يتناول الناقد السوري هنا، في تمحيصه المستمر لبنية القصيدة الشعرية الحديثة واستراتيجياتها النصية، واحدة من تقنياتها المهمة وهي تقنية التراكم بالتفصيل، فيكشف عن مختلف جوانبها من تراكم الأنساق الوصفية إلى تراكم الأسماء والصور والرموز، ومدى فاعلية كل منها في بناء القصيدة وإرهاف وعي المتلقي بغاياتها.

فاعلية التراكم وشعريتها في بنية القصائد الحداثية

عـصام شـرتح

 

لا شك في أن ظاهرة [التراكم] من الظواهر الأسلوبية المهمة التي دخلت أتون التجارب الشعرية المعاصرة، سواء أكانت هذه التجارب تنضوي تحت ما يسمى بـ(قصيدة التفعيلة)، أم قصيدة العمود، أم قصيدة النثر الشعرية بدوافع إبداعية تفرضها طبيعة التجربة، ومتغيراتها الأسلوبية، ومستجداتها الرؤيوية. والملاحظ أن هذه التقنية قد لفتت عناية الكثير من الباحثين (العرب/ والأجانب)، نظراً إلى أثرها الفاعل في تعميق الموقف، وإثارة المتلقي، بما تملكه من قوة ضاغطة على (الموقف/ أو الرؤية) التي يريد المبدع إظهارها وتعميقها في آن، للتأثير بالمتلقي. وخير من التفت إلى هذه الظاهرة واحتفى بها في فحصه النقدي الباحث (مايكل ريفاتير) تحت مسماه النقدي الجديد (التمطيط)، إذ يقول:" يستتبع التمطيط أكثر من التكرار، فالضمائر تتحول إلى أسماء مثلاً، والأسماء إلى عبارات، والصفات إلى جمل صغرى متعلقة، وهلمجرا ... ويمكن كل عبارة تنتج هكذا أن تولد هي أيضاً عبارة أخرى بالإضافة والتضمين"(1).

وبمنظور ريفاتير: إن للتمطيط أثره في إخفاء الاعتباطية، وتحويل رتم الأنساق اللغوية إلى مجرى الحدث الوصفي، أو بؤرة الرؤية، ولهذا يرى ريفاتير أن" للتمطيط أثراً بعيد المدى على الخطاب الشعري يتمثل في أنه يحول أكثر الأشكال اللغوية تجريداً، ولاسيما الروابط النحوية إلى صور"(2). وبهذا المعنى يرى (ريفاتير) أن "التمطيط هو العامل الرئيس، وربما الوحيد الذي يعمل في الظاهر لإلغاء الاعتباطية في الحالة القصوى والنموذجية، التي هي حالة الدلائل التجريدية، وذلك لأنه يستبدل بهذه الرموز إيقونات أو صور أفكار، يبدو أنها تفسر أو تجيز العلاقات التي ترمز إليها، وهي تعيد كتابتها في شفرة الكلمات التي تربط فيما بينها"(3).

ووفق هذا التصور، فإن ريفاتير أدرك أن التمطيط ليس حدثاً اعتباطياً في ربط الأنساق في شفرات لغوية متتالية، وإنما هو إدراك لغوي لمستتبعات النسق، وما يتطلبه من حساسية، وتمثيل (صوتي/ دلالي) للموقف الشعري الذي هو يريد تمثيله، والضغط عليه بتتابع الأنساق والصيغ، عبر رتم العلاقات المتداخلة داخل الخطاب الشعري.

وكما لفتت هذه الظاهرة عناية (ريفاتير) لفتت كذلك عناية بعض الباحثين العرب، ومن ضمنهم تامر الغزي تحت مسماه النقدي (التطريس) ويقصد به: "أن يقوم الشاعر بغلق اللفظ على مدلول ضيق شائع، وفي أقصى الحالات الاكتفاء بالدلالات التقليدية للدال وعدم تحميله ترميزات جديدة، فيراكم هذه الملفوظات على دلالاتها، وفي هذا ضرب من تخييب انتظار القارئ الذي انتظر مدلولات جديدة - كما عوده النص، ولكنه انقلب خائباً، ولكنها الخيبة الممتعة"(4). ووفق هذا المنظور، خلص تامر الغزي إلى أن التطريس هو مراكمة الدوال اللفظية، بحدودها الشائعة دون تحميلها من الدلالات والإيحاءات ما تحمله في النسق الشعري، وهذا يشي بالتراكم اللفظي الذي يشي بحالة من التعضيد الصوتي للموقف الشعري دون انزياح في نسق المتراكمات إلى ما يشي بعمق الدلالة وفاعليتها.

أما ما نقصده بـ«التراكم»: فهو الآلية اللغوية الضاغطة على ذهنية المتلقي، إزاء حدث ما أو موقف شعوري محتدم يحاول الشاعر إبرازه، بحشد لغوي متتابع من الصيغ والأنساق اللغوية، بغية تمثيله للقارئ بكل ما يتطلبه الموقف من تأمل، وانشداه، وتركيز، وما ينضوي عليه الموقف من حرارة التجربة، وطزاجة العاطفة المحمومة التي يريد القارئ تمثيلها للقارئ. وقد برزت هذه الظاهرة- بوضوح- في نتاجات الكثير من شعراء الحداثة، وتعددت أشكالها، وطرائقها، تبعاٍ لمستويات إثارتها، وتحفيزها الجمالي، فقد تجلت عند شعراء الحداثة بعض هذه الأشكال، وقد آثرنا أن ندلل على أكثرها شيوعاً في نتاجاتهم الشعرية في الأشكال التالية:

  1. تراكم الأنساق الوصفية:
    ونقصد بـ«تراكم الأنساق الوصفية»: تراكم الصيغ السردية التي تقوم على الوصف، بغية إبراز الرؤية، وتعميق الموقف، بإيقاع فني يعتمد السرد أو القص أنموذجاً فنياً بالضغط على الموقف، وتمثيل التجربة. ومن الشعراء من احتفى- بهذه التقنية- لدرجة تغلف مسارات قصائدهم كلها، وتشكل منحاها الأسلوبي المتواتر؛ ويعد الشاعر محمد الماغوط من طليعة شعراء الحداثة البارزين الذين اعتمدوا تقنية التراكم مقوماً فنياً في الضغط على الموقف بكل طزاجته الشعورية، وتوتره المحموم، كما في قوله:

"إنني أرى كل شيء الأشرعة والرعدَ

القمرَ والريحَ والدماءَ

ونوافذ السجونِ المطفأة عند الغروب

أرى كل شيء إلا جديلتيك الحبيبتينْ

أود أن أهيمَ فوق جسدك الصغير

وأسحقه كالوردة

الفراشُ باردٌ مظلمٌ

ونهداكِ عصفورانِ من الجمر!!"(5).

