مقدمة:
لم أكن أنوي أن أكتب هذه المقدمة ولكن استوقفتني كلمات لأحد المفكرين من بني وطني - ولا داعي لذكر اسمه - يقول ما معناه فيها: إن أهل جميع الأديان ينظرون لمخالفيهم في العقيدة على أنهم مساكين يجب إنقاذهم. ولا أعرف في الحقيقة ماذا كان هدف هذا الكاتب من قوله، ولكنني أرفض أن ينظر لي أحدهم على أنني مسكين بسبب تفكيري أو معتقدي الديني، ولماذا أكون مسكينا فيما يتعلق بديانتي؟ إما أن أكون على صواب بيّن أو على خطأ بيّن، ولكن أن أكون مسكينا فلا أرضى، ولديّ عقل أعتقد أنني قادر على استخدامه، والتمييز بين الصواب والخطأ بواسطته.
فليكن الناس إذن إما على صواب أو على خطأ فيما يعتقدون ويدينون، ولكل حقه في أن يكون ما يريد، ولكن أن يكونوا إما على صواب أو مساكين فلا أوافق عليه، ذلك أن نظرة الإشفاق تلك نحو هؤلاء (المساكين) ستدفع بالبعض من ذوي الحمية الدينية إلى أن يسعوا إلى اقناع واجتذاب من يقدرون عليه من (المساكين) رغبة في إنقاذهم، وفي حالة الرفض ستكون العواقب حينها مما لا يرجى حدوثه، فكثير من الناس للأسف مذهبهم في التفكير في أمور العقيدة والدين هو أنك إما أن تكون معتنقا لنفس وجهة نظري، أو أن تكون عدوا لي، والأصوب في رأيي أن يعرض كل منا ما لديه من أفكار بصدق ووضوح على الناس، وبعد ذلك فلهم مطلق الحرية في الاختيار، دون أجبار أو ترهيب.
إذن فالمعين الأساسي في الاختيار لتلك القضية الشائكة هو العقل ثم العقل، والتفكير الهادئ هو خير سبيل للوصول بالعقل للأهداف التي ترجى منه، فلا يمكن لأحد منا أن يكون الانفعال أو العاطفة هما الغالبان عليه، ويدعي أن نتائج تفكيره في قضية ما عقلانية ومحايدة. وإنني وإن كنت أقر بصعوبة تجنيب أو تحييد ما نشأ عليه الإنسان منذ صغره، وصولا إلى تفكير محايد مستقل تماما، فإنه في الوقت ذاته ليس من المستحيل الوصول إلى درجات مرضية من الحياد في التفكير. وخاصة عندما نضع الأفكار مكتوبة على الأوراق أمامنا، والقارئ الهادئ المتمعن سيتمكن من التفرقة بين الرأي المتحيز والرأي الذي يسعى وراء الفكرة الحقيقية المحايدة الصادقة.
ثم إنني لا أدّعي أنني من أهل الاختصاص الفلسفي المدروس، ولا أسعى لأن أكون منهم، وهم الذين سبقوا إلى فكرة البحث الذاتي العميق المجرد عن التحيز، فيما يتعلق بالدين والعقيدة. فما أنا إلا إنسان واحد يحاول أن يصل بأفكاره إلى الحقيقة قدر استطاعته، والدافع وراء هذا السعي هو رغبتي في أن أحيا أيامي في هذه الدنيا على بينة من أمري، دون أن استظل بشجرة الشكوك التي تحيل الحياة إلى جحيم حقيقي، فلا يجد الإنسان راحة ولا يذوق للاطمئنان طعما. ولا أن أنعم بجنة زائفة من الوهم يفيق المرء بعدها وقد وجد أن أيام العمر قد ذهبت بلا طائل يذكر، وأرجو بعد هذا كله أن أفيد غيري ممن سيقرأون ما سأكتبه بما سأتوصل إليه من نتائج، عساها تفيدهم ويتوصلون بها إلى ما يرضي عقولهم ثم ضمائرهم.
ومن المهم أن أكرر قبل أن أشرع في عرض ما لدي من أفكار على أن الاقتناع برأي ما لا يعني بأي صورة من الصور مناصبة من يعتنق رأيا مخالفا العداء أو الكراهية أو الازدراء؛ وذلك لسبب بسيط، وهو أن الإنسان إذا عادى وكره كل من يخالفه، في رأي من الآراء فليكن على ثقة من أنه لن يجد إنسانا واحدا في هذا الكون ليعايشه ويتعامل معه. فلا تظنن أن ابناءك أو إخوانك أو أقرب الناس إليك يحملون آراء تتطابق معك في جميع المسائل التي في حياتنا. فذلك مما يستحيل وجوده. والأسلم للفرد والمجتمع في هذه الحالة من الاختلاف في الرأي أن يعرف رأيه ويوقن بأنه على صواب ثم يثبت عليه، ويعرف رأي غيره ويتركه وشأنه طالما أن الأمر لم يتعد كونه رأيا إلى الاعتداء أو التسفيه، ومن أراد أن يمارس فرض رأيه على جميع من حوله، فهذا شأنه الخاص، ولكنني أشك في أن تتواجد لدى أي إنسان القدرة أو الوقت الكافيين للنجاح في هذه المهمة شبه المستحيلة.
ونهاية أقول لكل من سيقرأ كلماتي، هذه الكلمات لا أستطيع أن اعتبرها إلا بحث مختصر على قدر علمي واستطاعتي، وليست موسوعة عريضة واسعة تلم بجميع جوانب موضوعنا الذي نحن بصدد مناقشة جوانبه، فهو في رأيي أكبر وأخطر من أن يلم به كتاب واحد بين دفتيه، ولكنها خطوة على الطريق.
العقيدة:
ما هو مفهوم العقيدة؟ لن يكون هذا البحث مجالا للغويات، فلست من أهل هذا الاختصاص الدقيق، واللغويات تحتاج حتما إلى متخصص للحديث بشأنها، ولكن ما سأتحدث عنه هنا هو مدى إدراكي وتصوري لمفهوم العقيدة، فهذا ما أملكه وحدي وأمتلك الحق في أن أتحدث عنه. أرى أن العقيدة، أية عقيدة، ما هي إلا وجهة نظر أو رأي الشخص منا نحو قضية ما، وهذا الرأي يجب أن يكون راسخا مستقرا في ذهنه وتفكيره، ولا يكون من الآراء العابرة التي تتغير مع تغير الوقت والأحداث، وإلا كان مجرد رأي كغيره من الآراء التي لا ترقى لكي نعبر عنها كعقيدة لدى الفرد.
وفي الشأن الديني، فالعقيدة في رأيي هي ما يعتقده المرء، نحو ما يتعلق بوجود قوة عليا تحكم هذا الكون أو عدم وجودها، وما يتعلق بالحياة والموت، والتصديق بوجود غيبيات لا تدرك بالحواس البشرية أو بالآلات التي صنعتها اليد البشرية أو عدم التصديق بوجودها، مما يترتب عليه كله تكوين وجهة نظر واضحة لدى الإنسان نحو الحياة وكنهها ومنشأها، والمآل الذي ستنتهي إليه المخلوقات، وتنعكس بالتالي على تصرفات الإنسان وأخلاقه وعلاقته بغيره من البشر.
وقد اختلف الناس منذ آلاف السنين في قضية الاعتقاد الديني اختلافا بيّنا، فظهرت ديانات ومذاهب وأفكار ومعتقدات، بقي بعضها، واندثر الكثير منها، وتم تغيير الكثير منها وتبديله إلى صور لم تكن هي المتواجدة إبان نشأة المذاهب والأديان الأصلية، بل إن داخل الديانات التي قدر لها الاستمرار والبقاء، قد ظهر الاختلاف واضحا جليا بين معتنقيها، فتعددت الآراء والاتجاهات والتفسيرات، وتطور هذا التعدد إلى الاختلاف، وكالعادة في كثير من الحالات فقد تطور الاختلاف إلى الصراع، والصراع إلى الاقتتال، وهذه طبيعة البشر على مر العصور قديما وحديثا، ولم ينج من هذا الصراع دين من الأديان حسبما أعلم، ويكفينا كمثال الصراع الكنسي الرهيب الذي دار في أوروبا إبّان عصور النهضة، وانشقاق مارتن لوثر عن الكاثوليكية وإنشاء الكنيسة البروتستانتية. والصراع السني الشيعي لدى المسلمين المستمر حتى الآن، والخلاف القائم بين طوائف اليهود والصهاينة، وأظن أن التوسع في بحث هذا الجانب سيبتعد بنا عن هدفنا الأصلي في هذا البحث.
