يخلص الناقد إلى أن تطور الصورة الشعرية حديثاً جاء لتعبر عن المعنى الجوهري من خلال الوجدان، واستدعاء الصور الفنية للذاكرة، ومحاولة تجسيمها وهذا ما عبر عنه غاستون باشلار المعتم المضيء، فالشعر مهم وملكة انسانية للتكيف بين الطبيعية والانسان ومعرفة ما وراءها.

فلسفة الشعر في لهب باشلار

كاظم لفتة جـبر

 

إن محاولة تناول الشعر فلسفيا مسألة صعبة لما آلت إلية التطورات الفلسفية في عهد أفلاطون (427ق.م) وفصلة الشعر عن الفلسفة، إذ أن الشعر بحث في الجمال أما الفلسفة بحث في العقل، وهذا ما أدى إلى فصل الفلسفة عن الشعر، (الجمهورية الكتاب العاشر). إلا أن مجيء الفيلسوف الألماني هيدغر (1889م) ومحاولته دراسة شعر هولدرن فلسفياً معداً الشعر معرفة من نوع آخر عن المعرفة العقلية، فأعاد للوجود موسيقاه الجمالية فالشعر يرتبط بالطبيعة من خلال الصور الجمالية التي تقدمها لنا.

هذا ما جعل الفيلسوف الفرنسي باشلار (1884م) في كتابة "لهب شمعة" يحاول استنطاق الطبيعة بروح أرسطية لما فيها من صور شعرية مجردة، واكتشاف ما وراءها من خلال خلاصتها الجوهرية متمثل بالنور الذي يقف خلف كل معتم (الصورة الحقيقية)، فإن كل شيء معتم (مادة) لا يمكن أن يكون حقيقة إلا بوجود مضيء (صورة) يكون جوهر هذا الشيء وحقيقته التي يتمثل بها المادي.

المادي (المعتم) هو العرضي الذي حاول استنطاقه باشلار بروح الفيلسوف الشاعر في حين أن البحث في كل معتم عن مضيء يكشف عتمة الوجود الخيالي حتى ولو بنور خافت كما يشبه هذه اللحظة بلحظة انطفاء لهب القنديل مع بقاء لمعان عيون قطة في غرفة مظلمة (ص50)، فالعالم هو النور الخافت بسبب ابتعادنا عن النور الحقيقي أو المضيء وهو الله فان الأشعة مهما كانت خافتة إلا أنها تروي ساق نبات وروح إنسان وتنير الكون وتثير خيال شاعر فإن الشاعر يستوحي صورته الشعرية من رحم المعاناة وغياب المضيء في كل تمظهرات الكون.

للظاهرة أثرا مهما في بيان صورة الشاعر وهذا يعبر عن حدس المعرفة التي قال بها هيدغر يستطيع من خلالها الشاعر الولوج إلى المضيء أو الصورة الخيالية التي تمكن الفيلسوف فيما بعد للاشتغال على هذه الصور فتكون مهمته هي النظر في هذه الصور ومحاولة اختيار الجوهرية منها، لأنها تمثل الحقيقة والمضيء الذي يمكن الانتفاع منه في قضايا وجود النفس وتأثيره عليها.

لذلك نجد الشعر والوجود والشاعر والفيلسوف متقاربان ويكمل أحدهما الآخر ففي ضوء تاريخ العلم كان الشعر تفلسفا كما هو في أشعار هيرميروس وغيره من اليونانيين.

اللحظة التي بحث فيها باشلار عن صورة خيالية صافية وزرقاء كزرقة (لهب شمعة) (ص43) فإن هذه اللحظة التي يمر بها الوجود واللهب تمثل لحظة هيجان خيالي لدى الشاعر وبحث عقلي عند الفيلسوف فكل ما في الوجود يكمن في هذه اللحظة إلا أننا نختلف في قضاء هذه اللحظة بحثاً عن المضيء الذي يقف خلف كل معتم بمعنى لولا المضيء لم يكن للمعتم معنى وجود ولو الله لم نكن موجودين فالكون يمثل لحظة عابرة في التفكير الإلهي وأي لحظة عابرة تكون بهذا التنظيم؟

اختيار باشلار لصورة النار لسرعة صيرورتها أي تغيرها ومدى تأثير انعكاساتها على الأشياء المعتمة كالأجسام فمثالها الشمس وتأثيرها على الارض وما فيها لذلك يقابل بين النار والمعتم الذي يمثلان المصادر الأساسية للوجود كما خاض بها الأوائل من الفلاسفة الطبيعيين في اليونان، فمعتم الطبيعة يخفي المضيء أو حقيقة وجود الشيء وماهي إلا فكرة أرسطية للوجود وللصورة الشعرية المنظمة التي تحاول الوصول إلى الخيال والتنظيم الشعري للأفكار الحقيقية والمضيئة، فالشاعر علية أن يفكر بعقل الفيلسوف لكي يحصل له الخيال واللحظة التي تنقله للمواصلة في ميادين الوجود ومحاولة تصورها، فإن الرابط بين الشعر والعلم هو الفيلسوف، وبين الخيال والتجربة هو العقل.

