تعيش رواية أميركا اللاتينية منذ القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا العديد من الأساليب التجريبية والتعبيرية المتعددة بحكم نمط التركيبة القارية والخصوصية الخالصة. ولعل الانتباه لهذا النمط الأدبي في قارة أميركا اللاتينية وإن جاء متأخراً في منتصف الستينات من القرن العشرين وحسب، والتي كانت مع موجة أدب البوم ومن ثم الواقعية السحرية حتى الرواية اللاتينية الجديدة وموجاتها التجديدية التي برزت مع الجيل الأخير في القصة والرواية القارية والتي تشكل اليوم ظاهرة ذات وزن وقيمة معتبرة في بلدانها وفي أوربا خاصة. ولكن أصوات مثل غابرييل غارثيا ماركيث، كارلوس فوينتس، ماريو بارغاس يوسا، ميغيل أنخيل أستورياس، خوسيه ليثاما ليما، رغم إنها قد فتحت الأبواب أمام أدب القارة كي يصل إلى مرتبته المعروفة لنا اليوم، إلا إنها في الواقع قد جاءت بعد مخاض طويل وتجارب عسيرة، ابتداء بالموجات الروائية الحديثة مع بدء القرن التاسع عشر حتى اليوم، ومن المفيد التعريج عليها لفهم واقعها الحقيقي وفهم مشوارها الذي وصلت له، ممهدة الطريق لأسماء ونتاجات غدت في عرف النقد من كلاسيكيات الأدب القاري.
لقد كانت بداية الأدب القصصي في قارة أميركا اللاتينية عموماً بداية ضعيفة وهي في أغلب حالاتها قد اتخذت من الأدب الفرنسي والأمريكي وواقعية القرن التاسع عشر نماذج يحتذى بها. وعليه ترى إن روايات تعتبر نماذج تأسيسية لأدب القارة مثل دونيا باربرا لروملو غاييغوس، دون سيغموندو لريكاردو غويرالدس أو حتى رواية بيريكو سارنتينو لليثاردي أو الدوامة لسويريبا وهي النماذج الأربعة الأولى في الرواية القارية، فقد تبنت ورسمت شخوصها وطبيعة حبكة الحكاية متأثرة بأدب بلزاك وفلوبير. فمثلاً، لقد اتخذت رواية الدوامة من الطبيعة والصراع مع الطبيعة موضوعاً أساسياً لها، واقتفت رواية بيريكو سارنتينو أثر الرواية الصعلوكية التقليدية التي شاعت في القرون الوسطى الإسبانية، والتي يعتقد بأن تأثيرات المقامات العربية واضحاً عليها تماماً حسبما دلت آخر البحوث والدراسات في هذا الحقل. بينما نرى إن رواية دون سيغمندو قد قدمت نموذجاً جاهزاً وهو تلخيص تقليدي لعدد من أفلام الويسترن الأمريكية مع إضفاء خاص للطبيعة الصحراوية القارية.
ولكن الحديث الحقيقي عن أدب قصصي ونمط تجريبي مبتكر يضاهي موجات الأدب العالمي الأخرى لا يمكن أن يكون إلا ابتداء بنموذج الأدب الأرجنتيني في عصر التحديث، وبالأخص مع خورخي لويس بورخيس، وبقراءة متتبعة لأهم نتاجاتها التحديثية الخالصة والتي قرأناها في ملفات وكتب عديدة سندرك تماماً ما يعني ذلك بالتحديد. فهذا القاص والمفكر الذي ولد عام 1898 كان أول كاتب يشق الطريق في العالم أمام أدب أميركا اللاتينية وقد بدأ تأثيره من باريس حتى إن بعض النقاد قد اهتدوا أول الأمر إلى معرفته عن طريق الأدب الفرنسي بالذات. لقد ذاعت شهرته كقاص وشاعر في الوقت نفسه، بل إنه كان ناقداً حاذقاً حتى إن أحد الباحثين قد ذكر عن مقالاته قائلاً: "إنها تبتعد عن هاجس الحقيقة المقترن بهذا الجنس الأدبي لتنشد الدهشة والمفارقة والفكر بوصفه غاية لا وسيلة". ويكمن تأثير بورخيس، كما يقر هو شخصياً، في الغموض بتعريف مهمة الكاتب، ويضاف لها بالطبع الإدهاش والعجائبية التي ستتطور ويتم تبنيها لاحقاً لتصبح الصفة الأهم في أدب القارة عموماً.
