ خبزاً طيباً غير مخلوط بالمخاوف، وأضمه ضماً ونياً، وأذيقه مباهجي دون وجلٍ. أعود من نشوة سفري، ليكمدني مرآه المحزون .. أعود من مدن أحلامي فأجده غاطاً بالرماد، تنوء قسماته بهموم الدنيا، يرمقني بشرود، كمن يلاحق ظلاً ينمحق بجدار، أو شيئاً نائياً، عصياً، مستحيلاً، فيميت أطرافي يأس عينيه، وسهو نظراته الساكنة. سكون نظرات محتضرٍ. أتمسك بكفيه الناحلين. أمرغُ جبيني في راحتيهما الخشنتين، متمنيةً لو ألجُ أحشاءه وأذوب بين ثناياها، وأمكث هناك بقية العمر، لأرى ما يراه، وأحس ما يحسه، وأواجه ذات المصير، فقد كان جلّ خوفي أن يواجهه وحيداً.

كان يصغي مظللاً بشموخ الجسد الحاني، متخيلاً تبعثر جسديهما على هذا السرير، وعيونهم الضائعة المحدقة بالسقف الذي يراه الآن قريباً كقلنسوةٍ، يزخر بكائنات الخشب الغامضة، الغريبة الأشكال، الوديعة، الودودة، المتراقصة التي تظهر وتغيب في أغوار السقف، وتأخذه إلى مسافات أحلامهم، فيتلمس بأصابعه رطوبة جدران ذلك البيت الطيني المنعزل، على ضفاف ساقية دافقة في مدن الحكايات، مرتحلاً عن صمتها إلى أن أرجعته غصةٍ مخنوقةٍ هبطت عليه من كتلتها المحنية على كتلته لصق ساقيها. وجدها تغالب عبراتٍ خانقاتٍ وتشهق شهقة مقطوع النفس ملسوع، ثم ما لبثت أن تماسكتْ كاتمةً أخر شهقةٍ زاحمت الكلام:

- وتحققت مخاوفي .. في منتصف ليلة باردة ماطرة، كنت وحيدةً في هذي الغرفة، عندما سمعت طرقاً متواصلاً شديد الخفوت. من إيقاع الطرق ونغمة الأصابع لحظة عناقها خشب الباب عرفته، وفرحت لعودته فقد طّوَلَ عليَ غيابه. هرعتُ وفتحته، فهالني مرآه. عيناه زائغتا النظرات، وجهه بالغ الشحوب. أول مرة أحس باهتزاز نظراته وارتباكها .. أول مرة أشعر بأنه غير واثقٍ، وبحر عينيه الداكنتين هائجاً مضطربا يفتقد بريقه القوي. اندفع حال عبوره تلك العتبة التي تراها ارتمى إليّ وأخذني بين ذراعيه القويتين، ضمني إلى صدره طويلاً عنيفاً، ولبثَ وقتاً ليس بالقصير دافناً وجهه في عنقي، ثم عصرني عصراً بين ذراعيه، وكأنه يود أن يضمني بأحشائه. تناوشني القلق من كل المناحي، عاصفاً بروحي. سألته بجزع:

- ماذا جرى يا حبيبي.. ماذا؟!.

- ..!.

تراخت ذراعاه قليلاً لثوانٍ، ثم عاود شدي بأقصى ما يستطيع. فلَّ خصري وأمسك رمانتي كتفيّ. أبعدني مسافةً تتيح له رؤيتي بوضوح. تأملني ملياً قبل أن يرفع ذراعيه إلى ما فوق رأسي ويهبط بهما إلى شعري ويمّسحهُ نازلاً إلى وجهي وجسدي. نحتَّ بأصابعهِ الرقيقة أنحائي الراجفة كلها. لم أزل أحس بطعم الأصابع المجنونة الفاركة بشرتي رغم مرور كل تلك السنين. اضطرمتُ .. التهبتُ .. اشتعلتُ، ورغبته رغبةً جارفةً عارمةً متوحشةً، فأحطتهُ بذراعيَّ وحاولتُ سحبه إلى السرير. أبى الحراك وكأن قدميه غرستا بالبلاط، وأصابعه لم تكف عن نحتْ جسدي، منحنية مستقيمةً، تهبط وتصعد، تستدير وتضغطُ عاجنةً معيدةً خلقه من جديد. أتمَّ صبيَّ. استكان لهنيهة، ثم انحنى وقبلني من شفتي قبلةً عنيفةً سريعةً، وأنسل من بين ذراعيّ،َ ليندفع إلى تلك الباحة التي تراها أمامك ويغيب دون أن يلتفت، خلف حافة الباب المؤدية للفناء، حيث الريح كانتْ تدوّم عاصفة، والمطر يتساقط مجنونا، والظلام مطبق كجدار. هكذا تبدد من بين ذراعي تلك الليلة .. تبدد وبددني .. بددني .. بـــــــــــــددنـ..نــ.

غَصّتْ في الحروف، وانهمر فيضها غزيراً. لم تعد راحتيها تكفي لكفكفته، فتساقط مبللاً أطراف الضفيرتين مختلطاً بدمعه السائح على فخذيها المهتزين على إيقاع النشيج المكتوم المتخافت، قليلاً .. قليلا إلى أن تلاشى في دوي السكون الدوار.