فكل إنسان شاعر لأنه يتمثل الجمال عنده لحظة لا أراديه، في حين إذا أراد أن يكون شاعراً بالمعنى الحقيقي فعلية بعقل الفيلسوف محاولا الابتعاد عن الهيجان والبعثرة للأفكار للانتقال إلى الخيال واختيار الصورة الجوهرية التي تمنح الشعر لحظة عقلية مضيئة، وهو ما تكون علية النفس الإنسانية في محاولة التخلص من المعتم الجسم للانطلاق في رحلة التطهير التدريجي للوصول إلى اللحظة النورانية بعد الاعتماد على عدة قواعد وهي تقارب لحظة المتصوفين التجريدية والمثيرة لما تقدم لا صاحبها من صور خيالية وحدوس نورانية تجعله ينطق بها، كذلك الشاعر وما تحصل له من الهامات شعرية عند صفاء ذهنه(ص42).

كما أن التشبث بالمادي المعتم يمثل ابتعاد وعارض عن جوهر الشيء وحقيقته كذلك اعتماد الشاعر للصور المادية لا تعبر عن جوهر حقيقة الشاعر فأن اعتماده على المادة يمثل ارتكاز لمصالح دنيوية وهذا ما يفعله بعض الشعراء السفسطائيين لتزيف الحقيقة وجعل للمعتم ضوء مزيف وتكون جوهر هذه العملية المنفعة الشخصية الا أن باشلار أراد من الشعر ان يكون معبرا عن معاناة المجتمع وفتح نوافذ مضيئة لكثرة عتمة العالم كما عدُه منفذا للتحليل النفسي وهذا ما نجده عند عالم النفس والفيلسوف الماني الامريكي اريك فروم (1900) كلنا نرغب بالحياة إلا أن الألم هي من تجعلنا نبحث عن عالم أخر من خلال الاحلام والشعر (كتاب فن الوجود).

فباشلار يرى لتخليص النفس من عتمتها يجب سيادة نار الحب وهي التي تكون لحظة زرقا يبحث عنها كل إنسان فكل معتم يحتاج إلى نافذة الحب وهي السلام والتوازن الداخلي لقوى النفس لدخول أشعة المضيء إلى جوف ذواتنا فكذلك تعد لحظة الصفاء الذهنية عند الشاعر لحظة سلام وحب للصور التي ينتقي منها ما يلائم حقيقة قضيته الشعرية (ص65) فالوجود يتكون من وجود صورة ومادة، أما الصور الشعرية فتتكون من مضيء ومعتم فالمزج بين المعتم والمضيء ضرورة شعرية لظهور الصورة الجوهرية التي تعبر عن قضية القصيدة الشعرية كما أن المزج بين المادة والصورة (الجسم والنفس) ضرورة وجودية لظهور الانسان وهو يكون مزجاً صورياً كما تتعدد أنوع الصور الشعرية بتعدد صور الطبيعة فعناصر الصورة الشعرية هي الأوزان والقافية الذي يعادل المنطق او الاسلوب الصحيح للتفكير والتعبير عن ما يكمن فينا من أفكار.

فقديما كانت الصورة الشعرية تعبر عن الصور الخيالية كما عند الجاحظ وعبد القاهر والقاضي الجرجاني وقدامة بن جعفر حيث تمثلت الصورة عند الجرجاني من خلال التجسيم والوصف الحسي للمعاني حيث تأثروا بالفلسفة اليونانية وخاصة أرسطو حين فصلوا بين اللفظ والمعنى واعتمدوا على الخيال الذي يبتعد كل البعد عن المباشرة، في حين تطورت الصورة الشعرية حديثا لتعبر عن المعنى الجوهري للصور من خلال الوجدان واستدعاء الصور الفنية للذاكرة، ومحاولة تجسيمها وهذا ما عبر عنه غاستون باشلار المعتم المضيء فالشعر مهم وملكة انسانية للتكيف بين الطبيعية والانسان ومعرفة ما وراءها.