يكشف الكاتب العراقي أهمية العودة للتاريخ، القديم منه والحديث، لفهم ما يدور في الواقع العراقي الآن، وهو أمر ضروري للحراك الدائر فيه والساعي للنهوض به. حيث تتنازع العراق، والمنطقة العربية من ورائه قوتان لا تضمر أي منهما له الخير، ناهيك عن التطور والتقدم والسلام.

الصراع الإيراني الصهيوني على العراق

عبدالحق العاني

 

ـ1ـ خلفية تأريخية:
لا بد من البدء بتعريف العراق. ذلك أني حين أشير للعراق فلست أعني العراق بحدوده السياسية التي رسمها الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. وقد يظن القارئ أن هذا أمر ثانوي لكنه ليس كذلك لأن جذور الصراع وما آل اليه الحال ساهمت حدود العراق المصطنعة في تكوينه. فالعراق الجغرافي والسياسي هو بلاد ما بين النهرين. وحين نرجع للتأريخ المدون نجد أن هذه الأرض بدأت دولة كبرى (امبراطورية) سكنها الساميون باختلاف قبائلهم. وحيث إن الإمبراطورية لا ترسم حدوداً سياسية، فان دول ما بين النهرين امتدت بشكل طبيعي بين منبع الفراتين (الفرات ودجلة) حتى نهاية الخليج كما يقتضي الحال لمنابع الأنهار أن تنتهي في عمق بحارها من أجل تجارتها وتوسعها.

وذلك كله قبل أن يصل الأتراك أو الأكراد للمنطقة. وحين اصبحت بغداد عاصمة الدولة العربية الإسلامية (العباسية) فقد كان العراق السياسي كذلك دون حدود لعدم وجود حاجة لذلك. فالأتراك كانوا قبائل مشتتة ومتخلفة، أما الخليج فلم يكن مسكوناً إلا بعدد من الأعراب البائسين الذين كان يشرفهم أن يكونوا من رعايا امبراطورية بغداد. وحين ورثت الدول العثمانية عراق العباسيين بحجة كونها خلافة اسلامية تحافظ على دين محمد، وإن لم تفعل أياً من ذلك، فقد كان العراق السياسي في تعريف الدولة يتكون من ثلاث ولايات هي الموصل وبغداد والبصرة. وكي نعرف ما هي حدود العراق السياسي حتى عام 1913 فما علينا سوى أن نطلع على التقسيم الإداري كما هو محفوظ في وثائق الدولة العثمانية. ويهمنا هنا ولاية البصرة وليس بغداد والموصل لأسباب واضحة. وقد ورد التقسم الإداري لولاية البصرة كما يلي:

التقسم الإداري لولاية البصرة عام 1913:
تنقسم ولاية البصرة الى أربعة ألوية ويشكل كل لواء الأقضية المبينة أدناه:
لواء البصرة: (قضاء البصرة، قضاء القرنة، قضاء الفاو، قضاء الكويت)

لواء المنتفك: (قضاء الناصرية، قضاء المنتفك، قضاء الحي، قضاء سوق الشيوخ)

لواء العمارة: (قضاء العمارة، قضاء المجر الكبير، قضاء علي الغربي)

لواء نجد: (قضاء الهفوف، قضاء القطيف، قضاء قطر، قضاء الرياض)

وقد جاء في كتاب (خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام) وهو من كتب اللغة العربية لعلي بن بالي القسطنطيني الحنفي المتوفى سنة 992 هـ ما نصه «قال الصقلي: مما يشكل قولهم: عُمَان، بضم العين وتخفيف الميم: بلد على شاطئ البحر بين البصرة وعدن.» وهذا النص الوارد في كتاب من كتب العربية يثبت لنا أن ما كان معروفاً في القرن العاشر الهجري، أنه لم يكن بين البصرة وعدن سوى عمان. وهو ما يبدو كان الحال حتى عام 1913، أي أن ولاية البصرة كانت تنتهي في حدود دولة عمان. وهذه هي حدود العراق الجنوبية الجغرافية والسياسية والتاريخية وهكذا يجب أن تكون وستكون!

