يرى ألان دونو أستاذ الفكر النقدي في العلوم السياسية في جامعة مونتريل-كندا، أن الأمر يتعلق بثورة لها مفعول المخدر المسكن، ثورة تدعو إلى أن يتخذ الناس موقعهم دوما في الوسط، وأن يفكروا برخاوة، وأن يضعوا قناعاتهم في جيوبهم حتى يصيروا كائنات، مجرد قطع غيار يسهل جمعها في علب، كما ينبغي لهم وفق هذه الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة، أن لا يغيروا شيئا من موضعه، ولا أن يبتكروا أدنى شيء قد يشكك في النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم. هنا ترجمة لمستهل كتاب «نظام التفاهة».
ضع عنك تلك المؤلفات المعقدة، لأن دفاتر الحسابات سوف تفي بالغرض. لا تكن مزهوا بنفسك ولا حصيفا، بل ولا في دَعَة، قد تبدو متغطرسا. الْجَم غلبة شهواتك، إنها مخيفة. وقبل كل شيء لا تُدْلِ بأدنى «فكرة حسنة»، إن مِمْزَقة الأوراق تطفح بأمثالها مسبقا. تلك النظرة الثاقبة المخيفة، وسِّعها ولتكن شفتاك مسترخيتين، ويجب أن تفكر برخاوة وتُظهِر ذلك، وتتحدث عن نفسك بتحقيرها إلى قدْر لا يؤبه به: ينبغي أن تُسهل على الغير وضعك في خانة. لقد تغيرت الأحوال. لم تسقط قلعة الباستيل، ولا ثمة ما يشبه حريق الرايشتاغ، ولم تطلق في الفجر رصاصة واحدة بعد. ومع ذلك فإن الهجوم قد تم حقا وحقيقة، وتكلل بالنجاح: لقد استولى التافهون على السلطة.
أين تكمن مقدرة التافه الرئيسية؟ في تعرُّف تافه مثله. هكذا يعملان معا بمبدأ: أضئ لي أقدح لك، وبيِّن لي أجبك، حتى تقوى شوكة جماعة عددها في ازدياد، إذ لن يطول بهما الأمد في حشد أمثالهما إليها. ليس المُهِم تجنب السَخافة، بل جعلها تكتسي صور السلطة. «لو أن السخافة أشبهت، من باب الخطأ، التقدم والمهارة والرجاء والإتقان، ما أراد أحد أن يكون سخيفا» هذا ما نبه إليه روبير موزيل. الرضا عن إخفاء المرء نقائصه، واعتبار الأمر عاديا، والأخذ بالنزعة النفعية، لكن بدون كلل من ابتغاء الإتقان، لأن نظام التفاهة لا يقبل من تعوزهم القوة والمقدرة. يجب إظهار القدرة على تشغيل بِرنام، ملء استمارة من غير تنكُّد، وأن يتبنى المرء بكل يُسرٍ عبارة «معايير الجودة العالية في حكامة الشركات، مع احترام قيم الامتياز» وتحية الناس في الوقت المناسب. لكن، على الأخص، بدون زيادة.
كلمة «médiocrité» (تفاهة) في اللغة الفرنسية، مصدرٌ يدل على ما هو متوسط، مثلما أن كلمة «أعلى» و«أسفل» تخبران عن حال ما هو أعلى وما هو أسفل. ليس هناك «سمةُ توسُّط». لكن التفاهة (بهذا المعنى) تدل على الطور المتوسط بالفعل أكثر من المُعدّل. وبالتبع، فإن نظام التفاهة هو هذا الطور المتوسط وقد رُفِع إلى درجة السلطة. إنها تؤسس نظاما لم يعد فيه المعدل المتوسط إنشاءً مجردا يسمح بتصور حال الأشياء تركيبيا، بل معيارا قاهرا ينبغي تجسيده. أن يزعم المرء أنه حر في نظام مثل هذا ليس سوى طريقة لإظهار نجاعته.