والطبيعة الانسانية السوية في رأيي تقتضي أن يبحث الانسان عن الحقيقة الواضحة في الأمور كلها، والأمر العقائدي والديني من أهمها، فإما أن تكون متبعا لعقيدة أو دين تثق به وتثق برسوخ قواعده وتعيش تبعا لمبادئه وأفكاره، وإلا فالأفضل لك أن تعيش كما يعيش الكثير من الناس في عالمنا هذا، وهم من يسمون باللادينيين أو الملاحدة، والذين أعتقد أن كثيرا منهم ما لجأوا إلى هذا السبيل من رفض الأديان ونكرانها، إلا بعدما رأوا في ما يحيط بهم من معتقدات ما لا يرضي بحثهم عن الحقيقة، إما لتقصير منهم في جدية البحث، أو لأنهم لم يوفقوا في رحلة حياتهم لملاقاة من يرشدهم إلى الطريق الصحيح.
وهذه القاعدة، أعني قاعدة البحث عن الحقيقة المجردة، تنطبق على مناحي الحياة جميعها صغيرها وكبيرها، فتولية ظهرك للحقيقة رغبة في العيش في عالم وهمي تفترضه أنت أو افترضه غيرك من قبل، وتعمية البصر عن إدراك حقيقة الأمور، لن تفيدك بل في الواقع ستضرك، لأن الحقيقة والواقع سيسودان ويتحكمان في مجريات الأمور، شئت ذلك أم أبيت، اليوم أو غدا، ولن ينفع الانسان منّا حينها أنه كان مصرّا على العيش في وهم، أو تحت ظلال شجرة وارفة من التخيلات التي لا تؤدي إلى شيء.
وعندما قلت سابقا إن الأفضل للإنسان منا أن يتبع دينا يثق به وبمبادئه، بعد إعمال عقل وتفكير أو أن يتخذ سبيل اللادينيين، فإنما أقول هذا لأن أغلب الديانات (العقلانية) تحض أتباعها على كبح جماح رغباتهم ومتطلباتهم، وبذل الخير لغيرهم، وتحمل المشاق والصعاب التي تمتلئ بها الحياة، فإن لم يكن ذلك عن اقتناع واضح وراسخ، بأنني أفعل ذلك اتباعا لمذهب سليم، وطلبا لأجر أثق في منحه ومانحه لي، ورغبة في الوصول إلى مآل أتمناه وأرضى به، فماذا سأجني حينها سوى تحمل المشاق والصعاب والحرمان؟ لذا فقد لزم التوضيح.
إذن فالعقيدة السليمة تتطلب لاعتناقها وجود فكر وعقل سليمين، يضعان نصب عينيهما قواعد واضحة لا لبس فيها، تلك القواعد ترشد الانسان الباحث عن الحقائق الواحدة تلو الأخرى وصولا إلى الغاية المنشودة، وهي التوجه إلى خالق هذا الكون الذي يستحق العبادة، بالعبادة التي يرضاها هو، شكلية كانت أم خفية، أو بكلتيهما معا، حتى ينال الإنسان ما يتمناه من خير جزاء لتلك العبادات المتنوعة.
قد يعترض البعض على خوض تلك المسألة من الأساس، ويتساءل عن سبب اعتبار وجود خالق ما، هو من المسلمات التي تقتضي أن نبحث عن صفاته وقدرته، ثم بعدها نبحث عن الطريقة التي ترشد إلى الدين الحق، الذي يدلنا إلى الطريقة التي نعبد بها ذلك الإله، ولماذا لا نفترض عدم وجود ذلك الخالق من الأساس، فتنهدم القضية من أساسها ونوفر على أنفسنا عناء هذا الطريق الطويل؟ أقول إن قضية بحث وجود الخالق قد قتلت بحثا من قبل، وليست هي الهدف الأساسي من بحثنا هنا، لكن في عجالة أسوق ما لدي من رد فأقول: إن الناس قد انقسموا تجاه تلك القضية إلى قسمين كبيرين:
أولا: المؤمنون بوجود خالق عظيم كبير: ولكنهم اختلفوا في أسمائه وصفاته، ووحدانيته المطلقة أو المنقوصة، وقد اختلفوا كذلك في أسلوب التعبد له، لكنهم اتفقوا جميعا على حقيقة أن الكون لم يخلق نفسه بنفسه، وأن الطبيعة أو ما شابهها من مسميات أطلقت على الكيانات التي هي دون الخالق، الذي هو مغاير تماما لمخلوقاته، أي ليس من كائنات هذا الكون، هذه الكيانات لم تخلق الكون، فضلا عن أن توجد نفسها بنفسها.
ثانيا : اللادينيون أو الملاحدة: وهم الذين يرون أن الطبيعة والمصادفة هما مانحتا كل شيء حياته ونظامه، وأن المصادفة هي واضعة القوانين ومنظمتها، وأن التطور أمر بديهي تدريجي، وإن استغرق مئات الملايين من السنين، وأدى إلى ظهور مخلوقات بعيدة كل البعد في صفاتها عن المخلوقات الأولية التي نشأت منها، تؤازرهم في اتجاههم هذا بعض النظريات العلمية، التي راجت وانتشرت في نهايات عصر النهضة الأوروبية، ولا تزال تجد صدى إلى يومنا هذا، كالنشوء والارتقاء وغيرها.
ومن سنبدأ مناقشة أفكارهم هم الطائفة الثانية، ويكفي للرد عليهم في اعتقادي هو أن ندعوهم لتطبيق قواعد السببية على كل ما نراه بأعيننا من مظاهر الكون ومخلوقاته. وأعني بهذا أن الإنسان العاقل ذو التفكير السليم، لا يمكنه إذا رأى أي شيء أمامه من مصنوع أو آلة أو ما شابه، بسيطا كان أم معقدا، إلا أن يتوقع أن له منشئ ما أو صانع ما هو الذي صنعه. فلن أتوقع أبدا أن هاتفي المحمول قد صنع نفسه بنفسه، أو أنه وجد بدون صانع، فهذا مستحيل. وحتى منكري الديانات أنفسهم لا يملكون الإقرار بمثل هذا، لأنه ببساطة ضد العقل والمنطق البسيط، ولكن الخلاف الذي يدب بين أتباع نظرية وجود الخالق، ومنكري وجوده، يظهر حين نرجع ببحثنا كثيرا نحو الوراء، أعني بداية الخلق الأولى، ونشأة الكون وظهور الحياة على كوكب الأرض، وظهور الإنسان العاقل على ظهر الأرض، كأرقى المخلوقات التي جابت ظهر هذا الكوكب حتى الآن.
ولكن الذي لا أتفهمه حقيقة، هو سبب عدم تطبيق المبدأ الذي اتبعناه مع الهاتف المحمول عندما ندرس حالة نشأة الحياة والمخلوق الأول من كل نوع من الأنواع، أعتقد أن سبب الرفض هنا هو أن الرجوع لمنشأ الحياة الأول. وظهور الحياة سيقودنا إلى نقطة مفادها أن هناك قوة عليا قادرة، قد أوجدت هذا الكون بمخلوقاته المتنوعة وتداخلاته المعقدة. وحتى إن سلمنا بصحة بعض نظريات التطور علميا، فالبحث سيقودنا إلى أن هناك قوة ما، ذات قدرة عليا قد أوجدت المخلوق الأول الذي بدأت منه سلسلة التطور. ويكون التطور هنا مجرد وصف لعملية قد حدثت، وليس تفسيرا لسبب وجودها.
لكن المشكلة أن الشركة التي صنعت الهاتف المحمول نعرفها، ونعرف أسماء العاملين بها، ويمكننا أن نتعرف على مراحل عملها في تصنيع الجهاز ونراها بأعيننا، لكن الأمر ليس ذاته عندما نتحدث عن خلق الكون المعقد المتداخل هذا، فلن نتمكن من رؤية واختبار واستكشاف من صنعه، مهما بذلنا من جهد أو استخدمنا من آلات متطورة، والسبب بسيط، وهو أن المقارنة بين تعقيد أية آلة أو بناء أو منتج ملموس أو افتراضي من ناحية، وبين مخلوق حي واحد معقد كالإنسان، مع تداخل أجهزته الحيوية، وتقلب مشاعره وأفكاره وقدراته المتنوعة، هي مقارنة غير منطقية.
