يوشك باب علامات هذا الشهر أن يكون ملفا متكاملا عن الجدل الطويل الذي استمر على مدار سنوات ثلاث، وشاركت فيه قامات شعرية ونقدية سامقة، حول الشعر والشعرية، بصورة تبدو معها عملية بزوغ قصيدة النثر مع مجلة (شعر) نتيجة لحراك ثقافي وجدل نقدي طويل حول طبيعة الشعر، وعلاقات مثاقفة مع الكثير مما كان يدور في النقد الفرنسي عن قصيدة النثر كذلك.

نشور النثر في قصيدة.. جدل في الشعر والشعريّة

أثير محمد على

من البديهي القول، أن في جدل القيم الأدبيّة والفنيّة في تاريخ الثقافة العربية هتك للحجاب الصفيق بأنها ثقافة جوهر، رغم الطوف بالبيت العتيق، والسجود للطوطم المكرس على اختلاف المراحل والعصور. ولعل في السجال حول الشعر والشعريّة معنى لمماحكات الجمالي ـ الخالص والنفعي ـ كما فيه كشف لمناورات الموقف النقدي في سياق التاريخ، فلكل شعر جديد فلسفته المعرفيّة ونظريته الجماليّة وذائقته الخاصة. وقول الشعر يستدعي حضوراً طاغياً في ذاكرة الشبكة الثقافية العربية، فيما لو قورن مع الأجناس الأدبية والفنية، كالمسرح والرواية، التي أدرجتها الحداثة العربية في هذه الشبكة. الأمر الذي يفسر ضراوة الفعل الثقافي لتجديد الشعر العربي، وتنوير طبقات ناظميه، وتحديث شكلانيّة تراثه النقدي المتراكم.

تاريخياً، كان لا بد من ظهور تيارات شعرية ونقدية شرقاً وغرباً، من المجموعة الشعرية "غاسبار الليل" (Gaspar de la Nuit) عام (1842) لألويسيوس برتراند Aloysius Bertrand في فرنسا، ومن "الوسيلة الأدبيّة للعلوم العربيّة" (1872) لحسين المرصفي في مصر، حتى يكون الطريق ممهداً أمام مجلة شعر لتشرع بالتنظير لـ "قصيدة النثر"، كشكل شعري محتمل الحضور بالقوة (Potential presence) في الأدب العربي، اعتماداً على مرجعية رائدة دراسة هذه القصيدة سوزان برنارد Suzanne Bernard عام 1959.

ولعل المقارنات مع الإنتاج الأدبي الغربي والتساؤلات التي بنيت عليها الحداثة العربية تشير إلى معنى من معاني التعالق، وربما التثاقف مع هذا الإنتاج. من هنا، وعلى سبيل المثال، يمكن فهم التأثر بالرومانسيّة الانكليزيّة لدى شعراء "الإحياء والديوان"، أو الملامح المتقاطعة مع ماقبل الرافائيليّة الانكليزية أو السرياليّة لدى البعض من جماعة أبولو، أو الإحالات، التي تبرز هنا وهناك، للشعر الأميركي لدى شعراء المهجر، وليس بخاف ما للأسطورة في شعر الرمزية الانكليزيّة من أثر على رواد شعر التفعيلة الأوائل، أو الرمزية الفرنسية لدى شعراء مجلة شعر.. بمعنى أن العصر الثقافي الذي كان قد دُشِّن في القرن التاسع عشر، حمل معه انفتاحاً لا رجعة عنه في التكوين المعرفي وذائقة المبدع والناقد والمتلقي العربي، وقابلية استقبال مؤثرات موزاييكيّة من الآداب العالميّة في العملية الإبداعية. فعندما كتب نجيب الحداد عام 1897 مقالته المعنونة "مقابلة بين الشعر العربي والإفرنجي"، كان يعبّر عن هذا التواصل الحتمي الجديد، إن لم نقل أنه كان يؤسس للأدب الشعري المقارن في مرحلته، حتى قبل أن يترك روحي الخالدي على صفحات الهلال عام 1904 "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو" بين يدي القراء.

من المتفق عليه أن قصيدة النثر العربية، هي وارد تثاقف مع مجتمعٍ التعاقد فيه قائم على الحرية ومفهوم المساواة والديموقراطية، وارد مدرج في نسق عربي لا تعرف مؤسسته الثقافية الرسمية للديموقراطية ولا للحرية من معنى، وهنا تكمن مفارقة قصيدة النثر ودورها الجمالي في التعبير عن حرية الانعتاق من مفهوم العقال على اختلاف تنويعاته.. هكذا يمكن النظر لهذه القصيدة كفعل جمالي نقدي، وحضور بالقوة لشعرية واقع محتمل تتوق لتحقيقه والتحقق فيه.

يجمع العديد من النقاد على صعوبة وضع تعريف يحيط بقصيدة النثر العربية، لأنها من التنوع بمكان، إضافة لأنها تتخلق بأسلوبية حادة الذاتية في عالم شعري موحد الاقتضاب، محدثة تحولاً في تجربة التلقي على نحو ينزع إلى الانخطاف الآني.. وربما أمكن القول أن فيها قفول للقول الشعري الأول، لنواة القصيدة البدئية، آن انفصل النثر عن اللغة العملية، ليشتبك برنيم غير مألوف يستبطن بنية لغوية موجزة، تحمل جدل صيرورتها في تكوينها الشكلي والصوتي الملتوي.. أو هي مسار برهة عابرة تتكثف فيها إعاقة الموارد الشعرية للنثر الصريح المنسرب عبرها، لينتهي المسار بتكافل ضمني بين هذه الموارد، بحدودها الدنيا، مع النثر.

تبدو قصيدة النثر وهي تؤكد على شرعيتها، واستقلالها الذاتي في فضاء الشعر العربي، وكأنها تتوج مسار الشعرية من سامي البارودي إلى محمد الماغوط، مروراً بكافة المراحل الفنية من شعراء التقليد، إلى الإحياء والديوان، فأبولو، إلى شعراء التفعيلة، وصولاً لرواد مجلة شعر ومحاولاتهم استعاضة الواقع في الشعر بالفكرة وصوفية اللغة.. مراحل لم تكن في العمق، إلا انزياحاً متواكباً عن المعيار، انسجاماً مع تبدلات الواقع، وتحولات الذات الشاعرة التي أخذت تتمثل، أو تستقبل تدفق، "أشكال أدبية مهاجرة" من فضاءات سوسيولوجية أوسع.

تتكشف قصيدة النثر، كتجلٍ لإبداعية تصل فيها المعادلة الشعرية لحدود بالغة الحرفيّة، الأمر الذي يلغي ويتجاوز هذا الكم الهائل من شعر شعراء متواضعي الموهبة والصنعة، والذين يدّعون الشعر، وما هو بشعر.

من جانب آخر، تتمرد قصيدة النثر على التصنيف إلى آداب كبرى وصغرى.. وتعمق تمردها ضمن الجنس الشعري على التصنيفات التراتبية إلى قصيدة العمود الشعري وقصيدة التفعيلة و "حثالة شعرٍ" في قصيدة النثر.. وتدعو للاعتراف بأن الشعر هو فعل إبداع، مهما اختلفت أشكاله وتسمياته وأسلوبيته، فالشعر المبدع ينبث في زمانه ويفيض عنه بنفس الوقت، يعبر عن تعددية حاضره ويترك نفسه لتموجات أزمان آتية. من هنا تأتي متعة قراءة المتنبي وبدوي الجبل ونزار قباني وأنسي الحاج.. على حدٍ سواء.

هكذا، إن حراك قصيدة النثر العربية خلال نصف قرن يشير ـ حتى الآن ـ إلى أنها لا تقوم على أنقاض الغير، رغم حدّة عتبة البدايات، بل هي خيار شعري يتعايش مع الممارسات الشعرية الأخرى وينضاف إليها، ولعل في هذا توافق مع معاصرةٍ عالمية تترك مساحة واضحة لجدل يقوم على التجاور والاعتراف بتعدد ثقافي وأدبي حر. أما مصطلح القطيعة المتداول هنا وهناك، فكثيراً ما ينجرف نحو فهم كلبي متطرف، يتغيّا فضيلة صناعة محض مسافة فاصلة، أكثر مما هو تعبير عن إمكانية معرفيّة وجمالية مغايرة، كما وتقوم "نقطة صفر" البداية الجديدة فيه على نفي الآخر كشرط وجودي لها.

وهنا يشار إلى أن إبداعية العمل الأدبي تشابه مراحل تكوّن التيار الأدبي، من حيث أن العملية الإبداعية لا يمكن أن تكون خالصة النبوة، بل تتدخل فيها فسيفساء التكوين المعرفي والفني للمبدع، وتمثّله للتجربة والموقف منها، وتجاهلها أو نسيانها حين الولوج إلى إنتاج القطعة الأدبية. على نحو مشابه، تعني القطيعة المعرفية والفنية، استيعاباً للتجارب والتيارات السابقة والراهنة، تمثّلها، والموقف النقدي منها ومن الحاضر، ومن ثم تركها تستبطن العتمة، حين الإعلان والتعبير عن التيار الفني الجديد. وهذا البقاء في غبشة العتمة يلخص معنى الحضور في الغياب، والابتعاد عن مزاج الخراب وأسلوبيّة الجبرية الصماء، إضافة لأنه يترك الباب مفتوحاً لقولٍ محتمل في حوزة زمن آخر.

وأخيراً، تعود مجلة "الكلمة" في باب علامات لهذا الشهر لتجربة الحداثة في مجلة "الآداب" البيروتيّة، لتنتخب منها استفتاءات تساءلت فيها، في النصف الأول من عقد الخمسينات من القرن الماضي، عن قضايا حيوية تمس الشعر العربي. قضايا لا زالت تطرح في ثقافتنا، وإن بمنحى متجدد ومتطلبات تخص الشعرية النثرية وقصيدة النثر. تتخلل الاستفتاءات مقالة لادفيك جريديني شيبوب، نشرت في مجلة الأديب عام 1955، يعرض كاتبها فيها لطبيعة السجال حول الشعر المنثور، ويتناول ملامح شعريته والتي ستمهد لطرح قصيدة النثر لاحقاً. كما وتلحق الاستفتاءات بافتتاحية مجلة "شعر" شتاء 1957، والتي فضّل القائمون على المجلة تركها لتمهر باسم الشاعر الأميركي أرشيبولد مكليش Archibald MacLeish. وفي النهاية يطالع القارئ ختام السنة الأولى لمجلة "شعر" أيضاً، والموقعة من قبل "هيئة التحرير" في خريف ذات العام. وكأن تساؤلات الآداب، والسجالات التي تبطنها مقالة شيبوب، والانطلاقة التي بلورتها مجلة "شعر" أسست لجدل شعرٍ وشعريةٍ، ستتضح معالمه المكونة في النصف الثاني من القرن العشرين. 

الاستفتاءات المنتخبة من مجلة "الآداب" تحمل العناوين التالية:
1 ـ هل أصيب الشعر العربي بنكسة؟

شارك في الإجابة على سؤال الاستفتاء: سيد قطب، خليل الهنداوي، محمد المهدي البصير، عيسى الناعوري، بطرس البستاني، مصطفى جواد، أنور المعداوي.

2 ـ الشعر العربي بين التقييد والتحرير
شارك في الاستفتاء: رئيف الخوري، بدوي الجبل، عبد القادر القط، بشارة الخوري، نزار قباني، فدوى طوقان، عبد الوهاب البياتي، الياس قنصل، ابراهيم العريض.

3 ـ مستقبل الشعر العربي الحديث
شارك في الاستفتاء: أحمد زكي أبو شادي، جبرا ابراهيم جبرا، زكريا الحجاوي، رئيف الخوري، عدنان الراوي، خالد الشواف، جورج صيدح، صلاح الدين عبد الصبور، سلامة موسى، جوزف نجيم، رجاء النقاش.

وأخيراً، نترك للقارئ مطالعة حوارات تلك الأيام وهي تشير لزمنها وزمننا.  

هل أصيب الشعر العربي بنكسة؟

الآداب تستفتي:

"جزع كثير من الأدباء من أن يصاب الشعر العربي بنكسة قوية بعد شوقي وحافظ ومطران والرصافي. فهل تعتقدون أن الشعر العربي الحديث قد أصيب حقاً بهذه النكسة؟"

هذا هو موضوع الاستفتاء الذي طرحته "الآداب" على عدد من الأدباء المعنيين بشؤون الشعر في العالم العربي، فتلقت الأجوبة التالية:


جواب الأستاذ سيد قطب
أعتقد أن هؤلاء الذين يقولون: إن الشعر قد أصيب بنكسة بعد شوقي وحافظ ومطران والرصافي، متأثرون بلون خاص من الشعر، يحسبونه وحده هو الشعر، ومن ثم لا يكون هناك شعر بعد أولئك الشعراء. ولكنهم لو أفسحوا حسهم للأنماط الأخرى من الشعر، التي هي أحق بكلمة "شعر" لرأوا أن ليست هنالك نكسة على الإطلاق. كل ما هنالك أن البذور الجديدة لم تبلغ قمتها بعد، كما بلغت الأنماط القديمة قمتها في شعر أولئك الشعراء.

ولست أشك في أن البذرة الجديدة أنفس قيمة وأصدق في تمثيل الشاعريّة الحقّة من الأنماط القديمة، وأنها حين تتم تمامها ستكون أعلى بكثير من تلك الأنماط.

ولست أشك في أن نماذج مثل الشابي، ونازك، وفدوى تطمئننا على الشعر في حاضره ومستقبله.. ولكم وددت لو أجد فسحة ـ ولو صغيرة ـ من الوقت والجهد لدراسة المقومات الجديدة الأصيلة في شعر هؤلاء الثلاثة، وكذلك في شعر بعض شباب العراق.. ولكن الشواغل لم تعد تفسح لي هذه الفرصة.. واأسفاه!

جواب الأستاذ خليل الهنداوي
يظهر أن مجلة "الآداب" قد جزعت كثيراً على الشعر أن يصاب بنكسة يعد موت شوقي وحافظ ومطران والرصافي، فهي تتساءل عن مدى هذه النكسة، وإلى أين تذهب؟

أما أن هنالك نكسة فلا بد من الاعتراف بها، ولكن الأولى بها أن تظهر الجزع على نكسة تصيب الشعر العالمي عامة، وقد أصيب بها.

فليست النكسة متعلقة بالشعر العربي الحديث وحده، لأنني على اعترافي بفضل الذين ماتوا، وبفضل شوقي خاصة، وهو موهبة العبقرية في العرب لهذا العصر بمحاسنه ومساوئه.. لا أرى أن فقدهم قد أصاب الشعر بنكسة، بل أن في الأحياء شعراء أكثر استجابة لعواطفهم، وآمن لفنهم، وأشد تعصباً لشخصيتهم، وأكثر اتصالاً بمفهوم الشعر العالمي.. أطال الله في آجالهم وأطلق من حناجرهم!.

إذاً، فالنكسة في شعرنا لا تعود إلى ذهاب هذه العناصر، ولنا بدلاً من حافظ والرصافي وشوقي ومطران، كثيرون قد أبدعوا، ولا يزالون يبدعون.. وإنما نكسة الشعر تعود إلى عوامل عدة ترتبط بهذا العصر الذي اختلف بروحه وعقليته عن العصور السابقة، وأقام قيماً جديدة لأنواع من الأدب جديدة. ولعل في مقدمة هذه النكسة "النزعة المادية" التي غلبت على ألوان تفكيره وتوجيهه، حتى جعلت من حياتنا "مادة" لا تغذيها إلا المادة.. وما أكثر ما تلح علينا المادة بتكاليفها! فمن ذا الذي يتفرغ اليوم لقراءة الشعر والتغني به؟

لقد خاف الفيلسوف الفنان "غيو" في فجر النهضة العالمية على الشعر، ولكنه آمن بأن الشعر باق، وليس في مبتكرات العلم إلا ما يغذيه، ويلون صوره، ويوحي إليه بالمعاني. ولكنه بدل الغاية التي يهدف إليها الشعر، وجعل منه "شعراً علمياً" يستفيد من مبتكرات العلم، وهيهات أن يلد العلم شعراً! فالشعر إن لم يعتمد على ما خلقه الله له من عاطفة وتوقد، وشخصية، وألوان، وألحان فهو ليس بالشعر.