هذا هو جنوب العراق السياسي الذي كان. ولا يغير ذلك اي تدخل أجنبي رسم حدوداً تتفق مع مصالحه. فقد جاء الصليبيون ومكثوا 200 عام وغيروا وبدلوا وحين رحلوا عاد كل شيء لما فرضه التاريخ. إن من لا يفهم هذه الحقائق عن العراق السياسي، ويعتقد أن القانون مطابق للمشروع الصهيوني في المنطقة، يعيش خارج التاريخ، أما الذي يعيش حقائق الأمور فهو ليس "من العالقين في الماضي" كما وصفهم أحد المسؤولين في الخليج، وانما يعيش على وفق قواعد التاريخ والسياسة والقانون! وكانت هذه الأرض من اقدم ما استوطن. وهذا الاستيطان أدى بدوره لنشوء حضارات متعاقبة، قدمت للعالم ما لا حاجة للتذكير به. لكن هذا الخير الذي منحه الفراتان أدى كذلك لتصارع الغرباء على العراق في مد العصور. وبرغم ان خصب الأرض لم يعد سبب الطمع في أرض العراق، وبرغم أن النفط لم يعد السبب الرئيس، إلا أن العراق ظل مطلب الغزاة كلما سنحت الفرصة بذلك. وهناك اسباب مادية وغير مادية لهذا الطمع في الهيمنة على العراق ليس هنا مكان عرضها ومحاولة فهمها، اذا افترضنا امكانية ذلك، لكن يكفي في نظرة سريعة أن نفهم بعضاً من سبب تعلق كثيرين من أهل الأرض بالعراق.

فتاريخ اليهود في العراق لأنهم عاشوا فيه آلاف السنين، وكتبوا التلمود فيه. وتاريخ النصارى في العراق أعرق من غيره، حيث كانت الكنيسة النسطورية من أقدم الكنائس. أما الإسلام فارتباطه بالعراق أعمق من أي أرض بعد المدينة. ذلك لأن الفقه الإسلامي أغلبه ولد في العراق فالفقه السني عراقي، والفقه الجعفري عراقي، والفقه الأباضي عراقي، والباطنية عراقية، والتصوف عراقي، وما من معتقد في الإسلام الا وله جذر عراقي.

أما طمع أوربا بالعراق (وأعني بأوروبا القارة وما ولد عنها من استيطان أوربي في قارتي أمريكا واستراليا) فله سبب يتجاوز المادة والجغرافية. إنها عقدة النقص التي يحس بها الأوربي الذي يعتقد يقيناً بتفوقه الحضاري علينا، لكنه يشعر بالنقص في أن دينه، بل ربه الذي يقتدي به، هو واحد منا ومن أرضنا. لذلك اعتقد أن له الحق في هذه الأرض، حتى قبل التقنية والثورة الصناعية وآلة الحرب المدمرة الجديدة، فجاء بالغزو الصليبي واستوطن. وقد صور الكاتب الفنزويلي "فرناندو بايس" طمع أو حقد أو كراهية الأوربي الظاهر أو الباطن لنا حين كتب بعد غزو عام 2003: "إنها لمفارقة حقا أن يأتي مخترع الكتاب الإلكتروني الى بلاد ما بين النهرين، حيث ولدت الكتب والتأريخ والحضارة، كي يدمرها".