أبعدتهُ برفقٍ عن ساقيها، وانزلقت من حافة السرير، متوسدةً البلاط إلى جواره، تبحثُ، في ملامحه المهدمة تحت وطأة قصتها، عن شيءٍ ما. كان مستكيناً في عطرها الآسر، يتتبع اهتزاز النهد العاري الذي صار جوار ذراعه المنثنية على سطح السرير، إلى أن تخافت بعد هدوء كتلتها الدانية من انزلاقها السريع. مأخوذاً بالحكاية والجسد الطافح بالأنوثة، منتظراً يتشوف المزيد والمزيد من التفاصيل.

ترجاها وفي صوته اهتزاز:

- كملي الحكاية .. كملي أرجوك!

- حكاية طويلة قصيرة، ومضة عمر سطع وغاب.

- إحكِها أرجوك!.

وتناول كفيها بين شفتيه، مغرقاً الأنامل الناعمة بالقبل فيما شرعت هي في القول:

- عَ ماذا أحدثك يا سلام؟!

اتسعت حدقتا عينيه دهشةً، فأردفت:

- لا تتعجب أعرف عائلتك فرداً .. فرداً وكأنني تربيت في بيتكم من خلال أخيك الحبيب!.

- ..!.

- الحكاية حكاية حياة وممات هذا الحي رأيتهُ مهجوراً ..

-..!.

- ع ماذا ومن أين ابتدأ؟!

- ..!.

كان ينتظر صامتاً وهي تتأمله عقب كل جملة، مستغرقةً في الصمت، وتأمل قسماته الشاردة الحزينة:

- سأحدثك عن البدايات.

في الزمن السابق للحرب كان الحي هذا عامراً. استأجرَ كفاح هذه الحجرة من أهلي. وفي ضحى نهارٍ قائظٍ رأيته في باحة الدار، ألقى علينا السلام أثناء مروره دون أن يرفع عينيه عن الأرض. لا أعرف ماذا ألمَّ بيَّ؟! صرت أرتجف محمومةً، فأسرعتُ إلى غرفتي، وما أن أغلقتُ البابَ حتى شعرتُ بنفسي تغيرت، عدت مسلوبة اللب، ولم أعد ما كنته قبل رؤيته. باختصار وقع في قلبي وانتهيت.

وتوغلت في سرد التفاصيل، نسيج حياة؛ انتظار، نظرات، رسائل غرام، أسرار، خوف من الأهل والناس، مواعيد في أمكنة بعيدة، أشجان، عصافير، بوح، تسلل ليلي، عصافير، اختفاء عن الأنظار. رعب من الشرطة في الليالي والشوارع، طيور، لقاءات متباعدة في الخفاء، أعراس ومأتم، غياب يطول ويقصر. لقاءات مضطرمة بالرغبات الحبيسة. خلوات في عتمة الغرفة محتشدة بالصمت واللمس والقبل. سفرٌ متكرر إلى مدنٍ قريبةٍ بصحبته، حيث لا أحد يعرفه. تسكع في حدائق كورنيش مدينة الحلة المحفوف بالبساتين. افتضاح أمرهما. زواجٌ سريٌ على عجلٍ دون حفلةٍ. أفراح قصار ومآزق جمة. اعتقالات وقتلى حرب. جنود فارين. أمهات يندبّنَ على أولادهنَّ المفقودين في الجبهات. أرامل وأيتام. حبٌ معمدٌ بالمخاوفِ والأشجانِ وفرح بعيد، و.. .. و.. قيامة بشرٍ وفناؤهم.

كانَ ينصت خدراً، وهو ينود في جلسته يميناً وشمالاً، يدنو منها حتى تكاد شفتاه تلامس الحلمة النافرة القاتمة الشاخصة من قبة النهد، الذي ينتفض عند انفعالها بمفصلٍ من مفاصل الحكاية، مستأنسا بعالمها، ومنتشياً بعبق الرائحة التي تضوع من التفاصيل، من السرير، من الصدر العامر، من تردد أنفاسها المسموعة في فاصل صمتٍ قصير، من الشاخص بطلعته المطلة من الجدار. ظل ينود، و.. ينود متأرجحاً على حافة النوم، غير قادرٍ على طرد النعاس الطاغي إلى أن انكفأ لصق النهد الصلب الطري المتكور النافر ذائباً في زبد البشرة الساحرة. لا يدري كم أغفى؟ أيقظتهُ أنامل تربت على خده برقة. باعد أجفانه، فوجدها تمسحه بعينيها الحنونتين. أراد أن يعود إلى الغفوة لصق النهد. أرادَ أن يهمد أبداً بالوضع ذاك، فأطبق أجفانه ثانية، لكن سمعها تهمس:

- انهضْ.. انهضْ.. لا وقت لدينا!

- ..!.

عاود فتح عينيه مستغرباً من كلامها عن الوقت وضيقه، فليس لديه ما يشغلهُ الآن سواها، هي التي تبث من مسامها عطر أخيه الضائع.

- لم تسألني لماذا سعيت إليك!

باغته السؤال، فقال مع نفسه:

- حقا .. حقاً.. لِمَ لَمْ يخطر على بالي؟! وأي تشوش ذهني أعيشه هذه الأيام!

- من أنساني هذا السؤال الجوهري.. من؟!. أهو جمالها المبهر .. أم قصتها العجيبة؟ .. أم إرهاق أيام ما بعد الحرب ومصاعبها؟!

سأل نفسه وقلب الأمر طويلاً قبل أن يجيب بصمت:

- لا أدري ما حلَّ بيَّ لا أدري؟!.

- ..!.

كان مستغرقاً في الصمت فأردفت:

- أتعرف السبب؟!