إذاًَ، فهناك النكسة العالمية التي أصيب بها الشعر في كل بلد.. وإن صادفت حياة ما للشعر فهي الحياة التي يمارسها الطلاب في مدارسهم وجامعاتهم. ولولا دراسة الأدب دراسة جبرية لرأيت الشعر مادة نادرة، لا يبحث عنها إلا من ابتلي بها. ولكن الخوف الآن عندي إلى متى ستحرص المدارس على تدريس الشعر؟ وهل يأتي زمان تطغى فيه المعارف الآلية، والعلوم التطبيقية على كل شيئ؟

على أن من عوامل هذه النكسة عوامل وراثية تتجلى في الشعر العربي، وطالما شكا الشعراء إهمال الناس للشعر. وهذا أبو تمام يقول:

أغلى عذارى الشعر أن مهورها عند الكرام وإن رخصن غوالي

فعذارى الشعر في عصر أبي تمام رخيصة المهور، لا يتنافس في إغلاء مهورها إلا كرام الناس. واليوم لم يعد من كرام لهؤلاء العذارى، ولا من طامعين في جمالها، على أننا نحمد الله على أن شعراءنا لم يعودوا يعرضون عذارى شعرهم في الأسواق، وإنما هم يريدون أن يلبوا حاجة أنفسهم، أو أوطانهم أو مجتمعهم الإنسانية عامة. ولا يريدون أكثر من قراء يحترمون إنتاجهم، فهل يفوتهم القراء؟ وهذه نكسة الشعر، لا نكسة تتعلق بشعراء؟

ومن أسباب هذه النكسة ما يتعلق بتقصير شعرنا بصورة خاصة.. من انعدام ذلك التجاوب بينه وبين القراء في عاطفته حيناً، وفي لغته حيناً آخر. ومن قيود كثيرة، ومناسبات ضيقة يموت القول بموتها مهما كان شريفاً. ومن اقتحام الشعر الغربي الذي هو أصدق إنسانية، وأغزر ألواناً، وأكثر انطباعاً على النفس. والشعر نفسه ضيق المجال، كثير الحدود، يشهد على ذلك أن أعاظم الكتاب يبدؤون حياتهم الأدبية بالشعر، ثم يتسللون منه إلى الكتابة، لأنها أرحب مجالاً للتعبير عن عواطفهم وأفكارهم خارجين عن حكم الوزن والقافية الرتيبة.

هذه النكسة التي تخشاها مجلة الآداب مرتبطة على كل حال بالنكسة العالمية، فإما أن تجعل الشعر كله عاجزاً، وإما أن توجهه توجيهاً جديداً، ولكني أحب أن أكون متفائلاً، لأنني أعتقد أن الأدب وحده ستعود إليه الإنسانية المرهفة بتكاليف المادة ليوقظ عاطفتها الإنسانية ويقتل روح الأثرة فيها، إذا سلمت من الواقعية والمادية.

ولكن متى يكون هذا؟
قل.. علمه في ضمير الغيب!

جواب الدكتور محمد مهدي البصير
في اعتقادي أن الشعر العربي الحديث لم يصب بنكسة على الإطلاق وأنه لا محل لافتراض مثل هذا الفرض، فإن الوطن العربي كان ولا يزال وسيظل بإذن الله منبتاً خصباً لفطاحل الشعراء. وكل ما حدث هو أن الظروف لم توات شعراء الجيل الحاضر لكي يصيبوا من الشهرة وذيوع الصيت ما أصاب حافظ والرصافي وشوقي ومطران. هذا إلى أني أحب أن أسأل بدوري: أمن الإنصاف أو العدل أن نتصور وجود نكسة في الشعر العربي وعمر أبو ريشة والجواهري وبدوي الجبل وأحمد الصافي النجفي وإيليا أو ماضي وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم ولا يقلون عنهم عظم شاعريّة وغزارة إنتاج وبعد صيت أيضاً على قيد الحياة؟؟..

جواب الأستاذ عيسى الناعوري
قبل مطلع هذا القرن كان البارودي يملأ دنيا الضاد شعراً، وقال الناس إنه قد أعاد إلى الضاد عزها وعصورها الذهبية. ثم مات البارودي، ولكن الشعر لم يصب بعده بأية نكسة، بل ازدهر قوة وحيوية وإشراقاً على أيدي الي خلقوه، وكانوا كثرة وليس واحداً.

وكذلك لم يصب الشعر بأية نكسة ـ أو ما يشبه النكسة ـ بعد وفاة شوقي وحافظ ومطران والرصافي ـ ولست أدري لماذا نسي الزهاوي أيضاً من الاستفتاء، وقد كان من طبقتهم ـ فما يزال يغرد على دوحته أمثال أبو ماضي، والقروي، وأبو ريشة، والأخطل الصغير، وبدوي الجبل، والجواهري، وغيرهم. لقد كان الشعر لدى أولئك "كلاماً وتقليداً"، وهو لدى هؤلاء "رسالة حياة وإبداع".

وسيذهب هؤلاء أيضاً ـ بعد عمر طويل ـ كما ذهب أولئك، ولكن ذهاب جيل من الناس لا يعطل استمرار الحياة وتجددها في أجيال أخرى، لا تقلّ عنه عظمة، إن لم تتفوق عليه، والشعر صنو الحياة، يرضع قوته وبقاءه من ثديها الذي لا يعرف الجفاف، وإذا جفّ فترة ما فليس لينضب، ولكن ليعود بدر جديد، وحياة جديدة، أحلى وأزهى وأبدع مما كان.

إنني لست من الذين يميتون الفضل كله مع الذين يموتون، فليس هؤلاء سوى أفراد من ركب الحياة المندفع دائماً إلى الأمام. والأمة التي في روحها رصيد من حيوية، لا يمكن أن ينتكس فيها الشعر، وهو وجه الحياة الجميل، ومرآتها الصافية.

وعدا هذا دعني أقولها لك بصراحة، وبدون تهيب، أنني لست من الذين يرون لشوقي ومطران وحافظ والرصافي ـ وأمثال هؤلاء ـ من التفوق الإبداعي ما يسمح بأن نخشى بعدهم على الشعر من الانتكاس. وأؤكد لك أنني أفضل عليهم ألف مرة هؤلاء الشعراء الذين قلت أنهم لا يزالون يغردون على دوحة الشعر، ولست أعدل أولئك جميعاً بأي واحد من هؤلاء، ولا ممن لا أزال أرقب للشعر العربي كل لخير على أيديهم، من شعراء الأجيال الطالعة.

إننا نسير إلى الأمام، وهذا الذي ما تزال تحتفظ به الأيام ـ لقرب العهد ـ من مجد شوقي وزملائه، سيضيع حتماً أمام ما تتفتح عليه براعم الشباب من حيويات ومواهب إبداعيّة، لا تؤمن بشعر المناسبات الشخصية، ولا تعرف "ببغاويّة" التقليد والاجترار التي عاش أولئك وبنوا مجدهم ـ لجيلهم ـ عليها.

وأقولها صراحة أيضاً: إن ما لا نزال نعظمه من شاعريّة شوقي و "شلته"، ومجدهم الأدبي، ليس إلا من مظاهر عبادتنا للماضي، وليس في الدنيا أمة مثلنا تعبد الماضي، وتعطيه أكثر مما يستحق، بينما تبخل على الحاضر والمستقبل بما يستحقان من حرس وعناية وتقدير.

ولكن عبادة الماضي ستزول، وسنعرف كل شيئ بقيمته الذاتية ـ لا الأثرية ـ التي تعكسها عليه مقومات الحياة المتطورة المتجددة بلا انقطاع.

جواب الأستاذ بطرس البستاني
قد يكون مرد الجزع الذي حلّ بطائفة من الأدباء بعد شوقي وحافظ وخليل والرصافي، إلى حقيقة راهنة، إذا تدبرنا ما في نفحاتهم من أصداء لآلام الشرق العربي وآماله. فقد كانت أشعارهم تتردد في أمصاره جمعاء، كأنها نسجت من نياط قلوب أبنائه، في حين أن الشعر بعدهم، إذا استثنينا بقية صالحة من معاصريهم، يكاد لا يترجع صداه إلا في قطر دائرته، أو ما جاورها عن كثب. وقلما نرى شعراً يجوب البلاد العربية، ويرويه أبناؤها على اختلاف النزعات. لأنه إما أن يكون مخالفاً لعقائدهم، أو مبايناً لأذواقهم الأدبية، لما فيه من أزياء وألوان لم تجمع النفوس على استياغها في موطنها، فالأولى ألا تستاغها المواطن الأخرى من ديار العرب، وإن يكن الجمال لا يعدو بعضها، على ما في جملتها من حذلقات التعبير ومرض الألفاظ.

وقد يكون مرده إلى ما أحدثته الحرب العالمية الثانية من نكس في القرائح، واضطراب في الحياة الأدبية. ولعل هذه الظاهرة لم تقتصر على العربية، فإن الشعر الإفرنجي، كما يظهر، يعاني أزمة واضطراباً وخبطاً في الأزياء والألوان والمذاهب، فما يقل عما نحن فيه من سوء الحال.

على أني لست من المتشائمين بمصير الشعر، فإنه لم يخل أمره من شعراء يسدون مسد سلفهم، إلا عصر الانحطاط، ومعاذ الله والأدب أن تفكر فيه، وبالأيك أطيار فصيحة اللسان، تحسن الغناء، ويحلو لها التغريد. وقد تعود أدباؤنا من عهد بعيد أن يختموا الشعر بعد موت نوابغه، فختموه بالأخطل والفرزدق وجرير، ثم ببشار، ثم بأبي تمام، ثم بابن المعتز، فقالوا: فتح الشعر بمالك وختم بمالك، ثم بالمتنبي، وهكذا دواليك إلى أن بلغنا شوقي وحافظ وخليلاً والرصافي. فالشعر لا ينفك مختتماً مفتتحاً إلى ما شاء الله.

جواب الدكتور مصطفى جواد
في تاريخ الآداب والفنون شواهد كثيرة على أن أكثر التطورات فيها كانت تعد (انتكاسات) ومنها بالبداهة (الشعر). فالذين يكرهون التجديد والتوليد لكرامة القديم عندهم وعزازته عليهم، يرونهما انتكاساً وارتكاساً، ولكن التطور أمر طبيعي يعتمد على الواقع من ذوق غالب وثقافة غالبة، وهوى عام قاهر، ووجهة اجتماعية قاسرة. وفي الحق أن الشعراء المذكورين في السؤال كانوا من "مخضرمي عصرين" وإن كانوا مجددين بعض التجديد بالإضافة(1) إلى الذين قبلهم. وقد اتجه الشعر العربي في أواخر أعمارهم وجهته الجديدة التي عدّها أهل الجمود "انتكاساً"، ولقد فطنوا ـ أعني أولئكم الشعراء ـ إلى قوة سلطان التطور ففزع شوقي إلى الشعر التمثيلي بعد أن تقضى زمانه، وعمد غيره إلى مواضيع اجتماعية لتصوير شيئ من السيرة الاجتماعية، واضطر آخرون إلى إتلاف شعرهم الذي نظموه في مدائح الاستجداء والاسترفاد وفي مراثي من لا يستحق الرثاء من العباد، علماً منهم بأن هذا الشعر إن ظهر للناس موسوماً بأسمائهم وصمهم بوصمة القدم والجمود فضلاً عن العدم والركود. والتطور الذي أومأنا إليه إنما حدث في الأعاريض (الأوزان) والمعاني والمباني، والمقاصد والمغازي، فقد عدل عن القوافي الطويلة النفس إلى المقاطعات والموشحات المنسية، والرباعيات والثمانيات (2) والسباعيات من النوع القديم الذي يسمى "مسمطاً" وكان قليلاً جداً ونادراً.

وافتن الشعراء في المقاصد والمغازي وأمعنوا في الخيال المبدع والتشبيه الرشيق والغزل الرقيق، بلغة سهلة سمحة ذات انسجام واطراد، ولباقة وأناقة، وهذا الوصف لا يفني عنه أن يكون فيه ما يشبه هذيان المحموم بكلم منظوم، يأتيه متطفلون على الشعر ويحسبونه شعراً عصرياً لاستحواذ التقليد البليد على نفوسهم، ذلك التقليد الذي لا يخلو منه عصر من عصور الأدب.

ومن أدلة الإقبال على الشعر العصري وإنارات ازدهاره ظهور هذا السرب من الشواعر النواشئ، في مختلف الأقطار العربية، نتيجة من نتائج التثقيف النسوي فيها، مع أن أزهر عصور الأدب العربي في القديم لم يكن فيه من أمثالهن إلا القليل الأقل بحيث لا تتجاوز الأفواه في اعتدادهن كلمة "اثنتين" وقولي "أمثالهن" أعني به الشاعرات لا أن طبقة شعرهن من طبقة هؤلاء العصريات، فالبون بين الشعرين كبير في المعاني. وفذلكة القول أن الشعر العربي اليوم قد أصبح متحرراً مبدعاً رشيقاً أنيقاً صادقاً في تصوير الأهواء المعروفة بـ "العواطف" بعيداً عن التكلف والرياء، والخشونة والجفاف، سليماً من آفات الاستعباد الصناعي اللفظي، الذي كان الرضا بأفانينه اللفظية يغطي على عدم متعته الفنية عند النقاد اللفظيين.

وهذا التحرر قد أفقده من المقاصد القديمة: "الحماسة" في القومية والسياسة و "المدح" و "الهجاء" و "الرثاء"، لأنه لم يجد لها مباءة في السيرة العربية العصرية الاجتماعية، وذلك إلى أن الحماسة في النهضة العربية الأخيرة، كانت مكفولة من الملوك والأمراء والزعماء والرؤساء على العادة القديمة في البلاد العربية، وشجعت عليها دول كانت تناوئ الأتراك في القومية والسياسة، فلما بلغ الطالب غايته والمريد مراده والساعي مداه، تضاءل التشجيع، وتفهت المعاضدة، وحلت الكفالة، وبطل الاستحسان، أما عند العرب فذلك لأن الذين تولوا أمورهم إما مدعون للعروبة ما دامت حلوبة دارّة الأخلاف أو الضروع، فهم لا يحسون برسيس الشعر العربي في أفئدتهم، وإما عرب غلبت عليهم العامية والجهل والجفاء فهم كالأنعام بل أضل سبيلاً، وإنما متفرنجون يجهلون العربية ويتجافون عنها ستراً لتفريطهم فيها، وتغطية لتقصيرهم في حقها، وأما الغربي فقد بلغ مراده بالتشجيع وأفاد فائدته بالمساعدة، ووصل إلى مبتغاه بالاستحسان، فلا خير له في الاستمرار لأنه مدعاة إلى الاغترار، وقد أصبحت الحماسة الشعرية في البلاد العربية خطراً عليه لأن التداوي بالسم في مرض مخصوص لا يعني أنه دواء عام دائم. وهو قد تداوى بهذا السم وشفي من مرضه، فلا حاجة له الآن فيه. وخلاصة القول أن الشعر الحماسي مقضي عليه في البلاد العربية قريباً، ما لم يصب التغيير من ذكرنا وما ذكرنا. لأن الكفالة ضرورية له.

وأما "المديح" فقد بارت سرقه، وانحل نظامه، وانهارت دعائمه وبطلت الدواعي إليه، ففي القديم كان أكثره من الكذب والتزوير، والإغراء والتغرير، بحيث كان من مفاسد الأخلاق، والملق الدنيء، والتثبيط الرديء، وقد أضر بالأمة العربية كثيراً ونفعها قليلاً، فإن كانت هذه حاله يوم كان العرب عرباً فكيف يكون والعروبة اليوم على الصفة التي ذكرت لك؟ والحمد لله على موت المدح والهجاء اللذين يعتمدان على قلة الحياء.

وأما "الرثاء" فهو في الأصل من الشعر الصادق وهو الوفاء المصور بلغة الشعر والحب المحرر بالفن، والدموع المنقلبة كلماً نظيماً، فاختلاله اعتلال للشعر، وبالبداهة لا نعني بالرثاء الرثاء المأجور الذي ذهب زمانه فإن ذاك من قبيل المدح المزور والكذب المكرر، ولعل من الأدباء من يعد فقدان الشعر العربي العصري للحماسة والمدح والرثاء انتكاساً، فليس ذلك بصواب من الرأي، وإنما فقد الشعر الحماسى لذهاب أهلها وخمول الحاسة الشعرية عند الزعماء ونخشى على الرثاء أن يصيبه الفناء وهو من صادق الشعر.

جواب الأستاذ أنور المعداوي
ماذا يقصد هؤلاء الجازعون أن الشعر قد أصيب بنكسة قوية بعد شوقي وحافظ والرصافي ومطران؟

إذا كانوا يقصدون انصراف الناس عن الشعر في هذه الأيام بعد احتفائهم به بالأمس وإقبالهم عليه، فتلك ظاهرة أدبية عامة لا تقتصر على بلادنا دون غيرها من البلاد، حتى يصح القول بأن التبعة تقع على شعرائنا دون غيرهم من الشعراء، أو بأن العلة في ذلك هي قصورهم عن بلوغ المستوى الفني الذي نتطلع إليه في كل شعر ممتاز!.

إن النكسة قد أصابت الشعر العربي الحديث كما أصابت الشعر الأوربي الحديث، حتى لقد أمعنت أكثر دور النشر هناك عن طبع الآثار الشعرية نظراً لكساد سوقها بين مختلف الفنون.. وليس من المنطق في شيئ أن يرد هذا الكساد إلى أن شعر اليوم عندنا أقل امتيازاً من شعر الأمس، لأن الإعراض عن الشعر قد أصبح ظاهرة عامة تشمل إنتاج هؤلاء الأربعة كما تشمل إنتاج من أتى بعدهم من الشعراء! ترى هل تستطيع موازين النقد أن تفضل شوقي على شاعر مثل علي محمود طه، أو مطران على شاعر مثل أبي ماضي، أو حافظ على شاعر مثل أبي ريشة، أو الرصافي على شاعر مثل أبي شبكة؟ لا أظن.. وإذا فعلت يوماً فهي الموازين التي تتحكم في آرائها الهوى أو تسيطر على أحكامها الغفلة أو تتخلى عن اتجاهها سلامة التقدير!