إن الوضع الفريد للعراق أنتج حقيقة تاريخية فريدة في المنطقة. تلك هي ان العراق في كل تاريخه إما مركز دولة عظمى "امبراطورية"، تمتد سيطرتها لمساحات أكبر بعشرات المرات من حجمها، كما أسلفت، وإما دولة مستباحة في زاوية من زوايا امبراطورية محتلة. ولم يكن بين هذين الحالين بديل لوضع مستقر أو طويل الأمد. فالعراق كان سومرياً أو أكادياً أو آشورياً أو بابلياً أو عباسياً في امبراطورياته. وكان فارسياً أو عثمانياً أو بريطانياً أو صهيونياً في امبراطوريات المحتل. ولم يكن بينها في الفترات القصيرة سوى بلد صغير ضائع تحت وصاية خارجية، ويبحث عن مخرج لم يستقر له حال فيها. وقد أنتج هذا العنف التاريخي حالة فريدة أخرى في المنطقة مفادها أنه لا يمكن أن تقوم بين جبال زغروس والبحر الأبيض المتوسط قوتان. أي يجب أن تهيمن قوة واحدة على هذه المنطقة. فاذا وجدت قوتان فانهما سوف تتصارعان حتى يحسم الصراع لأحديهما.

وهذا يعني أن العراق هو ساحة ذلك الصراع بين تلكما القوتين اذا لم يكن هو مقر القوة الضاربة في المنطقة. فحين قامت الإمبراطورية الفارسية على حدود الإمبراطورية الرومانية، فقد اتفقا على تقاسم المنطقة فكان العراق للفرس وكانت بلاد الشام للروم. وحين ورث العثمانيون بيزنطة فإنهم تقاتلوا مع الفرس على المنطقة فملوكها أكثر الوقت، وان كان العراق قد وقع بيد الصفويين لوقت قصير نسبياً في ذلك الصراع، لكنه ظل مع ذلك ساحة الصراع دون أن يكون لأهله أي دور في مصيره. وبعد أن أنهك العثمانيون الجهلة العراق، سلبوه لغته وتراثه وساقوا ابناءه للموت في حروبهم البائسة، جاءت الصهيونية للمنطقة بشكل سافر، وتمثلت أول الأمر بالاحتلال البريطاني للعراق عام 1916. فحكم الصهاينة البريطانيون العراق مباشرة لمدة، ثم تحكموا بمصيره لعقود بعدها، أي ان العراق ظل تحت مظلة الإمبراطورية البريطانية أثناء ما سمي بالحكم الوطني.

لكن الإمبراطورية البريطانية كانت قد وصلت مرحلة الشيخوخة كما يحدث لأية امبراطورية. وتقضي قواعد التاريخ أنه حين تشيب الإمبراطورية فإن من كان تحت هيمنتها سوف يكتسب الحرية، وان كان بشكل تدريجي. لكن الحال اختلف هنا. فقد مدت الصهيونية التي ولدت في لندن يدها لتتحكم بسوق المال في نيويورك، وترتب على ذلك التحكم بالولايات المتحدة، الوريث الأنجلو سيكسوني للإمبراطورية البريطانية. على أن هذا الانتقال لم يقد لفقدان بريطانيا دورها بالكامل في العراق، فقارئ التاريخ والباحث فيه سيجد أن كلاً من حرب 1991 وغزو العراق عام 2003 كان بدفع من لندن، أكثر منه بدفع واشنطون!

وتمكنت الصهيونية العالمية من تأسيس قاعدة ثابتة لها عند نهاية الحرب العالمية الثانية في خلق دولة اسرائيل، دولة أوربية ثابتة تستبد وتبتز، مخففة بذلك الحاجة الى نقل الجيوش والأساطيل في المستقبل للهيمنة على المنطقة بشكل مستمر. لكن اسرائيل واجهت حقيقة الصراع التاريخي على المنطقة والذي عرضته أعلاه مع دولة ايران الصاعدة. فكما بينت أعلاه لا يمكن قيام دولتين قويتين بين جبال زغروس والأبيض المتوسط، فانه لا بد من قيام صراع بين اسرائيل وايران على المنطقة. وحين كانت ايران تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي فان ولاء هذا الأخير للصهيونية خفف من الاحتكاك، وان كانت لديه شخصياً أحلام بعودة مجد فارس كما تجلى في الاحتفال الشهير في تشرين الأول عام 1971 بمرور 2500 عام على انشاء مملكة فارس القديمة.