-..!.

- ليست هي الوحدة التي بعثتني للبحث عنك .. لا فقد اعتدتها.. لا بل أدمنتها ولا يطيب لي سواها الآن. فمنذ إعدام أبي وأخوتي في أحداث آذار 1991 وموت أمي غماً بعد أسبوع. صرت وحدي وصارت سلواي، لكن ما جعلني أبحث وأسعى في طلبك، هاجس مخيف يراودني ويكاد يذهب بعقلي!

أزداد الأمر بهمة عليه.

- لا أفهم عمَّ تتحدثين!.

قالها غير راغبٍ في معرفة المزيد. كان يرغب فقط في المكوث لصق اللحم الغض العاري دون تفكير. يستنشقُ ملتذا بملمس قبة الكون والمنحدر العميق المحصور بين النهدين الظاهر والمخفي. عبثتْ بخصلاتهِ. انحنت إلى جبهته وقبلته. لفَّ ذراعيه حولها متشبثاً حينما همَّتْ بالوقوف. حاول سحبها برفقٍ إلى صدره. تزحزحت محاولة التخلص من بين ذراعيه الواهنتين وهي تهمس:

- اهدأ.. اهدأ!.

حاول شدها إلى ذراعيه متوسلاً:

- أرجوك.. أنسيني في حضنك.. أنسيني.. لا أريد معرفة شيئ.. أي شيء.. أي شيء.. أرجوك أنسيني فيه!

تململت مكررةً:

- اهدأ.. اهدأ.. لا وقتَ لدينا.

- أرجوكِ.. أرجوكِ.

همسَ بلهجةٍ متوسلةٍ دون جدوى، إذ أشارت إلى ساعة حجرية لم يلحظ وجودها إلا تلك اللحظة قائلة:

- حان الموعد.. هيا بنا!.

ظلَّ يحدق بذهولٍ إلى الساعة الحجرية المكّعبةِ وعقاربها الرفيعة الأدكن لوناً من سطح مينائها المنحوت بعلو مترٍ فقط عن بلاط الحجرة، وشهوته تخافتت واستحالت رماداً.

- هيا.. هيا بنا، فأنتَ وحدك من سيبصرني، ويجعلني أما أجنْ أو أستريح!

انحلتْ ذراعاه فشبتْ من بينهما ناهضةً:

- إلى أين؟!.

- سترى بعد قليل!.

ردت وهي ترتب وضعها. أسدلت الثوب على النهد وأحكمت شدّ شالها الأسود الذي كان مستلقياً على كتفيها. انحنت وتناولتْ العباءة المكومة عند أقدام السرير، قائلة بهدوء وببطء شديد:

- انهضْ.. انهضْ!.

- ..!.

لم يحرك ساكناً.

- قلت أنهضْ لا تجمد هكذا.. لا وقت لدينا!.

قبض بكفيه مسند السرير وأنهض جسده بعناء. تمايل مختلاً في انتصابه والغرفة مادت به ودارت. كاد أن يهوى، فأسند ظهره إلى حاجز السرير الحديدي المشبك، متتبعاً خطوها المتطوح، المبتعد نحو خزانة خشبية طويلة مركونة في الزاوية. استندت على مشط قدميها كي تطول قماش مطوي يلوح من سطح الخزانة العالي. هوتْ مستقرة على كامل القدمين. أمسكتها من طرفها ونكثتها، فانتشرت متأرجحة بأشجارها المورقة المثقلة بالثمار. فرشتها جوار الخزانة وسوت أطرافها. سحبت باب الخزانة الخشبي، فأرت أزيزاً كصراخٍ ترددَ صداهُ في أرجاءِ الغرفةِ، ثم تخافتَ شيئاً فشيئاً متلاشياً في السكون، ومن باطن الخزانة انبعثت رائحة طيبة انتشرت في المكان. مدّتْ ذراعها في حلكة الأدراج وأظهرتها حاملةً حزماً من الخبز الأسمر. وضعتها وسط القماش المفروش، ولفته رافعةً بصرها ناحيته.

- اقترب.. أقترب يا سلام.. أحمل صرَّةْ الخبز!.

قطع المسافة بين السرير والخزانة، وعيناه لا تفرقان انعطافة سيرها إلى الزاوية الأخرى الأكثر عتمةً، لتتنكب جرَّة فخاريةً كبيرةً ينضح من قعرها الماء، وتقول بصوتٍ حازم رصين :

- هلّمَ بنا!.

لم يسألها هذه المرة إلى أين؟!. بل اقتفى أثرها. لم تتجه نحو الباب المفضي إلى الباحة الصغيرة ذات المناور والشموس، والتي كان يتوق إلى اجتيازها ورؤية الطارمة القديمة المرتفعة، وإطلالتها على الفناء الفسيح بسلالمه القديمة، وغرفه المرتبة لصق السور والشجرة وحنفية الماء؛ بل انعطفت نحو الزاوية المعاكسة، قاصدة الباب البني الخفيض القائم جوار السرير. تبعها واضطر لحني قامته كي يلج من خلال الباب الحجري الخفيض. عند اجتيازه العتبة لفحه تيارٌ باردٌ رطبٌ يصعد من قعر ظلمة صافية احتوته، فلبث ممحوقاً بأحشائها ينصت لدوي لسكون، إلى أن أصبح قادراً على تمييز الأشياء. وجد نفسه واقفاً في فسحةٍ صغيرةٍ تنتهي بسلالم حجرية تهبط إلى سحيق أظلم.

