- تقديم الرواية:
تتقدم رواية (ذاكرة الجسد)، في شكل خطاب يكتبه الراوي "خالد" إلى البطلة "حياة"، يستعيد فيه أحداث حبه لها، وهو جالس أمام نافذة بقسنطينة في وقت: "الوطن كله ذاهب للصلاة" (ص12). وقد تميز استرجاعه بعدة مقابلات/ صور عبر بها عن معاناته بعد استقلال الجزائر، وخيبة آمال الثورة، التي كانت معقودة قبل الاستقلال. والمرسل "خالد"، مناضل سابق، فقد ذراعه اليسرى في الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، وأخذ يستعيض عن اليد التي فقدها بالرسم باليد الأخرى، ليصبح أحد أكبر الرسامين الجزائريين بشهادة النقاد الفرنسيين، ودون اعتراف حقيقي في وطنه، وقد ظل هذا البتر علامة لا يمكن أن تنسى، لأنها هي الذاكرة.
أما المرسل إليها، وموضوع الخطاب "حياة"، فهي ابنة أحد الشهداء (سي الطاهر)، صديق الراوي وصاحبه في الكفاح المسلح ضد المستعمر. ويتم تقديم "حياة" على طول صفحات الرواية (الخطاب)، ابتداء من يوم ولادتها إلى حين زواجها، وقد تميز حضورها بالنسبة للراوي "خالد" برمزية متعددة، فهي المرأة الحبيبة: «كنا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي، كان عطرك يستفزني ويستدرجني إلى الجنون، وعيناك كانت تجرداني من سلاحي حتى عندما تمطران حزنا.» (ص120)
وهي المرأة الأم: «وكنت تعرضين علي أمومتك أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي والتي أصبحت دون أن تدري أمي.» (ص18).
وهي أيضا المرأة الوطن: «أنت أكثر من امرأة، أنت وطن بأكمله.» (ص381).
فـ"حياة" كما يظهر من خلال هذه الأمثلة، تحضر في الرواية موضوعا ورمزا: موضوعا للحب والعاطفة، ورمز للأرض والوطن. وتعتبر حالة انفصال "خالد" عن "حياة" (الموضوع والرمز)، الموضوع الأساسي في رواية "ذاكرة الجسد"، ذلك أن في تفاعل "خالد" مع حالة هذا الفقد – الواحد المزدوج- تجلي لنا الرواية رؤاها، ووجهات النظر التي تريد أن توصلها.
1 - تيمة : المرأة «حياة» موضوعا للحب:
تحضر المرأة "حياة" في الرواية، موضوع حب "لخالد" (الرواي)، في حالة انفصال، وقد شكلت حالة الانفصال هذه، التي ألقت بظلالها القاتمة على خطاب "خالد"، بؤرة معاناة هذا الأخير، لما كان لها من تأثير قوي وسلبي على وجدانه ومجريات حياته. لذلك سنحاول فيما سيأتي، رصد صور هذه المعاناة كما تجلت لنا من خلال خطاب "خالد" إلى "حياة" (موضوع حبه المفتقد). يرى "كريماص" أن الاتصال بموضوع القيمة/ الرغبة أو الانفصال عنه يطرح مسألة استثمار هذا الموضوع. إذ أن الذات، وهي تتصل بموضوع القيمة أو تنفصل عنه، تتصل بقيم مستثمرة في هذا الموضوع أو تنفصل عنها. فالموضوع يُطرح باعتباره شيئا يختلف عن الذات التي تفكر فيه "لاستثمار القيم، تتصل الذات بها أو تنفصل عنها"(1).
وهكذا، فإن حالة انفصال "خالد" عن "حياة" موضوع الرغبة، ستخلق فوضى وجودية في ذاكرة "خالد"، وهي تصور لنا أن تجربة الحب لا يمكن أن تخلف وراءها سوى الإحباط واليأس، واهتزاز الهوية وضياعها يقول "خالد" في اللحظة التي وصل فيها خبر خطبة "حياة" من شخص آخر: «شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب بكلمة واحدة.» (ص268).