أعني أن المخلوقات بأنواعها منذ نشأة الكون وحتى نهايته التي لا نعرف كنهها جميعا، والكواكب والأجرام مجتمعة، ما علمنا منهم جميعها، وما خفي علينا علمه، هذه المخلوقات الهائلة لابد وأن لها موجد هائل عظيم على مثل قدرها ويزيد. فالمعلوم أن الموجد أعلم وأعلى قدرة مما أوجد. إذ أنه يعلم مزايا ما أوجد ومواطن عيوبه، ويعلم ما يفيده وما يضره أكثر من الموجود نفسه، ومن هنا يتضح احتياج الموجود لمن أوجده، ولكن عقول اللادينيين تأبي أن تقبل هذا، وترفض أن تقر بوجود ما لا تراه، أو تستشعره بحواسها المادية، على الرغم من أن التفكير والاكتشافات العلميين قد أوضحا لنا أن هناك الكثير والكثير مما يحيط بنا، ولكننا لا نراه ولا نستطيع ان نخضعه لحواسنا البشرية على الرغم من تأثيراته التي لا يمكننا انكارها.
فهل رأي أحدهم الهواء الذي لا حياة لنا بدونه أو لمس بيديه الموجات الكهرومغناطيسية التي تنتج عما حولنا من أجهزة صنعناه بأيدينا، ونعرف تأثيرها الجيد والسيء دون أن نراها، ولكننا اكتشفنا وجودها عن طريق الاحساس بتأثيراتها، ولم نكن من قبل نملك الأجهزة التي تمكننا من اكتشاف تلك التأثيرات، وكان البشر ينكرون وجودها من قبل، ولكن عندما تقدم العلم لم يعد هناك مجال لإنكارها، فمن باب أولى أن نطبق نفس المبدأ على الكون، الذي نشأ قبل وجودنا بأزمنة طويلة، فليس معنى أنه لم تكن هناك أجهزة تسجل ما حدث منذ مليارات السنين، عندما نشأ الكون أن ننكر أي نظرية تفترض وجود خالق للكون، طالما أن أجهزة مادية ما لم تسجل ذلك الحدث وتحفظ لنا خطواته. وكذلك أرى أن العقل وملكاته الواسعة هي السبيل الأمثل للتفكير في هذا الأمر المتسع الحدود، أعنى أمر الخلق وبداية الحياة، والماديون أنفسهم يعترفون أن كل التقدم العلمي الذي شهدته البشرية كان منشؤه الخيال الانساني الخلاّق، فمن الخيال العلمي نشأت الابتكارات والاختراعات، فلماذا نوسع المجال أمام العقل في ميدان التصنيع والانتاج ونضيّقه في مجال البحث عن نشأة الحياة والكائنات. إذن وتجنبا للإطالة في هذا الباب، فإن النقاط الأساسية فيه هي:
أولا: لكل سبب مسبب، كما أن لكل موجود موجد.
ثانيا: ليس كل ما لانراه أو نلمسه ليس موجودا.
ثالثا: كلما تعقّد المصنوع دل ذلك على مهارة الصانع وقدراته الفائقة.
رابعا: أقوى المصنوعات هي تلك التي يصنعها أفضل الصناع، وهي التي تدوم وتبقى لأطول الفترات الممكنة.
فليطبق كل منا ما سبق من نقاط أثناء تفكيره في موضوع وجود خالق من عدمه، وليتبع بحيادية تامة ما يهديه إليه تفكيره.
وسنناقش الآن مسألة الطائفة الأولى: وهم اتباع الأديان المختلفة والمذاهب المتعددة، وهذه الأديان في ذاتها قد انقسمت إلى ديانات سماوية وأخرى وضعية والخطوة الأولى في هذه المناقشة أن نوضح الفرق بين الديانات السماوية والوضعية، فالديانات السماوية هي الديانات التي يقول أتباعها أن معتقداتهم وطقوسهم قد استمدوها من وحي إلهي علوي، أرسله الخالق العظيم إلى أهل الأرض بوسيلة ما، ويعتقد أتباع كل دين أنهم أهل الحق وحدهم، وأن ما غير ما يعتقدونه هو الباطل بعينه، ولا يستثني بعضهم من هذه القاعدة إلا بعض الأشخاص الذين فرضت عليهم الفترة الزمنية، أو المسافة المكانية أن يكونوا بعيدين عن وصول تأثيرات تلك الديانات السماوية إليهم، فحينها يمكن أن يتم استثناء هؤلاء الأفراد من قاعدة الحق والباطل المطلقين التي ذكرناها، والديانات السماوية الكبيرة التي عرفتها الإنسانية والتي استمرت حتى الآن ولها أتباع سنجد أنهم جميعا يشتركون تقريبا في هذه الصفات الأساسية، وإن اختلفوا فيما بينها اختلافات أساسية أيضا وتفصيلية كثيرة لا حصر لها، أدت إلى صراعات مدمرة وحروب دامية، تزخر كتب التاريخ قديما وحديثا بذكرها، ويرويها كل طرف حسبما يحلو له، ويصوره على أنه معسكر الحق وحده.
أما الديانات الوضعية، فهي ديانات أو بالأحرى تعاليم ووصايا وضعها أشخاص اتسموا بحبهم للخير والتآلف بين البشر (أو بين طائفة منهم على الأقل)، وضعوا لذلك تعاليم مكتوبة أو غير مكتوبة، نبعت من ذواتهم ومن تجاربهم أو استقوها من تجارب غيرهم، وقد تلاحظ أن تلك التعاليم في بعض الأحيان تتلاقى أو تتشابه مع الديانات الأخرى السماوية أو الوضعية في نقاط قد تقل أو تكثر، وقد يكون مرجع هذا في رأيي إلى أن أية ديانة، سماوية كانت أو وضعية من المفترض بها أن تؤدي إلى خير البشرية جمعاء (أو تجلب الخير لاتباع هذه الديانة على الأقل)، وفي الغالب أن الوصول إلى هذه الأهداف المتقاربة سيستلزم اتباع طرق متشابهة، أو قد يكون مرجع هذا التقارب بين الديانات السماوية والوضعية في التعاليم، أن أصحاب الديانات الوضعية قد استقوا جزءا من تعاليمهم ووصاياهم من بقايا الوحي القديم لأصحاب الديانات السماوية، التي ابتعد بها الزمن أو المكان.
وليس هذا بالأمر الغريب فمن المحقق والمعلوم أن التأثير المتبادل بين الديانات والأفكار يحدث لا محالة، وهذه طبيعة البشر، ويحدث هذا التأثير حتى في أوقات الحروب بين الأعداء المتناحرين بدرجات تتفاوت تبعا للظرفين الزمني والمكاني القائمين، ولكن مؤسسي الديانات الوضعية قد أضفوا صبغتهم الخاصة على هذه البقايا الباقية من الوحي السماوي لأديان قديمة اندثرت، عن قصد أو بدونه، فخرجت إلينا ديانات جديدة رضي بها بعض الناس واعتنقوها وبذلوا لأجلها الغالي والرخيص، بل والدم أحيانا.
أوجه حديثي لجميع من ستقع تلك الصفحات بأيديهم، من يعتنق منهم دينا ومن لا يفعل فأقول: لنضع قواعد واضحة لبحثنا هذا، حتى لا تضيع الحقيقة من بين أيدينا ويضيع جهدنا هباء، وهذه القواعد هي:
أولا: البشر جميعا متساوون في الأصل والخلقة، لا يتميز جنس من الأجناس البشرية على الآخر بلون أو لغة أو ثروة أو منطقة جغرافية يشغلها، وأي تفاضل شهده عالمنا سابقا أو سيشهده في المستقبل بناء على تلك الأسس التي ذكرناها هو من وضع البشر ولمصالح ذاتية أرادوها، فلووا عنق الحقيقة من أجل فرضها
ثانيا : الرغبة في الوصول إلى الحقيقة المطلقة المجردة من أية شائبة للتحيز أو لتغليب العاطفة أيا كان نوعها هي غاية كل عاقل، وتنطبق تلك الرغبة في معرفة الحقيقة في أمور الدين والعقيدة كما تنطبق في حالة أمور الدنيا والحياة.
ثالثا: على جميع البشر أن يتقبلوا اختلاف غيرهم عنهم في المعتقد، طالما أن هذا المعتقد المختلف لم يؤدِ إلى اعتداء طائفة على أخرى، أو سلبها حقا من حقوقها المشروعة، فحينها يكون للمعتدَى عليه الحق المشروع في استعادة حقوقه المسلوبة، بكل ما أوتي من قوة، وبكل ما يتاح له من وسائل
رابعا: على من يرغب في الاستفادة من هذا البحث أن يعلم أن كاتبه مجرد بشر يصيب ويخطئ، ومن جانبي سأحاول عند كتابتي للسطور القادمة أن أنتزع نفسي من جميع تأثيرات معتقدي الشخصي، الذي نشأت عليه وتربيت تبعا لقواعده، فكما سبق أن ذكرت، فإن الوصول إلى الحقيقة هدف غال يستحق العناء، حتى تكون الحياة عن بينة ويقين، ولا يقضي الإنسان أيام عمره دون طائل يذكر من ورائها.