إن النكسة إذن ليس مصدرها أن أفق الشعر قد خلا بعد شوقي وزملائه من الشعراء المحلقين، لأن هؤلاء الذين أتوا بعدهم وحددنا أسماءهم قد عرضوا الشعر العربي الحديث في صور جديدة، صور أقل ما يقال عنها أن الجيل المعاصر قد وجد فيها من المتعة الفنية ما لم يجده في صور الأمس، يوم أن كان الشعر يلقى من الإقبال في ماضيه القريب ما لم يلقه في حاضره المشهود!

لو كان شعر شوقي وزملائه في هذه الآونة أكثر شيوعاً لدى الجمهور القارئ من شعر علي طه وزملائه، لأمكننا القول بأن هناك نكسة قوية ولأرجعنا السبب إلى امتياز أولئك عن هؤلاء، ولجزعنا مع الجازعين على سمعة الشعر العربي الحديث!!

ولا نريد هنا أن نتحدث عن الأزمة "الأصيلة" التي يعانيها الشعر في كل مكان، لأن الحديث عن هذه الأزمة يحتاج إلى دراسة مطولة يربط فيها الباحث بين الظواهر الفنية وبين أسبابها الطبيعية.

(الآداب، ع4، نيسان/ ابريل 1953) 

الشعر العربي بين التقييد والتحرير

الآداب تستفتي:

يرى بعض الشعراء أو نقاد الشعر المحدثين أن قوالب الوزن والقافية العربية تحول دون استجابة الشعر العربي لحاجات الحياة المعاصرة وينزعون إلى وجوب تحريره من القوالب، فما موقفكم من هذه النزعة وما مقترحاتكم في الموضوع؟.


جواب الأستاذ رئيف الخوري

ليس ثمة ريب أن تقييد الشعر العربي القديم، على الأعم الأغلب، بالوزن الواحد والقافية الواحدة (وهو الشكل المعروف بالقصيدة) قد ضيق عليه المضمار وخنق المجال فكان سبباً من الأسباب التي من أجلها ألزم شعرنا القديم حدّ الفن الغنائي، وإذا تعداه أو كاد يتعداه إلى غيره من الفنون كالقصة والملحمة (ودعك من المسرحية) فإنما يفرغ ذلك في إطار الفن الغنائي.

ولا جدال في أن للوزن الواحد والقافية الواحدة ميزتهما في الشعر، فإنهما يسبغان على النظم موسيقيّة تستهوي وتخلب، برغم ما يتطرق إليها في أحيان كثيرة من الرتابة والجري على الوتيرة الواحدة. ولكن هل يحتاج إلى برهان أن هذا التقييد بالقافية الواحدة والوزن الواحد يقصر شرط الكلام، وإذا لم يرزحه تحت الثقل فإنه يفقده تلك المرانة التي لا بد منها للدقة والاسترسال في الوصف، والطبيعة في الحوار، والتنوع والتوسع في تحليل العواطف ومناقشة الأفكار، والخروج من شكل إلى آخر في النظم، وكل ذلك ضروري لكي يستطيع الشعر استجابة لحاجات الحياة المعاصرة أو لأية حياة يريد أن يستجيب لها بسطوحها وأعماقها.

ومن هنا كان على حق أولئك الشعراء والنقاد المحدثون الذين ينزعون إلى وجوب تحرير الشعر العربي من قالب الوزن الواحد والقافية الواحدة.

والحق أن محاولتهم هذه ليست بالأولى في بابها. وإلا فما عسى أن يكون الهدف الذي رمي إليه قديماً بعض وشاحي الأندلس إن لم يكن فكاً للشعر من عقال الوزن الواحد والقافية الواحدة؟ قال مثلاً أبو بكر بن زهير في مطلع موشحته المشهورة يحن إلى الوطن:

ما للموله من سكره لا يفيق
يا له سكران من غير خمر
ما للكئيب المشوق يندب الأوطان!
فإن الوزن هنا يجري عند التدقيق على النظام الآتي:
مستفعلان مستفعلن فاعلان
فاعل مفعول      مستفعلان
مستفعلن فاعلان فاعلن مفعول

وظاهر أنه ليس بوزن من الأوزان التقليدية المعروفة، سواء أكانت تامة أم مجزوءة، وإنما هو وزن اخترعه الوشاح اختراعاً واعتمد فيه بالدرجة الأولى على الغاية المنشودة من الوزن، أي: الجرس الموسيقي. وفي الوقت نفسه لم يرتبط الوشاح ذلك الارتباط التقليدي، بالقافية الواحدة، وإنما تصرف بالقوافي تصرفاً فيه الكثير من الحرية ولكن مع حفظ موسقيّة النظم.

واليوم يبدو لنا أننا نستطيع أن نفيد كثيراً من تجارب بعض الوشاحين القدماء في محاولة تحرير الشعر العربي من الأوزان التقليدية والقوافي الواحدة.

ولكن لا بد لبيان ذلك من التفاتة إلى الأساس الذي بنيت عليه الأوزان العربية وهو ما يصحب اللفظ من حركات وسكتات.. لقد ألف علماء العروض القدامى من هذه الحركات والسكنات صوراً سموها تفاعيل، وجعلوا عددها ثماني، وهي: فعولن، فاعلن، (وهاتان خماسيتان لأننا إذا أحصينا الحركات والسكنات في كل منهما وجدناها خمساً)، مفاعلن، مفاعلتن، فاعلاتن، مستفعلن، متفاعلن، مفعولات (وهذه سباعية لأن الحركات والسكنات في كل منها سبع).

ومن صور هذه التفاعيل ركبوا أوزان الشعر أي: بحوره. وجعلوا سبيل ذلك أن يختاروا تفعيلة واحدة فيكرروها مراراً على ترتيب خاص، حتى يكتمل البحر فهذا البحر (الكامل) مثلاً، ألفوه من تفعيلة سباعية واحدة: "متفاعلن" يكررونها ثلاثاً في الصدر وثلاثاً في العجز. وهذا البحر (الطويل) ألفوه من تفعيلتين مختلفتين: "فعولن، مفاعيلن" يكررونها بهذا الترتيب مرتين في الصدر ومرتين في العجز. ويلحظ أن عدد التفاعيل في الصدر يتساوى في الأصل دائماً مع عددها في الشطر الآخر.

فما الذي ترى صنعه بعض الوشاحين القدماء حين خرجوا على هذه القوالب التقليدية؟ لقد عدلوا قبل كل شيئ عن التقليد بالقافية الواحدة. ثم أنهم لم يحصروا التفاعيل في سبع، ولم يلزموا أنفسهم أن يجعلوا تفاعيل الصدر مطابقة لتفاعيل العجز كل المطابقة، وإنما أباحوا لأنفسهم أن ينوعوا صور التفاعيل ما شاءوا التنويع، وأن يتفننوا ما أطاقوا التفنن في ترتيب الشطور الشعرية، لا يرجعون في ذلك إلى ضابط إلا الحس الموسيقي، على النحو الذي لمسنا في مطلع موشحة ابن زهير، وهذا ما نستطيع نحن أن نصنعه في محاولاتنا تحرير الشعر العربي من القوالب التقليدية، بل هذا ما عمد إليه كثير من شعرائنا المحدثين وكانوا موفقين.

ولكن يلحظ مع ذلك أن الوشاحين كانوا يتقيدون بالنمط الذي يختطونه لموشحهم فيجرون عليه في الموشح كله. وهكذا إذا عدنا إلى موشحة أبي بكر ابن زهير رأيناه يتبع في باقي أدوار الموشحة صور التفاعيل التي أثبتها في المطالع أو اللازمة، ورأيناه يتبع كذلك ترتيبها لا يحيد عنه، ثم يتبع نسقاً واحداً لترتيب القوافي لا يتبدل.

فما الذي يمنعنا نحن أن نخطو خطوة أخرى تجاوز الموشحات في تحرير الشعر العربي، فنبيح للشاعر أن يفلت حتى من قيد النمط الواحد الذي كان يرسمه الوشاح ثم يأخذ به نفسه في موشحه كله؟ وبعبارة أخرى، لماذا هذا التقييد بصور تفاعيل معينة، ثم بترتيب معين لتلك التفاعيل، وبنسق واحد لترتيب القوافي؟ لماذا لا نطلق للشاعر حريته في أن يرسل كلامه وقوافيه إرسالاً، شرط أن يكون كل جزء موزوناً على وزن ما، وشرط أن تأتلف من هذه الأوزان المتعددة والقوافي المتنوعة تلك الموسيقية التي لا بد منها في الشعر والتي لا عماد لها بالنتيجة إلا موهبة الشاعر. والذي يخيل لي أن أبا العلاء المعري قد حاول شيئاً من ذلك في كتابه "الفصول والغايات" متأثراً بالقرآن الكريم، على أنه، أي أبا العلاء، قد أسرف في التقييد بالقوافي وتزجيتها على حرف واحد. قال مثلاً:

ما فعل ابنا قيلة(3) وبنو بقيلة
والرائحة والعازبة وكسرى والموازبة؟
جر الزمن عليهم ذيلاً وأجرت الخطوب في ديارهم سيلا
وعاد النهار فيهم ليلا وركبوا للمنايا خيلا!

فهذا شعر كشعر، وإن لم يكن جارياً على وزن من الأوزان العربية التقليدية. وعلى ذكر القرآن الكريم الذي تأثره أبو العلاء في فصوله وغاياته، أرى أن الشعر العربي الحديث يستطيع في سعيه إلى التحرر من موروث القوالب العروضية أن يفيد من قوالب القرآن فائدة جلى. وإليك مثلاً

"إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً!.

ومثلاً آخر:

والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا حي يوحى.

فإن هذه الآيات الكريمة وإن لم تكن قريضاً فهي منظومة للنظم الذي أصبح يعرف فيما بعد بالنظم القرآني.

وخلاصة القول أن تحرير الشعر العربي من قوالبه التقليدية لا يمكن أن يخضع لقاعدة ثابتة، إلا العدول عن القافية الواحدة والخروج على التفاعيل القديمة والأوزان التقليدية التي ركبت من تلك التفاعيل. أما فيما وراء ذلك فيجب أن تكون لكل شاعر أوزانه الخاصة شرط أن يتحد نظمه بتلك الموسيقية التي لا تستقيم إلا بها شعرية الشعر.

وليؤذن لي في الختام أن أثبت على سبيل المثال مقطوعة من نظمي صغتها على الطريقة التي اقترحتها لتحرير الشعر العربي من قوالبه الموروثة. وعنوان هذه المقطوعة "انتحار جدول":

شق الجبل جدول
وسال في الوادي طلاب ابعاد
رق عناء ولذ لحناً فلم يجد من أعار أذناً
صفا فلم ينعكس جبين ولا تراءت به عيون
طاب ولا ثغر استقى وأغدقا
ولا تراب أخصبا أو أعشبا
لا حوّم الطير عليه ولا هفا ظبي إليه
عـاد إلى نفسه تمتم من يأسه:
سدى جئت سدى عشت
وفي الثرى غلغل وانتحر الجدول!

جواب الأستاذ بدوي الجبل
إن الشعر العربي في قوالب الوزن والقافية يتسع لكل ما يتفق مع رسالته من حاجات الحياة المعاصرة. والعربية واسعة خصبة فالفقر ليس فيها والوزن والقافية نغم وجمال وعذوبة. لا قيود وحدود.

أما الشعراء ونقاد الشعر الذين يرون تحرير الشعر العربي من قوالب الوزن والقافية، ففي وسعهم أن يفعلوا ذلك. وسنقرأ حينئذ فناً رفيعاً وسيماً قد يكون حكمة وقد يكون فلسفة وقد يكون كل شيئ ولكنه ـ وهذا غير مهم ـ لن يكون شعراً عربياً على كل حال.

أما اقتراحاتي في هذا الموضوع فتتلخص في اقتراح واحد. هو أن ينظم هؤلاء السادة شعرهم العربي المحرر من الوزن والقافية بلغة غير اللغة العربية. ونحن بهذا الاقتراح المتواضع المتسامح نريد أن ننفي عنا تهمة العصبية للقديم ومحاولة فرضه على الناس.

جواب الدكتور عبد القادر القط
إن تحرر الشعر العربي الحديث من قيد القافية الموحدة قد تم منذ زمن طويل، وهو الآن حقيقة واقعة لا سبيل إلى المراء فيها. ولم يكن خروج الشعراء على القافية الموحدة مجرد رغبة في التجديد أو الظهور بمظهر العصرية، وإنما كان إحساساً منهم بأنها عقبة في سبيل التحرر والصدق وإخراج العمل الفني وحدة متسقة متكاملة الأجزاء. فالقافية الواحدة كالقفل تغلق البيت دون ما يليه من أبيات وتجعله وحدة منقطعة عن سائر القصيدة. كما أن ما فيها من رتابة يفقد الشعر كثيراً من جمال التنوع والمفارقة. وهي كثيراً ما تلزم الشاعر ـ واعياً أو غير واع ـ أن يعدل فكرته أو يتنازل عن بعض جوانبها لتستقيم له نهاية البيت. ومهما يكن الشاعر بارعاً في اللغة فلن يستطيع العثور دائماً على الكلمة الحية الموحية التي توافق قافيته. وهو لذلك يضطر إلى استخدام كثير من الألفاظ الجامدة التي لا حياة ولا إيحاء فيها.

أما القافية المتغيرة فقد خلقت للقصيدة وحدة جديدة غير وحدة البيت هي المقطوعة. والمقطوعة بما لها من سعة تتيح للشاعر مجالاً أكبر للتعبير عن جوانب إحساسه أو فكرته. فضلاً عن أن هذه الوحدة لم تعد مستقلة بذاتها، بل هي شديدة الصلة بما سبقها وما يليها، وبذلك تخرج القصيدة بناء متماسك الأطراف لا جزيئات منتثرة لا ارتباط بينها كما كانت من قبل. هذا والمقطوعات ذات القوافي المتعددة تعطي لكل جانب من جوانب الإحساس أو الصورة ما يناسبها من موسيقى وتضفي على القصيدة من الحركة والحيوية ما يجعلها أقدر على التصوير والإثارة.

أما الوزن فقد تغير بمقدار ما استدعاه تغير القافية. فحين لم يعد البيت وحدة القصيدة لم تعد هناك ضرورة لتقسيم التفعيلات تقسيماً منتظماً بين شطريه، وأصبح الشعراء في حلٍّ من أن يستخدموا أي عدد من هذه التفعيلات كما يقتضي نظام قصائدهم. ولعل إحساس الشعراء بكثرة الأوزان العربية وتنوع موسيقاها لم يدفعهم إلى تجديد بعيد في هذا الباب.

هذا رأيي من حيث التجديد في حدود الإبقاء على الوزن والقافية. على أن هناك محاولات يقوم بها بعض الشعراء لنبذ القافية نبذاً تاماً. وليس ذلك بمستحيل على الشاعر المجيد الذي يعبر عن تجربته بصدق وإخلاص، وليس الشعر العربي بدعاً في هذا وأمامنا أمثلة كثيرة من الشعر المرسل في الأدب الأوربي. أما الوزن فأرى ألا غنى للشعر عنه، فهو ليس حداً شكلياً فحسب، ولكنه اتساق للألفاظ في نظام موسيقي خاص يمنحها قدرة على الإيحاء والتصوير لا تكون لها إذا فقدته. حقاً إن بعض النثر قد يكون فيه روح الشعر، ولكنه مع ذلك يظل نثراً إذا لم ينقله الوزن إلى عالم الشعر.

جواب الأستاذ بشارة الخوري
إن الأوزان المعروفة مع الروي الواحد في القصيدة الواحدة هي إرثنا العزيز عن أولئك الشعراء الأفذاذ الذين أودعوه أسرار الجمال على أنواعه، فإذا نحن حرصنا فإنما نحرص على كنز ثمين لا نريد أن تتنكر له الناشئة العربية اليوم وغداً.

على أن الشعراء المحدثين حتى الموسومين (بالمحافظة) قد تصرفوا بالأوزان وانعتقوا من الروي الواحد في مجموع القصيدة فأتوا بالجميل الخالد. إن الجمال لا يحتكر لا وزناً ولا قافية والأصح العكس.

جواب الأستاذ نزار قباني
كنت من أول القائلين بوجوب التحرر من القافية.. هذه "العبودية الملحنة".. التي تقول للبيت العربي.. قف.. فيقف وتقطع خيوط الخيال العربي في روعة قفزته.. فيقع منقطع الأنفاس..

أما الآن فقد جئت أعترف بفشلي، لأنني أيقنت أن التحرر من القافية العربية مغامرة.. مغامرة قد تؤدي بطابع القصيدة العربية وتقضي على إرنانها.