لكن هذا الحال تغير بعد رحيل الشاه وسقوط نظامه وقيام الجمهورية الإسلامية. وهذا التغير في ايران قاد لمرحلة جديدة من الصراع المفتوح. ولن أدخل في أي عرض للحرب العراقية الإيرانية وكيف لعبت هذه الحرب دوراً خطيراً في تطوير الصراع في المنطقة، وان كان هذا مهماً جداً. لكن الخوض فيه سوف يبعدنا كثيرا عما نحن فيه من حقائق تقتضي التعامل معها كما هي. إلا أن هذا لا يعني عدم عرض حقيقة الدولة الإيرانية اليوم، وهدف الصراع مع الصهيونية على المنطقة. فالجمهورية الإسلامية في ايران اليوم دولة ذات تركيبة سياسية معقدة ومختلفة كثيراً عن جيرانها. وهذا نتاج أربعين عاماً من بناء بدأت بثماني سنوات من حرب طاحنة. وولد عن كل ذلك ظهور قوتين في إيران احداهما تتبع الفقيه، وخلفها حرس الثورة؛ والثانية تضم رجال الدين وغيرهم مما لا يتبع ولاية الفقيه، وكان يقف على رأس هذه المجموعة هاشمي رفسنجاني.

ويتضح تعايش المجموعتين من حقيقة أن رفسنجاني ظل طيلة الفترة في موقعه القيادي برغم خلافه الواضح والعلني أحيانا مع الفقيه. كما إن كلاً من رؤساء الجمهورية السابق محمد خاتمي والحالي الشيخ روحاني هم من أتباعه ومؤيديه. فما الذي يجمع الإثنين وما الذي يفرقهم؟ إن ما يجمع الإثنين هو مصلحة ايران. فالفقيه يرى ان الإيرانيين هم أقدر على قيادة العالم الإسلامي لفشل العرب في تلك المهمة وهذا يعني ضرورة مد الهيمنة الفارسية على العراق وما بعده من بلاد الشام وجزيرة العرب لا من باب الرياء والكذب، وانما لقناعته وايمانه بذلك. وقد لا تتفق معه لكنه على يقين وبينة من أمره.

أما جماعة رفسنجاني فهم لا يؤمنون بالواجب الديني الذي يدعوهم لقيادة المسلمين لكنهم يعتقدون بسمو الفرس على من حولهم. وهم بهذا مكلفين في الهيمنة على المنطقة. وهكذا فبرغم اختلاف النية والهدف، الا أن الطرفين متفقان على ضرورة الهيمنة على المنطقة. ولا بد من ملاحظة حقيقة مهمة هنا، وهي ان القوى التي تتصارع في ايران سواء أكانت خلف الفقيه، أم لم تكن خلفه هي في جوهرها وطنية، من حيث انها تخدم مصالح ايران. لذلك وجدت الصهيونية صعوبة في أن تخترق المؤسسة الحاكمة في ايران، بينما نجحت بسهولة في عدد من الدول العربية والتي لم يكن الصراع الداخلي فيها صراعا وطنيا.

ـ2ـ الصراع ما بعد 2003:
انتهيت في الجزء السابق الى السؤال عن ما آل اليه الصراع بعد عام 2003. لقد غير غزو الصهيونية للعراق واحتلاله قواعد الصراع، وفرض ظروفاً جديدة في المنطقة. وحقيقة غزو العراق أبعد بكثير مما يبدو للعيان وأعمق مما كتب عنه الكتاب أو فهموه. ذلك لأن احتلال ما بين النهرين هو نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة، كما كان الحال على مد العصور. ولا يمكن للادعاء بأن إيران ساهمت في، أو ساعدت على، غزو العراق أن يكون ستراً على الجريمة الأكبر وهي أن العرب، كل العرب، شعوباً وحكومات ساهموا في حصار العراق وغزوه واحتلاله. فحصار الإبادة للعراق لاثني عشر عاماً طالبت به الحكومات العربية، وساهم فيه المواطن العربي الذي وقف متفرجاً.

