يشير الكتاب السوري إلى أن لذة القراءة يمكن بلوغها في أي مكان، فالأهم هو طريقة امتلاك المُتعة وكيفية التعاطي مع الكتاب بـ«رهافة فكرية». كما يتناول العلاقة مع الكتاب الورقي، ويدعو إلى الاستمتاع بالقراءة والنظر إلى الحياة على أنها كتاب مفتوح، يتيح قراءة الذات من جديد باستمرار.

الحياة على هيئة كتاب مفتوح

بديع منير صنيج

 

منذ فترة تعرَّفت على إنسانٍ فقير، ورغم كل هموم الدنيا وأعبائها المُتَكدِّسة على كاهله، إلا أنه كلما سنحت له الفرصة ما زال مُحافظاً على عادة القراءة من مكتبات الرصيف، إذ لأنه لا يملك ثمن الكتاب. صَادَق أصحاب تلك المكتبات، وباتوا يسمحون له أن يُنهي قراءة ما يشاء بجلستين أو ثلاث، حتى إنهم يحتفظون له بالكتاب الذي يشاء بعيداً عن عيون الزبائن ريثما يُنهيه، والجَميل أن هذا الإنسان يعد أن هناك من الكتب ما يُغنيه، بينما أخرى تزيده فقراً، وأن ثمة مؤلَّفات تجتاحه كعاصفة تاركةً في وجدانه أخاديد لا تُمحى، في حين إن كتابات ثانية تأبى لقلَّة دسمِها أن تتحوَّل إلى وليمة، والأهم أن صديقنا يعيش مع كل كتاب تجربة حيّة، لدرجة أنه يستطيع أن يثبت لك بالدلائل الدامغة، كما فعل سابقاً «برنهارد شلينك» أن «صفحة الكتاب جسد مفتوح على اللذة أيضاً»، وبناء عليه فإن تلك اللذة بإمكانك بلوغها سواءً قرأت في قاعة المطالعة ضمن المكتبة الوطنية أو كانت قراءتك في زاوية بائسة في شارع الحلبوني، أو حتى إن قرأت في غرفة النوم، لأن الأكثر أهمية هو طريقة امتلاكك لتلك المُتعة وكيفية التعاطي مع الكتاب بـ«رهافة فكرية»، وليس مُجرَّدَ تعاطٍ حسِّيٍّ معها، كأولئك الذين يكتبون مواضيع تعبير باهتة عن الورق الأصفر ورائحته وملمسه وحميميته، مُتناسين أن مَلمَس الفكرة أعظم، وثِقَلَها في ضرب رأسك وخلخلة وعيك، هو ما يُعطيها قيمتها الحقّة، وليس شكل الكتاب ونوع الورق، وبناءً عليه يُصبِح السؤال عن تفضيل المكتبة الورقية عن الإلكترونية ساذجاً نوعاً ما، ففي كلتا الحالتين ليس المهم أن تُكدِّس الكُتُب وأن تُصنِّفهم، ولا أن تبذل جُهدك في امتلاك الطبعات النادرة والنُّسَخ المُغرية في أناقتها، وإنما أن تجعل كتبك تتنفَّس، وتتنفَّسكَ أنت تحديداً، وألا تكتفي بنفض الغبار المتراكم عليها، بل أن تنفض حسَّك المعرفي وحاجتك الروحية للقراءة، وأن تتمرَّد باستمرار على ذاتك وعلى لذَّاتك في التعاطي مع الكتاب، فلا ينبغي لك أن تقتصر على تخيل «الجنة على هيئة مكتبة» كما قالها بورخيس مرة، وإنما أن تعيش تلك الجنة بكامل تفاصيلها، وأن تعرف جغرافيتها وتاريخها وتؤرشف ذاكرتك عنها، وعن ساكنيها.

على صعيد موازٍ، سيوثِّق صِلَتَكَ بمكتبتك تعزيز علاقتك مع من سماهم هنري ميلر «الكتّاب الأحياء»، الذين كانت بينه وبينهم أقوى العقود والتي هي الكتب، فكم هو جميل أن تُصادِق كاتباً بسبب كتابه أو كتبه، حينها كلاكما سيغتني، وستتحول مقولة سقراط «تكلَّم كي أعرفك»، إلى ما يُشبهها في اتجاهين «اكتب كي أعرفك» أكثر و«اقرأ كي أعرفك» بشكل أفضل، في تبادل معرفي وفكري تكتمل معه دائرة القراءة والكتابة، أو دائرة المكتبة بشكل موارب، فكيف إن كان الكتاب من نوع «الفأس التي تهشِّم البحر المُتجمِّد فينا» كما يقول «كافكا»، حينها سيصبح من الهام جداً تقليم أشجار معرفتنا، وألا نخشى النزول من الجنة لتذوُّقنا من ثمرة الحكمة، فلا معرفة حقيقية من دون أن تعيشها كتجربة متواصلة حتى النهاية، لذلك يُنبِّه الكثيرون من ضرورة العودة إلى الينبوع الأساس للمكتبة وهو الحياة ذاتها، فما معنى أن تعيش معزولاً بين كُتُبِكَ؟ أو ما مغزى أن تحيا داخل كمبيوترك المحمول أو «التاب» الخاص بك أو حتى «موبايلك» الذكي، الملأى بآلاف الكتب، وأنت تعاني فصاماً تاماً مع الحياة؟ فمهما تعلَّمت السِّباحة على اليابسة لن تعرف المعنى الحقيقي لها إن لم تُجرِّبها في الماء كما يقول «هنري ميلر»، والأمر ذاته ينطبق على «كتاب الوجه» الفيسبوك، وكذلك على «الدكتور غوغل»، وما يتيحانه من معرفة «مُضلِّلة»، لذا يتوجب عليك وأنت تستقي منهما أو تبحث فيهما أن تتأكد من أمر جوهري، هو أن ما تتحصل عليه بسرعة ستخسره بالسرعة ذاتها، وأنه ينبغي لك تتبُّع الحكمة القائلة بأن «أطول الطُّرُق تبقى هي أقصرها بالمحصلة» فهي لمصلحتك، لذا، مهما تعدَّدَت مناهِلُك، استمتع بالقراءة ما استطعت، وانظر إلى كل شيء على أنه كتاب مفتوح، وكلما قرأت فيه احرص على أن تقرأ ذاتك من جديد، فدائماً ثمَّة صفحات لم تقرأها، وعلى طول المشوار هناك حكايات ينبغي لك أن تعيشها بكامل ألقها وبهائها، فالحياة يا صديقي ليست سوى كتاب مفتوح أنت مدعوٌّ باستمرار لمُجالَسَتِه.