التحرر من القافية.. كالتحرر من غرائزنا يحتاج إلى أجيال.. فلنقبل هذه العبودية الملحنة.. كما نقبل أن نعقد رباط العنق في رقابنا.. ونجعل الخواتم في أصابعنا.. عبودية جميلة من جملة هذه العبوديات الجميلة.

سر استعصاء القافية علينا.. ودلالها.. أنها مرتبطة بسر النغم.. ولما كان النغم هو سر القصيدة.. فلك أن تتصور أية مغامرة مجنونة يقدم عليها من يحاول فك وتر العود من العود.. لن يبقى من القصيدة العربية حينئذٍ سوى وعاء من الخشب الأجوف.. كل نافخ فيه يستطيع أن يحدث صوتاً.

هل هذه رجعية مني؟ ربما كان الأمر كذلك.. ولكن طبيعتي الشعرية وطبيعة أي فرد عربي، لا تستطيع أن تفترض وجود بيت لا ينتهي بقافية.. أي لا ينتهي بهذا القرار الرخيم الذي ينزل على أضلاعنا.. كما تنزل ريشة العواد على أضلاع العود.

لفتة واحدة منا إلى الشعر المنثور ترينا أن هذا اللون من التعبير ـ رغم غناه بالنغم ـ لم يستطع أن يتجاوب مع الذوق العربي.. لماذا؟.. الجواب عند القافية.

على أنه إذا استحال الاستغناء عن القافية.. فلا يستحيل ترويضها وجعلها أكثر مرونة واستجابة لأفكارنا.. وجموح خيالاتنا.. وواقع عصرنا.. فاستعمال القوافي المتعددة في القصيدة الواحدة على طريقة الموشحات، أو فصل البيوت المنتهية بقواف معينة بأبيات أخرى تنتهي بقواف مختلفة عن الأولى على نحو ما نرى في شعر بعض الشعراء المحدثين، وما رأيناه في شعر بعض شعراء المهجر. كل هذا يدل على أن تطويع القافية ممكن.. وسهل.. ولكنني أشترط له الجرأة.. والأصالة معاً.

أما أوزاننا.. فهي طريفة، وملونة، وذات هدير موسيقي متعدد الجوانب مما لا نراه في الشعر الغربي الذي يعتمد على الوحدة الصوتية المعادة.. بالإضافة إلى أن استعمال مجزوء البحور.. والتصرف بتفاعيلها زيادة أو نقصاناً.. يرفدنا بثروة جديدة من الأنغام.

وبعد.. فإنني لا أقف في وجه أي "خليل" جديد.. يتحفنا ببحور أخرى.. وأنغام رائعة مبتكرة.. ولكنني لم أعثر على هذا "الخليل" بعد.. وكل ما في الأمر أن أحد الأدباء حاول النظم على بحر جديد.. ابتدعه.. فجاءت القصيدة.. والبحر جميعاً "نشازاً" بحيث ترحمنا على تراب الخليل.

إن مشكلة الشعر العربي ليست مشكلة أشكال.. وأوزان.. وإنما هي مشكلة وجدان.. وجدان فني يهيب بنا أن تتدفق من داخلنا.. وتسفح زيت ذاتنا.. أما الكتابة بحبر الآخرين.. والبكاء بدموعهم.. والغناء بشفاههم.. فأسوأ ما ابتلي به الشعر العربي في هذه الأيام.

جواب الآنسة فدوى طوقان
إني مع القائلين بوجوب تحرير الشعر من قوالب الأوزان والقوافي، والشعر المعاصر في مختلف البلاد العربية، قد تحرر أكثره من هذه القوالب ونجح في إثبات وجوده.

إن التمرد على البيت المستطيل المتساوي التفاعيل في الصدر والعجز، يفسح للشاعر آفاقاً أرحب للتعبير الصادق. فإن حشر الخلجات والمعاني في خط محدود من التفاعيل لا تحيد عنه، كثيراً ما يرغم الشاعر على إخضاع هذه الخلجات والمعاني لعبودية الوزن الرتيب في أبيات القصيدة، وإزاء هذه العبودية لا يمكن للشاعر أن يعبر بإخلاص كما كان يريد، فلا بد من حشو أو نقصان.. كما أنني أحبذ الانتقال من وزن إلى آخر في القصيدة المطولة ذات السرد القصصي، لأن تنويع الوزن ينقذ الموسيقى الخارجية للقصيدة من رتابة النغم الواحد الطويل الممل. وهناك من يعيب هذا الاتجاه باعتبار أنه يؤثر على وحدة القصيدة أو يشيع "النشاز" في موسيقاها الداخلية التي تستمدها من طبيعة الانفعالات والعواطف والمعاني، لا من الوزن، وهذه الموسيقى الداخلية تعيض الشعر عن الموسيقى الخارجية التي توهمنا أن تنويعها يؤثر في وحدة القصيدة، أو يشوش الآذان المرهفة.

أما النزوع إلى تحرير الشعر من الوزن تحريراً كلياً، فهذا في رأي منتهى الفوضى. إن الشعر فن مستقل عن النثر وينبغي أن يبقى كذلك، وأعتقد أن هذه الدعوة إنما ترجع بأسبابها ودواعيها إلى فشل أصحابها في نظم الشعر الموزون.

أما القافية الواحدة فلا جدال في أن قيودها التقليدية الجامدة تحدّ كثيراً من الطاقة الشعرية للشاعر وتنقل جناحيه دون مبرر. وقد تحرر منها معظم الشعر المعاصر ـ لاسيما شعر الجيل الجديد ـ وانتهى الأمر، فرأينا القافية المزدوجة والرباعيات والموشحات تكتسح ميدان شعرنا الحديث بتمكن وقوة. غير أنني لا أستسيغ الشعر المرسل الذي تحرر من القافية تحرراً كلياً، فلا بد في رأي من مراعاة الحلاوة الموسيقية الناتجة عن القافية المزدوجة وسواها من أنواع القوافي الأخرى.

جواب الأستاذ عبد الوهاب البياتي
"صيادو الذباب"

"لقد تعبنا منهم، فمن لنا بإحراقهم وإحراق ذبابهم"

وتلفت صاحبي إلى الشارع المزدوج كالمذعور وفر هارباً، ليتركني وحدي وجهاً لوجه مع أحد صيادي الذباب. وما كان يقصد صاحبي بعبارته هذه، إلا هؤلاء الشعراء المساكين الذين لا يزالون يجلسون مزجر الكلب من مائدة "الشنفرى" أو "البحتري" أو "الحارث بن حلزة" وعيونهم جاحظة ولعابهم يسيل، ولا يزالون يتصيدون أوزانهم وقوافيهم، لينالوا إعجاب بائع باذنجان خائب أو حبيبة وهمية أو ممدوح عاهر بطين، في عصر مليء بالبطولات والانقلابات والثورات، في عصر لم يكتف به الفنان بقلمه أو ريشته أو إزميله، إنما حمل البندقية معها ونزل إلى أرض المعركة ليموت أو يميت عدوه، دفاعاً عن الحرية والشرف والفكر والضمير والأطفال والأرض والبيادر والفراشات، فلا بد له إذن من سلاح جديد يقاتل به، ولا بد له من معركة جديدة.

وفي "أرضنا الطيبة"، وفي شرقنا العربي، وفي القرن العشرين أيضاً لا يزال مئات من صيادي الذباب ينظمون ويرهفون، فمن لنا بإحراقهم وإحراق أشعارهم وذبابهم. وأعود إلى رعش الذباب ـ القافية La rime وإلى الوزن أو الإيقاع Lé rythme فأقول: أنه قد آن لنا أن نقضي عليهما ـ قدر الإمكان ـ "لأنهما لم يعودا مؤاتيين لتجاربنا الجديدة" ولأزمة ضميرنا وحريتنا. هذا وإن جمود الشعر عاجز، ناقص، كسيح يجب أن يعاد فيه النظر.

وعبر هذا يمكننا أن نقول: إن أغلب شعرنا القديم غنائي، سطحي، ساذج، لم يساهم في معركة الحياة والمصير، ظل يدور حول الإطار دون أن يلامس الجوهر وأن الاكتشافات أو الأصقاع الباهرة المجهولة، العميقة، المضيئة التي ارتادها الفنان اليوناني أو الصيني القديم انطفأ على أبواب مستحيلها أغلب أجدادنا.

وكل الجناية في هذا تقع أولاً وأخيراً على رقبة عمود الشعر.

جواب الأستاذ الياس قنصل (الأرجنتين)
أي فرق يظل بين الشعر العربي/ إذا جردناه من الوزن والقافية، وبين النثر ـ النثر الفني؟ ـ فإن قال "مجدد" أن الأوزان والقوافي قشور الشعر، وأن جوهره ما يبقى، قلت أن تجريده منها هو تجريد من قوته التي تغلبت على أحداث الزمن، هو تجريد البطل من السلاح في ساحة المعركة بحجة أن بسالته تغنيه عن الحديد وهل يمنع وجود الشعر الموزون المقفى من قيام النثر الشعري أو ما شئت فسمه؟

إن قوالب الوزن والقافية لا تحول دون استجابة الشعر العربي لحاجات الحياة المعاصرة، فالشعر جلاء لخوالج النفس ـ لا وصف للاختراعات ـ وخوالج النفس لا تكون معاصرة أو قديمة، وإنما هي ثابتة أصيلة ثبوت الحياة وأصالتها.

إن هذه القوالب لم تحرم العبقرية الشعرية الصحيحة ـ منذ ألف سنة أو تزيد ـ من التعبير عن معنى الفلسفة العربية بلسان المتنبي، ولا من تحليل الروح الإنسانية بلسان المعري فما بالنا نحاول اليوم أن نحمل أدبنا مسؤولية تقصيرنا؟

إني أرى أن هذه الدعوات: الاستغناء عن الوزن والقافية والكتابة بالحروف الفرنجية، والقضاء على قواعد الصرف والنحو، معاول يجرب بها الشعوبيون ـ من بعيد ـ تهديم اللغة العربية لأنها من الجبروت والجلال بحيث لا يملكون الجرأة على محاربتها وجهاً لوجه، ولكن الغلبة للضاد شاعر عداتها أم أبوا.

جواب الأستاذ ابراهيم العريض
إذا اعتبرنا الشعر فناً ـ وهو كذلك ـ فلا نستطيع إطلاقه بالمرة من القيود. لأن من مميزات كل فن أن تكون له قيود في الحرية كما أن من حقه أن تكون له حرية في القيود. فهذه القيود الفنية بالإضافة إلى كونها تربط حاضر الفن بماضيه تقوم كالإطار بالنسبة إلى الصورة. وأمام الفنان لعمل الإطار ألف وجه ووجه. فإن باب التجديد كان ولا يزال مفتوحاً على مصراعيه أمام ذوي النبوغ. وقد كان بشار في عهده بالنسبة لشعر البداوة زعيم المجددين. ولم يقتصر التجديد في أدبنا عليه.

وبقيت الصورة نفسها، فالمهم فيها أن تكون صادقة ـ كالحياة نفسها ـ وتمثل عبق زمانها ومكانها.. كالزهر المنتشر في الحديقة على كثرة أنواعه. فأنا لا أفهم كيف أشترط في الزهرة ـ إذا صحت أنها زهرة لا تشكيلة من قرطاس ملون ـ بأن تكون بهذا الشكل لا ذاك أو بهذا اللون لا آخر أو بهذه الرائحة لا سواها.

فكل زهرة هي حجة على وجودها، وإن كان الورد أطيبها أريجاً. وهكذا الشعر.

أعطني (الشعر) ولا أبالي في أي إطار يكون.

(الآداب، ع8، آب/ أغسطس 1953) 

هل يتحرر الشعر العربي من قيود الوزن والقافية

بقلم السيدة ادفيك جريديني شيبوب 
لا يعدم المجتمع، في الحين والحين، مشكلة تستدعي اهتمام الأوساط الأدبية أو الفنية أو الاجتماعية. فيقلبونها، على نحو ما تقلب المشاكل، درساً وتحليلاً، وتبادل وجهات نظر.

وثمة مشكلة أدبية أحيطت في الآونة الأخيرة بعلامة استفهام: احتدم حولها الجدل وكانت مدار بحث الندوات الأدبية في لبنان.. والمشكلة هي:

"هل يتحرر الشعر العربي من قيود الوزن والقافية؟"

فما هي أوجه النظر الرئيسية في الموضوع وما موقفنا منها؟

قال بعضهم: أن العرب بطبيعتهم قوم محافظون، يستهويهم القديم ويهزهم شدو الوزن وشجوه وينقلهم إلى أجواء الطرب والنشوة التي لا تتيسر في الكلام المنثور، مهما عذب جرسه واتسع خياله وتألقت صوره..

ومن هنا كان تعريفهم للشعر أن يشترط فيه الوزن والقافية، ومن الصعوبة تنازلهم عن هذا الرأي واقتناعهم بخلافه، ذلك أنه جزء من تقليدهم أصيل، يتشبثون بإهابه ويتعصبون له بإيمان عنيد، ولا يتسامحون بتقويض أركانه.

وعارض آخرون قائلين: بل أن في الشعر الكلاسيكي المقفى جواً مصطنعاً قلما تتوافر له مقومات الشعر بمدلوله الحديث المتعارف عليه، من كلام جزل وشعور رهيف وموسيقى.. كأن ينصرف الشاعر بوعيه ـ كل وعيه ـ إلى ضبط المقاييس ويبذل الجهد المضني كي تستقيم له شروط الخليل كلها، وفي هذا عزوف عن روح الشعر إلى هيكله، فيتحكم اللفظ بالمعنى، وتتنافر في القصيدة لحمتها ويحمل الشاعر مكرهاً على استعمال اللفظة المقعرة والناشزة والعويصة، مما يبرأ منه الشعر وما ذلك إلا استجابة لحكم القافية الصارم.. وهكذا قلما تأتي القصيدة إلا من باب "النظم" العقيم الذي اتخمت منه بطون الدواوين القديمة والحديثة دونما طائل..

ومن مطمئن على أن هذه الفورة من الشعر المنثور ليست إلا مؤقتة، تفشت بالعدوى، كما تتفشى الحمى، ولعلها من مظاهر العجز الفني وحسب، وهي لا تلبث أن تتضاءل وتزول بزوال هذا العصر.

هذه أهم الآراء في الموضوع الذي نحن بصدده، وهنالك آراء أخرى غيرها تؤثر الاعتدال وعدم اقتحام المعركة.. نتوقف عندها لننتقل إلى شق ثان من البحث.

سجل شعراؤنا منذ مستهل القرن خروجاً ملموساً عن الوزن القياسي. منهم من فعل ذلك بتحفظ مبقياً حيناً على السجع كالريحاني ومنهم من كتب الشعر المنثور في مطلق تحرر كجبران وسواه. وعدّ هؤلاء الشعراء ثورة في الأدب انفتحت لها عيون القراء، بعضهم هاجم الرائدين بعنف واتهمهم بالكفر والزندقة والاستهتار الأدبي، والبعض الآخر رأى في هذا اللون الجديد من الشعر بدعة طريفة تستحق لفتة خاصة.. ونمت هذه الفئة، مع السنين، حتى بات لها الآن عشرات الشعراء في دنيا العرب، لكل منهم طريقته الفنية الخاصة ومقياسه الشاعري الخاص..

فما هو شأن هذا الشعر وما قيمته الأدبية؟

في الواقع، إن فريقاً كبيراً من كتاب هذا العصر بدؤوا يفكرون بضرورة انطلاق الشعر من قيود الوزن والقافية، ليتمكن الشاعر من الانصراف بكل طاقاته العقلية والشاعرية إلى الخلق المبدع الذي يغترف من الينبوع الكبير الصافي دون قيد أو شرط.

وبعد هل نحن من العالم سوى ساقية صغيرة في النهر العالمي: عنه نتفرع وبه نتأثر؟ وهل في مكنتنا وحدنا الانفراد والتشبث في أمر دون التأثر بالمجاري والتيارات الرئيسة التي تصب في هذا النهر بلا هوادة، حيناً تلون ماءه بالجمالات الغنية، وحيناً تدفعه باضطراب معكراً مغبراً!؟

لا أحسبنا إذن مخيرين في هذا الأمر، ولا أحسب مصيرنا الشعري رهناً بإرادتنا، إذا قدرنا لشعرنا أن يدأب على النمو وينال قسطه من التطور الطبيعي، ما دمنا نسدّ جوعنا الفكري عن موائد غريبة ونلقح ثقافتنا دون تحفظ بثقافة غريبة ما انفكت في تطورها وتجددها الدائم خير نموذج لعصر الذرة الفائق السرعة والذي نعيش فيه.

نخلص من هذا إلى القول بأننا في أثر الشعر الغربي تحرر من قيوده؟

إنه سؤال يترامى بعداً وغوراً ويقصر المجال دون الإحاطة به كما يجب. غير أن من تسنى له أن يرافق النهضة الشعرية الحديثة مدرك ولا شك بأنها أحد مظاهر "التحرر" الكلي الشامل الذي يسم بوضوح جميع مرافق حياتهم على السواء: الفنية منها والأدبية والاجتماعية.