تلّفتَ وجلاً، فرآها تنفصلُ من سكون الظلام، كتلةً متحركةً نابضةً لتصبح جواره تماماً هادئةً متماسكةً متزنةً. سعى بأصابعه وتشبث بكفها، مستنجداً من وحشة المكان، وهمود السلالم الهابطة، التي بدأت تستنير بظلال لون فضي، شديد الخفوت، يتسلل من فتحات سقف حجري مثقب هشٍ مرطوب ينثر بين الفينة والفنية حطام أحشائه الناعمة، فيطب نثار الآجر طباً مكتوماً، سرعان ما يضيع في أمواج السكون. في أعلى الجدارين المنحدرين مع انحدار السلالم، وقرب السقف الهابط، تركض ساعات جدارية من الحجر مختلفة الأشكال والأحجام، هابطةً إلى الأعماق بموانئها المتآكلة، وعقاربها المتثلمة، وأرقامها المنحوتة بلغاتٍ مختلفة، مسمارية وعربية، وعبرية، وفارسية، ويونانية. أرقام متآكلة من الحواف والقلوب. بعضها فقد ركائزه وتقوساته فأصبح غير ذي دلالة، والصغير منها ضاع تحت ركام أغبرة السنين.

أمسكتهُ الوحشة، وطوّح بأنحائه الريب. أراد أن يعود من حيث أتى، فالتفت، لم يكن ثمة باب أو أثر باب، ليس غير جدارٍ صلدٍ قاسٍ قديم يتفرس به بعيون أحجاره الفحمية. سحبته قليلا نحوها، فأخرجته من ذهوله. التصق بجنبها الساخن، فسرى نبضها في عروقه مما أسكن من روعه قليلا. أسرتْ بإذنه وكأنها تخشى خدش جلال السكون:

- لا تخف.. لا تخف.. أين الخبز؟!.

أجاب بخفوت أشدَّ:

- هذا!.

مشيراً إلى صرة القماش المعلقة على كتفه.

- تَمَسكْ بكفي جيداً!.

وجدتهُ يرتعش. شبكت أصابعه بين أصابعها، وراحت تشد وتشد دون أن تفلح بتسكين ارتعاشها، فظلت تنتفض بين أصابعها، وهما ينزلان بحذرٍ وأناة على السلالم الحجرية ذات الدرجات العالية والضيقة، في ضوء النور الفضي الخافت، المنعكس من صف الساعات المنزلقة والزاحفة إلى السقف، الذي تدوّرتْ حافتيه المتصلتين بالجدارين الجانبين، مكونةً شبه أسطوانة مجوفة مغروزة بشكلٍ مائل بجوف الظلام. تعفّرا برذاذ الآجر المتساقط من السقف.

لا يدري كم من الوقت ظلا ينحدران في جوف الاسطوانة حتى خيّلَ إليه إنه يهبط على سلمٍ أبدي يمتد من بدء الخليقة إلى لا منتهاها. جعله النزول الطويل في رواق الفضة الكابية، يهّومُ نعساً في سيره الوئيد، سامعاً في السكون أصوات مبهمة؛ لغط، حفيف أثواب نسائية شفافة، بسملة خافتة، همس محبين، فأسفرَ في البعيد ليجوب في أمكنة، طالما حلم بها وتخيلها في طفولته المضطربة، حينما كان يلجأ إلى فيء جدار في ظهائر الصيف القائضة، ظلال نخلة في البساتين، مخزن يوسف قجمان اليهودي قبالة دكان أبيه النجار، حيث كان ينسل دافناً نصف جسده في أكداس الحنطة. يحلم في صمت المخزن بمدنٍ بعيدةٍ يبنيها من قصص الكتب وأفلام السينما. مدنٌ آمنةٌ تضمهُ من عصى المعلم وكف عمه وأبيه. يحلمُ وهو يراقب أسراب عصافير تضج لاقطة الحبوب، ووطاويط سقف المخازن المفتوحة.

جاب أمكنة وأمكنة أثناء النزول الطويل على سلالم تهبط وتهبط بلا حد. جاب ضفاف أنهار، فيء أسواق غريبة مسقوفة وقت القيلولة، قاعة جامع بعد انفضاض المصلين، أروقة مدارس بعد انصراف التلاميذ. ظل يحلم في نصف إغفاءته وهما يغوران جنباً إلى جنبٍ في أحشاء الاسطوانة المنزلقة في غور الحلكة إلى أن بان في الأسفل البعيد ضوءٌ يظهر وينطفئ مثل جمرة ذاوية تلوح وتغيب. تحولتْ لاحقاً إلى خيطٍ رفيع جعل يتوسع قليلا .. قليلا متخذاً شكل مستطيل ضيق، راح يباعد ضلعي الطول مقوساً ضلعه الأعلى ومقعراً الأسفل، ليتخذ شكل فتحة تَسرِبُ نوراً أحمرَ خافتاً يستلقي عند فسحة ضيقة تنتهي إليها السلالم. نشّطهُ الضوء، فاندفع يريد الإسراع. تمسّكتْ بكفه، وضغطتها بتناوب جعله يحجم عن الانطلاق، معاوداً سيره المتمهل مرهفاً السمع للغطٍ يتصاعد من مناحي القاع الذي أصبح قريباً. لغطٌ متواصلٌ مثل طنينٍ يهدر بخفوت. تطفو على مجراه آهات وصرخات وشهقات وحشرجات تلتف وتدور مارةً بهما لتتسلق السلالم الحجرية التي تبدو للناظر من الأسفل لانهاية لها. في فسحة بئر السلم غمرهما ضوءٌ خافتٌ. جمرٌ ممزوج برصاص، فأصبح بمقدوره مدَّ البصر في جوف الفتحة المتحولة إلى ممرٍ طويلٍ يبدأ ضيقاً من فم السلم، ليتسع شيئاً فشيئا. ولجا خلال الفتحة، وسارا يتعثران بحفر البلاط المموهة بالغبرة ورماد الضوء المعتم، ويتلقيان برأسهيما فتات الجص المتساقط من السقف، الأخذ بالارتفاع ارتفاعاً يتناسب مع ابتعاد الجدارين عن بعضهما.