أما الغزو العسكري والاحتلال فقد انطلق من أرض عربية، لا تركية ولا فارسية! لقد كان لإيران رغبة في دمار العراق القومي، لأنها أدركت وتدرك أن العراق العربي القومي يقف أمام مشروعها الإيراني في التوسع والهيمنة. وهذا ينطبق على جناحي السلطة في إيران، ولاية الفقيه والعلمانيين الفرس. وحين اقترب موعد غزو العراق واحتلاله في الحلقة التالية من مشروع الهيمنة الصهيونية على المنطقة، فإن إيران وجدت في ذلك فرصة لإنهاء المشروع القومي في العراق، وبناء قوة موالية لها فيه بانتظار ما ستؤول اليه الأمور. وهكذا كان. واعتقد كل من الإيراني والصهيوني أنه يستغل الآخر لمشروعه. فقد أرسلت إيران العراقيين الذين دربتهم خلال سنين ليكونوا نواة القوة العسكرية الجديدة بعد الغزو والخراب. أما الصهاينة الذين احتلوا العراق، فلم يكن لديهم من الخونة العراقيين الذين جاؤوا معهم ما يمكن أن يشكل نواة قوة عسكرية تمسك بالأرض.

كما إن قرار حل الجيش العراقي كان أحد أهداف الغزو الصهيوني الأولى، ذلك لأن حل أي جيش عربي هو نصر للصهيونية. لذا فقد وجدوا أن لا بد لهم من الاستعانة بالقوة المدربة والمسلحة القادمة من إيران. وهكذا قام التفاهم على المهادنة، في وقت كان يطمع كل طرف أن ينتهي الأمر لصالحه. أي أن الصراع الإيراني الصهيوني على العراق انتقل منذ الأسابيع الأولى للاحتلال ولو جزئياً إلى صراع داخل العراق على العراق، وليس صراعاً خارج العراق عليه كما كان قبل الغزو. ولعل من المحزن أن يكتشف دارس التاريخ أن موقف إيران هذا من غزو العراق، والذي يجب أن يفهم من جهة هدف إيران في الهيمنة على المنطقة، رافقه مؤشر خطير في اكتشاف فشل المشروع القومي العربي في التجذر في العراق، حيث كان يجب أن يكون. فقد صمتت المرجعية الشيعية في العراق عن التصدي للغزو والاحتلال، وهو واجب ديني شرعي، استندت له المرجعية لاحقاً حين دعت للجهاد ضد الدولة الإسلامية بعد سنوات.

ولا بد أن يفهم هذا الصمت على أن المرجعية اعتقدت أن الولاء المذهبي أسبق من الولاء الوطني القومي لأرض العرب، حتى وان لم تكن المرجعية الشيعية في العراق موالية للفقيه. وصمت شيعة آخرون في أرض العرب، لا أشك في صدق انتمائهم في معركة الصراع مع الصهيونية، وللسبب نفسه كما يبدو. وهو أمر لا يمكن لي أن أقبله ولا أغفره. فما الذي كشفه الغزو والاحتلال، ونتج عن، مما دعم الصراع على العراق؟ لقد كشف الغزو الصهيوني للعراق الكثير من الخلل في مفهوم الحكم بالحزب الجماهيري، والذي ثبت عجزه في النظام الشيوعي في مرحلة متزامنة، مما ليس هذا مكان عرضه. لكن أهم نتيجة كشفها الغزو والاحتلال هي أن حزب البعث لم يكن بالقوة والتماسك العقائدي الذي كان قادته يعتقدونه.