فالفنون مثلاً، انطلقت من قيودها الكلاسيكية ولا آبهة بالاحتجاج والاستنكار يرسلها المحافظون بشدة. كأنما هؤلاء الفنانون يمشون وحدهم في وضح النور والعالم من خلفهم في غوغاء الوعي الفني يتخبط!.. ليست عبثاً برأي، ثقة الفنان المعاصر بقيمة نتاجه، وإلا فما باله قطع السلاسل بهذه الجرأة الخارقة وحلق كالنسر في أجوائه الحرة؟!

وبين شعراء فرنسا وأميركا، لو علمنا، عدد ضخم متجل وذو شهرة عالمية.. وأتحدى من يستطيع أن يعثر في دواوينهم على ثمة وزن أو قافية! كأن ضمائرهم الشاعرة باتت ترفض رفضاً كل ما يحد من حريتها وانطلاقها.

وهاكم الأثاث في بيوتنا الحديثة لكم يجنح في تعميم خطوطه إلى التبسيط والوضوح والانفلات من مطلق تعقيد واضطراب. وحتى أزياؤنا، أي توجيه فيها كبير نحو التحرر، يتخذه مبتكرو الأزياء رائدهم لكل ما يرضى عنه الذوق العصري ويرتاح إليه!

يخيل إليّ، أن هذه الظواهر المتعددة والمتماشية كلها في الاتجاه إنما هي معبر طبيعي عن حالة الناس النفسية.. نفسية من خرج من حربين عالميتين عانى من ويلاتهما ألوان الضيق والحرمان فطلب الحرية على كل صعيد كرد فعل لما أصابه. وكان من الطبيعي أن تنعكس نفسيته التواقة إلى الحرية، في كل أثر يبدر عنه، فني أو أدبي أو اجتماعي..

لا أود أن يفهم من كلامي بأنه قضي الأمر وتم تحرير الشعر العربي ولم يبق هنالك من ينظم القوافي ويعنى بالأوزان. بل سيظل لهذه في كل زمان ومكان من يتشوف إليها ولا يتغنى بسواها.. وأنا شخصياً من الذين درجوا على تذوق الشعر الموزون والطرب له. وليست مهمتي هنا غير محاولة لعرض واقع وتحليل موقفنا منه، بنسبة ما لهذا الواقع من صلة بخصائص العصر على الصعيد العالمي الذي نحذو حذوه ونتأثر به أيما تأثر.

على ضوء ما تقدم، يتراءى لي من الاحتمالات التقديرية أن ثمة اتجاهاً قوياً لتحرر الشعر العربي من الوزن والقافية حسب هذا التحرر من مبرر أنه صورة صادقة لروح العصر وتنكر أبنائه لكل قيد يحدّ من انطلاق القوى الإنسانية في الإنسان لخلق ما هو أفضل.

بقي أن أؤكد أنه ليس هيناً البتة أن يستقيم للشعر المنثور من الخصائص ما يرفعه إلى مصاف الشعر الموزون، هنالك شروط فنية معينة هو بدونها من سقط الكلام، ومن هنا عدّ أغلب الشعر المنثور حتى الآن ليس بجيد ولا بمستحق تقديراً، فلا يحسبن إذن كل من سطر أبياتاً منثورة أنه يكتب الشعر الحلال.

أما شروط الإجازة فأولها الإبداع وخلق الجديد الطريف، معنى ومبنى، والتعبير عن التجربة الشعورية بومضات حية خفاقة تخطف القارئ خطفاً، فينكر نفسه في أجواء الشاعر يشاركه أحاسيسه وخلجات قلبه..

ولحمة القصيدة في الشعر المنثور من أهم مقوماتها، بدونها لا تسلم روعة الوقع ومفعولها في النفس، وهنا نلفت النظر إلى هذا التفكك والتراخي وسواهما مما نعانيها معظم القصائد المنثورة كأن يعمد الشاعر إلى الإطالة دون التوسع بالفكرة، أو عن طريق التكرار والمط مما يذهب بالروعة ويقطع على القارئ حبل نشوته.

وضلالاً يضلّ شاعر النثر إن هو تعمد الرمز والإبهام ليوهم قراءه بقوة إلهامه وتدنيه من الإعجاز، لأن في هذه المحاولات إفلاساً وفشلاً ذريعين، وما أحرى شاعرنا لمس الإيماءات لمساً رفيعاً، في منتهى بساطة وفن، ورسم اللوحات الشعرية في منتهى براعة حتى يشمّ القارئ فوح الزهر وتخزه الشوكة، ويشنف سمعه لغناء بلبل.

ولن نضائل من أهمية عنصر الموسيقى في الشعر المنثور. بدون الموسيقى تخرج القصيدة دون سؤال إلى حيز النثر، هذا إلى جانب مراعاة التقديم والتأخير وانتقاء اللفظة الواحدة والحرف الواحد دون سواهما وما إلى ذلك.

صناعة الشعر المنثور إذن ليست سهلة كما يتوهم البعض، على مجاراتها أكثر من الشعر الموزون للطبيعة والفطرة.. إنها ككل لون أدبي آخر تجتاز أدوار الولادة وتخضع للصقل بإشرف الذوق الأصيل والمران الواعي.

شعرنا العربي، كما أرى، في طريق تحريره من الوزن والقافية. أما تحديد قيمة هذا الشعر فذلك خارج عن مقدورنا الآن وللمستقبل وحده أن يحكم له أو عليه.. هل سيكتب له البقاء أم سيذهب مع الكثير من مستحدثات العصر، هباء في هباء؟؟

(الأديب، س14، ج12، ديسمبر 1955) 

مستقبل الشعر العربي الحديث

(الآداب تستفتي)

الآداب في عامها الثالث

لا حاجة بنا، و "الآداب" على عتبة عامها الثالث، أن نجدد العهد للقراء الكرام على المضي في خدمة الفكر العربي، والقضية العربية. فإن كل ما تقدمه يتجه إلى هذه الغاية.

وهذا العدد الممتاز، الخاص بالشعر الحديث، في الوطن العربي وفي الغرب، جهدٌ جديد في هذا المضمار نترك تقديره للقراء والنقاد.


جواب الدكتور أحمد زكي أبو شادي (الولايات المتحدة)
إني جد متفائل بمستقبل الشعر العربي الحديث، لأن الوعي الإنساني، لا القومي أو الفني فحسب، أخذ يتجلى بين أبناء العربية الموهوبين، فساعد ذلك على تجلي عبقريتها في التعبير الرفيع. وعندي أن أبرز سمات هذا الشعر حريته الفنية ومواءمة هذه الطلاقة للقيم الخالدة في الشعور والفكر اللذين متى تزاوجا في وفاق وفي أصالة وفي جاذبية من الحسن حققا للفن خلوده. ومع اعتقادي بأن الشعر العربي الحديث سيحتفظ دائماً بموسيقيته (لأن طبيعة الشعر العربي غنائية) أثق بأنه لن يكون عبداً للرنين، ولا لغيره من أدوات التأثير على العقل الباطن. ولا بد من ارتباط مستقبله بمستقبل العروبة من حيث الحرية والاستقلال والمثالية والثقة بقدرة لغتنا المستمدة أيضاً من ثقتنا بأنفسنا، مما سيدفع الجيل الآتي إلى طلاقة أعظم، وتفنن أبلغ وأفسح واهتمام أكبر بالشعر الإنساني، الذي يحمل في طيّه بذور الفلسفة الأبدية وضمان الخلود. وإني إذ أبدي هذا الرأي المتفائل تمر أمام ذهني صور حبيبة من هذا الشعر أبدعتها مواهب شتى في أقطار شتى، وكل منها تحمل ألقاً أصيلاً ذا رسالة وذا جاذبية، متناسياً العديد من النظم التقليدي الجمّ، الذي يتمسح الكثير منه ظلماً في الشعر الحديث الأصيل والذي يموت يوم ولادته، ومتناسياً أولئك الذين ينتسبون زوراً إلى الشعراء الأحرار وهم عبيد الطاغوت وحرب على الحرية والإنسانية والفن.

جواب الأستاذ جبرا ابراهيم جبرا (العراق)
لا بد للشعر من التطور في الأمة الحية، كغيره من الفنون. ولم يبق الشعر العربي على ما هو لحوالي 700 سنة، إلا بسبب الانحطاط السياسي الذي عاناه العرب، حين تحكمتهم قوى خارجة عنهم ثقافة ولغة. ولكن السنين الثلاثين الأخيرة التي طفرت بالعرب طفرة هائلة أثبتت أن المخيلة العربية التي ركدت قروناً طويلة عادت إلى التوثب من جديد.

لقد كان أكثر الشعر بين أواخر العصر العباسي ونهاية القرن الماضي تكراراً معاداً مهلهل المعنى والصور. ثم رأى الربع الأول من هذا القرن تجدداً في الشعر من حيث المواضيع ـ لاسيما بعد دخوله ميدان السياسية والوطنية ـ وعاد الشعراء إلى الألفاظ الناصعة في كثير من النشوة. ولكن المعاني ما زال أكثرها ـ إذ ننظر إليها الآن ـ مبتذلاً في صوره الشعرية، وما زال الشاعر يعتصم بموسيقى الألفاظ ليخفي عنا خلوها.

وفي الربع الثاني من هذا القرن اشتد انتباه الشعراء إلى المعنى والأسلوب كشيئين متصلين متداخلين، وأضحى فهمهم للأسلوب أقرب إلى المفهوم الأوربي، الأسلوب هو الشكل الكلي الذي لا تتجزأ الصور الشعرية عنه.

يقول إزرا باوند: "الشعر كلام مشحون شحناً قوياً". وأرى أن الشعر العربي الآن يتطور في هذا الاتجاه من التركيز والشحن. ولكنه تطور بطيء: فما زال الشعراء يكررون أنفسهم، ويذكرون ما لا يحتاج إلى ذكر، وتعوزهم على الأغلب العين الدقيقة التي ترى ما لا يراه أكثر الناس. وقد جعلت الكليشة السياسية تعطي الكثير من الشعر رنيناً أجوف، كما تفعل الكليشة الغزلية التي حلت الأولى محلها عند أكثر الشباب.

والمستقبل ولا ريب هو الشعر المتعدد القوافي الطليق من القيود العاتية، غير أنني أرجو أن يتعلم الشعراء الاستفادة من هذه الحرية الفنية فلا يجعلوا منها مبرراً لأشكال شعرية مترهلة انتفخت بما فيها من زوائد، بل يستغلوها في خلق أشكال متراصة، كل منها وحدة وثيقة الروابط بين أجزائها.

جواب الأستاذ زكريا الحجاوي (مصر)
كل شيئ يساعد "الشعر العربي الحديث" في المعركة القائمة بينه وبين الشعر العربي المأثور ويعينه على الانتصار، ومع ذلك فما زال "الشعر العربي الحديث" خائفاً متردداً لأسباب.. ويا لها من أسباب..!.

وأسباب تردد الشعر العربي الحديث وخوفه نوعان: نوع خارج إرادته، وآخر واقع حمله على أكتاف الشعراء المحدثين أنفسهم.

أما الأسباب الخارجة عن إرادة شعرنا، فهي قوة استمرار التنغيم والتطريب في أفئدة الناس من طبيعة الصياغة العربية الكلاسية، وشنشنة الصنج التوقيعي في روي ذلك الشعر المأثور. وعداء هؤلاء الناس، بالعادة، لكل جديد وخارج على المألوف.

وليس ذلك وحده بالذي يحبب الناس في الشعر العربي المأثور، وإنما تخلف معظم القارئين ثقافياً، إذ ما زالت الأمة العربية رغم الاتساع في فتح المدارس التعليمية أمة متخلفة ثقافياً، وهناك "اتساق" كبير بين الموضوعات التي يتناولها الشعر العربي المأثور، وبين هؤلاء الملايين.. المتخلفين! ومما يجب توضيحه، لتبيين الرأي، أن هذه الموضوعات التي تثير واعية معظم الناس وأذهانهم ما زالت في الصدارة من الشرق العربي حتى اليوم. وما زالت تلعب دوراً في واقع الناس وحياتهم اليومية، فالشرق بمعناه المثالي، والشجاعة بمدلولها الرومانسي، والأحزان الكلاسيكية، وبقية هذه القيم الإنسانية التي تنكرها حياتنا الجديدة، تلك التي نبنيها على أسس واسعة وخطوط كبيرة، من توحيد إرادة الأمة بغية التحرر من هذه القيم المغلوطة في سبيل حياة سعيدة آمنة لنا ولأولادنا من بعدنا، من ذلك نرى أن الموضوعات التي يتناولها الشعر العربي ـ غير الحديث، ما زال لها قراء وأصدقاء وأنصار، وهم من الناحية العددية: الكل تقريباً!

تلك أسباب خارجة عن إرادة الشعر العربي الحديث تدعوه للترقب، وللحذر، وللخوف من الاندماج في المعركة المضمون له الانتصار فيها.

أما الأسباب الواقع حملها على الشعر الحديث لكي يكون "حديثاً" بالمفهوم الفني، لا بمجرد معناه المضاد للقديم وللمأثور، لا يكفيه أن يتخلص من الشنشنة الكلاسية في الشكل وحسب، ولا يرضيه كذلك أن يقضي على النزعة الرومانسية الذاتية في المضمون، وإنما على الشعر العربي الحديث أن يعتبر نفسه "الأستاذة" في معركة الحياة، تماماً كما كان الشعر القديم، عليه أن يذوب للناس في أحشائه وطواياه تلك القيم الجديدة التي نبع هو منها، من أجل نصرها وتأييدها ـ وعليه أن يعطي أتباعه وعاشقيه من زاد حب الحياة، والإيمان بها، ما يجعل الناس يؤمنون بأن هذه الحياة فرصة يجب أن تفترص، ولا سبيل إلى افتراصها إلا بالانخراط في المعركة الكبرى، معركة كل أمة في سبيل الحرية والعزة والسعادة.

لقد استقرت القصة العربية القصيرة أو كادت، وما ذلك إلا للطابع المحلي الذي يطبع الأدب العربي الحديث مازال "مدغوم القومية"، مازال عربياً صرفاً، وتلك سمة من سمات الشعر العربي المأثور، فما لم ينتج الشعراء المحدثون "شعر الأمة" وما لم يقرأ العرب الشعر "العراقي" الحديث لشعراء العراق، و "اللبناني" الحديث لشعراء لبنان، و "المصري" الحديث لشعراء مصر، و "الإفريقي" الحديث لأبناء السودان والكونغو وكينا، ما لم نصل إلى ذلك، فإننا سنقف طويلاً في مدار الخوف ومضمار التردد.

على ذلك كله، فإني متفائل وواثق من الانتصار، لأن الرواد العظام، من شباب هذا الجيل، قد شقوا الصخرة العاتية في مقدمة الطريق، هذه الصخرة التي تحجرت ذراتها من آلاف السنين، وآلاف المعتقدات، وآلاف التجارب.. صخرة "الأدب العربي" والذي بقي هو تكملة الطرب لفتح الطريق.. طريق الأدب العربي.

جواب الدكتور بديع حقي (سوريا)
تراني أستطيع أن أرقى بجناح الخيال إلى أفق الغيب فأستشرف مستقبل الشعر العربي الحديث وأجلو الصورة التي يمكن أن يبتدئ فيها؟

إنني أفرق من أن أتهم بالإغراق في التفاؤل وأنا أنفض هذه الصورة المتخيلة حلوة رفافة بالأمل. فأنا شاعر ولست بناقد. ولا بد لي حين أنشط خيالي وأغربه بذلك الأفق البعيد المبهم من أن أنكفئ إلى ذاتي لأرى فيها بعض ملامح مستقبل الشعر العربي وأنتهي إلى حال شبيهة بحال "نارسيس" الذي كلف بنفسه وهو يرى إلى صورته تترقرق فوق صقال الماء.

فلأقنع إذن بأن أزجي أمنية لي، أمنية أريد أن التزمها في شعري وأدبي في المستقبل. وخطوط هذه الأمنية منسوجة من الحياة التي تفرض علي كما تفرض على كل شاعر عربي أن أطاوع شعري للواقع المؤلم المرير للسمو به إلى حياة أفضل. وقد تكون فكرة "الفن للفن" في الشعر مغرية ذات نكهة محببة. إلا أنها لا تعدو عن أن تكون لهواً عقيماً، لأنها تنظر إلى الحياة من بعيد فتتجانف عن اللباب ولا تمس إلا القشور، ولعلي أتحيف بعد هذا شعري الذي نظمته منذ سبع سنوات وجمعته في ديوان "سحر" والذي اتسقت لي فيه صور جمالية بعيدة عن مشكلات مجتمعنا العربي الحديث وعن آلامه وتعلاته وأمانيه.

المهم في رأيي أن يضحي الشعر العربي الحديث لصيقاً بالحياة فما أحفل بالأسلوب الذي يجري في مساقه القصيد. إن كل الأساليب الشعرية ـ بما فبها السريالية والرمزية ـ تلين الواقع وتمتح منه وتطاوع الحياة وتغنيها أما استجابت نفس الشاعر إلى مؤثراتها. إنني لا أخشى تنوع الأساليب وكثرتها، فالشجرة مهما صغرت لا تضيق بتطريب شتيت الطير. ولكن الذي أخشاه هو تخلف الشاعر عن تصوير آلام شعبه وأحلامه وأمانيه.