كان يرمقها وجلاً بين الفينة والفينة، فيجدها هادئةً رصينةً حزينةً تنقل خطوها العارف بثقةٍ وصمتٍ. أهتزَّ مرتعداً على صرخة مباغتة انطلقتْ من مكانٍ قريبٍ، سرعان ما تلاشت في رتابة أنين خافت ممدود، يتصاعد كلما أوغلا، مخففاً من وقع خطواتهما، التي ما لبثت أن ضاعتْ تماماً في موج بحر الأنين، الذي أضطرم وأشتدَّ، مع انفتاحِ الممر وتحوله إلى باحةٍ شاهقة الجدران، غارقة بالدخان والغبار، السابح بمخاريط ضوء تهبط من السقف العالي ساقطةَ على أرض الباحة والأواوين المحفورة في الجدارين المتباعدين، وعلى أكوام التراب، والآجر المكسر، والخرق البالية، وحطام الأواني الفخارية المتناثر بين نافورات حجرية معطلة، وأحواض مثلومة الأسيجة، مكسورة الحنفيات، ودكك أسمنتية متقابلة موزعة في أرجاء الصحن. ألتمَّ فزعاً من طائرٍ أسودَ الجناحين، شقَّ فضاء الباحة المدّخن في لحظة خاطفة، وغابَ في كوةٍ معتمةٍ محصورةٍ بين السقف والجدران.

ابتدأتْ أنفاسه تضيق برائحة العفن والرطوبة والغبار. دلفا في أول منعطفٍ أفضى إلى ممرٍ اصطفتْ إلى جانبيه غرف صغيرة متقابلة واطئة السقوف ترتجف جدرانها المتسخة باهتزاز ضوء فوانيس خافتة موضوعة على أرفف مثبتة وسط الجدران. في خفوت الضوء الموهن تَلامَحَتْ كتلة دامسة تزحزحت مقتربةً. استبانتْ بوضوح لحظة خروجها من ظل الفانوس المعتم، مما جعله يطلق آهة مسموعةً والكتلة البشرية المكومة داخل أسمالها البالية تُحَرِك ما تبقى من ذراعيها المقطوعين، وتسعى زاحفةً نحوهما، فانحسر ثوبها الخرق عن قدمين مبتورة الأصابع. عدلت من وضع رأسها كي تستطيع النظر بالعين السليمة قبل أن تمد رقبتها فاغرة الفم تلهث منتظرةً. أمرته بهدوء:

- أَطْعِمْهُ!.

أخرجَ رغيفاً من الصرة. قَطْعّهُ وذراً صغيرةً، راح يلقيها بالفمِ المفتوحِ، وذرةً.. وذرة، فيلوكها بصمتٍ، ولعابه يَسيلُ وهو يحدق نَحوهُ بعينهِ الوحيدةِ المرعوبة.

دارا في الغرفِ المتقابلةِ المتبقية في الممر. يطعمان ويسقيان بشرا محشورين في زواياها، رجال ونساء، شيوخ ويافعين، شبان وشابات فاقدي الأذرع أو الأقدام، مجدوعي الأنوف، مقلوعي الألسن، مصلومي الأذان، مسمولي العيون، مبتوري الأصابع، محروقي الأطراف، موشومي الجباه بعلامات فارقة. كانت تسقيهم ماءً بارداً تسكبه من عنق جرة الفخار في طاسةٍ فضية مباشرة بعد أن يأتون على الرغيف. جابا في مجاهل أقبية وغرف وقاعات و أواوين تلاحقهم صرخات استغاثةٍ، صرخاتِ ألمٍ، صراخ نسوةٍ يعانينَّ مخاضاً، صراخ ينبثقُ من بحور الأنين المستديم المتردد في جحور معتمة عفنة، مهجورة يلطو في زواياها بشر شوهوا. يُساكِنونَ هوام الأرض وحيوانات الظلام من عناكب ونمل ودود وخفافيش تخرق برفيف أجنحتها الموحش أمواج الأنين. أنتابهُ إعياءٌ مباغتْ، فتلكأ في سيره، سمعها تسأل:

- أأصابكَ وهنٌ؟!.

أومأ برأسه موافقاً. عند دكة حجرية برزت من عامود يرفع حنية سقف من سقوف باحة مزخرفة الجدران ببقايا نقوش قديمة همست بخفوت شديد:

- لنسترحْ قليلاً في انتظارهم!.