من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟
سؤالين ليسا باليسيرين حقا، وأشعر بالخوف إضافة إلى الصعوبة عند التفكير في جواب للسؤال الثاني بالتحديد. هل هي الطبيعة التي أوجدتنا؟ هل هي الخلية الأولى التي نشأت في قاع البحر، وتطورت شيئا فشيئا على مر ملايين وملايين السنين، مرورا بمخلوقات ترتقي شيئا فشيئا حتى تصل إلى الكائن العاقل المسمى بالإنسان، مرورا بكل تلك التركيبات الحيوية المعقدة التي تشهدها حياتنا منذ ظهرت على وجه الأرض؟
وإن كانت نظرية الخلية هذه حقيقية، فمن أين جاءت تلك الخلية؟ ومن أين جاء ماء المحيط أو البحر الذي نشأت تلك الخلية في قاعه، وهل الأمر ذاته ينطبق على الجبال والصخور ومعادنها، والنباتات والأشجار؟ فمن أين جاءت هي الأخرى؟ أسئلة تلو أخرى تحتاج إلى إجابات شافية مقنعة ترضي عقلا بشريا يعيش في عصر يموج بالمعرفة والعقلانية. إن التركيبات الكيميائية والروابط الفيزيائية المتواجدة داخل أبسط صور الحياة تركيبا وهي الخلية الحية، لهي شيء على مستوى صعب المنال من التعقيد، حتى أننا في عصرنا الحالي، وبعد أن تمكنا من التحكم في العديد من أنشطة تلك الخلايا وتوجيهها إلى النشاط الذي نريده، فإن الاحتياج إلى الهيكل الأساسي، الجدار الخلوي، والعضيات المتواجدة داخل الجسد الخلوي، لا غنى عنها في هذا العمل المستحدث من تحكم وتوجيه للخلايا والأنسجة.
إذن فالإجابة الشافية عن مصدر الخلية الأولى لم نصل إليها بعد، فلنبحث إذن في الصدفة والاحتمالية ونتائجهما المتوقعة:
أولا : فإن فكرة الصدفة وعواملها ونتائجها متواجدة بلا جدال، وأعني بالصدفة هنا العمل أو التفاعل غير المرتبة خطواته أو غير المقصود، وهو ما نراه في أمور شتى من مناحي حياتنا، لكنه وبلا جدال أيضا فإن نتائج الصدفة هذه في الغالب تكون عشوائية أو غير مرتبة، فضلا عن أن تكون منظمة أو منسقة أو عاقلة ذات مقدرة على تأدية وظائف متداخلة منتظمة، أو قادرة على أن تكرر أداء مهام متتالية بالترتيب والشكل نفسه الذي تمتاز به الكائنات العاقلة، بل وبعض الكائنات غير العاقلة أحيانا.
ثانيا: فيما يتعلق بالاحتمالية، فإننا لن نخوض فيما خاض فيه الكثيرون من قبل لإثبات أن الفرص الاحتمالية لنشوء صور الحياة التي نعرفها بطريق الصدفة تحتاج إلى مساحات من الفراغ أكبر من أن يسعها كوننا المعروف لحدوث تلك التفاعلات اللازمة لذلك، فضلا عن ان المدة الزمنية اللازمة لحدوث تلك التفاعلات (التصادفية) لتواجد جميع صور الحياة والجمادات بالكون أطول من العمر المعروف للكون نفسه، فضلا عن ضعف النسب الاحتمالية لحدوث تلك التكوينات الحية وغير الحية بالكون بالشكل المنظم المتداخل الذي نعرفه، وعدم خوضنا في تلك النقطة بالتفصيل مرجعه إلى أن هذه الحسابات المعقدة لها علماؤها المتمكنون من إثباتها بعلوم رياضية معقدة، لكن المطلوب هنا أن يعمل الفرد منا عقله، في هذه التساؤلات ليصل إلى إجابة ترضي الإنسان العاقل، الذي يرغب في الحقيقة المجردة هدفا خالصا له.
هل يلزم وجود تدخل عاقل لتوجد نتائج مرتبة ومنظمة؟ أعتقد أن في حياتنا منذ ظهور الإنسان وما نعرف من حضارات تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، فإننا لم نشهد نهضة علمية أو أدبية أو فنية نالت من الإعجاب الإنساني ولو نزرا يسيرا إلا وكانت لها مقدمات واضحة من العمل البشري، والذي كلما ارتقى بارتقاء العقل والتفكير البشري وجدنا انعكاس ذلك واضحا على الناتج الحضاري لأي أمة من الأمم.
بل إن المتأمل في الممالك الحيوانية والنباتية باختلاف رتبها يشهد وجود التفاعلات المتبادلة بين المؤثر والمتأثر جلية واضحة، والحديث نفسه ينطبق على أصغر صور الحياة التي نعرفها حتى الآن، مثل الحياة البكتيرية التي لا تراقب سوي بالمجاهر أو الفيروسية التي لا تراقب إلا بالمجاهر الالكترونية. إذن فحياتنا بأسرها ما هي إلا مجموعة من التأثيرات والتأثرات المتبادلة بين مكوناتها وأفرادها، ولا ينكر أحد منا أن الحياة الشخصية التي يحياها الفرد الواحد خاضعة لتأثيرات داخلية وخارجية لا حصر لها، ويكفينا أن نمعن التفكير لبعض الوقت حتى يكتشف كل منا أن هناك عوامل شتى تؤثر فيه، وكيانات شتى يؤثر فيها، وذلك حتى يتضح لنا معنى التأثير والتأثر المتبادل الذي سبقت إشارتنا إليه.
نصل من هذا إلى أن التداخل والتأثير المتبادل هم حقائق من الصعب إنكارها، والنتائج المعقدة المنتظمة تحتاج إلى تدخل عاقل منذ البدء لإيجادها، فما هو العقل إذن؟ دون الخوض في متاهات من التفكير لن تصل بنا إلى شيء واضح في النهاية، لنحصر المسائل المتعلقة بالعقل في نقاط معينة، أظننا جميعا متوافقون عليها:
أولا: لا يسمى عاقلا من لا يملك القدرة على اتخاذ قرار ما في أمر من الأمور دون أن يرتبط هذا بمقدرة ذلك الكائن على تنفيذه، فاتخاذ القرار شيء وتنفيذه شيء آخر، قد تمنعه عوامل شتى لا دخل للكائن بها.
ثانيا: لا يسمى عاقلا من لا يعي ويتفهم الحد الأدنى من المؤثرات المحيطة به، ويعرف أيها مفيد له وأيها ضار.
ثالثا: الكائن العاقل له القدرة على تنظيم الأشياء (أيا كان نوع هذه الأشياء) في شكل متراكب متفاوت في درجة التعقيد تبعا لدرجة رقيه العقلي، وتبنى المراحل اللاحقة في تكوين هذا الشكل على المراحل السابقة بدقة وانتظام يتفاوتان هما الآخران تبعا لتفاوت درجة رقيه العقلي وإمكاناته المادية.
إذن فالعقل أو التدخل العاقل له سمات معينة تميزه، ولكن: هل الظواهر الكونية المنظورة بالعين المجردة، أو المتوصل إليها بوسائل البحث المادي الملموس، أو عن طريق التفكير والاستنتاج توحي بوجود تلك القوة العاقلة التي أوجدت هذه الظواهر الكونية؟ وتكون لتلك القوة العاقلة المواصفات التي أسلفناها، أم أن البحث يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بغير ذلك؟
إن النظر للظواهر الكونية، الكبيرة منها التي على مستوى الأفلاك والكواكب والمجرات، والصغيرة منها على مستوى الكائنات المتنوعة كالحيوانات والنباتات، والمتناهية الصغر منها كالخلايا والبكتيريا والفيروسات (ودون الحاجة للنظر العميق المتخصص) تجعلني أميل شخصيا إلى وجود قوة عاقلة من وراء تلك الظواهر المتعددة، فالتنوع الكبير الذي نراه، والقوانين المحكمة التي اكتشف العلم قديما وحديثا أنها هي المسيطرة على مجريات الأمور، فيما يتعلق بجميع المخلوقات (مع وجود بعض الاختلالات التي لن أنكر وجودها بالطبع) يوحيان بأن هناك تدبير عاقل، منظم ومحكم من وراء تلك الظواهر والمخلوقات المتنوعة، ولا يوحيان بعكس ذلك.
