يتناول الباحث فلسفة القبليات المعرفية، ويخلص إلى أنها لا تنحصر في القضايا العقلية الصرفة، خلاف ما أكد عليه الفلاسفة لدى أبحاثهم الإبستمولوجية إزاء فلسفة الوجود العام، كالذي تحدث عنه عمانوئيل كانت ضمن منطقه الترانسدنتالي. ولهم في ذلك ما يبرر فعلهم ضمن حقل التفكير الفلسفي أو الذهني بإطلاق.

ما هو قبلي هنا بعدي هناك وبالعكس

يحيى محمد

 

نقصد بالقبليات المعرفية ما هو أعم من مفهوم (المعارف القبلية) الوارد ذكرها في المباحث الفلسفية. فعادة ما يُقصد بالمفهوم الأخير هو كل معرفة عقلية سابقة للحس والتجربة. أما المعنى الذي نريده من مصطلح القبليات فهو كل معرفة تسبق دراسة الموضوع المطروح. فمثلاً إذا كانت القضايا الحسية تعتبر من البعديات لدى التفكير الفلسفي أو العقلي بإطلاق؛ فإنها تعتبر في الوقت ذاته من القبليات المعرفية لدى قراءة النص الديني وفهمه. فمن حيث الحس - مثلاً - نعلم انه ليس للأشياء المادية إرادة، وهي قضية بعدية وليست قبلية بالنسبة إلى التفكير العقلي بإطلاق. لكنها تقع موقع القبليات المعرفية في فهم الكثير من النصوص الدينية، كقوله تعالى: «فوجدا فيها جداراً يريد ان ينقض فأقامه»[1]، إذ طبقاً لمعرفتنا القبلية المتمثلة بمعرفتنا الحسية؛ لا يمكن أن نفسر إرادة الجدار بالمعنى الحقيقي للإرادة. ويمكن حصول العكس، وهو ان البعديات في الفهم الديني وقراءة النص قد تصبح من القبليات في المعرفة المتعلقة بالأمور الخارجية، ومن ذلك ما يصرح به النص من وجود الملائكة أو الجن وما اليه، فهو من القبليات الدينية مقارنة بما عليه الواقع الموضوعي والوجود الخارجي، بإعتبار ان معرفته ليست مستمدة من التجربة والحس، كما انها ليست عقلية ولا وجدانية.

وبالتالي قد يكون النشاط الذهني متعاكساً في ممارسته للقبليات مقارنة بالبعديات. فمثلاً يمكن أن يكون الفهم الديني قائماً على القبليات العلمية أو الفلسفية أو غيرها، وقد يحصل العكس أيضاً، كما في حالة تفسير القضايا العلمية والفلسفية إستناداً إلى اسقاطات القبليات الدينية.

ومن حيث العموم إن لقبليات المعرفة أشكالاً من البنى النسبية المتنوعة، فقد تكون القبليات دينية بيانية، أو واقعية إخبارية، أو عقلية صرفة، أو حدسية كشفية. كما قد تكون القبليات اسطورية أو نفسية أو غيرها مما تفتقر للإعتبار عادة. فالبنى الأربع الأولى هي موضع التعويل المنضبط لدى ممارسة التفكير الذهني في القضايا المطروحة. ويقابلها البعديات، فلكل من القبليات السابقة بعدياتها، وكل منها يتصف بالنسبية، فالقبليات بالنسبة لقضايا معينة قد تكون بعديات بالنسبة لقضايا أخرى مختلفة، والعكس بالعكس.

فالمعارف المستمدة من ذات الموضوع المطروح للبحث والدراسة تتصف بالبعديات، فهي تنتمي إلى ذات الإطار المرجعي للموضوع المبحوث أو المقروء دون أن تستمد من أُطرٍ مرجعية أخرى، لكنها يمكن ان تتخذ دور القبليات بالنسبة إلى حقول معرفية خارجة عن الإطار المشار إليه.