جلسا على الدكة. أراح ظهره إلى عامود مُقّطع الأنفاس غير راغبٍ بشيء متأرجحاً على حافة الغفوة. لا يدري كم خلد في جلسته، وهل غفا أم لا، لكنه يتذكر، أنه فيما كان يعّب نفساً عميقاً، بُوغِتَ بضجةٍ تصدر من تحت البلاط قرب قدميه، حيث أُزيحت بلاطاتٍ دائريةٍ موزعةٍ على مسافاتٍ متساويةٍ، كاشفةً عن فجوات عميقة، تدفق من أحشائها الحالكة بشرٌ أنصافَ عراةٍ، ممزقي الثياب، منخوري البشرات، كأن تيزاباً أُلقيَّ على جلودهم. أخذه الهلع وأشّتدَ عليه. طفقَ يرتعشُ. تَزحزَحَ نحوها رامقاً بذعرٍ الصفوف التي انتظمت جلوساً قدام دكتهم، الشاخصين نحوهم بعيونٍ مطفأة تنتظر الخبز والماء.

أُ طعموا.. وَسُقِيوا.

ليعودوا متزاحمين وهم يدلفون إلى الفجوات المعتمة النازلة إلى أحشاء الأرض. التفتَ نحوها وحدقَ بها طويلاً مشلولاً مذهولاً من هؤلاء البشر المشوهين القاطنين هذه الأمكنة القديمة المدفونة في أعماق الأرض السحيقة. قالت بهدوء:

- أشعر بالجوع.. وأنت؟!.

- ليس لدي رغبة في الزاد لكني عطشان!.

أطعمها رغيفاً وَسَقَتهُ ماءً بارداً شعر به ينزل في جوفه زلالاً. تراخى جسده ومال قليلا .. قليلا وهو ينود حتى لامس بمؤخرة رأسه سطح الدكة، وما لبث أن سقطَ فيِ غفوةٍ عميقةٍ، لم تستمر طويلاً، إذ هبَّ مذعوراً على صراخ أجوف، يقشّعر له البدن، وهذيان يتوسل أشباحاً يطلقها كائن مشوه يفترش دكة في الطرف المقابل لجلستهما، مناراً بموشور ضوءٍ مغبر كالح:

- بريء.. بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرررررررررررررررررررررررررررررري ورب الســـــــــــــــــمــــــــــــاوات بـــــــــــرررررررررررررررررئ!.

- بريء ورب الكعبة..

- لـــــــــــــــم أفــــــــــــــــعـــــــــــــــــل شــــــــــــــيـــــــــــئـــــــــــــاً وحق الحســـــــــــين والعبــاس..

- لا.. لا.. أبوس رجليكم.. أبوس قنادركم .. لا.. أخ.. أخ.. ليش.. ليش.. راح أموت اختنقت..

- مو بشر أني مثلكم.. مو بشر..

وتلوى بِمكانهِ كمن يتلقى ضرباتٍ موجعةٍ. يمسك بطنه تارة، ظهره في أخرى، ساقيه وخصيتيه في ثالثة، لينكبَ بعد ذلك مغرقاً قدميّ تمثالٍ بشري متجهم القسمات، محفور في صخر الجدار أعلى دكته، ناشداً أدعية تتضرع للحجر، وتتوسل كي يجد لروحهِ خلاصاً أو يضمها بين دفتي صمته الأبدي. كانَ يُحملق بالمتلويّ وهو يستلقي هالكاً من التعب، يلهث ويفرك جبهته المتفصدة بأصابع الحجر بصمتٍ لم يدم غير ثوانٍ معدودةٍ ضاعتْ بضجيجٍ داوٍ. رجالٌ ونساءٌ، شيوخٌ وأطفالٌ، شبانٌ وشابات يقلدون أصوات حيوانات وقطارات وطائرات حربية منقضة وسيارات إسعاف، صياح ديكة، عواء ذئاب، نباح كلاب، مواء قطط، زئير أسود مخلوطة بآهاتِ لذةٍ وغزلٍ بذيءٍ وشتائم ولعنات.

- قم.. هلم بنا!.

- ..!.

- هيا تحرك.. أمامنا الكثير!.

قادته من ذراعه إلى أنحاء جديدة، ينفذان إليها من خلال كوى وشقوق وأبواب تنفتح في الجدران، يصعدان إليها بسلالم وينزلان. مرّا بنساءٍ يفركنَّ عوراتهنَّ بأطراف أصابعهنَّ المرتعشة، برجالٍ يغرزون قضبانهم المنتصبة في خرقٍ مفروشةٍ ومرتبةٍ على هيئةِ أجسادٍ نساء، بصبايا وصبية يمارسون الحب أمام الأنظار، بأطفال معتوهين يتشبثون بأذيال تماثيل الحيطان والأعمدة، برجالٍ ونسوة منهمكين في الصلاة والدعاء، مفترشين سجادات بالية رثة يرددون الآيات غير آبهين بالضجيج. في الغرف والقاعات والباحات والممرات، في متاهاتها العويصة تَعَرَّفَ على عشراتِ الوجوه رغم تشوهاتها البليغةِ، معارف، أصدقاء، جيران، أقرباء، زملاء ورفاق اختفوا في ظروفٍ غامضة من الحارات والمعسكرات، أماكن العمل والبارات، غرف النوم والمحطات، في المدن الكبيرة والقرى، وجوه أصدقاء حميمين ضاعت أخبارهم في الجبهات والمعتقلات، وجوه ثوار عاشرهم في الجبل لفترةٍ وجيزةٍ. وجوه كانت جميلة حبيبة .. وجوه .. وجوه جعلته يندفع راكضاً نحوها، يبغي ضمها وتقبيلها، لكنها دفعته بخشونة، وطفرتْ إلى الزوايا المعتمة والسلالم وفتحات البلاط، وهي ترمقه باستنكارٍ، صارخةً صراخاً داوياً أملس جعله يتراجع وجلاً، ليحتمي خلف جسدها مخذولاً خائباً هامساً:

- كيف جاءوا إلى هذا المكان كيف؟!.