إن أول ما يلحظه القارئ هذا التراكم في الأنساق اللغوية عبر حركة العطف، وتتابع الأنساق، بإحساس تعبيري ضاغط، لإبراز الموقف بحرارته العاطفية، وإحساسه المتدفق؛ وقد عمد الشاعر إلى هذه التقنية؛ لإبراز حرارة الصورة، وإيقاعها العاطفي النابض، كما في قوله: [الفراشُ باردٌ مظلم- ونهداك عصفوران من الجمر]؛ وعلى هذا النحو، بدا الخطاب الشعري مؤثراً باعتماده تقنية (التراكم) مقوماً فنياً في تعضيد الموقف، وشحنه بالتوتر والإيحاء.

وقد نجد عند أغلب شعراء الحداثة ولعاً في تكثيف الحالة الشعورية، باعتماد هذه التقنية، وأبرز ما ندلل على ذلك ، قصيدة (طريق البنات) لعز الدين المناصرة، إذ يطالعنا الشاعر بصيغ لغوية مكررة ، وأرتال جملية متراكمة، للتعبير عن التوق العاطفي، والاغتراب الوجودي/ الداخلي، على شاكلة قوله:

"احفروا لي هناك

قرب دير الملاك

حفرة... واملاؤها نبيذاً وتمراً وقاتْ

تحت دراقة، صوتها في العروقْ

وادفنوا جثتي في طريق البنات

قبل شمس الشروقْ...

..........

احفروا حفرةً للكلامْ

واغسلوها بسيلِ الدموعْ

فأنا إن صحوتُ أجوعْ

مدنٌ كالشوارع، لاتستطيع السكوتْ

رغم هذا وذاك تموت"(6).

قبل الخوض غمار المقطع الشعري السابق لاستجلاء موحياته ومؤثراته الأسلوبية، نشير إلى ناحية بغاية الأهمية فيما يخص مسألة (التراكم)، وهي أن التراكم تقنية فنية ذات حدين؛ فهي بقدر ما تعبر عن الزخم الشعوري، والاحتدام الباطني النفسي العميق بقدر ما تنأى بالقارئ أحياناً، إلى حيزات لغوية نمطية مكررة ترهق القارئ بالضغط على نسق لغوي معين، يكاد يمجه أو ينفره من جراء التوالي النمطي المتكرر للكثير من الأنساق، وبهذا، يفقد التراكم بريقه ويدني من شعرية القصيدة؛ بدلاً من إملاء أسهمها الشعرية، ولا ننسى أن شعرية الشاعر لا تتأسس على نمط لغوي محدد؛ أو رتم نسقي متواتر؛ فهي لا ترقى إلا بالتنوع، والتعدد والمباغتات النصية، سواء أكان ذلك على مستوى الصورة، أم على مستوى الإيقاع، أم على مستوى الدلالة، والأمثلة على ذلك كثيرة من نتاجات شعرائنا المعاصرين؛ إذ إن الكثير من الشعراء تطورت تجاربهم ، واختلفت في أسلوبها وطرائقها ومنحاها اللغوي، ولنا في محمود درويش، وأدونيس، وعلي الجندي، وشوقي بغدادي أسوة حسنة في التميز والتوهج الإبداعي.

وبالنظر- في المقتطف الشعري السابق- نلحظ أن الشاعر يراكم الصيغ الطلبية تنفيساً عن إحساساته الاغترابية الجريحة، التي تؤزه من الداخل؛ فالشاعر عبر تراكم الصيغ الطلبية يضغط على ذهنية القارئ، لتمثيل مشاعره المتصدعة الجريحة بصدى انكساري حزين، وإحساس اغترابي جارح، كما في الأفعال الطلبية التالية: [احفروا- ادفنوا- املأوا- اغسلوا]؛ وقد نجح الشاعر بالخروج من هذه التقنية محملاً بعبق الإثارة، والتكثيف الشعوري في الدلالة عن عمق حالته الاغترابية وإحساسه المأزوم.

وتأسيساً على هذا نؤكد أن تقنية التراكم تقنية فنية مؤثرة في تكثيف الرؤية الشعرية، وتعميق الموقف الشعوري إذا أحسن الشاعر ربطها بالرؤية النصية، مستجلياً لحظتها الشعورية الضاغطة، وإحساسها المتوتر؛ أي أن يكون التراكم موجهاً بعناية لتعزيز الموقف، وتحفيز الرؤيا، خاصة في السياقات العاطفية المحمومة التي تطغى فيها الحالة، وتوصيفها الشعوري، كما في المقطع الشعري التالي للشاعرة السورية نجاح إبراهيم:

هل كانت محضُ مصادفةٍ

أن تطيرَ رائحتُكَ

كي تحط ّعلى هُدبي

تسيل على رقبتي غواياتٍ

تُحيي العروقَ الزرقْ؟

تختبئ التماعةُ عَيني

في عروةِ قميصِ الحريرِ

وأزهارِ ربطةِ العنقْ؟

غريبَين ولجنا الحديقة

على المقعدِ الخشبيِّ

جلسنا

ضبابُ الصّباحِ ينشرُ

سرائرَه

يُريحني من كتابةٍ أضنتني

وأسفارٍ أرهقت حقائبك"(7).

هنا، إن درجة إثارة الأنساق الوصفية تتحقق من خلال جمالية الحالة الشعورية التي تحمل الكثير من المشاعر الدافقة بالحساسية والجمال؛ وهذا يدل أن تراكم الأنساق الوصفية ما جاء مجانياً أو سلبياُ، وإنما جاء مجسداً عمق الحالة وكثافة العاطفة ، كما في الأنساق التالية:[ العروق الزرق- المقعد الخشبي]، ناهيك عن الجمل الوصفية التي تحمل من الدلالات والإيحاءات ما يغني الدفقة الشعرية بالحساسية والجمال.

ومن الشعراء البارزين في تكثيف الأنساق الوصفية في السياقات العاطفية المحمومة: ياسين الأيوبي، إذ يقول:

" ارتشفيني قبلة ضوءٍ لديجور إحدى الحفافي المنفية

خلف أنفاقِ الشجنْ!!

من شفاهي تنعقدُ أزرارُ الوردِ، وتتكوَّر نهودُ الصبير والإجاص البريَ!!

من شفاهي ابتنى الطائرُ المغربيُّ حدودَ عالمه الليلي وموصول سهاده

على فنن الحياة الراغدة!!"(8).

هنا، إن درجة شعرية المقطع وصلت إلى أعلى ذروتها؛ لأن الشاعر فيها رسم صوره الغزلية رسماً دقيقاً موحياً عبر من خلالها عن شعريته في توظيف التراكم، بما يخدم الحالة الصوفية؛ ودليلنا أن تقنية التراكم جاءت فاعلة فنياً؛ بوصفها مولداً إيحائياً لعواطفه المتأججة، وصوره المبتكرة دلالة ورؤية، وهذا ما أكسب الصور بداعة في التشكيل عبر ما أصابته من مشاعر وإيحاءات عميقة، وتشكيلات مباغتة رغم التمطيط الذي أصاب الصور، والإطناب الذي رافقها في تمثيل الحالة، وتعميق صداها النفسي، ودفقها الروحي.