وهنا يظهر سؤال آخر ملحّ: هل الكوارث الطبيعية والزلازل والأمراض والنوازل المختلفة هي الأخرى صور لنظام عاقل، نظام مدمر هذا أم تدمير منظم؟ وماذا عن تلك (الاختلالات) في القوانين والقواعد السرمدية التي عرفتها النظم الكونية على اختلاف مستوياتها؟ الإجابة عن هذا السؤال ستكون بتساؤلات أخرى سأطرحها لنفكر فيها، وأظنها الطريقة الوحيدة للتفكير والوصول للنتائج، ونحن نبحث تلك الجزئيات، فلا أظنني أملك الإجابة القاطعة وحدى.
- هل عندما ننشئ تجمعات بشرية مكدسة فوق أرض عرفنا وتأكدنا من عدم ثباتها ونشاطها، ثم تحدث الزلازل والبراكين المدمرة في تلك المناطق فتنهار تلك البنايات الضعيفة على رؤوس سكانها، يكون الخطأ منا نحن أم من القوانين الأرضية الطبيعية الثابتة منذ مئات الملايين من السنين؟
- هل عندما نلّوّث الماء والهواء والتربة، ونخلّ بالتوازنات الطبيعية الضاربة في القدم، ثم تظهر لنا الأمراض الجديدة التي لم نكن نعرفها من قبل، أو تنشط أمراض كانت نادرة خاملة فيما سبق، أنكون حينها ضحايا أم جناة؟
- هل عندما تتفاقم النوائب المالية والكوارث الاقتصادية بسبب الجشع الانساني والحروب والاحتكار والفساد والأطماع، فيحقد بنو الإنسان على بعضهم البعض ويقتتلون فيما بينهم، فتزداد تلك الأزمات المالية والاجتماعية تفاقما، تكون القوانين الكونية جانية أم بريئة؟
- والموت الذي نكرهه ونخشاه جميعا، ولا نرغب بالتفكير فيه ولو للحظة واحدة، مع علمنا الوثيق بقدومه لنا جميعا لا محالة، هل الموت هذا هو حتما عقاب لنا؟
- وإن كان عقابا، فمن الذي يعاقبنا؟ أهي الطبيعة؟ هل هي ذات عقل لتعاقب وتكرم؟ هل هي القوانين الكونية؟ ومن الذي وضعها؟ وإن لم يكن عقابا فمن الذي فرضه على جميع المخلوقات؟ أهي الطبيعة ثانية؟ ونحن نعلم أن الطبيعة، كلمة الطبيعة بحد ذاتها بكل ما تعنيه من كائنات حية وجامدة، كبيرة وصغيرة ما هي إلا ذرات، انظر إلى أي شيء في هذا الكون بما فيه أنت نفسك، لن تجد إلا ذرات وطاقة، والذرات ذاتها تتشكل في تلك التركيبات المعقدة المتداخلة بفعل الطاقة، أي أن الطاقة هي الحياة، فمن أين جاءت الطاقة التي تملك فعل كل هذا؟ وما هو أو من هو المؤثر الذي وجه تلك الطاقة التي تملك فعل كل هذا؟ وما هو أو من هو المؤثر الذي وجه تلك الطاقة كي تشكل ذرات الكون في تلك التركيبات المعقدة؟ هل بعد هذا كله يمكننا ان نصف الطبيعة بالعقل؟
الجواب متروك للقارئ!
إذن فالموت والنوازل ليسا بالضرورة عقابا لأحد، وهذا شيء حسن، ولكنه يضعنا أمام سؤال آخر: ما هي القواعد الحاكمة للموت والحياة، والسلامة والمرض؟ وهل لهما قواعد من الأساس أم أن الأمر عبثي فوضوي؟ لنضع أنفسنا أمام الحقائق كما اتفقنا منذ بداية بحثنا. لنضع القواعد:
اولا: الموت هو الوجه الآخر لعملة الحياة، لا حياة أبدية على أرض تضاف إليها يوميا ملايين الحيوات لجميع المخلوقات، وإن استمرت حياة جميع المخلوقات منذ بدأت الحياة في الظهور على سطح الأرض، فإنها كانت ستنتهي منذ أزمنة بعيدة، نتيجة لعدم وجود المساحة الكافية للحياة، ولعدم وجود موارد الحياة الضرورية التي تكفي الجميع.
ثانيا: بشاعة الطريقة التي يموت بها الإنسان، أي إنسان ترجع في أغلب الأحيان للبصمة والتأثير الانسانيين اللذين وضعتهما البشرية على مظاهر الحياة الطبيعية المتوازنة التي كانت قائمة قبل أن يطأ الإنسان هذه الأرض بأزمنة بعيدة.
ثالثا: لم توجد عبر التاريخ الأرضي قوة غير بشرية قطعت الرؤوس، أو بترت الأطراف أو صلبت البشر وسحقتهم على آلات التعذيب، ولم نعرف مخلوقا غير الإنسان قام بتفجير القنابل وأطلاق الصواريخ وتشويه الأجنة بالإشعاع الذري.
رابعا: لا يمكن لأحدنا أن يقف بوجه السيل المدمر، أو تدفق الحمم البركانية المنصهرة ثم يلقى حتفه فيقول بعدها إنه لم أكن يتوقع الموت من هذا السبيل أو بهذه الطريقة. فإذا سلمنا بأن ما ندعوه الطبيعة لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون عاقلا مؤثرا بالشكل والكيفية اللتان نعرفهما عن الكائن العاقل، وسبق أن أوضحنا بعض جوانبه وصفاته الأساسية، تلك الطبيعة لا يمكن أن تكون هي الموجدة أو الخالقة لنفسها. فضلا عن أن توجد أو تخلق غيرها من تلك المشاهد والمخلوقات، فمن هو العاقل القادر، ذو التدبير المحكم الذي نرى قدراته الفائقة في مختلف ظواهر الحياة من حولنا؟ هل هو متواجد حقا؟ ولا أقول موجود، فالموجود أوجده غيره، ولكن من نتحدث عنه هنا هو من أوجد ما سواه ولم يوجده أحد، المقدر الدقيق للأمور والقوانين والتي لا تجري عليه المقادير. فماذا إذن عن اختلالات القواعد الكونية، بعيدا عن الظواهر الضخمة كالبراكين والسيول، ماذا عن الأمراض مثلا؟
أرى أن المرض هو شيء له ناحيتان، أحدهما مشرقة أو مفيدة (نوعا ما) والأخرى كريهة، فلن أنكر أن المرض عندما يبتلى به أحد البشر، وكلنا ذلك الشخص، فهناك العديد من إخوانك من بني البشر يستفيدون من وراء مرضك هذا، أقول هذا وأنا أعلم جيدا معنى المرض وما يرتبط به من خوف وقلق وألم، وذلك بحكم حياتي ومهنتي، قد يظن البعض أن ما أقوله عديم الرحمة، لكن فكروا معي جيدا في تلك الألوف المؤلفة التي جعلتهم أقدارهم باحثون وأطباء أو ممرضين أو منتجي أدوية (وبالمناسبة فإنهم يمرضون ويتألمون ويموتون أيضا) ومع الأسف فقد كانت تلك هي الناحية المشرقة أو المفيدة (لبعض الفئات من البشر ولبعض الوقت) من موضوع المرض. أما الجانب الكريه في الأمر فجميعنا يعرفه ولا داعي للإسهاب في ذكره.
ويمكن أن نفكر في أية اختلالات في قواعد وقوانين تسيير الكون بنفس الطريقة التي نظرنا بها لموضوع المرض، وحينها سنتمكن من تفهم الكثير من الأشياء التي حولنا، ويصعب علينا أن نرضى بها أو أن نتقبلها.