لقد استطاعت رمزية "طاغور" أن تسير روح الهند وتصف آلامها وأحلامها، وقدرت سوريالية "ايلوار" الخفاقة في الفضاء القصي أن تغمس أجنحتها في الأرض وأن تغني أنشودة الحياة الخصبة المتدفقة.

وفي شعرنا العربي الحديث يتألق بعض الشعراء الذين عكفوا على تصوير الحياة والواقع بجرأة وحماسة. أنهم يختلفون في أساليبهم الشعرية ولكن لهم لوناً واحداً يجمع بينهم هو لون الصفاء والصدق لأن حركة الحياة قد جاذبتهم، أفما ترى إلى قرص "نيوتن" ذي الألوان المختلفة كيف يصير إلى لون أبيض صاف حين يدور ويتحرك؟

من هؤلاء الشعراء فحسب، أنسج في خيالي تلك الصورة الحلوة الرفافة عن مستقبل الشعر العربي الحديث.

جواب الأستاذ رئيف الخوري (لبنان)
كثيرة ومشتبكة هي فروع هذه المسألة. فمنها مستقبل الشعر العربي من جهة القالب، أعني الوزن والقافية، ومن جهة اللغة، أعني العامية والفصحى، ومن جهة النوع، أعني الغنائي والتمثيلي والملحمي، ومن جهة الغرض، أعني الموضوعات التي ينتظر أن ينحاز إليها الشعر العربي ويدور عليها.

وأكثر من هذا كله تلزمنا هذه المسألة تطرقاً إلى بحث أحوال الشاعر العربي والجمهور القارئ بالعربية والوسائل الأدبية المهيأة أو المطلوب لها أن تتهيأ.

والجواب السريع والمجال الضيق لا يحتملان الوفاء بهذا كله. ولكن على سبيل الإيجاز أقول، فيما يخص ناحية القالب، أن الشعر العربي ماض وسيزداد مضياً، في طريق توسيع هذا القالب وتلينه. سيتحرر الشعر العربي من طغيان فكرة القافية الواحدة في العمل الشعري الواحد. وسيتحرر من التزام صورة واحدة للوزن، فنجد في العمل الشعري الواحد تنقلاً بين تام البحر ومجزوءاته، بل نجد جمعاً وتأليفاً موسيقياً بين بحر وآخر في العمل الشعري الواحد. بل إني لأحدس بأنه ستستأنف على نحو جدي محاولة التحرر إطلاقاً من الوزن التقليدي، لينظم شعراؤنا الشعر في قوالب لا حصر لها من "النثر" الإيقاعي المقطع، المسجّع شيئاً ما. يخترع كل شاعر منهم قوالبه المخصوصة به مستعيناً بحسه النغمي وتدربه الموسيقي.

وأما فيما يخص ناحية اللغة فأرى أن الشعر الفطري المقول بالعاميات العربية سيكثر ويجود إنتاجاً وقيمة. على أنه لن يضير شعر الفصحى لأن العبارة الشعرية الفصحى ستسهل ويأنس إليها الشعب ويفهمها ويستسيغها، وسيثير هذا مشكلة، وهي الإبقاء على رفعة الأداء الشعري الذي لا يطيق عادي العبارة في اللغة الفصحى، وإن كنت لا تصدق فاجتهد أن تدخل في شعر فصيح لفظي أيضاً "وعلى الإطلاق" من غير أن تسف به. على أنها مشكلة لن تستغني على الحل.

وأما فيما يخص جهة النوع فهنا في الحقيقة المشكلة الرئيسية في مستقبل الشعر العربي وفي حاضره أيضاً. فلقد غلب عليه حتى الساعة المسلك الغنائي، وهو الذي يقصر فيه نفس الشاعر ويذهب ـ كدت أقول يتلف ـ في انفجارات عاطفية محدودة غزارتها محدود عمقها، انفجارات عاطفية محورها "أنا" الشاعر وما يتقلب عليها من انفعالات ذاتية فردية على الأكثر. كذلك قد نشأ في الشعر العربي اللون التعليمي الحكمي معبراً ـ إلا في الندرة ـ عن سوانح متقطعة وتأملات مقتضبة. وقلت في الشعر العربي الآثار التمثيلية فضلاً عن أنها لم تظهر فيه إلا مع العصر الحديث. ومع ذلك فقد ضعف إنتاجها وأوشك أن يضمحل. وما كان من آثار تعد ملحمية في الشعر العربي ليس سوى مظاهر معجلة تعجيلاً منزلة في إطار غنائي، أو ليس سوى قصص لن تستكمل ـ برغم أن بعضها مطول ـ خصائص الملاحم بل لم تستكمل في أحيان شروط القصة.

فمن هذين الوجهين: التمثيليات والملاحم. بيدي الشعر العربي نقصاً ملحوظاً وفقراً بارزاً. وإذا ترك في مستقبله يتابع سيره على خطوطه الراهنة، فلست أرى أنه سيكمل هذا النقص أو يسد هذا الفقر. على أن جميع الأسباب التي حرمت الشعر العربي في القديم أن يعني بالملاحم والتمثيليات قد صارت إلى الزوال، وقد اتسع قالبه ولان حتى صلح ومرن لاستيعاب الملاحم والتمثيليات، حين يجد الشعراء القادرين وهم موجودون، وحين يعثر بالموضوعات وهي قائمة بكثرة في عصرنا وفي عصور ماضينا، وحين يلقى التشجيع ويظفر بالوسائل وقد وجب أن يلقى ذلك التشجيع ويظفر بتلك الوسائل عن طريق الحكومات والحركات الأدبية المنظمة التي تمد بالمنح الشعراء المهيئين للعمل، توفيراً للوقت عليهم، وتنشئ المسارح والفرق للتمثيل، وأما فيما يخص ناحية الغرض فإني أتوقع للشعر العربي في مستقبله أن ينحاز أشد فأشد إلى الموضوعات الصميمية في العصر، أقصد الاستقلال الوطني والتحرر الفكري والديني والعدل الاجتماعي والانتقاد السياسي والحملة على مظالم الاستعمار بجميع صوره. وستضؤل فيه نبرة التشاؤم والاستسلام والاستغراق في كآبات الذات، وتقوى فيه نبرة التفاؤل والتحدي وتمجيد الإنسان بوصفه الكائن الفذ المسلح بالعقل وبالمشيئة المخيرة ليصنع مصيره بنفسه.

وأما فيما يتصل بأحوال الشاعر العربي فسينهض منه جيل أقل كسلاً واكتفاء بالإنتاج النزر والموضوعات التقليدية والقوالب المتوارثة المتدارسة، سينهض من الشاعر العربي جيل أوفر جلداً على العمل الشعري وأطول نفساً وأحرص على التقنين والتجديد، فيتمرس بخلق الملاحم والتمثيليات ويرد ما كاد ينقطع من علائق بين الشعر الفصيح والشعب.

وأما فيما يتعلق بالجمهور القارئ بالعربية فيقيني الذي لا يظله شك أنه سينمو في العدد، وفي الثقافة، وفي الاستعداد بتذوق الشعر وعرفان قدره وأثره في حياة الجماعات والأمم.

هذا ما أرى أن سيكون في مستقبل الشعر العربي، وإلا جفت أصول هذا الشعر فذوى ومات.

على أن الازدهار مشروط بالوسائل الأدبية المهيأة أو المطلوب أن تهيأ. ذلك أن الشعر أيضاً يحتاج إلى رعاية وتعهد. وفي رأس حاجاته أن يعلم نظم الشعر في المدارس، ويحاضر الطلاب ولاسيما أصحاب المواهب منهم في أصول نقده وفي فنونه وقواعد بنائها وتأليفها، وأن يشار لهم إلى ميزان الشعر العربي وإلى وجوه النقص ويدلوا على سبيل تلافيها وتقترح عليهم الموضوعات في هذا السبيل، وتخطط لهم. فليس صحيحاً أن الشعر لا يعلم، أو ليس صحيحاً أن الشعر لا ينجح فيه تعليم ولا توجيه ولا مران. فإن كان موهبة وفطرة وسليقة كما يقال، فهذه أيضاً يوقظها ويصقلها ويقومها، التعليم والتدريب.

وإلى ذلك ينبغي أن تقام للنخبة وللشعب أندية وحلقات ومسارح يتلى فيها الشعر وتمثل المسرحيات بالشعر.

ولن يقوم بذلك إلا الشعراء أنفسهم وهواة الشعر والحكام المدركون متضافرين جميعاً، مقتنعين بأن الشعر ضروري لا كمالي، لأنه خبز الروح، والروح لا بد لها من خبز كالبدن، ولأن وثبات التقدم والتحرر في حياة الأمم، وإن وجب أن تبنى على حساب علمي عقلي، فإنها لا تنطلق وتتم إلا في الهنيهات الشعرية، وفي الأمم القابلة لأن تنخطف مع الهنيهات الشعرية، الملحمية.. وهات لي وثبة تقدم أو ثورة تحرر لم تكن ملحمة شعر!

جواب الأستاذ عدنان الراوي (العراق)
إني متشائم من مستقبل الشعر العربي، لأني أعتقد أن الشعر العربي سيخسر الكثير من مفاهيمه الحقيقية في غمرة هذا الاندفاع اللاواعي الكئيب، من ناحيتي الشكل والمضمون، وإذا كان لتشاؤمي من مستقبل المضمون أخفّ من الشكل فهذا لا يمنعني من أن أقرر أن الشعر العربي فقد الكثير من جمالية شكله في سبيل مضمونه، وبعض ما نقرأه من الأشكال لا يشفع لها مضمونها في اعتبارها شعراً، وإذا كان الأدب يجتاز اليوم محنة عالمية فإن الشعر يحمل العبء الأثقل من هذه المحنة، ولعل تعبير الاجتياز غير مطابق لحقيقة المحنة، لأني لا أدري بالتأكيد فيما إذا كان الأدب سيجتاز المحنة أو ستسحقه المحنة، إلا أن التبدل سيحدث حتماً في ذات المفهوم، وبعضهم سيسمي هذا التبدل تطوراً، وعندي أن مستقبل الشعر العربي يتحدد بأمرين: أولهما موقف الشعراء من المفهوم الشعري، وثانيهما موقف الناس من هذا المفهوم، ولا يمكن التقليل من أهمية أحد هذين الموقفين في مستقبل الشعر العربي. وإذا ربطنا الشعر بالعصر فإن تطورات كثيرة وعنيفة ستحدث بلا شك، بحيث تنقلب المفاهيم رأساً على عقب فيصبح الخير والشر شيئين غير قابلين للتحديد، ويصبح (الإنسان) هذا الذي يحدد المفاهيم غير واضح المعالم، وإذا قرر التاريخ بأن الإنسان يتقدم نحو الأحسن دائماً، ومع الزمن، فلا بد أن يتطور الشعر إلى الأحسن لأنه جزء من الإنسان.. بل هو التعبير عن إنسانية الإنسان.. وربما سيكون هذا صحيحاً لولا أن الرعب يتملكني كلما تذكرت الذرة.. والهيدروجين.. وكلما تذكرت أن الذرة والهيدروجين ملك للحمقى من الذين يلعبون دوراً في التاريخ..

جواب الأستاذ خالد الشواف (العراق)
لا يمكن إبداء الرأي فيما يمكن أن يكون عليه مستقبل الشعر الحديث على وجه التأكيد. فقد حفلت الفترة الأخيرة من عمر الشعر العربي ـ على قصرها ـ بما لم يحفل به تأريخه الطويل من الحركات العنيفة التي استهدف الثورة على كثير من مفاهيمه في الأسلوب والبناء والمحتوى، تلك المفاهيم التي كانت إلى عهد قريب مقدسة ينزل عند أحكامها كل من كتب الشعر تقريباً.. فإذا كان التطور يجري على هذه الوتيرة من العنف والسرعة، بحيث نرى المذاهب الشعرية يتلو بعضها بعضاً والأساليب الشعرية تتجدد تجدداً مطرداً، فإنه ليصعب ـ علي ـ إذن التكهن بما ينتظر الشعر العربي مستقبله. ولعلي أستطيع أن أقول ـ نظراً للخطوط الكبرى التي يسير عليها الشعر العربي في الوقت الحاضر، ومنذ بدأ يتناول موضوعات أحق بالحياة ويغني للحركات الطالعة ويحدو للعديد الكبير ويحلق في الآفاق الرحبة ـ إنه سيجنح إلى الامتلاء في الموضوع والمضمون والمحتوى بقدر ما يجنح إلى الضمور في البناء والتركيب والأسلوب، هذا إذا لم يقم من الحركات ما يعيد التوازن بين هذين العنصرين الأساسيين اللازمين للشعر.

جواب الأستاذ جورج صيدح (لبنان)
هل كلمة الشعر الحديث تعني حداثة زمانه أم حداثة أسلوبه؟

أوقن أن السائل يعني شعر المدرسة الحديثة، نتاج الشعراء المجددين، لا كل شعر حديث العهد. لأن بين شعراء هذا الجيل من لا تختلف ديباجتهم كثيراً عن ديباجة شعراء الجيل العاشر، وما هم موضوع البحث الآن.

ومع أني لا أميل إلى الأبحاث النظرية التي تدور حول الأدب، ولا إلى المناورات الكلامية التي ترمي إلى حصر الشعر في خطوط يرسمها له النقاد، أمتثل لرغبة الصديق الدكتور سهيل إدريس من باب إيثار الطاعة على الأدب. ولكني أتمنى على الكتاب أن يعملوا في حقل الإنتاج أكثر مما يعملون في حقل التخطيط والتصميم، وعلى الشعراء أن يؤدوا رسالتهم للشعب دون التحدث الطويل العريض عنها.

تطور الشعر العربي في الثلاثين السنة الأخيرة ومشى متعثراً متخبطاً بين أواصر التقليد وعوامل التجديد. فتراه اليوم في منتصف الطريق وقد تزيا بأزياء جديدة مختلفة، هي أحياناً ثياب العرس وأحياناً ثياب المأتم. هنا يرقّع رداءه العتيق برقاع قشيبة أو يلبس ويتلحف الظلام كأنه خفاش الليل.

لا مشاحة في أن في الشعر الحديث تجدد في كيفية الأداء ونوعية الموضوعات، وانفتحت أمامه آفاق واسعة من الإبداع في ترويض الألفاظ وابتكار الاستعارات. والتجديد هو من مقتضيات الحياة، لا يشترط إلا الانتقال من الحسن إلى الأحسن ولا يعدل عن القديم إلا إلى الجديد الأجمل. أما إذا اكتفى بالتمرد مبدأ وبالشذوذ غاية، وبإحلال البدعة محل الإبداع فهو عاهة جديدة تبتلي جسم العجوز فتزيده سقماً. إن الجدة وحدها لا ترفع قيمة الحجارة الزائفة البراقة إلى مقام الجواهر الأصلية القديمة العهد، لمجرد كونها من صنع اليوم.

الشعر الحديث يعتمد الرموز في الأداء ويباهي بها. وما أجمل الرمز أداة للتفاهم وللإيحاء. إنه روح اللغة الناطق بما يعجز عنه لسانها. ولكن الرمز هو غير اللغز. فاللغز لا يفهم ولا يوحي. أما الرمز فإنك تفهم من إيماءته أضعاف ما تفهم من كلمته شرط أن يقف المومئ حيث تراه في النور لا في الظلام. وهل يتستر في الظلام غير الآثم الجبان، أو العاجز عن مجاراة الأقران؟

الغموض أدهى آفات الشعر الحديث، يفسد على الشاعر غايته، سواء انصرف إلى وصف حالة نفسية أو إلى أداء رسالة إنسانية. همه في الحالتين أن ينقل أحاسيسه وخواطره إلى أكبر عدد ممكن من البشر، لا أن يمتحن بأحاجيه ذكاء نفر قليل منهم. ولا سبيل إلى النقل والتعميم عن طريق الشعر إلا بسهولة التعبير الفني وبوضوح المعنى المبتكر. ومن أعياه الابتكار وخذله الفن في موضوع ما قد نجد له عذراً، أما من فاته الإفصاح عما يريد فلا عذر له عند القراء، ولا تشفع له "نظرية الإيحاء من طريق الإبهام" لأن الإغراق في الإبهام يسد منافذ الجو ويخلق أمام القارئ فراغاً لا يستحث الفكر ولا يوقظ الشعور. بينما الإيحاء يكمن وراء الغيم الشفاف، والإغراء ينبعث من الظل الهفهاف، في الشعر الرمزي الموفق.