لكن تأثر بورخيس في واقع الحال قد جاء بنماذج الأدب الأنجلو سكسوني، رغم إنه في أوقات عديدة كان يشيد بتأثير أدب القرون الوسطى الذهبية لأدب إسبانيا وبالأخص روايات ثربانتس أو شعر كيفيدو وغونغورا وغيرهم. إن أسلوب بورخيس وخصوصيته التجريبية تكمن في تكريس الذكاء الفنطازي الذي يخلق صوراً خالصة عن أبطال أسطوريين من أزمنة غابرة كما يصفها الناقد كارلوس غورتاري، ورغم إنه يولي الأسطورة اهتماما إلا أنها تخلو من المعنى التراجيدي الغامض الذي ميز أدب كافكا مثلاً. إن ذكاء بورخيس التخيلي حاضر حتى في أشد قصصه غرابة وسحرية، ولا يتجسد هذا الذكاء في رؤية الموضوعات فحسب بل إن أصالته تكمن في اللغة وفي الأسلوبية البارعة في إعادة صياغة الحكاية بوصفها نمطاً قالاً للتكيف والتحدث والاستمرارية الهامة في داخل النمط القصصي. ولعل قراءة نماذجه القصصية المعروفة مثل الألف، تقرير برودي، محاكم تفتيش جديدة وغيرها مما ترجم إلى لغات العالم قاطبة، ومنها اللغة العربية، تمنحك الفكرة التي نؤكد عليها وأهميتها في صنع مشهد أميركي لاتيني جديد وخالص. وهو ما حدا بالكولومبي صاحب نوبل غابرييل غارثيا ماركيث إلى القول بأن جائزة نوبل قد فقدت بريقها وأهميتها عندما تجاوزت أديب مثل بورخيس.
من الأدباء المهمين الآخرين الذين بحثوا ووضعوا أسس تجريبية جديدة في أدب القارة، الغواتيمالي ميغيل آنخل آستورياس، وهو أول روائي في القارة يحصل على جائزة نويل عام 1967، ورغم إنها جاءت تتويجاً مهماً لأدب رائع وخصوصية عالية وتعبيرية نقية، إلا إنها في الواقع جاءت لتلمح لأثر أدب قاري قادم ستشهده الأعوام التالية بحق. هذا الروائي الغواتيمالي المولود عام 1899، والمعروف بنقله لأساليب الشعر الغنائي إلى الرواية القارية، وهو ينتمي إلى جيل ضم من بين أسمائه الكوبي أليخو كاربنتير وثيرو ألغريا وهما رمزان مهمان أحدهما في تقليد الرواية المدهشة والآخر في الرواية الإقليمية، مع اهتمامهما الخاص بالمحلية والأسطورة. لقد اتسم نثر آستورياس بالذاتية وزخر بالحكائية والتخيلية، وقد أخذ على عاتقه إحياء تقاليد الآداب الشعبية الشفوية للهنود في القارة قبل مجيء الغزو الإسباني، والتي مثلته خير تمثيل الكتب الهندية المقدسة، ومن بينها كتاب (بوبول ـ فو). ولعل هذه التأثيرات الحضارية للمايا قد شكلت الفقرة الأساس لأهم كتبه القصصية: أساطير غواتيمالا المنشور عام 1930، وقد تم استقباله بنجاح كبير، كما ورد على لسان الفرنسي بول فاليري نفسه.