وبمنظورنا: إن مهارة الشاعر ومقدرته الفنية هي السر الخفي في الاستثمار الناجح لكل التقنيات في النص الشعري بما فيها تقنية (التراكم)؛ إذ إن هذه المقدرة تمكنه من الخروج بهذه التقنية من دائرة النمطية، والابتذال إلى دائرة الشعرية والتوهج الفني.

  1. تراكم الأسماء:
    إن من أبرز ما تثيره الشعرية الحداثية اليوم تراكم الأشياء والمسميات بروابط لغوية كالعطف، وأحياناً، بدون حروف عاطفة، رغبة في إبراز حدة الانفعال، أو كثافة الموقف، والحالة الشعورية، بلحظاتها المتوترة القصوى التي تصل إليها؛ والشاعر الحداثوي المتميز هو الشاعر القادر على أن يخرج من هذه المتراكمات، بفضاء شعري خصب لا يمطط أو يطنب، بشكل يرهق النص، ويثقل كاهله، وإيقاعه الداخلي؛ انظر إلى فاعلية التراكم بمؤثراته الجمالية الخصبة في المقطع الشعري التالي لسعدي يوسف:

"من غرفتي أسمع أصواتي تئن خلف الباب

زمجرةَ البحر، وهمس النورس الآتي

والصمتَ، والحانةَ، والخندق، والأنهارْ

والموتَ، والمنديلَ، والقمةْ

والثلج والهواءْ

والساحة الحمراءْ، والنخلَ، وأوليانوف، والعتمة

وخطوكِ الغامض، إذ ينبتُ في الأحزانْ غصناً من الأحلام،

أو حلماً من الأغصان"(9).

إن الشاعر، هنا، يعاني من الوحدة، والقلق، والتوتر في لحظة يخيم فيها السكون، وحالة من الضيق، والاختناق على صدره؛ فيحاول أن يفتح أصداء ذاته الداخلية الجريحة المتوترة على كل ما يحيط بها أملاً في الخروج من دائرة هذا الضيق، والوحشة، والاختناق؛ ولم يجد من وسيلة سوى تقنية التراكم: [مراكمة الأسماء والمتناقضات]، ليؤنس روحه، ويبدد أشباح الوحشة، والظلمة، والاختناق عن ذاته التي لازمته في كل لحظة من لحظات عزلته؛ وإن المدقق لسيرورة المتراكمات التالية: [زمجرة البحر- همس النورس الآتي- الصمت- الحانة- الخندق-والأنهار، والموت، والمنديل ، والقمة، والثلج والأهواء]؛ سرعان ما يدرك جوها الاصطراعي المتناقض، وتأزمها النفسي؛ ولهذا ؛ استطاع الشاعر- بمهارة فنية فائقة- أن يخرج من دائرة هذه المتراكمات مزهواً بها؛ منتصراً على ذاته في إخراج هذه التقنية من جو الرطانة، والثقل إلى جو الشفافية، والجمالية، والرشاقة الفنية؛ لدرجة زادت النص إشعاعاً وإيحاءً وجمالاً؛ وهذا ما يحسب للشاعر في نصه السابق.

وهذا يدلنا على أن تقنية(التراكم) تقنية فنية في مضمار القصيدة الحداثية عندما تكون محرضة للدلالات؛ ومكثفة للمعاني؛ وباعثة للإيقاع النفسي الشعوري الداخلي؛ وللتدليل على فاعلية التراكم نأخذ المقتطف الشعري للشاعرة السورية نجاح إبراهيم:

" بقداسةٍ ألجُ قيامتك

فالجسدُ الذي واروه الترابَ

لم يغبْ عنّي

والمرأة التي كنتِها

ما غادرتني

كالطائر البردان تلفني غرفتك

وغيبوبةُ بهائك

أصحو على عزفِ حضورك اللا يرحل مني

أبدأ برائحةِ العقيقِ

وأقمشةٍ امتصّت من شجن المسام

حدَّ الرّواء"(10(.

إن القارئ أول ما يلحظه شعرية التراكم في الأنساق الشعرية الاسمية، وهذا دليل ثبات الحالة الوجدانية ، والإحساس العاطفي من خلال شعرية الموقف الجمالي في تصوير الحالة العاطفية، بكل ألقها واستحواذها الشعوري لإحساس الذات الشاعرة؛ وهذا دليل أن التراكم يعد قيمة إيجابية فاعلة في تحريض الشعرية إن أحسن الشاعر في تكثيف المتراكمات في النسق العاطفي والسياق المحتدم، وكذلك يكون قيمة سلبية إن أدى إلى الرطانة في الألفاظ والمعاني، وهذا ما استطاعت الشاعرة أن تتجاوزه في نصها السابق.

وقد سبق أن أشرنا إلى أن تقنية التراكم قد تكون ضحلة في بعض النصوص الشعرية أو مقززة للشعرية لأن الشاعر قد يفشل في إخراج هذه المتراكمات من ثوبها النمطي المكرر، لدرجة تضعف شعرية القصيدة؛ وهذا قد نجده عند الكثير من الشعراء حتى الكبار منهم؛ وللتدليل على ذلك نأخذ المقطع الشعري للشاعر اللبناني جوزف حرب:

" حين دخلتُ الكرمْ؛ شاهدتُ العنقود

حين دخلتُ العنقود، شاهدتُ الكرامْ

حينَ دخلتُ الكرام شاهدتُ الخمار

حين دخلت الخمَّار شاهدتُ الكأسْ

حين دخلتُ الكأسْ شاهدتُ شعاعَ غروب الشمس"(11(.

إن المدقق في سيرورة الأنساق اللغوية السابقة يدرك نمطية التشكيل الشعري، إثر تكرار الصيغة المكثف: [حين دخلتُ ... شاهدت] مرات متتابعة؛ مما أفقد النسق الشعري حيويته رغم عنصر المباغتة والدهشة التي ولدها هذا الجناس الصوتي الثر:[ الكاس= غروب الشمس] في قفلة الختام؛وهذا دليل أن تقنية(التراكم) سواء أكان ذلك تراكم الصيغ، أم الأسماء قد تثقل كاهل النص لاسيما إذا جاءت نمطية مستعادة، وقد تحيي جماليته إن جاءت محركة للأنساق اللغوية، ومكثفة لرؤاها الشعرية؛ وهذا يتوقف على مدى مهارة الشاعر، وحنكته الفنية في تحريك النسق الشعري بما يثيره، ويخلق متعته ولذته الجمالية.

