حين أرسل لي الكاتب والصديق عواد علي مسرحيته للقراءة والإطلاع، لم أتوقع أبداً، من العنوان ومن جنسية الكاتب "العراقية العربية"، أن أحداث المسرحية تجري في فلسطين في فترة الانتداب البريطاني في أواخر الثلاثينيات وبدايات الأربعينيات من القرن الماضي، الذي شهد أبشع احتلال عرفه التاريخ المعاصر وما زال مستمراً ويزداد بشاعة.
والمسرحية، وكما يشير الكاتب في البداية، قد قامت على تكييف درامي لقصة "أنزل المدخنة، ارفع المدخنة!" للقاص التركي "صدري إرتم"، وهذا زاد من احترامي للكاتب وشوقي لقراءة المسرحية بتمعن، فالقصة مختلفة من خلال الحدث والسياق والمكان عن مسرحية "قناع السموأل"، ولكنه من باب الاحترام للنفس أولاً ولحقوق الغير، وضع الملاحظة مباشرة في البداية بعد العنوان.
بالنسبة إلى العنوان فقد حمل إشارة مهمة، فاستعارة اسم "السموأل" كانت مسألة مهمة مع كلمة قناع، فالقناع ما يتستر به إنسان ما، و"السموأل" هو الشاعر "السموأل بن غريض بن عادياء"، وكان يدين باليهودية، واختلف النسابة على نسبه إن كان عربياً من بني الديان العرب من قبيلة مذحج، والذين افتخر بهم بشِعره، أم هو يهودي غير عربي، واشتهر السموأل بالوفاء وبلاميته الشعرية، فهو رفض أن يسلم أمانة امرئ القيس لمن حاصروا حصنه وهددوه بقتل ابنه حين أسروه إن لم يسلم الأمانات المستودعة عنده فرفض وقتلوا ابنه، وقال معبراً عن ذلك:
وفيت بأدرع الكندي إني / إذا ما خان أقـوام وفيـت
فضرب به المثل بالوفاء حين قال: "لا أخفر ذمتي وأخون أمانتي"، وأصبح مضرباً للمثل العربي الشهير "أوفى من السموأل"، وهنا نجد أن العنوان عبّر عن محتوى المسرحية حين كان الوفاء مجرد قناع من شخصيات يهودية في المسرحية، بينما الغدر كان ما يضمرونه.
المسرحية قامت على تسع عشر شخصية بين عرب ويهود وصهاينة، ومن المشهد الأول الذي ضم ثلاث شخصيات هي: "مايكل" صاحب المصنع، و"ماريا" زوجته، و"شموئيل" مدرس التاريخ، تظهر رائحة العنصرية والتآمر على العرب، فـشموئيل تأخر بالوصول وقال معتذراً لـمايكل إنه تأخر بسبب تعرضه لهجوم من الكلاب، ليسأله مايكل: هل كانوا مسلحين؟ قاصداً العرب بذلك، ليكمل بعد ذلك مايكل بإبداء رغبته لـشموئيل عن نواياه لشراء أراضي القرية للاستثمار وليس من زاوية الوعد التوراتي المزعوم فقط، فيقول: "لم أترك بلدي بريطانيا العظمى وأهاجر إلى هنا حباً بأرض الميعاد فقط". وينصحه شموئيل أنه يجب أن يبقى تحت قناع المستثمر البولندي المسيحي كي يتمكن من خداع أصحاب الأراضي الفلسطينيين العرب وشراء بعض الأراضي منهم، ويقول: "العرب لا ينفع معهم إلا الخداع.. أنا مولود هنا وأعرفهم جيداً، إنهم نسخة مطابقة للكنعانيين". وحين تعترض "ماريا" زوجة مايكل على ما تسمع وتبدأ بفضح استغلال المهاجرات اليهوديات وبنات العائلات الفقيرة ليعملن في مواخير دعارة ليجندن جنود بريطانيا لخدمة مصالح اليهود، وتعرب عن رغبتها بالعودة لموطنها الأصلي فهي تنظم الشعر وتنتمي للإنسانية، وتؤمن أن الفلسطينيين لن يكفّوا عن ثوراتهم ومحاربة المحتلين، فيتهمها زوجها أنها معادية لليهودية فتعلن موقفها أنها كانت مسيحية وتهودت وستعود لديانتها.