لقد كانت أعمال آستورياس اللاحقة، وخاصة رواياته التي هجرت المنحى الأسطوري والمؤثر اللغوي إلى نمط الهم الاجتماعي والسياسي للمنطقة، وخير نموذج سيمثلها في روايته الذائعة الصيت: السيد الرئيس 1946، التي يعتبرها العديد من النقاد فاتحة أولى لنمط سيصبح من أكثر الأنماط عراقة في أدب القارة، وهي رواية الدكتاتورية، أي الأدب الذي يتناول الطغيان والسلطة في القارة، والتي ستُلحق بنماذج أخرى متعلقة بهذه التجربة مثل رواية ماركيز المعروفة هي الأخرى: خريف البطريرك. لقد أشارت رواية آستورياس السيد الرئيس إلى بداية نضج تعبيري فعلى على امتداد صفحات الرواية، تعصف فيها ريح عاتية من السحر والخرافة والشر المتجسد في شخصية الدكتاتور الطاغية. ولكنه في الواقع قد وصل إلى قمة نضجه التعبيري عن الواقع الاجتماعي لبلده والتي تصدى فيها إلى مواضيع مثل الإدانة والاستغلال والسرقة، مع التأكيد على جانب عراقة القارة، وهو ما نقصده في عمله الثلاثي: ريح عاتية 1950، البابا الأخضر 1954، وعيون مدفونة 1960.
لقد خلق كذلك الروائي الكوبي أليخو كاربنتير، المولود عام 1904، عالمه الروائي من مزج نماذج باروكية وتقليدية فولكلورية مع ثراء هائل مثلته الشعائر والطقوس السحرية. وكانت لتجاربه مؤثرات محلية تمثلت في الوضع السياسي للبلد آنذاك، إضافة إلى التغييرات التاريخية للمنطقة مما جعله يتجه لبدء تجربته الأدبية بكتاب: إيكو يامبا الذي يبحث في شعائر الديانة النيانغية، وهي مزيج طقسي وشعائري أفرو-أمريكي. وهذا الاتجاه في الواقع هو الذي مهد له الاتجاه السحري والواقعية المدهشة، التي تمثلت فيما بعد عبر أعماله المهمة: خطوات ضائعة، مملكة هذا العالم وقمته الكبيرة عصر الأنوار ولعلها أهم نموذج تجديدي في أساليب التعبير الأميركي لاتيني.
من جانب مكمل لكاربنتير، يأتي أثر أبن بلده خوسيه ليثاما ليما (1901) وهو الذي ارتبط اسمه بأهم حركة طليعية، التي بدأت الكتابة في مجلة "اوريخينس" ("أصول"). لقد كان ليثاما ليما من أكثر أبناء جيله ثقافة. فقد كان ناقداً ومفكراً كتب في مجالات مختلفة، وكان ضليعاً بالآداب الأوروبية المعاصرة، وقد نشر أعماله الشعرية الطليعية بادئ الأمر قبل أن يسطر أهم أعمال القارة الروائية: باراديسو ("فردوس")، التي نشرت عام 1966. وهذه الرواية محاولة لإبداع كتاب خالد يجسد جمالية الرواية الإسبانو-أمريكية، وفي الوقت ذاته عبرت عن خلاصة ومدخل لصيغة حضارية كاملة مرتبطة بالأغلب بتراث الجزيرة بكل متعلقاتها الخلاسية والبنائية العرقية والثقافية، وهو ما جعل روائي معروف مثل الإسباني خوان غويتسولو يصفها بكونها أهم عمل معاصر لفهم متعلقات الأثر اللغوي الإسباني. في الرواية، يتمسك البطل كحال مؤلفه بالنموذج الكوبي الأصيل المسكون بأساطير كاملة، نموذج الكوبي الهجين الممتد من عهد حضارات ما قبل الاجتياح الإسباني مع رحلة كولومبس بل وحتى أساطير العالم الإغريقي ـ الروماني. والملاحظ أن مرحلة أدب ليثاما ليما مثل سابقتها، ولو على نحو أكثر عمقاً، فقد طورت في جانب الاهتمام بالعنصر الثقافي والأنثروبولوجي المفيد لخلق وسط روائي، وهنا تتوحد عوامل الإنسان واللغة والدين والمجتمع والتاريخ في مزيج لا مثيل له، إضافة إلى الصلة بالأدب الحسي الذي تحظى فيه الأعياد والألعاب والمآكل بمكانة متميزة، حتى تغدو الرواية بمثابة كتاب جامع وخارق في آن واحد لفهم الواقع اللاتيني المعاصر.