والتعمل، ثاني آفات الشعر الحديث، هو نتيجة إرهاق الفكر في ابتداع صيغة جديدة لمعاني فريدة تستهوي الألباب وتستنزل الإعجاب. فيصبح الشعر صناعة هندسية أو عملية حسابية يقوم العقل بأعبائها ولا يد للعاطفة فيها. ومتى خلا الشعر من العاطفة بطل أثره في الحواس، فلا شجو ولا طرب. ولا موسيقى تدخل القلوب من الآذان. إن المقياس الصحيح لجودة الشعر هو درجة تأثيره في العواطف ومدة ذلك التأثير، وفاسدة هي المقاييس الأخرى التي تحدد العمق والوزن والاتساع. وهاهي الشعوب العربية تردد قصائد قيلت منذ ألف عام ولا تستشهد ببيت واحد من الشعر الرمزي المعاصر المدوي في كل مكان. لم تستسغه رغم جمال صورته لأنه ثمرة الجهد والسهد والتكتيك البارع لا وليد الاختلاجات النفسية العفوية، ولن تستسيغه إلا متى نبغ بيننا شاعر رمزي عظيم (كـ بول فاليري في فرنسا) لا يشتم من شعره رائحة العرق المتصبب على جبهته، ودخان السجائر المنتشرة في غرفته.

وهناك الغرور، ثالثة الأثافي، الذي يحدو الشعراء الناشئين إلى الطفور من الشعر المدرسي إلى الشعر الرمزي دون الوقوف على الطرق المعبدة بالأساليب الكلاسيكية المعروفة، كمن يحاول بلوغ قمة الجبل بخطوة واحدة. مع أن الشعر الرمزي المستجاد لا يحسنه إلا القليل من عباقرة الفن. فهو شعر التسامي والتفوق وليس التسامي والتفوق في متناول كل من قال شعراً. إن أشهر رسام معاصر "بيكاسو" لم يبتكر أسلوبه الرمزي الجديد إلا بعد أن أبلي السنين في معالجة الأساليب الكلاسيكية، وعندما برع بها جاوزها إلى ما فوق. ومثله كبار الشعراء الرمزيين في العالم. والأنكى أن هؤلاء الشعراء المحدثين يعتبرون أسلوبهم قانوناً للشعر ودستوراً لجميع الشعراء، السابقين منهم واللاحقين. فهم عشاق الرغوة المتلألئة على وجه الكأس، وليسوا عشاق الخمر في الكأس لأنهم لا يستطيعونها، ويضحكون ممن يستطيب مذاقها. وغاية جهدهم أن يغمسوا أصابعهم في كأس الشامبانيا، ويواصلوا الخض والرض حتى تتحول الشامباينا كلها إلى رغي وفقاقيع تسمى فيما بعد "قصيدة رمزية". ومنهم من تستعصي عليه القافية وتثقل كاهله العروض والأوزان فيثور عليها ويتمرد، ساتراً هزيمته براية "التجديد"، وليته اكتفى بهذه الجرعة ولم يعير الشعراء المطبوعين الذين لا تعصى عليهم قافية ولا يثقل عليهم وزن بأنهم عبيد التقاليد البالية وعباد الأصنام الهاوية.. إننا لا نتطلب من هذا الدعيّ التقيّد بقواعد الأقدمين أو تضحية معانيه على مذبح العروض التي وضعها الخليل. فلينظم كما يشاء، بقافية أو بلا قافية، ولكننا نسأله هل في آثار الأئمة السابقين أم في دواوين كبار شعرائنا المعاصرين دليل واحد على أنهم ضحوا بالمعنى في سبيل المبنى أو أنهم وضعوا في شعرهم كلمة في غير موضعها مراعاة للوزن أو أنهم اضطروا بحكم القافية إلى استعمال الكلمة القلقة وإهمال الكلمة المشرقة؟ أمامه قصائد بشارة الخوري، وأمين نخلة، وبدوي الجبل، وعمر أبو ريشة، وايليا أبو ماضي، والشاعر القروي، وفرحات وشفيق معلوف، فليرجع إليها لعله يهتدي.

على أني، بالرغم من هذه الآفات التي ذكرتها، لا يتزعزع إيماني بمستقبل الشعر العربي الحديث. إنه "مندفع بكل ما في صدور شعرائه من قوى ومواهب وإمكانيات ليتبوأ مكاناً رفيعاً في أدب العالم" كما قالت نازك الملائكة. فسوف تتلاشى النزعات المتطرفة بقضاء الرأي العام عليها. وتبقى المذاهب الشعرية الخليقة بالحياة بحكم بقاء الأنسب. سوف يتقهقر الشعر الرمزي خطوة ويتقدم الكلاسيكي خطوة فيلتقيان على صعيد عامر بالمعنى الجليل والمبنى الجميل. سوف يعود الشعر إلى التجلي بروح جديدة في إطار الفن العريق نابضاً بالعاطفة الصادقة. إن الزبد يذهب جفاء ويبقى ما ينفع الناس.

جواب الأستاذ صلاح الدين عبد الصبور (مصر)
ورث الشعر العربي مواضعات كثيرة أصبحت مع الزمن هي الجوهر، وأصبح غيرها مما هو جوهر كل شعر عرضاً. والعرب في ماضيهم لم ينظروا إلى الشعر نظرة منصفة كفن. ولعلهم عدوه صنعة من لا صنعة له وذريعة من اللفظ يستدر بها المعروف وتقضى بها الحوائج أو خلالاً تسن ليعرف بها بناة العلا كيف تؤتى المكارم. فكان تصنيف الأغراض المأثورة نتيجة لذلك. وتقدم غرض وتأخر ثان. وأصبح الغزل مثلاً مقدمة بين يديّ المدح. وقد نشأ الشعر العربي كما ينشأ كل شعر إنسانياً، ذاتياً، مؤدياً لدور حتى مال به الأعشى أو النابغة إلى التكسب. وكان المجتمع الإسلامي من بعد مجتمعاً منفصماً، عواصمه تحيا في شغل عن باديته. وأهل العواصم عرب وموال أو سادة وأتباع مع اختلاف صور العبودية على مر القرون. ولم يعرف المجتمع العربي الثورات الطبقية إلا نادراً. والشعراء العرب دائرون في كل فلك. قلما يختصون أنفسهم محاولين أن يتعمقوها أو يشملون الناس بالنظرة العاطفية الموحية.

كان من أثر ذلك أن خلط الناس من بعد بين صورة الشعر وبين مادته. فأصبح العروض والبنيان اللغوي والبديع شعراً. وذهب الانفعال الشعري الذي لا يغني لأنه من مادته الحياة، ذهب ليجد له هواء نقياً يتنفسه وأرضاً أخرى ينبت فيها غير تلك الأرض الخراب.

اقترن بذلك نفكك المجتمع العربي كوحدة سياسية ونشوء القوميات المستقلة وتطور اللغة العربية في الأقطار المختلفة تبعاً لوراثتها الصوفية وماضيها اللغوي وواقعها السياسي والاجتماعي وأصبحت اللغة العربية المعربة ترفاً ومظهر تفوق وسيادة أو أداة شعائرية تعبيرية. وخرج الشعر القومي نابضاً بالحياة منفعلاً موغلاً في الجوهر بعيداً عن العرض (انظر كتاب في الأدب الشعبي لأحمد رشدي صالح ومقالات لمارون عبود في الأدب الشعبي اللبناني).

يفترق الشعر العامي في تناوله للتجربة فروقاً أساسية لعل أهمها:

أولاً: أن الشعر العربي شعر تلخيص، يضيّق دائرة التجربة ويجردها من أشخاصها ويعبر عنها تعبيراً مركزاً.. محنطاً (من يهن الهوان عليه. لا افتخار إلا لمن يضام ـ الجد في الجد والحرمان في الكسل ـ ذو العقل يشقى. وإنما الأمم الأخلاق) أما الشعر العامي فهو شعر انبساطي، واضح، حي، حافل بالصور. تقول جامعة القطن في ريفنا المصري:

يا قطن يا قطن سارحه لك بلانيه
مِ الصبح، للضهر، للمغرب موطيّه
تعالى يا مّا خديني من بلاد الناس
لا خولي يرحم ولا ملايّة زي الناس

ثانياً: الشعر العربي شعر تفعيلي. يعقل التجربة ويسلبها أروع ما فيها وهو انفعاليتها ومثاليتها. ويرتبط بالدلالات القريبة للألفاظ. كأن الشاعر يخشى أن يطير فيخونه جناحه. أما الشعر العامي فهو شعر محلق. لا تثنيه مواضعة ولا يلتزم مجالاً عقلياً. تقول فتاة الغزلة لحبيبها:

يا خوفي من أمك لا تسأل عليك
لحطّك في عيني، وأكحل عليك

انظر كيف استحال حبيبها هذا الشيئ الكبير صغيراً أليفاً وديعاَ يوضع في العين ويمر المرود بعد ذلك فيعفي على آثاره.. انفعال بلا أسوار.. بلا تخوم.

ألقت الثقافة الغربية في أعماقنا معنى خطيراً. وتناوله رواد الفكر الحديث فالتزموا شرحه وتوضيحه وتمثيله. وذلك أن الأدب ليس صناعة لغوية ولا مصدر تكسب، وإنما هو ضرب من الفن يشارك مع إخوته الموسيقى والنحت والرسم في تمثيل الجانب الانفعالي من الحياة وفي التعبير عن (وقع الوجود على الوجدان). وكانت تلك هي الأرض التي دارت فيها المعركة الأدبية بين جيلين وأيديولوجيتين، وأسهم فيها في مصر (طه حسين، العقاد، المازني، شوقي، المنفلوطي، الرافعي، أمين الخولي، سلامة موسى) مع اختلاف الجانب الذي أخذه كل منهم في تلك المعركة. ولعل من أطراف ما قرأت ما كتبه سلامة موسى من أنه يمثل سكرتير الثقافة الغربية. والواقع أن هذا دور مجيد. وقد كنا وما زلنا بحاجة إلى كتاب مثقفين يحملون تلك الأمانة ويلتزمون بذلك العبء.

من هذه الروافد الخيرة ينهل الشعر العربي لهذه الأيام.

ولا أشك في أن عصرنا هذا عصر شعري ذهبي. فقد بدأ الشعر العربي يرجع إلى طبيعته ويحقق وجوده. وفي سبيل ذلك طرح عن نفسه كثيراً من الأثواب الخانقة، فجانب تقسيم الأغراض، وثار ثورته الشكليّة المجيدة، وخلق لنفسه موضوعية شعرية غير جامدة ولا محدودة. واكتسب من الأدب القومي انبساطه وانفعاله وصدق أدائه. ونحن حين نتحدث عن مستقبل الشعر العربي لا ننظر في بلورة كبلورة الساحر الهندي. ولكننا نربط الماضي بالحاضر والمستقبل تبعاً لتصورنا لخط التطور السليم.

ولا شك أن الشعر العربي سيحافظ على انتصاراته الشكلية، ولعل أهمها إقرار وحدة القصيدة كمظهر شعري وأهم مظاهر وحدة القصيدة هو ما يسمى بالفرنسية Enjambement أو الجريان. وهو انسكاب الأبيات انسكاباً مترابطاً. وهذا مظهر شكلي ومضموني معاً. ولعل محاولة اعتبار التفعيلة أساساَ عروضياً والنظر إلى القافية كعنصر عفوي غير متعمد طريقه إلى تحقيق خاصية الجريان هذه.

ومما لا ريب فيه أن شعر المستقبل سيتجه إلى تبني أشكال شعرية جديدة لم يعرفها من قبل كالملحمة (نود أن نشير إلى أن ما نشر للآن موسوماً هذا الاسم ليس منه في شيئ). وقد كانت الملحمة متعذرة في ظل القافية الواحدة. وكذلك القصة الشعرية والدراما.

ومما يدعو إلى التفاؤل حقاً أنّا نلمح في كثير من الإنتاج الشعري الحديث موقفاً فكرياً ناضجاً. والعالم اليوم ينقسم في أيديولوجيته قسمين رئيسيين ينعكس ظلهما على الأدباء، فمنهم الشكليون والواقعيون. والفكر الصاعد بلا شك هو الفكر الواقعي الحيوي البعيد عن التجريد والتجويد الأجوف. ولست أبغي بذلك أن يكون الأديب داعية سياسياً أو فيلسوفاً منهجياً. فكلا الأمرين ليس من شيمته. أديب المستقبل مفكر وقارئ ممتاز وصاحب موقف. ولكن موقفه ينتقل في نفسه إلى تعبير عفوي متخذاً صوراً فنية مجنحة.

والواقع أنّا نلاحظ أن السفر الخالد الذائع هو شعر ذوي المواقف الفكرية كتوماس ستيرنز اليوت وأرجون وناظم حكمت وإقبال، على اختلاف مواقفهم الفكرية والاجتماعية.

سيكون شعر المستقبل إذن متنوع الأنماط، بعيداً عن التلخيص والتعقيل ممثلاّ لمضمونات فكرية باعتبار أن الفكر والمادة عنصران متضايفان. وستكون لغويته ناصعة مجنحة بسيطة ينظر إلى الألفاظ. وسيصل الشعر العربي إلى قمم فنية عالية، بحيث يبدو شعراء الحاضر رواداً لم يزد جهدهم على أن ركزوا الراية على السفح.

جواب الأستاذ سلامة موسى (مصر)
أعظم ما كان، ولا يزال يؤخر الشعر العربي الحديث، أنه ورث تقاليد سيئة من الشعر العربي القديم.

وصحيح أنه ورث أيضاً تقاليد حسنة من الشعر العربي القديم. مثل استهداف الروعة في اللفظ والطرب في الإيقاع. وهذا شيئ كبير له قيمته. فإن الشرط الأول لكل فن هو الطرب. وبلا طرب يفقد الفن فنيته. وأقصد بالطرب ارتفاع الإحساس. وقد سماه أبو تمام الحماسة.

ولكن السيئ في الشعر العربي القديم أنه كان شعراً احترافياً يعيش به الشاعر ويؤديه سلعة أو خدمة، يقدمه لمن يشتريه وما يطلب المشتري. وكان هذا المشتري في أغلب الأحوال رجلاً جاهلاً، يحب أن يقول له الشاعر أنه يركب النجوم وأنه لن يموت أبداً.

كما أن شعراء العرب القدامى أو بعضهم استباحوا من الشرف والرجولة والإنسانية، ما لا نستطيع أن نستبيحه في عصرنا. وكما نجد في أشعار ابن الرومي "البرازية" وأشعار أبي نواس "اللواطية". وقد ألف عن هذا الثاني وقد كتب عنه نحو عشرة مؤلفات في مصر هذه السنين الثلاث أو الأربع الماضية. وهذا فساد لا شك في ذلك.

وقد يعترض علي بأن الشاعر لا شأن له بالأخلاق

وهذا خطأ. بل خطل. والذي يوهم هذا الخطل أن الشاعر أحياناً يخالف الأخلاق العامة. ولكن مخالفته يجب أن تكون من أجل غيرته لإيجاد أخلاق عليا، وليس لإيجاد أخلاق سفلى كما فعل ابن الرومي وأبو نواس.

فإن قاسم أمين في مصر مثلاً خالف الأخلاق العامة. ولكنه خالفها كي يوجد ما هو أفضل منها.

وأعظم ما يؤخذ على شعرائنا القدامى، كما قلت، كانوا ينظمون الشعر كما لو كانوا يؤدون خدمة أو يقدمون سلعة لها ثمن. وقد ورثنا عنهم هذه العادة. ومن هنا جاء تقسيم دواوين الشعر إلى أبواب المديح والرثاء والهجو والوصف الخ.. كما لو كانت رفوفاً يجعل لكل رفٍ سلعة معينة. وهذا هو علة احتقار ابن رشد للشعر العربي. والشيئ الجديد في الشعر في أيامنا هو الاختبار الشخصي ينظم شعراً وهو ما اعتقد أن بذرته قد زرعت وأنها سوف تكون شجرة باسقة في المستقبل.

ما هو الاختبار الشخصي الذي أعنيه هنا؟

هو هذا الإنسان الإنساني الذي يطرب من فرح أو حزن أو غضب أو حب أو مجد أو شهامة أو شجاعة، يحس كل ذلك أو بعضه فتهيج عاطفته. ثم يصبر ويتأمل ويعتكف في برج عاجي كي يعبر عن هذا الاختبار.

وهو، ما دام إنساناً إنسانياً، فإن اختباره الشخصي يعود اختباراً شخصياً لكل إنسان على هذا الكوكب. فإذا كانت له قدرة على التعبير الموسيقي والتفكير الفلسفي، فإننا نغني معه ونسلم بعبقريته وخلوده.

وأقول إذن إن مستقبل الشعر العربي يتوقف على هذا الإنسان الإنساني الذي يحب الشعر ويؤلف القصائد عن حياته واختباراتها.

جواب الأستاذ جوزف نجيم (لبنان)
الكلام على المستقبل في كل شيئ لا يخلو مما ينزلق معه القلم إلى ما لا يوثق به أحياناً، لأننا في استطلاع الغيب المغلق على ذاته، فلتكن المسألة إذاً في حد المحاولة.