إذن فلنفكر معا في الصفات التي تليق بمن أوجد هذا الخضم الهائل من الموجودات التي نراها، ولنفكر في تلك الصفات بعقولنا محاولين أن نبعد عنها تأثيرات عقائدنا الموروثة، من المعلوم طبعا أن ذلك مطلب صعب، لكن لا مفر من أن نكون على الحياد بقدر ما نستطيع إن كنا نسعى وراء الحقيقة ولا شيء سواها. وقد نسأل أنفسنا سؤالا في هذا المقام، ماذا ستكون نتيجة بحثنا هذا، حتى إذا اتفقنا على صفات هذا الخالق العظيم الذي أوجد جميع ما نعرف من صور الحياة والجمادات وغيرها مما سنكتشفه لاحقا، هل سنكتشف دينا جديدا على سبيل المثال؟
أعتقد بل وأجزم أن كاتب هذه السطور أهون شأنا من أن يتجاسر على تفكير كهذا، بالإضافة إلى أن الأديان التي عرفها البشر، والتي استمر عدد منها حتى عصرنا الحالي، ولا يزال لها أتباع يعتنقون الكثير منها أكثر من أن تتحمل أية إضافة من أي نوع، ولن تجتمع البشرية جميعها على ضلال محض، فبالقطع هناك مجموعة من البشر حالفهم الصواب في اختيارهم للدين الذي يعتنقونه. فلنضع وكما تعودنا قواعد لبحثنا عن الصفات العليّة للخالق العظيم، نضعها بعد أن نبحث فيها باستفاضة، ثم نقرها باقتناع جازم لا يدانيه شك، ثم يقوم كل من ارتضى بما وصل إليه بمقارنتها بصفات معبوده فيما يعرف أو يعتنق من معتقدات، فإن وافقت ما اطمأن إليه عقله وقلبه اتخذها سبيلا ودينا، وإن لم تكن كذلك فعليه أن يبحث ويبحث، حتى يهديه بحثه إلى أحد سبيلين:
أولا: إما اعتناق دين أو مذهب من تلك التي تعرفها البشرية، وقد يكون هذا الدين هو نفسه الدين الذي نشأ عليه ولا يزال يعتنقه، أو قد لا يكون، فحينها يجب أن يبحث حتى يجد الدين الذي يرضى بقواعده/ ويتبع سبيلها دون إلغاء لعقله أو لإنسانيته.
ثانيا: أن يطرح كل دين جانبا ويتخذ سبيله في الحياة وحده، حتى يحيا حياته وينهيها وهو على اقتناع تام بأنه ما أفنى سنوات عمره وهو على طريق غطى الضباب معالمه فصار يسير فيه تائها على غير هدى. سأتبع في هذا البحث أسلوب طرح الأسئلة للوصول إلى الإجابات المرضية، فالأسئلة قد تكون مجدية النفع جدا في تلك المسائل المعقدة الضخمة، والإجابات الواضحة ستقودنا شيئا فشيئا نحو الحقيقة التي نسعى وراءها.
أسئلة حول الخالق
السؤال الأول: إله واحد أم آلهة متعددة؟
لمناقشة هذا السؤال يستلزم الأمر منا البحث فيه بالأسلوب المنطقي الذي اتفقنا أن نجعله طريقا لنا. فمن المسلّم به على المستوى الإنساني الذي نحياه أن الأعمال الجسيمة أو الشئون العظيمة في الحياة تستلزم من مجموعة البشر الذين يقومون بها إيجاد قائد أو منظم أو مسيّر للأمور، ذو درجة تعلو عن درجات الباقين ممن سواه في القدرة والكفاءة، وإن كان هناك من يساعده أو يعاونه، فهو على درجة أو مرتبة أقل من القائد الأكبر، تمنح درجته وفقا لما يراه القائد في كل شخص ممن سيعاونونه من قدرات وما يحتاجه القائد من معاونة. ولكن منح هذه الدرجة من القائد لمعاونيه لا تعني تنازل هذا القائد الأكبر عن صلاحياته وسلطاته، بل إنه مجرد منح مؤقت أوجبته الحاجة، والتاريخ البعيد والقريب يزخران بهذه النماذج من النوعين من القادة، أعني نموذج القائد الذي يتخذ أعوانا وأتباعا ذوي سلطات يمنحها لهم مع احتفاظه بسلطاته العليا وسيطرته القوية لنفسه، والنموذج الآخر للقائد الذي سمح لغيره من الاتباع والأعوان باكتساب سلطات وقدرات تقارب سلطاته هو الشخصية أو تنافسها حتى، والتاريخ أيضا يخبرنا بما آل إليه حال هذين النموذجين من القادة، فالغالب أن النموذج الأول أحتفظ بسلطاته إلى نهاية المطاف، وأن الثاني لم يهنأ بالتمسك بموقعه ومقدراته لصالح أولئك الذين منحهم هو نفسه في الغالب مفاتيح انتزاع مقدراته بيديه. إذن فالقاعدة هنا هي أن البشر، بل جميع المخلوقات في مجال السلطة والقيادة يخضعون جميعا لمباديْ واضحة هي:
أولا: أن القائد أو الرئيس الذي يرغب في الحفاظ على موقعه بإمكانه أن يتخذ من يشاء من أعوان واتباع، وأن يمنحهم ما يراه مناسبا من صلاحيات وإمكانات، ولكن في النهاية عليه أن يكون هو المتحكم الأخير في مقاليد الأمور، على قدر ما يمكنه التحكم، وإلا فالتخبط والتداخل سيشوبان حكمه لا محالة، وقد ينتهي به الأمر في النهاية إلى فقدان موقعه الذي منح بناء على امتلاكه إياه تلك الصلاحيات والقدرات إلى غيره، ولا يلومنّ حينها إلا نفسه.
ثانيا: الأتباع والمرؤوسون سيوجد من بينهم لا محالة بعض أشخاص ذوي التطلع والطموح إلى الوصول إلى مقعد القيادة والحكم، تاريخ البشر يشهد بهذا ويؤكده، وكم من زعيم أو قائد لقي الغدر والخيانة من أقرب أتباعه، والذين لم يمنعهم قربهم منه من أن يقصوه عن موقعه لصالح الاستئثار بالصلاحيات والسلطات والسطوة العليا لأنفسهم، وكم من دولة عظيمة اهتز عرشها وانهارت جرّاء تنازع صفوتها الحاكمة على موقع السلطة.
لنعد إلى تساؤلنا الأساسي، إله واحد أم آلهة متعددة؟ سأستخدم هنا مبدأ القياس، حتى اقترب قليلا من توضيح الفكرة، مع اعترافي ببعد طرفي القياس عن بعضهما ولكني سأستخدمه على سبيل تقريب الفكرة.
إله وحاكم، آلهة وحكام
كون معقد لا متناهي الأطراف والتفاصيل ودول صغيرة محدودة مهما عظمت مساحتها.
كون موغل في القدم وحضارات لن يتعدى عمرها مئات السنين.
أعتقد أن النظر لهذه المقارنة ومقارنة الشق الأول من كل جزئياتها بالشق الثاني ستوضح لنا مدى ضآلة شأن الشق الثاني، وأعني به البشر والدول والأزمان المحدودة مقارنة بالشق الأول الإلهي الأزلي غير المحدود. فمن باب أولى أن نقر هنا بضخامة الشأن الإلهي وعظمته، وإن وضعنا فرضية وجود العديد من الآلهة محل النقاش والجدل، فإن أي إله لابد وأن له جزءا ونصيبا من خلق هذا الكون والاضطلاع بشؤونه، مما يستتبع بالتالي وجود عدد من الأتباع، قل هذا العدد أو كثر، وإن سلّمنا بوجود هذا النموذج من تجمع الآلهة المتراضين فيما بينهم على تقسيم الكون بموجوداته ومخلوقاته فيما بينهم فإن التعدد الإلهي هنا إن جاز التعبير يجعلنا نفكر في عدة نماذج نسعى بها لأن نقترب من الفهم الصحيح للإله الحق:
الأول: إله كبير، له القسم الأكبر من خلق الكون، ومعه آلهة أخري ذوي أقسام وأنصبة من الخلق متساوية أو غير متساوية ولكن هذه الأنصبة وهذه الآلهة لا تتساوى مع هذا الإله الكبير في قدره ولا نصيبه.
الثاني: آلهة متعددة ذوي نصيب متساو تماما من الخلق والموجودات.
الثالث: آلهة متعددة ذوي حظ متفاوت من الخلق، وإن كان لا يوجد من بينهم إله له النصيب الأكبر بفارق واضح عن الباقين.
سأضع نفسي هنا موضع الانسان الذي أقر بوجود إله يستحق أن يعبده، وسأبحث بين الآلهة التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل واستمرت معروفة إلى البشر حتى وقتنا الحالي، دون أن تندثر أو تنمحي عبادتها أو يهجر الناس ديانتها تماما، كما حدث مع آلهة الوثنيين الرومان أو اليونانيين، سأبحث عن الإله الذي يستحق أن أعبده بإخلاص، ولتكن هذه النماذج الثلاثة أمامي لأختار.