فمثلاً تعتبر المعارف العقلية الصرفة التي يُستنتج بعضها من البعض الآخر –ضمن مرجعية العقل المجرد ذاته- من البعديات، وفي الوقت ذاته يمكن أن تكون من القبليات عندما تُتخذ كمرجع بالنسبة للحقول المعرفية الأخرى، كالدينية والواقعية والحدسية أو الكشفية. ومن ذلك إنه في الفلسفة التقليدية تتصف قواعد الإمكان الأشرف والصدور وتشاكل المراتب وغيرها بأنها من البعديات بالنسبة إلى الحقل الفلسفي المجرد ذاته، فهي مستنتجة من مبدأ السنخية الذي يمثل الأصل المولد لدى التفكير الفلسفي الوجودي، لكنها في الوقت ذاته تكون من القبليات عند اسقاطها على المعارف الدينية أو الواقعية أو الكشفية. ومثل ذلك إن المعارف الدينية البيانية هي من البعديات ضمن ذات الإطار الديني، لكنها قد تكون من القبليات المسلَّم بها لدى التفكير في تحليل الواقع او العقل أو الحدس الكشفي. وينطبق هذا الحال على معارف الأشكال الأخرى وفق النسبية المشار إليها. فالمعارف الواقعية أو الحدسية، قد تكون من البعديات عندما يتم التعامل معها ضمن ذات الحقل الذي يخصها، لكنها يمكن أن تكون من القبليات بالنسبة للتفكير في قضايا الحقول الأخرى.

إذاً.. فما هو بعدي هنا قبلي هناك، وكذا العكس. وإذا ما كان القبلي يؤثر في البعدي، فإن العكس صحيح أيضاً، حيث يمكن للبعدي أن يؤثر في القبلي ويعمل على تغييره طالما أنه غير مستقر أو ثابت بذاته.

ومبدئياً قد تكون القضية المطروحة على بساط البحث مصنفة ضمن القضايا الدينية، ومع هذا تساهم في فهمها قبليات عائدة إلى البنى الواقعية والعقلية والحدسية الكشفية، اجتماعاً وانفراداً. كما قد تكون القضية واقعية، ورغم ذلك تخضع لقبليات الفهم الديني أو التفكير العقلي أو الحدسي. وقد تكون القضية عقلية، لكنها تخضع لحكم القبليات الدينية أو الواقعية أو الحدسية الكشفية. ومثل ذلك قد تكون القضية المطروحة حدسية كشفية، لكن تفسيرها يخضع لقبليات البنى الثلاث الأخرى (الدينية أو الواقعية أو العقلية).

كما أن بعديات أي شكل من البنى الأربع الآنفة الذكر قد تؤثر على قبليات غيرها. فالبعديات الدينية، وهي المستنتجة بالفهم البياني من النص اللغوي الديني، قد تساهم في تغيير جملة من قبليات الأشكال الثلاثة الأخرى، وكذا هو الحال مع البعديات الواقعية والعقلية والحدسية الكشفية. فلكل منها بعدياتها الخاصة التي قد تعمل على تغيير بعض من قبليات البنى الأخرى غير المستقرة. مما يعني انه مثلما قد يتأثر الباحثون في القضايا الدينية بالقبليات الواقعية والعقلية والحدسية الكشفية عند ممارسة الفهم الديني، فانهم قد يسقطون -في الوقت ذاته- بعدياتهم الدينية إلى الدرجة التي يغيرون بها قبلياتهم المتعلقة بالبنى الثلاث الآنفة الذكر. وعلى نفس المنوال يتصف حال الباحثين في القضايا الأخرى (الواقعية أو العقلية أو الحدسية).

وما نخلص إليه هو أن القبليات لا تنحصر في القضايا العقلية الصرفة، خلاف الحال الذي أكد عليه الفلاسفة لدى أبحاثهم الإبستمولوجية إزاء فلسفة الوجود العام، كالذي يتحدث عنه عمانوئيل كانت ضمن منطقه الترانسدنتالي (transcendental). ولهم في ذلك ما يبرر فعلهم ضمن حقل التفكير الفلسفي أو الذهني بإطلاق. لكننا عندما نوسع من طبيعة القضايا ونأخذ بعين الإعتبار تداخلاتها المختلفة، إذ بعضها يتصف بالعقلية فيما يتصف البعض الآخر بمصادر لا تمت إلى العقل الصرف بصلة، فإنه في هذه الحالة لا يمكننا ان نعوّل على المنطق الترانسدنتالي الذي جاء به الفلاسفة في نعتهم للقبليات وما يقابلها من بعديات. فالنسبية في التفكير ظاهرة لا مراء فيها، وان واقع الذهن البشري يتخذ من العلاقة بين القبليات والبعديات مصادر بعضها يؤثر في البعض الآخر، لا أقلّ من أن نظريات الفيزياء المعاصرة قد أخذت على عاتقها هدم الجدار المحصن للقبليات -كما بناه الفلاسفة بمنطقهم المتعالي- ببعديات تجاربهم غير المألوفة للعقل والوجدان العام.