إن تقسيم وتصنيع العمل -اليدوي منه والفكري- ساهم على نحو كبير في ظهور السلطة التافهة. إن إتقان كل مهمة مفيدة تفلت للجميع جعل من لا غرض لهم «خبراء»، هؤلاء الذين يثرثرون في الوقت المناسب حول قِطَعٍ من الحقيقة، وجعل العمال مجرد منفذين يعتبرون أن «النشاط الحيوي ليس شيئا سوى الوسيلة الوحيدة للعيش». لقد أبرز كارل ماركس ذلك منذ 1849، إذ أن الرأسمال، بقَصْره العمل إلى قوة، ثم إلى وحدة قياس مجردة، وفي الأخير إلى تكلفته (الأجرة مقابل ما يجب حتى يجدد قوته) جعل العمّال يفقدون الإحساس بشيء يسمى العمل. شيئا فشيئا تنقرض المِهن. قد يعمل المرء على تصفيف وجبات طعام بكميات كبيرة في مصنع، بدون أن تكون له القدرة على إعداد طعام للأكل في بيته، إملاء إرشادات على الزبائن بالهاتف لا يفهم هو نفسه منها شيئا، بيع كتب وصحف لا يقرأها أبدا... ونتيجة لذلك يختفي لديه الفخر بإنجاز عمل متقن. يؤكد ماركس عام 1857، في مدخل عام إلى نقد الاقتصاد السياسي أن «تجاهل العمل المُعِين يناسب شكلا من أشكال المجتمع، فيه ينتقل الأفراد بيسر من عمل إلى آخر وفيه يبدو لهم نوع العمل المحدد نافلا، وبالتبع غير ذي بال. تصير الوسائل المتبعة لوصول المرء إلى أهدافه في نظام مثل هذا وسائل موحدة الشكل.
ليس المُهِم تجنب السَخافة، بل جعلها تكتسي صور السلطة. «لو أن السخافة أشبهت، من باب الخطأ، التقدم والمهارة والرجاء والإتقان، ما أراد أحد أن يكون سخيفا» هذا ما نبه إليه روبير موزيل.
حينئذ يبدو العمل، ليس من حيث هو مقولة، وإنما في حقيقته نفسها، وسيلة لإنتاج الثروة بصفة عامة». هذه الوسيلة التي اتخذها الرأسمال قصد التكاثر، هو ذلك العمل الذي سلبت منه الحياة، الذي يعتبر كذلك في نظر العامل «وسيلة وحيدة للعيش». أرباب عمل وعمال متفقون على الأقل بهذا الخصوص: أصبحت الحرفة خدمة وصارت الخدمة بالإجماع «وسيلة». هذا ليس جناسا لفظيا أو مجرد مصادفة معجمية، يصير العمل «وسيلة» حين نسبكه في شكل فائدة «متوسطة» قطْعا. إن مشابهةَ فعلٍ لِصيغته المتوسطة، حين تكون مقيَّدة وشاملة، تدفع مجتمعا بأكمله إلى الابتذال. يُحيل المتوسط بالمعنى الإثالي إلى «الوسَط»، خاصة وسط المهنة كمكان للتسوية، بل للتنازل، حيث لا يثمر أي عمل. ويبدو الأمر مخادعا، لأن التافه لا يبطل عن العمل، إنه يجيد الكدَّ في العمل. وفي حقيقة الأمر، يجب القيام بجهد قصد إخراج بثٍ تلفزيوني على نطاق واسع، ملء طلب دعم للبحث لدى مؤسسة داعمة، تصوير علب صغيرة من اللبن الرَّائب ذات شكل انسيابي أو تنظيم المحتوى المتبع في لقاء وزاري يضم وفدا من النظراء. ليست الوسائل طوْع كلِّ من رغب. لا بد من الكمال التقني لحجب الكسل الفكري الذي يفوق الوصف، الذي يدخل في الكثير من المجاهرات بالمعتقد الامتثالية. وهذا الانخراط الملزم في عمل ليس أبدا عملا شخصيا، وفي أفكار تظل دوما مأمورا بها يخفي نطاقها الضيق.