وهو ما يدل على أن خبر الانفصال، أحدث في ذاكرة "خالد" وكيانه، فوضى وجودية زجت به في حالة من اللاتوازن والاختلال: «أحسست أن رقعة الشطرنج أصبحت فارغة إلا مني، كانت كل المربعات بلون واحد لا غير، وكل القطع أصبحت قطعة واحدة أمسكها وحدي … بيد واحدة.» (ص271). لقد كان حدث الانفصال هذا، بمثابة الإعصار الذي جرف كل شيء، ولم يترك سوى الدمار السيكولوجي في أعماق "خالد": «أنا الرجل الذي حولك من امرأة إلى مدينة، وحولته من حجارة كريمة إلى حصى.» (ص281).
تذهب "حياة"، لتتحول إلى حلم مفتقد/ مفقود، يلاحق "خالد" ويأبى أن ينصاع للنسيان، رغم محاولات التعويض والإحلال، أي إحلال صور دلالية (كاترين) مكان صور دلالية أخرى (حياة)، لكن عملية التعويض (السيكولوجي)، أو الإحلال سرعان ما تخلق تشويشا وفوضى في بنية خالد العميقة. «كنت أريدك أنت لا غير، وعبثا كنت أتحايل على جسدي، عبثا كنت أقدم له امرأة أخرى غيرك، كنت شهوته الفريدة… ومطلبه الوحيد.» (ص238). «كانت كل الطرق تؤدي إليك، حتى تلك التي سلكتها للنسيان، والتي كنت تتربصين لي فيها.» (ص328). والسبب الذي يجعل محاولات التعويض تبوء بالفشل، هو أن "خالد" يستثمر قيم الموضوع المفقود (حياة) في تعامله مع الآخر (البديل)- كاترين- الأمر الذي يزيد من تعميق تراجيديا الحرمان والنقص في لغته: «الأكثر إيلاما ربما، عندما كنت في لحظة حب أمرر يدي على شعر كاترين، وإذا بيدي تصطدم بشعيراتها القصيرة الشقراء فافقد فجأة شهية حبي وأنا أتذكر شعرك الغجري الطويل الحالك، الذي كان يمكن أن يفرش بمفرده سريري… كان نحولها يذكرني بامتلائك، وخطوط جسدها المستقيمة المسطحة تذكرني بتعاريجك وتضاريس جسدك.» (ص238).
ذهبت "حياة" وظل صوتها ينبعث من زمن الذكرى، زمن التوحد بالذات الأخرى، زمن الحنين إلى مكان مفقود ظلت معالمه منحفرة في الذاكرة: «مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السحر في ذاكرة القصور العربية المهجورة.» (ص217). يتحول "خالد" بانفصاله عنه "حياة" إذن، إلى مجنون "حياة" ينتج ويعيد تجربة العشق العربية، حيث: «يحيل تذكر الحبيبة إلى زمن البعد والإنصات إلى صوت الغياب داخل صوت الحضور.»(2) «وأنا آخر عشاقها المجانين … أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا أحدب نوتردام الآخر، ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها عمرا.» (240).
مارست الرواية عبر قصة "خالد" و "حياة" حفريات في تاريخ فشل تجربة اتصال الرجل والمرأة في المجتمع العربي بالحب والحرية كمفهومين يتوفران بامتياز على امكانيات حقيقية لضمان نجاح الفرد، وهي بالتالي، استعارة وجودية عبرت من خلالها "أحلام مستغانمي" عن ضياع مفهوم الآخر في تاريخ الثقافة العربية، وهو المفهوم الذي أصبح يحيل في النسق القيمي للمجتمع العربي على وضعية شادة، «ففي الأرضية الأبيسية العربية يتحول الحب إلى خيال فاصل بين الجسم والروح، تحب الروح من جهة، والجسد من جهة أخرى، وهذه أرضية ميتافيزيقية»(3). إن ضياع الآخر كأصل منبع الخلاص، هو أيضا ضياع للهوية ما دام افتقاد الحب كمفهوم وجودي مولد للحرية والالتزام في تاريخ الإنسانية، هو افتقاد لقيمة إنسانية مولدة لطاقة الفعل والإبداع.