فقد تهاوى حزب الملايين في ايام وتبين أن أكثر المنتمين اليه كانوا منتفعين لا مؤمنين. أما القلة القليلة التي آمنت بالمشروع القومي فقد أمكن تحييدها أو التخلص منها بسهولة. فاذا بالعراق يتحول الى ساحة خالية سرعان ما امتلأت بحركات دينية، كانت حتى وقت قريب وهمية في وجودها وطاقاتها، الى جانب أجهزة مخابرات عالمية صهيونية في أغلبها، وشركات حماية أمنية هي في حقيقتها جيوش سرية تعمل تحت الغطاء الأمني، ويمكن تفعيلها في أي وقت لأي هدف تختاره الصهيونية. وقد ظهر الإسلام السياسي المفلس على حقيقته، فهو لا يمتلك أية رؤية لإقامة دولة خارج الشعارات المذهبية التي تحرك غرائز الناس. والشعارات الدينية لا تبني دولة. فقد مضى 16 عاماً على الغزو، وثلاث دورات انتخابية ولم أقرأ برنامجاً سياسياً واحداً حتى اليوم لأي حزب عن الدولة المرجوة!

وتبين أن هذه الأحزاب اصبحت عربة يركبها الفاشلون للوصول الى مناصب في الدولة، من أجل الإثراء الفاحش بالفساد والسرقة والرشوة. ولعل من المحزن أني شاهدت عدداً كبيراً من أصدقائي المتعلمين، وهم من الشيعة على الأغلب، يتهافتون لدعم النظام السياسي المذهبي الجديد متناسين ما كانوا يدّعون من انتماءات ماركسية أو قومية أو يسارية علمانية. ولا أشك أن أكثرهم اليوم نادمون على ذلك التدافع لدعم النظام السياسي الذي أنشأته الصهيونية في العراق بعد غزو 2003. وقد وجدت إيران أنها أمام صعوبة كبيرة لا تواجهها الصهيونية في أدارة العراق. وسبب ذلك هو اختلاف هدف الطرفين حول مستقبل العراق. فإيران كانت تريد دولة قوية تحت وصايتها، تؤمن لها حدود أمنها القومي الغربية، وتساعدها على مد هيمنتها لباقي أرض العرب.

أما الصهيونية فكانت تريد دويلة ضعيفة مقسمة استهلاكية، كحال دول مجلس التعاون الخليجي، تعيش في فوضى، مادام بالإمكان التحكم بتلك الفوضى وعدم خروج الأمر عن سيطرتها. فدولة الطوائف هي اسهل دولة للتحكم، حيث تسعى كل طائفة ضعيفة لاكتساب ود الصهيونية من أجل بقائها، باذلة في سبيل ذلك كل ما تملكه من بقية كرامة ان كان لها كرامة في الأصل. وحتى لا يطعنن أحد بهذا الاستنتاج فإني أدعو كل عراقي يريد أن يعرف حقاً ما تريده الصهيونية للعراق أن يقرأ مجموعة القوانين التي اصدرها "بريمر" الرئيس المطلق لما سمي من باب الإستخفاف بنا "سلطة الائتلاف المؤقتة". ومن لم يقرأ تلك القوانين بجملتها، بل ان من ليس لديه نسخة منها يمكن له الرجوع لها متى شاء، فهو ليس مهتماً بالعراق ومستقبله ولا يحق له أن يتحدث عن كل ما يتعلق بالعرا.ق لأن من لم يفهم ما الذي تريده الصهيونية من غزو العراق واحتلاله لا يمكن له أن يفهم ما يحدث اليوم.

أما إيران فلا ينفعها عراق مقسم وضعيف تتنازعه صراعات قومية أو مذهبية، لأن ذلك لا بد وأن يمتد لها ويعبث بأمنها القومي بسبب حقيقة تركيب الدولة الإيرانية. لكن الخطر الأكثر مداهمة هو وصول القوات العسكرية الصهيونية الى الحدود الغربية لإيران. كما أن تحول العراق الى ساحة مفتوحة لكل أجهزة المخابرات الدولية وامكانية عبور منتسبي تلك الأجهزة بسهولة، وعلى الأخص من شمال العراق، الى داخل إيران شكل وما زال كابوساً دائماً.