في هذا الصدد، لا نوقف عجلة التقدم. في الماضي، وُصف التافه في الحدّ الأدنى. لقد اعتبره جان دولابرويير كائنا خسيسا على الأخص، يخرج من الورطة بفضل درايته بالنمائم والدسائس التي جرت بها العادة بين الأقوياء. «ينزل الفيلسوف سِيلْس Celse منزلة تافهة، لكن الكبار يطيقونه: هو ليس بعالم، لكن له صلة بالعلماء؛ لا حظوة له، لكنه يعرف أشخاصا لهم من الحظوة الجم الغفير؛ إنه غير حاذق، لكنه يمتلك لسانا قد يصلح ترجمانا، ورِجلين تستطيعان حمله من مكان إلى آخر». حينما صاروا سادة، فإن أمثال سِيلس هذا العالم لم يعد لهم ما يقلدونه سوى أنفسهم. إنهم يكتسحون السلطة شيئا فشيئا وتقريبا في غفلة منهم. من شدة التحكم والمحسوبية والمجاملة والتواطؤ صاروا على رأس المؤسسات. من قدر كل جيل أن يندد بالظاهرة من حيث أنها تتفاقم، تشهد على ذلك دفاتر الشاعر لوي بويي التي يقتبس منها صديقه غوستاف فلوبير: «يا حُكم التفاهة المقيت، وأيها الشعر النفعي، وأدب البيادق، والثرثرة الجمالية، والتجشؤات الاقتصادية، والمنتوجات الفاسدة لوطن خائر القوى، إني ألعنكم بكل ما أوتيتْ نفسي من قوة! لستُم الأُكال، أنتم الضمور المُهلك! لستم الخراج الأحمر الحار أوقات الحمَّى، بل أنتم الدمل البارد ذو الحواشي الشاحبة، النازل من سوس غائر كأنه من ينبوع».
مرة أخرى يتم التنديد بالادعاء المفرط وبالدجل، وفضح العجز عن صنع شيء عظيم. لم يصر الأمر بعد نسقا يقنع بالقليل ويوجب هذه القناعة بصرامة. يعتبر كل من لورنس ج. بيتر وريموند هال من الأوائل الذين شهدوا هذه الصيرورة التافهة على مستوى نسق بأكمله. تتصف أطروحتهما التي بسطاها سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية بوضوح صارخ. إن السيرورات النسقية تشجع صعود فاعلين ذوي خبرات متوسطة إلى مناصب السلطة، وتهميش «ذوي الكفاءات الفائقة» شأن من لا كفاءة لهم تماما. مثال ساطع: في مؤسسة للتعليم، لن تُقبَل ممتهنة لا تحترم مواقيت العمل وتجهل كل أمور تخصصها، كما لا تحتمل المتمردة التي تغير في العمق القواعد المتبعة في التدريس لجعل قسم الطلبة الذين لديهم صعوبات في التعلم يتصدرون أعلى مستوى بين طلبة المدرسة. المؤاخذة الرئيسية التي سوف توجه إلى المعنية بالأمر، مثلما يشير إلى ذلك صاحبا كتاب «مبدأ بيتر» هو بالتأكيد الانتقاص من التوجيهات الرسمية في التدريس، وعلى الأخص «إثارة قلق لدى المدرس الذي سيستقبل في السنة الموالية تلامذة سبق لهم أن درسوا المقرر». هكذا تم إنشاء «الأمي من الدرجة الثانية» وفق عبارة هانس مغنوس إنزنسبورغر، ذاك الذي تنتجه مؤسسات التعليم والبحث بالجملة. هذا الفرد من الرَّعية الجديدة الذي تم تكوينه بقَدَر، يتقوى بمعرفة نافعة لا تُعَلِّم مع ذلك إعادة النظر في أسسها الأيديولوجية. ويختصر الكاتب الألماني في كتابه «التفاهة والجنون الأمر بالقول» إنه يعتبر نفسه على أنه على علم، يعرف قراءة نشرات الاستعمال والعلامات الإشارية والشيكات، ويحميه الوسَط الذي يتحرك فيه مثل، حاجب يمنع تسرّب كل استنكار صادر من ضميره». إن العالِم التافه لا يفكر أبدا من خلال ذاته، إنه ينتدب قدرته الفكرية إلى أطراف تملي عليه استراتيجياتها طمعا في الارتقاء المهني. الرقابة الذاتية مطلوبة مادام يُجيد بسْطها كدليل على المكر.
(المصدر: ألان دونو، «نظام التفاهة» لوكس، كندا، 2016)