2 - تمية المرأة "حياة" رمزا للوطن:
تتوحد "حياة" بالوطن عبر استرجاع الراوي "خالد" لأحداث ماضيه بصيغة الخطاب، مما يوحي للقارئ بالحميمية: «يا مرأة كساها حنيني جنونا، وإذا بها تأخذ تدريجيا تضاريس مدينة وملامح وطن.» (ص13). تحضر "حياة" والوطن إذن، مرايا تعكس كل منها الأخرى، وتكشف عن تفاعل دقيق بين الذات الإنسانية وهوية البلاد، يقول "خالد": «أنت مدينة ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة رسمتك أنت ووحدك ستعرفين هذا.» (ص56). «كنت في النهاية كالوطن، كان كل شيء يؤدي إليك إذن.» (ص362) ويتابع "خالد" نسج صورة المرأة/ الوطن في تفصيلات دالة تتراكم وصولا إلى: «فهل قدر الأوطان أن تعدها أجيال كاملة لينعم بها رجل واحد.» (ص362) وتشكل هذه العبارة بؤرة من بؤر التوتر في الرواية. فهي بالقدر الذي تفصح فيه عن التماهي بين "حياة" و "الوطن"، تكشف أيضا عن الهاجس الوطني الذي يكتب من خلاله "خالد" خطابه، وتتشكل على ضوئه عوالم الرواية.
وقد كان مرد هذا التماهي بين "حياة" و "الوطن"، إلى كون علاقة "خالد" بالأولى، تحاكي وتماثل علاقته بالثانية، وكان مآلها مع الطرفين: خيبتين بمذاق للمرارة واحد، فالوطن الذي ناضل من أجله "خالد" وفقد في سبيل ذلك ذارعه، كان آخرون –غيره- هم من يجنون ثمار نضالا ته، ونضالات غيره ممن قدموا أرواحهم ثمنا لحرية الوطن، فـ"حياة" التي أحبها، كانت في الأخير من نصيب رجل آخر بزواج يشبه الصفقة –الرشوة- إذ لم يتم: «إلا لأسباب وصولية ومطامع سياسية محض.» (ص342). وهكذا إذن، لم تكن مصادفة أن يكون زوج "حياة" واحد من مستغلي الوطن: «واحد من أصحاب الصفقات السرية، والواجهات الأمامية.» (ص270). لذلك يخاطب "خالد" بقوله: «فماذا يهم في النهاية، أي اسم من أسماء الأربعين لصا ستحملين.» (ص237).
في ليلة عرسها تنثال على "خالد" صور الذاكرة، وكأنه يريد أن ينهي الحاضر كله باستبداله بالماضي كله، وهو يرى أن ثمة من يلمس امرأته/ وطنه: «عندما تمرين بي! عندما تمرين وأنت تمشين مشية العرائس تلك، أشعر أنك تمشين على جسدي، ليس "بالريحية"، وإنما بقديمك المخضبتين بالحناء … وأن خلخالك الذهبي يدق داخلي، ويعبرني جسرا يوقظ الذاكرة" (ص319-320). «ولكن ما أحزن الليلة قسنطينة! ما أتعس أوليائها الصالحين. وحدهم جلسوا إلى طاولتي دون سبب واضح. وحجزوا لذاكرتي الأخرى كرسيا أماميا. وإذا بي أقضي سهرتي في السلام عليهم واحدا، واحدا. سلاما سيدي راشد… سلاما يا سيدي مبروك … يا سيدي محمد … يا سيدي سليما.» (320-321).