  1. تراكم الصور:
    من المعلوم للقارئ أن الصورة الشعرية تشكيل لغوي فني بارع للنسق الشعري ، مكثف الدلالات ، متنوع المعاني والإيحاءات؛ ولذلك، تعد الصورة النبض الإيحائي الشفاف، والحس الشعوري الدافق الذي يرقى بالنسق الشعري، ويرتقي به خاصة عندما تكون الصورة وليدة فيض من العواطف المحتشدة، والرؤى المتداخلة، ولذا كان الناقد محمد حسن عبد الله محقاً في قوله:" الصورة ليست أداة لتجسيد شعور أو فكر سابق عليها، بل هي الشعور والفكر ذاته لقد وجدا بها، ولم يوجدا من خلالها"(12(. ولذلك، ينظر الكثير من المبدعين إلى الصورة، بوصفها أساساً في بنية التشكيل الشعري المبدع، ولا غنى للشعر عن هذه البنية النصية المهمة في تكثيف شعرية القصيدة، وتلوين دلالاتها، وتكثيفها الدلالي، وبهذا الإحساس والإدراك المعرفي يقول الشاعر فؤاد كحل:" الصورة أساسية في بناء الشعر على أن تكون جزءاً من تكوين الصورة الكلية للقصيدة، والتي – بدورها- توحي بتصور شامل للحالة الإبداعية التي انبجست عنها القصيدة، وإلا فقد تكون أقرب للمجانية"(13(.

ولذلك، يعد تراكم الصور قيمة فنية وجمالية شريطة خصوبة المعاني التي ترفدها الصور بتلاحمها وترابطها على أن تكون مرتبطة بالصورة الكلية التي تنبني عليها القصيدة؛ وهذا يدلنا على أن قيمة هذه التقنية تتعلق بالصورة الشعرية ذاتها، ومدى ارتباطها مع نسقها الشعري الذي أفرزها، وتلاحمها مع بقية الصور الأخرى ضمن النسق، وبقدر ما تتلاحم الصور، وترتبط بنسق فني ائتلافي عجيب ترقى صور القصيدة، وتزدهي فنياً، وللتدليل على فاعلية هذه التقنية نورد المقتطف الشعري التالي

لمحمد وحيد علي:

"يفيقُ الصباحُ على واحةٍ من زهوركْ

وتهفو يداكِ إلى الضوءِ ولهانتين لكي تسكبا ومضةً من عبيرك

يداكِ، استراح الحمامُ الشجيُّ على أيكةٍ فيها

ومضى كاشفاً عن هديلِ البياض

وعن نخلةٍ في حنينك"(14(.

هنا، يطالعنا الشاعر- بمصفوفة متراكمة- من الصور الرومانسية المشتقة من حقل الطبيعة؛ وهذه الصور المتراكمة على الرغم من تتابعها وتواليها الضاغط لم تكن ثقيلة أو مرهقة في دلالاتها وإيقاعها المتتابع؛ وإنما على العكس تماماً حملت من الألق والشاعرية والجدة والابتكار ما جعلها تسير في نسق جمالي سلس يأسر المتلقي، ويجتذبه فنياً إلى حيثيات الصور، ونسقها المتتابع، مما جعلها شعرية نبضاً وإيحاءً، ودلالة، وهذا أكثر ما يلمسه القارئ في القفلة النصية التالية:

" فكيف أواري جبال الحنين يفيقُ في الروح نوارةً من هديلك؟!!

ومن يوقف القلبَ عن وثبةٍ في الفراغ ليهمس أنواره خلسةً في نخيلكْ؟!!

سلامٌ عليك...

سلامٌ على ومضةٍ من ضياءٍ تفتحُ أزهارَ ليلكْ"(15(.

إن هذه الأسئلة التحريضية التي تكتظ بالصور والدلالات والإيحاءات لتملك من الشعرية والحس الجمالي ما منح النسق خصوبته وجاذبيته الآسرة؛ وهذا يدلنا على أن تراكم الصور تقنية فنية مهمة إذا ما أحسن الشاعر تخريجها من دائرة النمطية والاستهلاك إلى دائرة الشعرية والإيحاء. ووفق هذا المنظور، فتراكم الصور لا يدلل على شعريته إلا إذا كان هذا التراكم وليد نفس مشبعة بالحساسية الجمالية والأحاسيس المحتدمة والرؤى الشاعرية الخصبة، كما في المقطع الشعري لعلي جعفر العلاق:

"نعاسنا ممطرٌ عشباً، ويقظتنا غمامتان

وأيدينا المصابيحُ، ندنو من النار

نفنى في تشممها حتى نُجّنُّ أحلماً كان؟!!

أم لغةٌ يفضي بها جسدٌ يغلي إلى جسدٍ

آه كم امتلأت أقداحنا فرحاً مراً

كم اشتعلت أصابعٌ ومرايا،

كم بكى جسدٌ من لذةٍ، وتشظى،

كم بكت روحٌ"(16).

هنا، كشف الشاعر في توليفه مجموعة الصور المتراكمة عن حسه الجمالي، وقدرته على تلوين النسق، عبر كثافة الأسئلة التصويرية المتتابعة؛ مما زاد من شعرية الصورة وعمق الإيحاء؛ فالشاعر- هنا- عبر عن توقه واحتراقه إلى الأنثى؛ وهذا التوق جسده عبر مراكمة الأسئلة التحريضية الجمالية من جهة، والصور البليغة المتراكمة من جهة ثانية؛ وهذا ما أضفى على الصور تكاملاً فنياً في البناء الشعري، مما يدلنا أن التراكم في الشعر العربي الحديث ظاهرة فنية إذا ما استطاع الشاعر أن يحقق من خلالها توازن الدلالات والصور بما يزيد من أثرها ودفقها الإيحائي، ولا تأتي فاعلية الصور المتراكمة إلا حين يصنع الشاعر فرادته في تشكيلها، بما يحقق نبضها وحساسيتها الجمالية. وبهذا المعنى يقول الناقد علي قاسم محمد الخرابشة: "في الشعر الحديث، فإن اللغة لا تصنع صورة؛ إذ أصبحت الصورة فيه مترابطة الأجزاء، بوحدة عضوية تنسجم مع توجهات الشاعر وآرائه، ورؤاه المعاصرة، بعد أن كانت تقوم على التقليد والتبعية، والبعد عن الابتكار، والإبداع، والخلق إلى جانب ما حققه الشاعر من توازن بين العناصر النفسية"(17).

وبتصورنا: إن اللغة لا تصنع الصورة، وإنما الإحساس هو الذي يصنفها ويوجهها؛ فتكون اللغة وسيلة، وليست غاية في حد ذاتها؛ والشاعر المبدع هو الذي يجعل الصورة طيعة لغوياً، ويجعل اللغة في الصورة ذات رشاقة، وشفافية جمالية عالية؛ومن هنا؛ فإن تراكم الصور لايتخذ قيمته المثلى إلا من انسجام الصور ذاتها وشفافيتها وفعاليتها اللغوية والإيحائية العالية، كما في المقطع الشعري التالي لياسين الأيوبي:

"لقياك واساني وأيقظني...