هذا المزج الأسلوبي قد أصبح في فترة لاحقة من أهم معالم الرواية العالمية، ولكن نماذجها الروائية في القارة ستكون بأفضل حالها مع الأديب الأرجنتيني خوليو كورتاثار، وبالأخص عبر عمله المتميز "الحجلة"(1963). وهنا يصف الناقد غورتراي أدبه بالقول: "إن كورتاثار إضافة لما يتمتع به من حس استثنائي لاستبطان ذوات الآخرين من جذور شعبية واضحة تثير الإعجاب، فقد تأتى له كذلك أن يأتي بخلاصة متكاملة لأعمق ما في الجوهر الشعبي وبأرفع أسلوب أدبي يمكن أن نقرأه اليوم". ولعل فكرة غورتراي جاءت على أكثر من عمل أدبي لكورتاثار بدءاً برواية الجوائز 1960 حتى روايته الأهم الحجلة، وأدبه الروائي خاصة أصبح اليوم النموذج التجريبي الراقي في الأدب الإسباني المعاصر والذي يضاهي يوليسيس للأمريكي جيمس جويس وكذلك أعمال الألماني كافكا. فهذه الرواية التي تدين بفكرتها للعبة الطفولة (الحجلة)، التي تقسم اللعب إلى مربعات ويتم لعبها بحجر، فهي في الواقع السردي مؤسسة على أساس هذا التتابع، كما إنها رواية يمكننا قراءتها بانتقاء أي فصل من فصولها على حدة، أو مرتبة وفق طبيعتها في النشر، أو حسب خريطة إرشادية وضعها المؤلف بنفسه. وهي كذلك سجل كامل لمثقفي المجهول في المغترب تدور فيها شتى الموضوعات الفلسفية والسياسية والجمالية.
إن مراجعة أخرى لأهم مراحل التجريب الروائي، وضعتنا أمام المفاتيح الأولى لفهم واقع الرواية في قارة غنية مدهشة مثل أمريكا اللاتينية، ونحن نعلم بأن تجاربها الأولى التي ذكرنا، يضاف لها تجربة خوان رولفو (المكسيك 1918) الخاصة في شيوع نمط المحلية الخاصة، والتي جاءت في مجموعة قصص قصيرة، تلتها روايته الوحيدة المعروفة عالمياً: بيدرو بارامو 1964، المترجمة إلى العربية. إن موضوعها الرئيسي يطغى عليه ظاهرياً الواقعية الطبيعية لاسيما وهو يتناول واقع قرية في طرف المكسيك، في تلك القرى الضائعة في شعاب الجبال. ولكنه يخلق كذلك بأسلوبه جواً سحرياً كأنه أشبه بحلم يستحيل إلى عصر راهن في حكايات نائية في الزمن تترد فيها أصداء أسطورية، كما يصفها الناقد غورتاري.
ولكن هذه الواقعية الشعرية ستصبح أكثر اتساعا في مجمل أعمال ابن بلده كارلوس فوينتس (1928) التي يبدأها برواية موت أرتيميو كروث حتى أهمها الإقليم الأكثر شفافية، فهي تطرح الكثير من الأساليب الحديثة في الرواية "الإجماعِية" في واقعية شمولية استفادت من تيارات ورؤى مجتمع مثل المكسيك، ونحسب إن شموليته وتفاصيل الواقع المأساوي، ستكون بمثابة الفرصة الغنية لزملاء له مثل ماركيث وماريو بارغاس يوسا للطموح بها إلى أكثر درجاتها تجريباً واكتشافا. ولنضرب مثلاً تذكيري وحسب لروايات تعتبر الأهم لهما مثل:المدينة والكلاب، حديث في الكاتدرائية لبارغاس يوسا وخريف البطريرك وليس لدى الكولونيل من يراسله لماركيث.
لقد وضعت الأسماء الأولى الطريق لأدب يعد الأهم منذ منتصف القرن حتى يومنا هذا، ومهد لأصوات تالية في مكانها المناسب في الأدب العالمي المعاصر، وسنرى في الأيام ظهورا آخر يضاف إلى القائمة السابقة، أصوات شبابية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تنكر أهمية أصوات عملاقة لها الأثر البنائي والتكويني ولها سمة التجريبية الخالصة في أدب القارة الأمريكية اللاتينية.