ومن الضروري أن نميز – هنا - بين الوصف والتقويم عند معالجة القبليات، فمن حيث الوصف ندرك ما عليه حال الباحثين ومواقفهم المختلفة إزاء القبليات المسلّم بها، وقد لا نوافقهم عليها من حيث التقويم. فالفيزيائيون مثلاً قد سلكوا درباً لنسف البداهة العقلية بما فيها تلك المناطة بمبدأ عدم الاتساق (التناقض) الوجودي، ومثله مبدأ السببية وقوانينها العامة، وبالتالي لم تكن بحوث عمالقة الفلاسفة المنظرين من أمثال أرسطو وعمانوئيل كانت تعني لهم شيئاً ذا بال، ومن ذلك ما ظهر من تفسيرات حول ما يُعرف بتناقض قطة شرودنجر، استناداً إلى بعض الشواهد التجريبية، كالتي عوّل عليها أغلب أتباع الكوانتم دون مناقشة، وكما يُقال فيزيائياً: إن ‹‹قطة شرودنجر تجلس في هذا الصندوق بطريقة ما حية وميتة إلى ان يكشف غطاء الصندوق››[2]. لكن هذه الحالة التقريرية لما آلت إليه الفيزياء المعاصرة - في قلبها للمنطق والبداهة الوجدانية رأساً على عقب - لا تثنينا عن التمسك بقضايا غير قابلة للرد، فكل رد لها مردود عليه، مثل التمسك بمبدأ عدم التناقض للقضايا المعرفية. وبالتالي لا مفر من الاعتراف بوجود قضايا متعالية ثابتة غير قابلة للتجاوز والتغيير.

مع ذلك فإن ما يهمنا عندما نعالج أنماط التفكير المعرفي هو الإقرار الوصفي بوجود حالات نسبية للقبليات، فما هو قبلي هنا بعدي هناك، وما هو بعدي هنا قبلي هناك، مع الإعتراف بوجود قبليات مطلقة لا تخضع لمثل هذه النسبية.

إن التأكيد على وجود قبليات نسبية في علاقتها التفاعلية مع البعديات يجعلنا نتخطى الحدود التي رسمها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت للتفكير الفلسفي. فمن جانب انه اعتمد على بعض البعديات وتوهم بأنها من القبليات، كما هو الحال في تصوراته للهندسة الكونية اعتماداً على المنظومة النيوتنية، ومثل ذلك تبنيه لقوانين نيوتن واعتبارها من القبليات الضرورية المحضة، مثل قانون تساوي الفعل ورد الفعل، ومبدأ العطالة أو القصور الذاتي[3]، مع أن لهذا المبدأ صيغاً مختلفة، أحدها يعود الى نيوتن، وأن هناك صيغة ثانية قد سبق إليها غاليلو، إضافة إلى صيغة ثالثة تعود إلى أرسطو[4]. بالإضافة إلى أنه جعل من ضمن القبليات العقلية المحضة احتواء المادة على كميات ثابتة لا تزيد ولا تنقص[5]، رغم أن علاقة المادة بالطاقة –كما تدل عليها فيزياء القرن العشرين- تبطل مثل هذا الحكم. كما من جانب آخر إنه لم يتوسع في بسط القبليات إلى ما يتعدى حدود المفاهيم والأحكام البديهية الصرفة التي أطّرها ضمن خاصتي (الضرورة والكلية)[6]، وهما موضع إشتراك الفاهمة البشرية أو الذهنية، رغم وجود قبليات لا تتصف بالضرورة والكلية، مثل ادراكنا للعالم الموضوعي المجمل، ومثل اقرارنا بوجودنا الحضوري، كما أن هناك قبليات نسبية خاصة هنا وهناك، وهي القبليات التي تراود البشر جميعاً في شتى أبحاثهم بما فيها الفلسفية الصرفة، وكان من غير الممكن أن يكون عقل الفلاسفة، بمن فيهم أرسطو وعمانوئيل كانت، خالياً منها.. فمصادر هذه القبليات كثيرة، ومن السهل أن تنسلّ إلى نفوس الفلاسفة والعلماء قبل عقولهم بوعي وبغير وعي.

* * *

الهوامش:
[1] الكهف/77.

[2] والتر إيزاكسون: أينشتاين حياته وعالمه، ترجمة هاشم أحمد محمد، نشر دار كلمة وكلمات عربية، الطبعة الأولى، 2010م، ص468.

[3] عمانوئيل كنط: نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الانماء القومي، بيروت، ص51 و53، عن مكتبة الموقع الإلكتروني:

www.4shared.com

[4] للتفصيل انظر كتابنا: منهج العلم والفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الاولى، 2014م.

[5] نقد العقل المحض، ص51.

[6] المصدر السابق، ص46.