للفيء والنورِ

للشمسِ تغرفُ بين أسرابِ البخور

للجدول الرقراق يروي قصةَ العشقِ الطهورِ

شذاكِ يعبرُ مقلتيكِ ويختفي بين الثغور!!"(18).

هنا، إن رشاقة اللغة والحس الجمالي في تشكيلها جعل تراكم الصور مثيراً في النسق الشعري لإبراز جمالية الرؤية، وشفافية المنظور الشعري في ترسيمها فنياً؛ وهذا ما يحسب للشاعر في المقطع الشعري من حيث الإثارة، والرشاقة، والقيمة الفنية. وهذا دليل أن التراكم تقنية مهمة لا غنى عنها في تنغيم الصور، وإبراز دفقها الشعوري والجمالي في آن. وقد نلحظ أن التراكم في الصور يأتي بغاية الإثارة والشاعرية كما في المقتطف الشعري التالي للشاعرة نجاح إبراهيم:

"السيوفُ

عراةً نمشي في ليلِ

الضياع..

الغبارُ المرُّ

لا ينفكّ يجرحُ الحناجرَ

وسطوعَ المرايا

وأخي اللاهثُ خلفي

يغويه دمي

فيقصُّ أجنحةَ جسدي

يقدّ قميصي

من قبلٍ..

ومن دُبرِ

يقدّمني في يومهِ

لإلهٍ غيرِ إلهي

إنْ جاعَ يأكلهُ

إنْ زمجرَ يركلهُ

وإلهي صامتٌ

جامدٌ على فمي

في المدنِ الحزينةِ

الشجرُ يموتُ

ولا يصبحُ حطباً!

مقهوراً

لاوياً العنق

من الخجلِ

والشِعرُ يذوبُ:

ملحاً

في يدي

والحمامُ

يختبئُ في الثقوب

مذعوراً!

راثياً طوق الخُضرة في العنقِ

لا يدَ ترمي بالحنطة

في صَحنِ الجامعِ المكسور!

في مُدنِ القهر"(19).

إن القارئ يلحظ تراكم الصور الفنية المغري الذي يفجر الإيحاءات الشعرية؛ فالقصيدة تكشف عمق المخزون الرؤيوي الجمالي الذي تجسده الشاعرة من خلال مراكمة الصور المتتابعة التي تنم عن شفافية في الإيحاء والتكثيف والشاعرية؛ وهذا يدل على أن التراكم في الكثير من القصائد الحداثية يأتي شاعرياً مفجراً للشعرية، وكاشفاً عن محرقها الرؤيوي من جهة وبنيتها التركيبية الآسرة من جهة ثانية. وما ينبغي ملاحظته أن تراكم الصور- في بعض القصائد الحداثية- قد يأتي عاجزاً أو قاصراً عن تحقيق أية قيمة جمالية أو سحر إيحائي؛ نظراً إلى عجز الصورة ذاتها وعقمها في الدلالة، وللتدليل على ذلك نأخذ المقتطف الشعري التالي لسعد الدين كليب:

"أيهذا البهيُّ اشتملْ جسدي بالندى

أيهذا النديُّ احتلم بالرحيق

علَّ وقتاً حفياً بنا يستفيق

علَّ هذي الأزقةِ تلتمُّ صخابةً

ثم ينداحُ إزميلها في الطريقْ

علَّ مملكةً من سراخس تهوي

ويلتاثُ فردوسها في الحريق"(20).

إن القارئ الفطن لهذه الأسطر الشعرية لابد أن يدرك أن تراكم الصور دون روابط إسنادية فاعلة، أو خيوط دلالية كاشفة تصل فيما بينها؛ وهذا لا يدلل على عجز الشاعر فحسب، وإنما يدلل على توظيفه السطحي للصورة، وتشظي أبعادها ودلالاتها كذلك؛ ودليلنا أنه لا يوجد أية علاقة رابطة بين الصور، ولا يوجد تناغم فني جمالي آسر ينجم عن ائتلافها وتلاحمها من حيث الإيحاء، والشفافية، والعمق والقيمة الجمالية؛ وهذا ما جعل هذه التقنية عاجزة عن إبراز أية قيمة جمالية أو دلالية تعزز أثر الصورة وفاعليتها في المقتطف الشعري السابق.

وبتصورنا: إذا ما أراد أن يحلق في توظيفه لهذه التقنية لابد له من تفعيل الصور المتراكمة، وربط أواصر العلاقة فيما بينها وإلا سيؤدي تراكمها دوراً لا شعرياً فيها، أقلها تشتت الرؤية، وتشظي الدلالات، وأكثرها عقم الصور وضحالة مردودها الفني في النسق الشعري الذي يتضمنها؛ لأن مهمة الشاعر الرئيسة هي الخروج من دائرة التراكم بقيم تصويرية ودلالات شعرية مباغتة تستثير المتلقي؛ ولا فائدة- من منظورنا- لأية تقنية فنية أو قيمة جمالية لا تؤدي دورها في النص مرتبطة بإنتاج الدلالة ، وباعثة لها.

  1. تراكم الرموز:
    ونقصد بـ«تراكم الرموز»: التراكم الفني للرموز؛ بحيث تتفاعل الرموز فيما بينها في النسق الشعري الذي يحتويها؛ وهذا التفاعل هو الذي يمنح الرموز فاعليتها ضمن القصيدة؛ والحق- حسب خلود ترمانيني- "إن الشاعر يكتشف الرمز ولا يخلقه من عدم، فهو يفتح أبعاداً من ذاته، تماثل أبعاداً من الخارج؛ وعلى هذا يتوسط الرمز بين (الذات/ الداخل) و(الموضوع/ الخارج)، كما أنه حين تتم لحظة التلقي فإنها ترمز إلى ما في دخيلة المتلقي، لكي يمكنه أن يستكشف دلالات الرمز من خلال تجربته وإحساسه بما يحققه الرمز في اللحظة التي يتلاقى فيها الإبداع والتلقي. فإذا كان الرمز مغرقاً في ذاتيته فقد القدرة على التواصل مع القارئ؛ ومن هنا، ليس الرمز منطوق ذات مبدعة فحسب؛ بل هو منطوق النفس البشرية كلها. والرمز يتجاوز نفسه باستمرار؛ لأن المراد منه التعبير عن المشاعر الوجدانية التي تعكسها الظروف الاجتماعية، بل الحياة بكل مفارقاتها ورؤاها المستقبلية، وصولاً إلى الحقائق التي تدير الوجود. فالرمز ناتج من عمق الوعي والوجود. وهو يحتاج إلى ذائقة إبداعية تخرجه إلى النور"(21).