أعتقد أن النموذجين الثاني والثالث يدمران نفسيهما ذاتيا، فالنموذج الثاني للآلهة المتعددة ذوي النصيب المتساوي تماما من الخلق والموجودات لا يمكن أن يستقيم أو يستقر، لن ترضى به آلهة عظيمة خالقة قادرة، يمكن لأي من أتباعها أن يلوذ ويحتمي بأي إله يريده كما يشاء، فكل منهم ذو قدرة مساوية للآخر ولا يمكن لغيره من الآلهة أن يجور على نصيبه من الخلق والمقدّرات، فكل منهم مساو للآخر بكيفية ما، أعتقد أن تخيلها ضرب من الخيال البعيد.
والنموذج الثالث أيضا لا يصمد للبحث والنقد، فصاحب الجزء الضئيل من الخلق والاستحواذ على الموجودات والمخلوقات هو حتما أقل قدرة وقوة من صاحب الجزء الأكبر من الخلق، والمخلوقات لن تتذلل وتلجأ لخالق ضعيف (أو كما يدعي أنه خالق وإله) طالما أن الأقوى منه متواجد بالفعل، فليكن الأقوى هو الأولى بالعبادة والخضوع إذن، وهذا الضعيف سيذبل شأنه ويتوارى وينتهي مع الوقت، وما هذا بإله يستحق أن يعبده أحد.
فلنبحث إذن النموذج الأول، إله كبير قوي، له النصيب الأكبر من الخلق والإيجاد، متصرف فيهم كيفما يشاء، ولكن هناك بعض الآلهة الأخرى المتواجدة أيضا، ذوي الاستحواذ الأقل على الموجودات والوجود، فإما أن تكون تلك الآلهة ذوي القدرات الأقل قد حازوا تلك الأنصبة من الوجود منحة من هذا الإله القوي الكبير، ويكونون حينها قد تحولوا إلى أتباع له لا يستحقون أن ننعتهم بالآلهة، وإما أنهم قد استحوذوا على هذه الأنصبة من الوجود بقدراتهم المحضة أو بعطاء من أحد ما غير هذا الإله القوي، وفي رأيي فإن الاحتمال الثاني ينتقص من قدر هذا الإله الكبير، ويدفع بالتفكير إلى دروب لا متناهية من البحث عن الإله القوي القادر على توزيع أنصبة تسيير الكون على من يشاء من الأتباع (لم يعودوا يعتبرون آلهة بعد الآن)، قلّ هذا النصيب أو كثر.
إذن فالحائز بذاتيته على صفات الألوهية وقدراتها، وإن تفاوتت ما بين زيادة ونقصان فهو في نهاية الأمر إله لا يخرج في تقديري عن أحد النماذج الثلاثة التي ذكرناها من قبل، فليعمل كل منا تفكيره وبحثه في هذه النماذج، ويصل إلى أقربها لعقله واقتناعه مسترشدا بالمثال الذي ضربناه من قبل للحاكم واتباعه ونموذج الحكم، علما بأن البشر وهم من هم في ضعفهم واحتياجهم لبعضهم البعض فإنهم لا يسمحون لبني جنسهم بالتعدي على جزء ولو يسير من ممتلكاتهم، لا أقول ما خلقوه بأيديهم فهم لا يملكون هذا، فما بالنا بآلهة قادرة، سيتحول النزاع بينهم حينها إلى دمار تام لهذا الكون، ولم نعرف أن هذا قد حدث على مر التاريخ، إلا في خيالات الأساطير الإغريقية عن آلهة الأولمب.
السؤال الثاني: هل الإله لا يقبل المنطق والتفكير السليم أن يكون له أبعاض وأجزاء، أو بمعنى آخر أيسر للفهم أن ينسل ويتوالد، أم أن الإله قد يكون له امتداد أو نسل، وإن كان لا يساويه في درجة الألوهية؟ من وجهة نظري، ولكي أجيب عن هذا السؤال قدر استطاعتي، فلابد لي من اختيار أحد النماذج الثلاثة التي طرحتها في الإجابة عن السؤال الأول، وهو المقام الذي أطمئن له، من أن الإله واحد قوي لا غير، وما عداه ممن يسيرون شئون الكون هم من الأتباع ليس إلاّ، ولا يحوزون بقدراتهم الذاتية صفة ولو ضئيلة من صفات الألوهية، ولكن هل هذا الإله واحد حقا، بمعنى انه لا يمكن أن يتجزأ أو يتكرر أو أن يكون هناك أحد غيره ممن يحوز جزءا من صفاته بالصورة ذاتها التي لدى هذا الإله الواحد القوي؟ وما هي السبيل التي يمكن أن تنتقل بها تلك الصفات العظيمة من مانحها إلى متلقيها؟
أظن أن أكبر خطأ يمكن أن نقع فيه أثناء بحثنا هذا هو أن نفكر في الإله القوي العظيم، الذي خلق كل ما نرى من موجودات (وما لا نرى) – من الخطأ أن نفكر فيه وفي صفاته وقدراته كما نفكر في صفاتنا وقدراتنا، فمن خلق هذا التنوع الهائل من المخلوقات، وأوجده كما أراد، لابد وأن يسمو في صفاته إلى درجة أعلى من أن تحيط بها أفكار حتى أرقى المخلوقات المعروفة، وأعنى هنا أننا عندما نفكر في تسيير أمور هذا الكون الهائل ومخلوقاته، نتساءل كيف تحيط القدرة الإلهية بشئون وتفاصيل حياة كل تلك المخلوقات الحية منها والجامدة.
وما من إله يستحق أن يعبد بحق دون أن يكون علمه قد احاط بكل تلك الموجودات، أي أن شيئا ولو كان ضئيلا لا يغيب عنه، وسأضرب لك مثالا بسيطا لكيان من صنع الإنسان قد يقرب لأذهاننا الفكرة: كم عدد المستخدمين لشبكة المعلومات الدولية (الانترنت) في وقتنا الحالي في الثانية الواحدة، لا أقول ملايين بل مئات الملايين من البشر، قد تجد في وقت واحد منهم مائة مليون إنسان يتابعون حدثا جللا واحدا من الأحداث عبر مقدم أو مرسل خدمة احد أو كما يسمونه (خادم) وللعجيب فإنه لم تذهب كل قدرات وإمكانيات هذا (الخادم) نحو مستخدم واحد من الملايين المائة، بل إن كل منهم يتلقى نفس المعلومة بشكلها وكمها وطريقتها، ولم ينهر هذا الخادم أو يتعطل عمله. فليوسع كل منا بعد ذلك المثال نطاق ومدى تفكيره، مع ضعف المقارنة في رأيي، ولكنها مقارنة تقريبية كما ذكرت، ولنقارن بين الخالق العظيم الأزلي الأبدي، وبين آلة أو كيانات صممتها أيدي وأفكار مجموعة من مخلوقاته مثل هذا الخادم، وحينها سنكون قد اقتربنا ولو بخطوة ضئيلة نحو فهم الامكانية والقدرة الهائلين اللتان يحيط بهما العلم الإلهي، بكل تلك الموجودات بكل سهولة ويسر.
لقد ضربت المثال السابق حتى أوضح كيف أن الأمر عظيم وجلل، موجودات ومخلوقات هائلة في عددها وضخمة أو ضئيلة في حجمها، يعرفها ويحيط بها تماما إله عظيم قدير.