للشعر العربي الحديث مستقبلان، واحد تنشئه السياسة الموجهة، وقد تعيش هي. أما الشعر فيموت، وواحد ينشئه فيض الخاطر الطبيعي فيسلم معه الفن الشعري الخالص. فالكثيرون من ـ النظامين ـ لا الشعراء يستغلون سطحية الجماهير فيصفق لهم على قدر فراغهم، والقليلون من ـ الشعراء ـ لا النظامين يهتمون بالموضوع، أياً كان، على أنه أداء فني طريف. ومتى نظرنا في الشعر نظرة مجردة عن الموضوع، فحكمنا له، بما فيه من غرابة جميلة، وحكمنا عليه، بما فيه من عادي باهت، أنقذنا سمعة القصيدة في لبنان، لأن ـ معظم الشعر في الأقطار المجاورة أصبح ـ طقطوقة أو أهزوجة ـ هات تحرراً مثقفاً وخذ شعراً فنياً مثقفاً..

جواب الأستاذ رجاء النقاش (مصر)
الوجدان المنفعل بشتى الأحداث والتطلعات والثورات، والشكل التعبيري الذي يحمل هذه الانفعالات المتعددة هادفاً من ذلك، بتلقائية، إلى إحداث أثر هو امتداد لما كانت تمتلئ به النفس، والإبداع جنين فيها، والحضارة ذات التقاليد والتيارات القائمة التي تلتقي هذا الأثر فيعمل فيها بشكل ما..

تلك هي الخطوط الثلاث التي تتآزر في تحديد مجال الإجابة على هذا السؤال. ونحن بالطبع لا نستطيع أن نضع حدوداً فاصلة بشكل حاسم بين الفنان المبدع وبين مخلوقاته، ثم بين الحالة الحضارية التي يعاصرها، فالتميز الفردي في الفنان، وفي فنه لا يمنعان من حتمية امتصاصه لروح الفترة التي يعاصرها إلى حد يزيد وينقص تبعاً لدرجة التفوق الفردي فيه،.. ولنخرج من هذا المجال التجريدي لنقول إن الشاعر العربي اليوم يعاصر مرحلة حضارية لم تعد تنظر إلى التقاليد الموروثة نظرة التقديس، فهناك نزوع إلى إحداث تغيير في القيم القديمة التي تتمثل بالنسبة للشعر في شكله وما يتميز به من انغلاق بيتي معروف، وفي مضمونه الذي يخلو غالباً من وحدة قوية تعطي له صفة الكائن المتماسك الحي الذي ينمو باستمرار في وجدان القارئ كتجربة متكاملة معاشة هادفة إلى غاية حقيقية، وكانت العادة أن يكون الحذق في مجرد إعطاء صفة تعبيرية للفكرة العادية مقياساً للتفوق، أما أن يكون الشاعر صاحب رسالة في الحياة يمتلئ بها مضمونه الشعري، ويظل هو يدافع عن قيمها دفاعاً مرتبطاً بسلوكه، فلم يتحقق هذا إلا في أفراد، وعلى نطاق ضيق، بينما كانت الفكرة العامة أن "أعذب الشعر أكذبه"، وأن الشاعر رجل خيال، على أن يكون هذا الخيال عالماً فوق الواقع.. فوق السلوك.. فوق اصدق الإنساني الذي يلائم بين اتجاه التعبير وواقع النفس.

نحن في مرحلة حضارية نحاول فيها جاهدين إقرار اتجاهات مغايرة لتقاليدنا الموروثة، وفي مجال الشعر نجد هذه الظاهرة واضحة: هناك حركة الشعر الحر التي حاولت أن تمزق رتابة النغم القديم لتخلق عالماً منطلقاً حراً غنياً حتى في النغم، وفي بعض المحاولات تفوق الرمز وامتلأ غنى وخرج عن حدود "التشبيه" وغيره من القيم البلاغية إلى الرمز بالقصة الحية، الجديدة كذلك، كما اتجهت مضمونات الشعر إلى خدمة قضايا إنسانية.. في الشعر السوداني الحديث، شعر الشباب على وجه الخصوص، نجد أن قضية الإنسان الأسود منبع ثر لهذا الشعر الذي يصطدم صاحبه بالقسوة والظلم والضياع في المدينة، إزاء المجتمع الساحق وقيمه ومقاييسه، وفي الشعر الحر نجد أن قضية الوجدان العربي، قضية التخلف عن الركب الحضاري العام، قضية الانسحاق أمام تقاليدنا القديمة في التعبير والسلوك، أو أمام الاستعمار بصوره المختلفة، أو أمام الفهم المغلوط الناقص لبعض تيارات الحضارة الغربية.. قضيتنا هذه هي المضمون الشعري البارز في حركة الشعر الحر، وكل الشعراء الذين نجحوا في تأكيد هذه التيار ينزعون هذا النزوع بصدق وقوة، وبذلك انتهت على التقريب تقاليد الشكل والمضمون القديمين. وابتدأ الوجدان العربي عند القارئ والمبدع معاً ينظر إلى هذه التقاليد على أنها وليدة عصر مضى.. كان له ذوقه.. كانت له مفاهيمه.. كانت قضية التعبير فيه غير وثيقة الارتباط بالإنسان، بواقعه، بممكناته المختلفة.

وليست هذه التيارات الراهنة طفرة لم يكن لها مقدمات، بل إنها في الواقع وليدة حركتين في شعرنا سابقتين عليها: أولهما هي شعر المهجر، والثانية هي الحركة الرومانسية التي برزت بوضوح في شعراء فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد استمد المهجر من تجربة الغربة وتجربة الاتصال بتيارات ثقافية مغايرة على نطاق واسع وبصورة قوية.. استمد من هاتين التجربيتن مادة للشعر متحللة إلى حدّ بعيد من قيم الشعر العربي القديم، أما الشاعر الرومانسي فقد كان يقوم بمغامرة داخل ذاته لاكتشاف آلامها وأفراحها، وكان العبقري من شعراء هذا الاتجاه هو من يحاول أن يتعمق في مغامرته حتى يصل إلى مصدر هذه الآلام والأفراح التي كانت مرتبطة بالجماعات ووضعها الإنساني، ومن هنا ظهر شاعر كالشابي الذي دافع دفاعاً مجيداً عن قضية الشعب التونسي، بل عن قضية الشعب العربي كله: لقد اكتشف هذا العبقري الشاعر أن مصدراً من مصادر آلامه العنيفة يتمثل في شعبه المظلوم المضطهد الضائع.

تلك كانت المقدمات التي مهدت دون جدال لانتصارات الشعر العربي في أكثر مراحله معاصرة لنا، على أن هذا التمهيد في التطور الشعري كان مرتبطاً بتمهيد آخر لتطور حياتنا إلى مستوى جديد غير المستوى الذي ورثناه عن ماضينا، ولقد كانت مراحل التطور في حياتنا الحديثة معتمدة في داخل الأفراد على اتساع الوعي الوجداني بالحياة والعلاقات الإنسانية، واتساع الوعي الذهني بالمشاكل التي تعرض للفرد سواء كانت هذه المشاكل قضية ذاتية أو قضية عامة تمس المجموع، واتساع الوعي الوجداني في رأينا أحد العوامل الرئيسية التي دفعت بالشعر إلى مراحل تطوره المختلفة، وهذا الاتساع في نفس الوقت متأثر بما امتلأ به الشعر من عمق وأصالة في الانفعال بالتجارب التي يعبر عنها، فالتأثر متبادل بشكل قوي، ومن هنا نستطيع أن نقول أن استمرار التطور في الوعي الوجداني إنما يعني أن هناك تطوراً مستمراً في الشعر له أثره في تطوير المرحلة الحضارية القائمة.

إلا أني لا أومن بأن هناك فاصلاً حاسماً بين جوهر الشعر وجوهر غيره من أشكال الفن، فستيفان زيفايج في "رسالة إلى امرأة مجهولة" و "آموك" شاعر إلى حد كبير، وتوماس إليوت في "الأرض الخراب" قصاص إلى حد كبير.. العلاقة قائمة ووثيقة والتطور الفني والحضاري في رأي يدمج الشعر كشكل في غيره من الأشكال: في القصة، في المسرحية، ومن هنا فاستمرار تطورنا الفني إنما يعني أن الشعر العربي، في محاولته الدائبة للالتقاء بغيره من الأشكال، سيكون في المستقبل أعمق وأكثر غنى من حاضره ومن ماضيه. وتبقى هناك أسئلة.. ثلاثة أسئلة على التحديد: ما هي العلاقة بين الشعر والقصة والمسرحية وغيرهما من الأشكال الفنية؟ كيف يتطور الشعر إلى قصة مثلاً فيتخلص من القيود الشكلية ويزداد عمقاً وغنى؟ ما هي العلاقة بين أطوار الشعر وأطوار الحضارة المختلفة؟.. ومن خلال الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة يتضح لنا التحديد الحاسم لفكرتنا عن المستقبل العربي في الشعر. مما يحتاج إلى دراسات مفصلة نرجو أن نعود إليها في القريب.

(الآداب، س2، ع1، كانون الثاني/ يناير 1955) 

مجلة شعر

رئيس التحرير: يوسف الخال/ المدير المسؤول: كمال الغريب. 

"يسود، بلا ريب، الرأي بأن الشعر، مهما كان في الماضي، ليس، اليوم، موضوع اهتمام رئيسي لجيل مضطرب بائس. الحقيقة، عندي، هي خلاف ذلك تماماً.

علاقة الشعر بالحياة هي العلاقة التي وصفها أرسطو ـ والتي عاد إليها وردسورث، ولو بشيئ من الفرق. أي أن الشعر وسيلة للمعرفة من نوع ما: فهي عند أرسطو وسيلة لكشف التآلف الذي تملكه الحياة في عالمه. بينما هي عند وردسورث أداة للإدراك الحدسي، في وسعها أن تحمل الحقيقة، لا الحقيقة الفردية والمحلية بل العامة والعاملة حيةً إلى القلب عن طريق الحماس العاطفي". الشعر يبقى، إلى أن يثبت البسيكولوجيون دعواهم، الأداة الوحيدة التي بها يستطيع الإنسان كفرد، كشخص، ككائن وحيد واثق ومضطر إلى الوثوق بما يجابهه هو بنفسه، أن يدرك اختباره فيعرف نفسه. الدين، للذين لهم دين، قد يكشف الأسباب فيما وراء الأسباب، وعلم الأخلاق والفلسفة قد تفرضان عمومياتهما، ولكن الشعر وحده يستطيع السماح للإنسان الفرد كإنسان بالدخول مباشرة إلى اختبار الحياة الفردي الحي.

إن صلب الأزمة المتغيرة الدائم عندنا إنما هي مشكلة الكائن الإنساني الفرد في عالم يزداد تقولباً. ففي زمن كهذا تزداد خطورة الشعر الحقيقية بحكم الضرورة. وهي تزداد، على الأقل، عند أولئك الذين يؤمنون ويأملون ببقاء مجتمع قائم على الحياة الفردية ـ أي على الحياة، لأن لا حياة سواها. وليس ما هو جوهري لبقاء مجتمع كهذا سوى الإدراك الدائم لصحة تلك العلاقة المباشرة الشخصية مع الحياة ومع الاختبار ـ حياة الإنسان واختباره الخاصين به ـ هذه العلاقة التي عليها تتوقف الفردية الحقة. وما لم تكن مدركات الإنسان خاصة به ومتصلة باختباره للحياة، فلن يستطيع أن تكون له حياة إلا عن طريق سواه. إنه لا يملك نفسه، بل لا نفس له.

فليس على أولئك الذين يمارسون فن الشعر في زمن كزمننا، كتابة الشعر "السياسي" أو محاولة حل مشاكل عصرهم بقصائدهم، بل عليهم ممارسة فنهم لأجل أغراض فنهم وبمستلزمات فنهم، مدركين أنه بواسطة فنهم لامست الحياة حياة البعض هنا في الماضي وقد تفعل ذلك أيضاً في المستقبل".

(أرشيبولد مكليش)
(شعر، شتاء 1957)
 

مجلة شعر

رئيس التحرير المسؤول: يوسف الخال.
سكرتير التحرير: أدونيس (علي أحمد سعيد).

إلى القارئ:
بهذا الجزء الرابع تختتم مجلة "شعر" سنتها الأولى، وهي أكثر إصراراً على المضي في تأدية رسالتها نحو الشعر العربي.

العراقيل التي صادفتها في الطريق لم توهن عزيمتها. منها منع دخولها إلى العراق، منذ صدورها، ومنع دخولها سورية، منذ الجزء الثالث. وكما عادت حكومة العراق عن هذا الإجراء بعد أن تحققت أن المجلة لا تتوخى إلا خدمة قضية الشعر وأن لا نزعة سياسية أو حزبية لها، هكذا نأمل أن تكون الحال مع الحكومة السورية.

ومنها أيضاً ضآلة النتاج الشعري والأدبي الرفيع، وطغيان التوجيه الحزبي والسياسي عليه. ولعل التيار الذي أسهمت في إطلاقه مجلة "شعر" كفيل يوماً بسدّ هذا العجز.

ومع ذلك، فالمجلة فخورة بنجاح قلما كان من نصيب المجلات العربية في مستهل حياتها. وهي في ذلك تُرجع الفضل إلى مناصريها وقرائها والمساهمين في تحريرها. من هؤلاء المناصرين وزارة التربية الوطنية اللبنانية، في عهد الدكتور شارل المالك، لمنحة تقدّمت بها، ووزارةُ الخارجية اللبنانية لتدخلها الحازم لدى المسؤولين في بغداد ودمشق، وجورج صيدح وشفيق معلوف ورجا بارودي وفضلو خولي للهبات المالية والمؤازرة المعنوية التي تكرموا بها، وإيلي مكرزل، صاحب أوتيل بلازا، لتبرعه بإحدى القاعات مكاناً لاجتماعات "خميس مجلة شعر" الأسبوعية، وكمال اسبر الغريب، لقبوله بأن يكون، خلال هذه السنة، المدير المسؤول.

وبهذا الصدد، لنا رجاء إلى مشتركينا: أن يسدد من لم يسدد منهم بدل اشتراكه في المجلة، وأن يسارعوا ـ إذا شاؤوا ـ إلى تجديد اشتراكهم بإملاء القسيمة الزرقاء المرفقة بهذا الجزء.

في المجلة وفي ندوتها الأسبوعية التي توالت اجتماعاتها طيلة العام الدراسي الماضي، والتي سنستأنفه في مطلع تشرين الثاني المقبل، حاولنا التشديد على أن الشعر تجربة شخصية كيانيّة فريدة، وأن التعبير عنها يجب أن يتم بتحرّر تام من تأثير القوالب التقليدية الموروثة والقواعد الموضوعة. فالأصل هو في التجربة لا في الشكل، مع العلم أن التجربة الجديدة تفرض التعبير الحي الجديد. وبالحي هنا نعني، قبل كل شيئ، التجاوب مع روح العصر من حيث التجربة، والتمشي مع تطور اللغة من حيث التعبير.

وعلى الرغم مما تعرضنا له من تهجّمات ذوي الاتجاهات الشعرية التقليدية، فإن إيماننا باتجاهنا يزداد رسوخاً. ونحن نعتقد بأن مستقبل الشعر العربي يسير في الطريق التي شقها هذا الاتجاه.

إلا أن المجلة، من حيث هي سجل دوري لحركة النتاج الشعري، تفتح صدرها لكل أنواع هذا النتاج. فمقياسها الأول والأخير، كما أصبح معروفاً، هو حيازة الأثر الشعري على المستوى الفني اللائق. وبهذا المقياس تنشر، أو تعتذر عن نشر، الآثار الشعرية التي ترد إليها.

نحن ندرك أن مهمتنا شاقة، وبخاصة في الظرف العصيب الذي تجتازه بلادنا. غير أننا جادون في حمل أعبائها، إيماناً منا بأن الشعر، عن طريق الحدس والرؤيا، مثول في حضرة الحقيقة. وفي هذا، كما لا يخفى، إسهام في حل مشاكلنا. ونحن نعترف بأن ما قمنا به حتى الآن قليل إذا ما قيس بما نحن على استعداد للقيام به: من نشر المجموعات الشعرية الموضوعة والمترجمة، وعقد المؤتمرات السنوية لشعراء العالم العربي، والسعي إلى إنشاء رابطة لهم تعزز مكانتهم وتوطد الصلات بينهم، وإعانة الشعراء النابهين على الدراسة أو الإقامة مدة في الخارج، ومنح الجوائز الشعرية، وما إلى ذلك مما يخدم قضية الشعر ويرفع مكانته.

إن استعدادنا هذا مشروط، إلى حدٍّ كبير، بما نلقاه في الأيام المقبلة من تشجيع القراء لنا واهتمام الحريصين منا على نهضة العقل والروح في ربوعنا.

هيئة التحرير (خريف 1957).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ "بالنسبة إلى.." ويغاط من يستعمل هذه العبارة بمعنى "زيادة على.." و "مضافاً إلى..".
(2) ـ نظم جماعة من الشعراء "ثمانينات" أي مقطعات مؤلفة من ثمانية أسطر وسموها "رباعيات" خطأ فالاصطلاح لا تتحكم فيه الأذواق.
(3) ـ هما قبيلتا الأوس والخزرج.