كان يهتز بكل جسده.

- اهدأ.. اهدأ.. مالك ترتعد هكذا؟!

- اخبريني.. اخبريني..

يرددها مختضاً من وحشة وجوه معارف أنكرته ونفرته، ممعناً في الالتصاق بجسدها من الخلف. انسلتْ من بين ذراعيه واستدارت نحوه:

ـ- قلت لك هدئ روعك.. هدئه كي أستطيع إخبارك!

أَطبق أجفانه وعبَّ أنفاساً متلاحقةً من الهواء الفاسد مجاهداً للسيطرة على الرعشة الجائبة مناحي الأعضاء.

- هيا.. هيا.. تكلمي من أين.. وكيف؟!.

أخذتهُ إلى دكةٍ إسمنتيةٍ قريبةٍ. أجلستهُ، وتكومتْ قرب قدميه، مستندةً بكوعيها على ركبتيه وقالت:

- مِنْ كُلِ مناحي الجحيم قَدِموا .. من كل الأصقاع؛ سجناء نجوا من أقبية سرية بمحض صدفة، بعد أن قّضوا فيها عشرات السنين، حينما قصفت الطائرات السجون، فهرب الحراس في الحرب الأخيرة، سياسيون شرفاء وأنذال اختفت أثارهم منذ سنوات وظهروا فاقدين الذاكرة، مجرمون، لصوص، مهربون، سماسرة، جنود هاربون من الجبهات جدعت أنوفهم، قطعتْ أكفهم، وشمت جباههم، صُلِمَتْ أذانهم عقاباً، فهجروا بشر الأعالي، عاهرات أرعبتهن الشيخوخة، نساء معتوهات، أرامل قتلى الحروب والسجون أصبن بلوثة، نساء أصبن بعاهات مستديمة، معوقو حرب فقدوا الأهل والأصحاب، حينما اقتتلَ الناس مع بعضهم ومع الحكومة في آذار1991، بشر مشوهون من شتى الأجناس والطوائف، لا أهل لهم ولا سكن، عرب وأكراد، تركمان وآشوريون، صابئة مندائيون ومسيحيون، يهود ويزيديون، سنة وشيعة، فُرس وأتراك، بشر من أرجاء المعمورة يخافون الضوء والسماء وبشر الأعالي .. وذلك لا يحتاج إلى شرحٍ يا صاحبي .. أليس كذلك؟!

- ..!.

- هيا بنا.

ودَّ لو يهرب من كل شيء فقال:

- لنخرج من هذا المكان!.

ارتابَ من صمتها المغلق.

- لماذا تسكتين؟!.

كانت تنهض وتعدل شالها وثوبها المغبر.

- من أين المخرج؟!

أَتمتْ تسوية هندامها وكأنها لم تسمع سؤاله، مما سعرَّ غضبه:

- قلت أريد الخروج!.

حَدَجَتْ بهِ بعينين من الحجرِ الصلدِ وقالت بنبرة ساخرة:

- عن أي مخرج تسأل عنه.. أي مخرج؟!

- اختنقت.. اختنقت.. أريد شمَّ الهواء.. الهواء..

- إش ـشــــششششششششششششش.. أخفض صوتك..

- إلى أين تريدين بيَّ؟!. أَلا يكفي ما رأيتهُ من هولٍ؟!.

قال ذلك بصوت خفيض ودود:

- اسكتْ.. واتبعني!.

- لكن.. إلى أين يا عزيزتي إلى أين؟!.

أصبحت نبرته ضعيفةً متضرعةً مستسلمةً.

- تعال .. تعال .. كي أستوثق أو أخلص من هاجسي!.

- ما الأمر .. ما الأمر؟.. أفصحي أرجوك!

- هيا قم وستعرف ونخلص بعد لحظات!

أنهضتهُ واقتادته من ذراعه المستسلمة إلى ممرٍ حلزوني طويلٍ شديد العتمة، ترتفع درجاته الحجرية المغبرة الواسعة متدرجةً تدرجاً طفيفاً لا يكادُ يحس به المرء. استدار الممر ملتفاً حول نفسه دورة واسعة شبه كاملة، قبل أن تنحدر درجاته انحداراً خفيفاً.

كلما ابتعدا في جوف الممر كلما تخافت الأنين واللغط، إلى أن تلاشى مندملاً في السكون، وهما يلجان قاعةً فسيحةً سقوفها عالية مرفوعة بأعمدة متينة متقابلة على امتداد طولها البعيد. القاعةُ مغبرة مضاءة بمصابيح خافتة تنبث من مشاكٍ مدفونة في أعلى وأسفل الجدران. قطعتْ مسافةً وانعطفتْ به نحو بابٍ خفيض،ٍ يلوذُ في مدخلٍ مموهٍ. دفعته بأناة، فأنفتح بيسرٍ في الصمت الثقيل. ومن بين تدوير الأعمدة المزخرفة تجاوزا عتبة الباب المرتفعة قليلا. صارا في باطن ممرٍ طويل خافت ضوؤه الأزرق المتسلل من مشاكٍ مخفية في الجدران والسقف. ضوءٌ وكأنهُ أولَ الفجر يستطيع المار الرؤية فيه، فانكشفت كائنات الحيطان؛ صمت منحوتات جدرانه العالية. أجساد خيول جافلة، راكضة، وديعة. كلاب صيد. صقور منقضة على فرائسها. أسود مضطجعة. رجال عراة يصيدون بالقوس والنشاب غزلاناً شاردةً في تيه براري الحجر، المؤطرة الحواف بوجوه بشرية صارمة النظرات. ترمق خطوهم الوئيد من عيون جاحظة تخترق غبار الأزمنة.