وبمنظورنا: إن فاعلية «تراكم الرموز» تتأتى من فاعلية تضافر الرموز والتحامها بالنسق؛ باختصار: إن فاعلية الرموز تتأتى من الرموز ذاتها، ومقدار التحامها، وتحريكها للنسق، وبقدر ما تتفاعل الرموز وتتضافر بقدر ما تحققه من إثارة وفنية داخل نسقها؛ وبهذا يقول أحمد محمد فتوح:"إن قيمة الرمز الأدبي ينبثق من داخله وتضاف إليه من الخارج"(22). وهذه القيمة تزداد فاعليتها عندما تتضافر الرموز في النسق، فيأتي تراكمها مشعاً في توليد الدلالات واحتدامها؛ مما ينمي حركة النص فنياً ودلالياً. وهذا ما يحسب لهذه التقنية إذا ما استثمرت بشكلها الفني الصحيح؛ وللتدليل على فاعلية هذا التراكم نأخذ المقطع الشعري لفايز خضور:

"إني بقية(سادوم)

أشهد كيف أبيدت مدائنُ" لوط"

وعامورةُ (البؤساء)

وأعرفُ كيف طغى الحقدُ

كيف تمادى وأحنى على (نينوى) مهرجانُ السيولْ!!

وأولولُ في ظامئات الحصى، يا فلول النجوم القصية

أسرعي أسرعي بالأفولْ

طائرُ الثلج ضمَّ جناحيه ينذر بالعاصفة"(23).

هنا، تبدو الرموز التالية: [ سادوم- مدائن لوط- عامورة البؤساء- نينوى] متفاعلة في نسيج اللغة الشعرية؛ للدلالة على الخراب النفسي والخواء الشعوري؛ وهاهنا، يستطيع المتلقي إدراك حيثيات هذا التفاعل ومثيراته في التنبيه والإنذار لهذا الخراب القادم والويلات المنتظرة من جراء قدوم العاصفة؛ فالشاعر على ما يبدو مدرك تماماً لقيمة التراكم في إبراز الحدث، وتعميق الحالة الشعورية؛ وهذا ما يكسب الرموز فاعليتها وحركتها التعبيرية ضمن النسق الشعري السابق.

وقد تنعكس ظاهرة تراكم الرموز سلباً على مجريات القصيدة، حين تنفصل الرموز عن بعضها، وتتشظى دلالاتها دون مرجعية دلالية أو رؤية تحفيزية مرهفة، وهذا ما نلحظه في المقطع الشعري التالي لسعدي يوسف:

"في اللحظة .. في هذي اللحظة..

في البغتة أسمع شمعاً يقطر في شمع

أسمعُ أشجاراً تقطرُ أشجاراً

أسمعُ ماءً يقطر أسماءً

أسمعُ سماءً تقطرُ ماءً

أسمعُ في الهدأةِ دمعاً يقطرُ

أسمعُ في الصمتِ دماً يقطرُ

أسمعُ بغدادَ تئنُّ

أسمعُ نبضي"(24).

إن رطانة التراكم وثقله على القارئ أضعف سيرورة الرموز، وأثقل كاهلها على المستوى الدلالي، فبدت القصيدة في استطالتها التركيبية على نسق واحد، أو منوال واحد، رطينة الإيقاع، ثقيلة في مدها اللغوي على وتيرة واحدة. ولهذا، بدت الرموز التالية: (الشموع= الأسى = الأشجار= الماء= الأسماء) ضحلة في السياق، عقيمة في الدلالة على الخصوبة، والعطاء، والتجدد، الذي أراد الشاعر إبرازه وتجسيده احتراماً وتقديساً ووفاءً لبغداد بالدم، وليس بالماء، أو الدموع. وهذا يدلنا أن تقنية التراكم إن لم تكن محركة للرموز، باعثة لسيرورتها الدلالية وحركتها الجمالية فإنها لا محالة ستنعكس سلباً على إيقاع القصيدة، وتودي بطاقتها الجمالية وخصوبتها الإيحائية.

وبمنظورنا: إن تراكم الرموز التاريخية خاصة في الشعر العراقي له أثره ووقعه الفني، إذا ما استطاع الشاعر أن يجعل الشخصية بؤرة النسيج الشعري، والمقوم الدلالي الأبرز في تحريكها فنياً وجمالياً؛ ولذلك، فإن تراكم الرموز التاريخية يشي بطاقة فنية في بعض النصوص الحداثية في العراق. تأكيداً على ولعهم بالرموز التاريخية والأسطورية واحتفائهم بها؛ وللتدليل على ذلك نأخذ المقطع الشعري التالي لبدر شاكر السياب:

"الليلُ يطبقُ مرة ً أخرى، فتشربه المدينة

والعابرون إلى القرارة .. مثل أغنيةٍ حزينهْ

وتفتحتْ، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق

كعيونِ" ميدوزا" تحجر كل قلبٍ بالضغينهْ

وكأنها نذرٌ تبشر أهل بابل بالحريقْ

من هؤلاء العابرون؟!!

أحفادُ أوديب الضرير، ووارثوه المبصرون

"جوكست" أرملةٌ كأمس، وباب" طيبة" ما يزال

يلقي "أبو الهول" الرهيب عليه، من رغب ظلال

والموتُ يلهثُ في سؤال"(25)

بادئ ذي بدء، نشير إلى المغالطة الكبرى في فهم فاعلية الرموز التاريخية من خلال ما أوردته الناقدة خلود ترمانيني في تعليقها على النص السابق بقولها: "تتحرر الرموز السابقة (ميدوزا- بابل- أوديب- جوكست- طيبة- أبو الهول) من نسيج اللغة الشعرية؛ مما يدفع بالمتلقي إلى إعمال ذهنه، والعودة إلى دلالات كل رمز للوقوف على أبعاده الدلالية المتفاعلة مع النشاط الانفعالي للشاعر؛ وهذا ما أساء إلى إيقاع الصورة؛ لأنه حرمه من التأثير الوجداني وفاعليته في التعبير عن المضمون الشعري؛ نظراً لاحتياج القارئ إلى التوقف والتأمل؛ مما يؤخر استمرار القارئ نفسياً مع المسار التصويري في النص"(26).