وكان، خالد قد تنبأ بقدره مع "حياة"، لما طلبت منه أن يرسم لها (هو الفنان التشكيلي) لوحة شريطة ألا يضع أسفلها توقيعه، كانت ترى في ذلك احتياطا، لكي لا يعلم أحد بقصتهما، أما "خالد" فقد رأى في ذلك قدره مع وطنه: «كنت أكتشف فقط مرة أخرى أنك نسخة طبق الأصل عن وطن ما، وطن رسمت ملامحه ذات يوم، ولكن آخرين وضعوا إمضاءهم أسفل انتصاراتي.» (ص170). الأمر الذي يكشف لنا، أن "حياة" رمز الوطن، تصبح هي الوطن حقيقة يقول: «أحبك السراق والقراصنة … وقاطعوا الطرق ولم تقطع أيديهم، ووحدهم اللذين أحبوك دون مقابل أصبحوا ذوي عاهات، لهم كل شيء، ولا شيء غيرك لي.» (ص 180).
بل إن (حياة) تصبح الحياة نفسها: «كنت أحقد على ذلك القدر أحيانا، ولكن كنت أحيانا ما استسلم له دون مقاومة، بلذة غامضة، وبفضول رجل يريد أن يعرف كل مرة، إلى أي حد يمكن لهذا القدر أن يكون أحمق، ولهذه الحياة أن تكون غير عادلة وأن تكون عاهرة لا تهب نفسها سوى لذوي الثورات السريعة.» (ص271).
بالإضافة إلى ما سبق، ومن داخل الهاجس الوطني الذي اتخذت معه "حياة" رمز "الحياة" ورمز "الوطن"، لجأت الرواية إلى تقنية البطلة الواحدة، والرجال المتعددين، وكانت ترمي بذلك إلى تعدد السبل بالرغم من وحدة المصير. "فحياة"، لم تكن تعني، سوى الوطن، وتخصيصا "الجزائر" الذي يحمل اسم جمع وهو واحد، تماما كالاسم: "أحلام" (الاسم الآخر للبطلة)، وهو ما يؤكده "خالد" في قوله: «كيف لم أحذر هذا الاسم المفرد –الجمع- كاسم هذا الوطن وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائما ليقتسم!» (ص372). إن انفصال "خالد" عن "حياة" موضوعا للحب إذن، هو في نفس الوقت انفصالا له عن "حياة" رمزا للوطن: «اليوم بعد كل هذا العمر، بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح أدري أن هناك يتم الأوطان أيضا، ظلمها، قسوتها، هنالك جبروتها وأنانيتها.» (ص 298).
هكذا، فبقدر ما نجد أن الرواية محاكمة للتاريخ، فهي رواية الحب متجليا في القصة بين "خالد" و"حياة"، قصة تجسد التحولات المعاقة، اجتماعيا، وسياسيا، لذلك فإن حياة في الرواية يحق اعتبارها، الجزائر ذاتها، الجزائر بين مرحلتين، مسارين اجتماعيين وسياسيين، وليس فقدانها إلا الدليل القاطع على غموض مرحلة، وعلى انكسار آمال الماضي، وأحلام المستقبل.
باحث من المغرب
الهوامش: -
* مستغانمي (أحلام) : "ذاكرة الجسد". دار الآداب للنشر، ط : 7- بيروت 1998.
(1) الدوهو (محمد) : "الأصل المفتقد في رواية "العودة إلى المعبد"، لنبيل نعوم"، ملحق الاتحاد الاشتراكي، 16 فبراير 2001.
- ص : 9.
(2 ) لبيب (الطاهر) :"سوسولوجيا الغزل العربي - الشعري العذري نموذجا- "ترجمة : مصطفى الحسناوي. - ط : 1 - منشورات : عيون المقالات – دار الطليعة لبنان 1987. - ص : 50.
(3) الخطيبي (عبد الكبير) : عن ألف ليلة وليلة : في الرواية العربية واقع وآفاق دار الطليعة ابن رشد، ط : 1، بيروت 1981. - ص : 373.