وهنا نلاحظ أن الكاتب استطاع أن يدخل للتناقضات والعقلية اليهودية، فمن ليس معهم فهو ضدهم ومعاد للسامية، ومن اختلف معهم يتهمونه بالانتماء لمبادئ أخرى منها "اللينينية" كما تحدث مايكل عن "جوزيف" شقيق ماريا، أو لجماعة "ناطوري كارتا" وترجمتها حراس المدينة، اليهودية الأرثوذكسية التي ترفض الصهيونية ودولة "إسرائيل" وتعتبر ذلك مخالفاً للديانة اليهودية، كما تمكن الكاتب من توظيف الأسطورة التوراتية وإسقاطها على ممارسات الحركة اليهودية الصهيونية في فلسطين مثل حكاية البغايا "أهلولة وأختها" الواردتين في التوراة في سفر حزقيال، إضافة إلى تفسير التاريخ المعاصر لتلك الفترة وأسلوب بريطانيا في سياسة "فرق تسد" لزرع الشقاق في الصفوف العربية، كما يشير إلى توحد الفلسطينيين في ارتداء الكوفية بناء على قرار الثورة، كما يؤكد الكاتب في مسرحيته على الدور الاقتصادي الذي كان يحكم اليهود في توجههم إلى فلسطين للاستيلاء على أراضيها ومزارعها بالترغيب والخداع والقوة، فـمايكل يريد أن يغيّر اسم القرية العربية التي يطمع بأراضيها إلى اسم هدار ويعني بالعبرية الحمضيات الفاخرة، والآن فعلاً توجد منطقة على أطراف حيفا تسمى بهذا الاسم العبري، وفي نفس الوقت هو ليس متديناً، ولكنه يستغل الدين وأسطورة أرض الميعاد لمصالحه الاقتصادية، وهذا كان أساس توجهات اليهود لفلسطين تحت ستار الكذبة التوراتية، وهو يتستر خلف المسيحية كي يخدع العرب وهو يظهر لهم تعاطفه معهم ومحبته لهم ويقدم لهم بعض الخدمات وتشغيل بعضهم كي يظهر وفاءه لأبناء فلسطين، كما شموئيل اليهودي يستغل معلوماته التاريخية ويتحدث لأبناء البلدة بلغتهم ومعتقداتهم ويشعرهم أنه مسلم سراً، ويفهمهم بشكل موارب أنه كما هم أبناء للبلد وإخوة في المعتقد، بينما هو كما مايكل يرتدون قناع السموأل ولا يربطهما بوفاء السموأل أي رابط، فالهدف خداع أصحاب الأرض للاستيلاء عليها.
- أشار الكاتب إلى كيفية أن الفكر الذي يحكم اليهود هو معاداة الغير إن اختلفوا معهم حتى في قراءة رواية كما اتهم مايكل ماريا بالغباء لأنها تقرأ في رواية قلب الظلام للروائي "جوزبف كونراد" وهو بولندي الجنسية بريطاني الأصل والرواية تتحدث عن المستعمرين والمناطق المستعمّرة.
وأيضاً يستخدم رواية التراث حول قرية لقمان الحكيم ليظهر ارتباط الناس بأرضهم والانتماء لمهنة الزراعة التي يعتبرون أرض فلسطين تعطي خمسين ضعفاً عن الأراضي في العالم بعد ذوبان كتاب لقمان الحكيم في نهر العوجا، والذي اكتشف فيه سر الخلود وسقط من يده في النهر، وحين اختلطت المياه التي ذاب بها الكتاب في أرض تلك القرية أصبح نتاجها خمسين ضعفاً، وهذا ما أثار شهية مايكل المتستر بالمسيحية حين سمع الكلام من الشيخ ياسين وهو يبدي الرغبة بالبقاء والاستثمار بين العرب واتهامه الأوربيون بالنصب والاحتيال، وهو مَن كان يمارس الخداع والنصب والاحتيال، وهو لم يتمكن من أن ينشر خداعه على الجميع، لكنه وبنصيحة شموئيل الذي استغل حكاية مئذنة مقام الولي في القرية، كي يجعل مدخنة مصنع مايكل أقل منها ارتفاعاً تحت دعوى أن المئذنة يجب أن تكون الأعلى، فتتسمم الأرض ويمرض الناس بجهلهم، فيشتري منهم الأرض بأقل الأسعار ليعيد بعدها استصلاحها من جديد، ويجعل بعض من أهلها أجراء عنده في الأرض أو عمالاً في المصنع.
تنتهي المسرحية بالحوار بين خليل ابن تلك البلدة ووليد صديقه المقدسي، كيف أن العرب جعلوا السموأل اليهودي رمزاً للوفاء بتراثهم وأمثالهم، بينما الأوربيون جعلوا شايلوك رمزاً لليهودي الجشع والمعادي، ومع هذا جاء اليهود من أجل الاستيلاء على فلسطين وطرد أهلها وإبادتهم.
المسرحية كانت قراءة تاريخية ناجحة لتلك المرحلة الزمنية، وهي في نفس الوقت إسقاط للتاريخ البعيد والقريب على الواقع المعاصر، فما زال بني صهيون يمارسون الخداع والكذب والقوة ضد الفلسطينيون والعرب، وتمكنوا بخداعهم أن يصادقوا ويتحالفوا مع غالبية الزعماء العرب سراً أو علانية، تاركين الفلسطينيين يصيحون: يا وحدنا.
"جيوس 3/12/2019"