وحيث إن الصهيونية هي التي احتلت العراق عام 2003 فان كل فعل جديد في العراق كان لها، أما إيران فإن أغلب ما كانت تقوم به هو ردة فعل في عمل يتصدره الشعور بتهديد أمنها القومي. ولا ننسى أن العراق عام 2004 أصبح أكثر تهديداً للأمن القومي الإيراني، مما كان عليه عام 2002. فقد قام المحتل الصهيوني للعراق، سواء وقع اتفاقيات أمنية مع عملائه من الأشخاص، الذين لا يليق بي أن اكرمهم بذكر اسمائهم، أم لم يوقع، بتحويل العراق إلى واحدة من أكبر القواعد في أرض العرب. فالسفارة الأمريكية في بغداد هي أكبر سفارة لأية دولة في العالم من حيث عدد منتسبيها، وأشك ان وزارة الخارجية العراقية تعرف حقاً عدد منتسبيها. أما رجال المخابرات الصهاينة العاملين في العراق، أيا كانت جنسياتهم، فلا يعلم عددهم إلا الله!

ثم هناك رجال الشركات الأمنية، وهم في حقيقة الأمر جيش المرتزقة الجاهز للعمل عند الضرورة. وأولاء لا أعتقد أن أية سلطة في العراق تعرف عددهم أو جنسياتهم أو خلفياتهم! وهناك خلايا الموساد التي وصلت كل زاوية في العراق، بعد أن كانت قبل عام 2003 محصورة في شمال العراق، منذ معركة هندرين في ستينيات القرن الماضي. وهناك القواعد الأمريكية المنتشرة في كل العراق، والتي تتحرك ليس فقط دون إذن من السلطة الوهمية لحكومة بغداد، وانما دون علمها. فحين تحرك رتل من الآليات العسكرية من البصرة حتى الحدود الأردنية، لم يسمع بالخبر رئيس الوزراء العراقي الا من وسائل الإعلام الغربية/ كما سمعنا نحن. وقد يبدو هذا الاحتلال مخيفاً في أبعاده،

لكن الأدهى من كل ذلك هو الهيمنة الجوية الصهيونية المطلقة على سماء العراق. فليس في العراق من مسؤول (اذا صح لنا أن نستعير هذه الكلمة العربية الجميلة) يعرف حقاً ما الذي تمتلكه الصهيونية في العراق من سلاح جوي، وأجهزة تجسس واستطلاع، وفي أي قاعدة. وما اذا كانت الصهيونية قد وضعت سلاحاً نووياً في العراق، ووووو ... إن هذه الحقائق التي أعرفها ولا بد أن إيران تعرفها قبلي، بل وأفضل مني، هي التي تجد إيران أن عليها أن تتعامل معها، من أجل حماية أمنها القومي.

ولا يصح أن ننسى ونحن نحاسب إيران على ما فعلت في العراق، أن إيران لم تأت بالصهاينة للعراق ليصلوا حدودها. وإنما الذين جاؤوا بالصهيونية للمنطقة هم العرب عموماً، وشريحة كبيرة من أهلي العراقيين البائسين. وحين أقول هذا فاني لا أحاول أن أجد الأعذار لإيران؛ لكني أرغب في أن يكون التحليل موضوعياً وعقلانياً. ذلك لأن مما ساهم في التدخل الإيراني في العراق هو ان العراق تحول، بفعل ابنائه، الى ساحة صهيونية على حدود بلاد فارس، مما يعرض أمن تلك البلاد للخطر. كما أن الوجود الصهيوني المستبيح لأرض العراق حدد إمكانية المشروع الإيراني من الامتداد غرباً. وسأكتب في الحلقة القادمة "ما الذي فعلته إيران امام الوجود الصهيوني المستبيح للعراق؟"

 

ـ7 كانون الأول 2019