إن ما أشارت إليه الباحثة في تعليقها ينطوي على غبن حقيقي لفاعلية الرموز التاريخية وتفاعلها في النص؛ ولو دققت الباحثة أكثر في مدى تفاعل الرموز التاريخية مع إيقاع القصيدة صوتياً ودلالياً، لما خلصت إلى هذا الحكم الجائر على شعرية القصيدة؛ فالشاعر لم يستحضر الرمز بقصد المباهاة أو المماحكة المعرفية؛ وإنما استطاع أن يدخله في نسيج التركيب، بلغة تصويرية شديدة الإيحاء والتأثير. انظر إلى فاعلية هذه الصورة ومدى تفاعل الرمز فيها مع النسق الذي تموضع فيه: "كعيون" ميدوزا" تحجر كل قلب بالضغينه"؛ إذ جاءت الصورة الرمزية متلائمة فنياً مع ما سبقها من تركيب [وتفتحت كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق]؛ وكذلك جاءت متلائمة مع ما لحقها من تركيب؛ لتكون صلة الوصل بين الأنساق: [وكأنها نذرٌ تبشر أهل بابل بالحريق]؛ ناهيك عن الحس الجمالي والبعد الإيحائي لهذه الرموز في نسقها، خاصة في قوله: [يلقي أبو الهول الرهيب عليه، من رغب ظلال/ والموت يلهث في سؤال"؛ فالشاعر حرك الرمز التاريخي بهذه الصورة الختامية، دلالة على حالة الضيق والاختناق التي يعانيها؛ فيستحضر الرموز ويكثف أحاسيسه، وينقل رؤاه من خلال تلاحم الرموز التاريخية المستحضرة وتفاعلها في النسق.

وهذا دليل أن تقنية تراكم الرموز من التقنيات المهمة التي تحرك الرؤيا الشعرية، لاسيما عندما تدخل في تشكيل بنية الصورة، مكثفة من طاقتها الإيحائية وفاعليتها التعبيرية؛ فالصورة الرمزية بتراكمها ضمن النسق بإيحاءات جديدة، تولد إيقاعات جمالية تزيد من فاعلية الصورة من جهة، ودرجة إيحاء الرمز من جهة ثانية؛ وهذا ما يضمن للنسق شعريته وتوالده الدلالي على الدوام.

  1. تراكم الأسئلة:
    الشعر بحث واكتشاف وتساؤل؛ والشعر الذي لا يحرض الأسئلة ولا يولدها لاشك في أنه سيبقى بعيداً عن خلية الإبداع؛ ودائرة المعرفة الإبداعية الحقيقية، وبهذا المقترب يقول حميد سعيد:"إن أي نشاط فكري لابد أن يصدر عن أسئلة حتى حين يكون في حالة بحث عن إجابات، وإن النص الإبداعي الذي لا يثير أسئلة، لن يترك أثراً ثقافياً عميقاً حتى حين يقابل بالإعجاب، والنص الاستثنائي يستدعي قارئاً استثنائياً، حيث يلتقيان ليس في التلقي السلبي، وإنما في الحوار، بل في الحوار الصعب المتكافئ الذي لا يستسلم فيه المتلقي للمتلقي؛ وإن مثل هذا القارئ؛ ومثل هذه القراءة تضيف للنص بعيداً عن آهات الإعجاب"(27).

وبهذا التصور، يرى الكثير من المبدعين أن الإبداع اكتشاف وتساؤلات محتدمة في باطن الذات؛ والشعر هو الصدى الارتدادي لهذه التساؤلات المحمومة في قرارة الذات لحظة تمثلها الحالة الشعورية بكل توفزاتها الداخلية، وتوترها الشعوري، ووفق هذا الإدراك المعرفي يقول الشاعر نزيه أبو عفش:" إن الشعر تساؤلات .. والشاعر مجموعة تساؤلات. والتجربة الإبداعية ما هي إلا سلسلة تساؤلات وكم هائل من التساؤلات. من لا يتساءل لا يعرف ولا يدرك شيئاً. ولا بحاجة أصلاً إلى المعرفة.. ومن لا يملك المعرفة لا يملك الحياة وإني أرى في الأسئلة الحياة؛ لأنها تحفزني للمعرفة"(28).

وتأسيساً على ما سبق، نشير إلى أن تقنية «تراكم الأسئلة»- من المحفزات الجمالية التي تسهم في كسر رتابة السرد، وتحريك النسق، وتكثيف الدلالات، وتوليد المعاني، خاصة في القصائد التي تنبني في حركتها التصويرية على تراكم الأسئلة في النسق الشعري الواحد، كما في المقطع الشعري التالي لعلي جعفر العلاق:

"ها إنها ترحلُ الآن

أية قيثارةٍ كُسِرتْ فجأة، فتناثر في الكون حبرُ الغناء؟

ترحلُ الآن: تحملُ جمرةَ حنائها، وتفتتها وردةً وردةُ في العراءْ

أخذتْ معها صولجانَ الأنوثة

لا فضةَ الفجرِ دافئةُ

لا المساءْ

آه، ماذا تركتِ إذن لقصائدنا طللاً بالياً

أم بقايا

ن س اءْ ؟"(29).

هنا ، يأتي تراكم الأسئلة محرضاً إبداعياً في كشف خصوبة الصورة، وإبراز ملمحها الغزلي المثير؛ فالشاعر يرسم الصورة رسماً بإيقاع تقفوي منسجم، ووقع الحالة الشعورية ونبضها الداخلي؛ لتبدو- بغاية المباغتة، والمداهمة الفنية الخصبة؛ خاصة عندما ترك الشاعر الأسئلة مفتوحة في مدها التأملي، وبعدها الإيحائي عبر التشظي البصري لكلمة (ن س ا ء)؛ مما عمق من وقع الكلمة الشعرية وأثرها بصرياً كما في لفظة (بقايا) التي تدلل على الفراغ الذي خلفته المحبوبة برحيلها؛ وهذا التراكم أضفى على الصور والأسئلة حركة جمالية في رسم الذبذبات الشعورية والإحساس الداخلي الذي يعانيه الشاعر إثر رحيل المحبوبة والفراغ الذي خلفته.

وقد سبق أن خلصنا إلى نتيجة سابقة مؤداها: "تتمفصل الكثير من النصوص الشعرية في لغة الحداثة عموماً على بلاغة الأسئلة، وتراكم مدلولاتها النصية؛ خاصة تلكم الأسئلة التي تهدف إلى التخييل والتفعيل والتأمل، والاستكشاف، والاستغراق؛ ولعل ولع شعراء الحداثة بهذه التقنية دليل أكيد على تشعب مدلولاتها النصية، وأبعادها النفسية، بما تدل عليه من تشظٍّ وانكسار وارتكاس وتأمل واستغراق ، وتعرية، ومكاشفة؛ نظراً إلى ما تتضمنه صيغة السؤال من مدلولات نفسية عميقة تعانيها الذات الشاعرة في قلقها الوجودي، وإحساسها بالتوتر والضياع والتشتت في عالم مسكون بالمتغيرات والمفاجآت الدائمة والارتكاسات النفسية المتتابعة"(30).

ووفق هذا المنظور فقد يلجأ الشاعر إلى مراكمة الأسئلة التجريدية التي تزيد تجربته غربة وانفتاحاً تأويلياً واسعاً، كما في المقطع الشعري التالي لأدونيس:

"ماذا يفعل، إن كانت المرأةُ العاشقةُ محيطاً. وكانت اللغةُ بيت المحيط؟!!