أجفلهُ بريق عيون الحجر العارف، فتشبثَ بأصابعها تشبثْ غريقٍ إلى أن اجتازا أخر وجه ينام في صمت الجدران، ليدخلا مصب اسطوانة ضوء باهر يسقط من تجويف في السقف الخفيض. ضوءٌ يعشي العيون، وكأنه عين الشمس. تلكأ في أمواج النور هنيهة. كان يود البقاء في فيضه، لكنها جرته من نهر الضوء الفوار، ووضعته على عتبة حجرة معتمة كالحة. احتجبتْ الرؤية بحشدٍ من ذراتٍ فضيةٍ تتراقص مقتربة مبتعدة، متكتلة متفرقةً. ثبت بمكانه إلى أن تراءت من باطن العتمة أشياء الحجرة تظهر وتغيب حوافها وسط لمعان رذاذ الفضة المتراقص. ذابتْ كسر الضوء مختفية في فضاء الحجرة، فاتضحتْ الرؤية؛ دكةٌ إسمنتية بقّدِ طولِ الإنسان وعرضه احتلتْ وسطَ الحجرة، ذكرته بدكة غسل الموتى، عارية مبلولة، تكومتْ حولها أسمالٌ باليةٌ ممزقةٌ، وكتل أشياء مبهمة بدتْ أدكن من العتمة الخفيفة. هاجمتهُ وحشة قاحلة ماحقة، فتلفتَ مضطرباً، يفتش عن المرأة التي تبخرت.

وحيداً يقف على العتبة مؤطراً بعوارض الباب الخشبي يرمق الحجرة وجدرانها الملساء وسقفها العالي. وحيداً مستوحشاً يرغب في الاستدارة والهرب إلى جحيم الأعالي الذي عاد حلماً الآن، لكنه مغروسٌ في العتبة ينتظر.. ينتظر.. وينتظر ما لا يدريه .. ودفعةً واحدةً هَبتْ عليه تلك الرائحة الأليفة القديمة، فتمايل مترنحاً كسكران. رجع خطوة إلى الوراء كي يتمسك بعضادتي الباب البارزتين. لبث هكذا يقاوم السقوط بعناء، غارقاً بضوعها المتدفق من أغوار النفس، من أرجاء الحجرة. الرائحة التي شمها في عربة الإيفا العسكرية، وهي تنقلهم إلى ساحة الإعدام، في ملعب تكريت لكرة القدم، في ذلك الغبش الحزين. رائحة السرير الذي ترتبه أمه كل مساء بانتظار الغائب. الرائحة الفائحة من نهد المرأة العاري، من السرير في الغرفة المرتبة التي هبطوا من بابها الحجري السري إلى هذه الأمكنة. اضطرب وتعالى وجيب قلبه، ضاجاً في السكون، وأظلّمتْ الدنيا وكأنه فقد البصر:

- ما معنى هذا يا رب الكون.. ما معنى هذا يا رب الأمكنة المهجورة المدفونة في الأعماق.. ما معنى هذا.. ما معناه؟!

تَماسَكَ معاوداً الحملقة في الأشياءِ التي شرعتْ بنفض عتمتها، فأبصر كتلةً متكورةً في الزاوية المقابلة لصق الجدار. تَحَسَسَ ما تبقى من الخبزِ في الصّرة المعلقة على كتفه، وخطا باتجاهها. أمعنتْ الكتلةُ في تكورها. دَسَّ كفهُ في الصرة. أخرج رغيفاً أثناء اقترابه الوجل. ألتمتْ الكتلة متطويةً تطوياً شديدا،ً وهي تسحب بكفين مبتوري الأصابع أطراف الرداء الخرق. أصبح باستطاعتهِ تشخيصَ التقاطيع. أنف مجدوع. بشرةٌ محفّرةٌ بآثارِ حروقٍ قديمةٍ. باغتهُ الدوار ثانيةً قادماً مع هبةٍ قويةٍ من الرائحةِ الأليفةِ هاجمته من جهتها، فترنح متمايلاً قبل أن يستعيد توازنه، ويتقدم بخطىً مضطربة. تَحَرَكَتْ الكتلةُ من تكورها مرتكزةً على أربعة، فتمكن من رؤية الساقين مقطوعتي القدمين. هبةٌ أخرى من العطر القديم دفعته إلى الإسراع نحوها. حَبَتْ محاولةً التملص مدليةً رأسها جانبياً، مما سمح له ملاحظة عينها اليمنى المسمولة. شَعرَ بحفيفٍ خفيفٍ يصدر من خلفه. التفتَ وجدها إلى جوارهِ. نادتْ برقةٍ على الكتلة المفزوعة الهاربة، فتوقفت، وهمّتْ في الاستدارة نحوهما حال سماعها النبرة الخافتة. ومن بروكها المستدير نصف استدارة حدقتْ بالعين السليمة الواسعة السوداء. جمدهُ بريقها القديم، وطوحت به الرائحة المتدفقة طوفاناً من بقاياه، فصرخ صرخةً مدويةً، وتناثر هباءً على البلاط في المسافة الضيقة المحصورة بين وقفتها وبروكه.