ماذا يفعلُ إن كانت كلُّ نجمةٍ في معجم أيامه امرأةً؟!

النورُ عريٌ وكلُّ غطاءٍ عماء

في النورِ، في الجنس، يشعر أنه مولودٌ قبل الأبجدية

وأنت أيتها السماءُ، لماذا لا يفرحُ لسانك إلا بالموت؟!!"(31).

هنا، إن تراكم الأسئلة في المقطع الشعري السابق لم يحقق وظيفته الجمالية بقدر ما حققه انفتاحه الدلالي؛ بتشظي الدلالات، وتباعد مؤثراتها، وتشعب موحياتها الفنية؛ فكل سؤال ينطوي على رؤية، وكل رؤية تنطوي على رؤى متداخلة؛ متوالدة لا تكاد تتضح أو تبين؛ وهذا الأسلوب في مراكمة الأسئلة هو أسلوب تجريدي، يعتمده الشاعر من خلال مراكمة الأسئلة التجريدية اللامتوقعة، لتغريب التجربة والرؤية في آن معاً. وتبعاً لهذا "يعد التجريد بتراكم الأسئلة من أكثر أنواع التجريد غموضاً وتشظياً وتبعثراً في الرؤى والمداليل الشعرية؛ إذ إن الشاعر بمراكمة الأسئلة يضع المتلقي في حقل مصطخب من المداليل والرؤى الشعرية المبتكرة والمتوالدة باستمرار مع كل سؤال مطروح تنتجه القصيدة، مما يجعل المتلقي في حالة تحفز دائمة لاستقبال المزيد من المداليل الشعرية، والرؤى المصطرعة أو المفتوحة التي تتركها مصفوفة الأسئلة المتتابعة في تراكمها المستمر إلى نهاية الدفقة الشعرية"(32).

نخلص أخيراً بعد هذه الدراسة إلى النتائج التالية:
1 - إن تقنية التراكم- عند شعراء الحداثة- تقنية فنية تؤدي دوراً مهماً في تحفيز النصوص الشعرية، إذا ما استطاع الشاعر الخروج بها من دائرة النمطية والاستهلاك إلى دائرة الشعرية والإيحاء؛ وهذا يتطلب مهارة في خلق النسق الشعري المغاير، ضمن ما أسميناه (التراكم)؛ فالشاعر الحاذق يستطيع أن يخرج من دائرة التراكم بخاصية إبداعية جديدة تستثير الحساسية الشعرية، واللذة الشعورية لدى المتلقي عبر النسق التصويري البارع والصورة المبتكرة.

2 - إن التراكم- عند شعراء الحداثة- قد يكون خاصية ممجوجة، تنعكس سلبياً على النص إذا كان ثمة تنافر في الدلالة، أو تناقض في دلالة المتراكمات؛ وهذا يؤثر على الرؤية الفنية للقصيدة، ويضعف من خصوبتها الجمالية والإيحائية.

3 - إن التراكم- عند شعراء الحداثة- على مستوى الصور تحديداً- خاصية جمالية تستثير الموقف الشعري، وتعزز فاعلية الصورة الرمزية إذا ما أدرك الشاعر مراميها وأبعادها الفنية ووظفها بما يخدم الرؤية الشعرية، أما إذا لم يدرك القارئ أبعادها الفنية ومثيراتها فقد تولد فجوة واسعة بينه، وبين النص، مما ينعكس سلباً على درجة تلقيه وتأويله فنياً؛وهذا ما يجعل بعض النصوص الإبداعية- رغم إجادتها الفنية- في عزلة وبمنأى عن النقد والتلقي الناجع الفعال.

الحواشي:

  1. ريفاتير، مايكل، 1997- دلائليات الشعر، تر: محمد معتصم، مطبعة النجاح، المغرب، ط1، ص79.
  2. المرجع نفسه، ص86.
  3. المرجع نفسه، ص87.
  4. الغزي، تامر، 2001- المباشر والتجاوز(نص التيمات)، مجلة كتابات معاصرة، ع43، ص134-135.
  5. الماغوط، محمد –الآثار الكاملة، دار العودة ، بيروت، ص201-202.
  6. المناصرة، عز الدين، 2006- الأعمال الشعرية، ج1/ ص383-384.
  7. 0إبراهيم، نجاح، 2017- أغنية للبلشون الحزين، دار كيوان ، دمشق، ص43.
  8. الأيوبي، ياسين، 1983- قصائد للزمن المهاجر، ص101.
  9. يوسف، سعدي، 1979- الأعمال الشعرية، ص427.
  10. إبراهيم، نجاح، 2017- أغنية للبلشون الحزين، ص103.
  11. حرب، جوزف، 2007- في رخام الماء، دار رياض الريس للكتب، بيروت، ص409-411.
  12. عبد الله، محمد حسن، 1981- البناء الشعري، دار المعارف، مصر، ص33.
  13. شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية(ملف حوار فؤاد كحل) ، ص177.
  14. علي، محمد وحيد، 2008- ضياء الحالم، ص39-40.
  15. المصدر نفسه، ص40-41.
  16. العلاق، علي جعفر، 2011- سيد الوحشتين، ص29-30.
  17. الخرابشة، علي قاسم محمد، 2007- مفهوم الشعر والصورة الشعرية عند مصطفى وهبي التل"عرار"، مجلة تشرين للدراسات والبحوث العلمية، مج 29، ع2، ص166.
  18. الأيوبي ، ياسين، 1983- قصائد للزمن المهاجر، ص34.
  19. إبراهيم، نجاح، 2007- أغنية للبلشون الحزين، ص39-41.
  20. كليب، سعد الدين، 1993-وأشهد هاك اعترافي، ص8-9.
  21. ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص282.
  22. فتوح، أحمد محمد، 1978- الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، دار المعارف، القاهرة، ط2، ص37.
  23. خضور، فايز، 2003- الديوان، ص294.
  24. يوسف، سعدي، 1979- الأعمال الشعرية، ص53.
  25. السياب، بدر شاكر 1989- الديوان، دار العودة، بيروت، مج1/ ص509-511.
  26. ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص284.
  27. شرتح، عصام، 2011- مسارات الإبداع الشعري(دراسة نصية في شعر حميد سعيد)دار الينابيع ، دمشق، ص245-246.
  28. شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ملف حوار نزيه أبو عفش، ص156.
  29. العلاق، علي جعفر، 2006-سيد الوحشتين، ص47-48.
  30. شرتح، عصام، 2012- شعرية المواربة والاختلاف، دار الأمل الجديدة ، دمشق، ط1، ص61.أدونيس، 2008-اهدأ هاملت تنشق جنون أوفيليا، دار الساقي، بيروت، ص61.
  31. شرتح، عصام، 2012- شعرية المواربة والاختلاف، ص26.
  32. البريكي، فاطمة، 2006- مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، ص50.د