ولكن السؤال لم تتم الإجابة عنه، هل الإله قد يتجزأ أو يتكرر؟ أعتقد أن التجزئة إن رضينا بها فهي ضد فكرة التوحد، ولا أعني الوحدانية التي هي مقابل التعدد والمشاركة، فهذا قد تحدثنا عنه وأوضحناه في الإجابة عن السؤال الأول، ولكن المقصود بالتوحد هنا هو أن الصفات والقدرات الإلهية مجتمعة في الإله جميعها، وهي مطلقة طلاقة لا نهائية ولا متحيزة ولا ناقصة، لا يكون الإله سميعا في وقت ولكنه غير قدير في الوقت ذاته، لا يكون عليما في وقت ولكنه غير سميع في الوقت ذاته، بل إن كل صفات الكمال والقدرة والاستغناء عما سواه والتنزه عن النقص قد حازها من بدايتها إلى أقصى منتهاها مجتمعة لا تنفصل ولا تتجزأ ولا تنقص ولا تزيد لأنها قد بلغت المنتهى وحد الكمال المطلق بالفعل. من هنا نصل إلى أن الإله واحد متفرد في ذاته وصفاته وقدراته، ولكن هل يمكن لهذه الصفات أن تتكرر؟ أي أن يحوزها (أو يحوز بعضها) أحد غير هذا الإله، وكيف له أن يحوزها إن أمكن هذا؟
أرى أن هناك صفات قد يحوز بعضا منها قلة أو كثرة بعض من المخلوقات التي خلقها الإله الواحد، مثل السمع والرؤية والقدرة والرحمة وغيرها، وحيازة المخلوقات لهذه الصفات هي واقع ملموس ومرئي لا ينكر، ولكنها تبقى صفات منقوصة وغير تامة الاكتمال والاجتماع، أعني أن بعض المخلوقات قد يكون عالما بأمور كثيرة، لكنه في الوقت ذاته جاهل بأمور عديدة أخرى، سامعا لأشياء غائبة عن سمعه أشياء أخرى، قادرا على فعل أشياء، عاجزا عن فعل أخرى. وقد تجتمع في هذا المخلوق صفات كثيرة من هذه الصفات (المنقوصة)، ولكن تغيب عنه صفات أخرى كثيرة أيضا، أو بعبارة أخرى يكون التجمع دوما ناقصا. ويأتي هنا التساؤل، كيف يمكن أن يحوز أحد آخر غير الإله القوي الواحد هذه الصفات، هل يكون هذا بالاكتساب أم بالمنح أم بالتوارث؟ ويجب في البداية أن نفهم المسميات قبل أن نقرّها أو أن نرفضها.
الاكتساب هو مزيج من إرادة وسعي المخلوق وإرادة ورضا الخالق، فالمخلوق أراد أن يحوز بعض الصفات الجليلة والتي لم تكن لديه من الأصل فأخذ يسعى للحصول عليها قدر استطاعته، فتلك إرادته وهذا سعيه، ولكن إن لم توافقها إرادة الخالق العظيم ورضاؤه في منحه هذه الصفات، فلن يحوزها مهما فعل، وإن وافقته الإرادة الإلهية في حيازة تلك الصفات، فلن يحوزها إلا بالمقدار الذي حدده له إرادة الإله الخالق المعطي لتلك الصفات، وفقا لما يريد ووفقا لقدرات المخلوق وتحمله، وللتحمل أهمية قصوى في هذا الجانب: فهل يتخيل أحد منا مثلا أن يكون هناك إنسان قادر على أن يسمع جميع الأصوات في وقت واحد، أو أن يرى جميع الأشياء في وقت واحد، أرى أن ذلك فوق الاحتمال وفوق قبول العقل أيضا.
أما المنح فهو في رأيي هو الوجه الآخر لعملة الاكتساب، أو يمكننا أن نقول أن المنح هو الشق الثاني أو هو الجانب الإلهي من إرادة الاكتساب التي سبق أن ذكرناها، بمعنى أن الإله العظيم القادر يهب ويمنح صفة أو مقدرة معينة لأحد مخلوقاته بالكيفية والمقدار الذي يحدده هو بعلمه الواسع المحيط بكل دقائق الأمور وعظائمها.
ونأتي إلى التوريث، وهو جانب متسع لا مفر من الخوض فيه لتوضيحه، فالمعروف أن التوارث يكون بين اثنين من نفس النوع أو الصفات، ونحن هنا نتحدث عن توارث الصفات والقدرات، لا عن توارث الموجودات والممتلكات، فلا تجد صفات تتوارث بين أول وثان إلا ونجدهما من نفس النوع، فلا تنتقل صفات وقدرات من نوع لنوع آخر مختلف عنه، وذلك لسبب بسيط، وهو أن كل قدرة وصفة لابد وأن تجد لها ما يستوعبها ويتحملها من إمكانات واستعدادات عند متلقيها، وإلا حدث حينها شيء من اثنين، إما أن يصبح المتلقي عديم التصرف في الصفات والقدرات التي تلقاها، لعدم استعداده الذاتي للإفادة من تلك القدرات، أو أن لا يقدر على تحملها أو العمل بها كما ينبغي، فتصبح تلك الصفات والقدرات نوع من الفوضى أو العبث أو التواجد المنقوص لعدم تلاقيها مع الاستعدادات اللازمة لوجودها والانتفاع بها.
إذن فالوارث والمورث، كلاهما لابد وأن يكون من نفس النوع والصفة والاستعداد لتحمل نفس الصفات والقدرات، وفي حالة بحثنا هذا، فإن انتقلت صفة إلهية من الإله القوي العظيم إلى أحد غيره بطريقة اعتبرناها من نوع التوريث، فإن هذا يجعل النقص يشوب الذات الإلهية، لأن هذا التوريث يعني أن الإله القوي العظيم قد منح بعضا من صفاته إلى من هو غيره، ولكنه يماثله في التحمل والقدرة على التلقي والتصرف والاستعداد، فأصبحت أمامنا هنا مسألة، كيف أصبح هذا الآخر ذو قدرة على تحمل الصفات الإلهية، والحواب على هذا السؤال بأحد احتمالين:
الأول: إما أن يكون الإله العظيم القوي، ويكون هذا الآخر الذي تم توريثه الصفات الإلهية من أصل واحد أو من نوع واحد، وبهذا يكون قد انتفى مبدأ الوحدانية الذي اتفقنا عليه من قبل، فالأصل الذي نشأ منه اثنان من الممكن أن ينشأ منه ثالث ورابع، وهذا مناف تماما للصفات التي تليق بالإله العظيم.
الثاني: قد يكون الآخر الذي حاز الصفات الإلهية مورثة من الإله العظيم قد تجزأ أو انفصل عن الإله العظيم أو خرج منه، وهنا تبرز أمامنا فكرة التوالد والبنوة، والتي يجب علينا هنا أن نقف أمامها حينا من الوقت متأملين ومتسائلين في الوقت ذاته لكي نقرب هذا المعنى للأذهان: ما حاجة أي كائن في هذا الكون للتوالد؟ ولنجيب عن هذا السؤال يجب أن نعرف أن التوالد بين جميع أنواع الكائنات التي في الكون على أنواع متنوعة فيما نعرف وهي كالآتي:
الأول: توالد لا رغبة فيه ولا شهوة ولا تفكير، وهو ما لا ينتج عن لقاء جنسين مختلفين (ذكر وأنثى)، ومثال ذلك ما يحدث في انقسام الخلايا الدقيقة والبكتيريا، وانقسام الخلايا الجسدية الميوزي أو الميتوزي، وهذا كله يحدث دون أية إرادة أو رغبة من الكائن الأصلي، إذ أنه يفتقر إلى العقل المحرك لتلك الرغبة أو الشهوة.
الثاني: توالد لا رغبة فيه ولا شهوة، ولكنه ينتج عن تلاقي جنسين مختلفين (ذكر وأنثى)، والمثال على ذلك توالد النباتات وتلاقحها الذي يتم بتأثير من العوامل الخارجية كالرياح والحشرات والإنسان.
الثالث: توالد فيه الرغبة والشهوة، ولكنه يتم بدافع الغريزة الدفينة الكامنة داخل الكائن الحي، والتي لا يملك هو نفسه كبح جماحها ولا إيقافها، وهو ما يحدث في عالم الحيوانات بأنواعها واختلاف رتبها، والمثال على ذلك ما يحدث في الحيوانات العليا والدنيا والأسماك والحشرات وغيرها، وفي هذه الحالة فإن الغريزة تدفع الكائن دفعا نحو التزاوج والتوالد للحفاظ على النوع، لا يبالي في سبيل هذا بما يفعل للوصول إلى هدفه، فتجد المخلوق يقتل ويجرح أخيه وأبيه ليفوز وحده بمنطقة النفوذ وإناث القطيع.
الرابع : توالد فيه الرغبة والشهوة، ولكن يحكمه ويحجمه العقل والتفكير، وتوجهه اعتبارات متداخلة، ولا نعرف مخلوقا آخر غير الإنسان يتمثل فيه هذا النوع، تجد كلا من الجنسين طرفي التوالد يميل أحدهما للآخر، ولكن هذا الميل تحدده قواعد وضعتها البشرية منذ آلاف السنين، واستمرت عليها كما هي، أو استبدلت بعضا منها بأخرى. وعناية الوالدين طرفي هذا التزاوج بوليدهما الناتج عن التزاوج لا تنتهي بقدرة الوليد على تناول وصيد طعامه، والوقوف على أقدامه، مثل ما يحدث في أغلب الحيوانات الأخرى الأدنى من الإنسان، بل تستمر الرعاية والعلاقة بين الوالدين ووليدهم حتى بعد أن يبلغ الوليد أشده، والابن يرعى والديه حتى بعد أن يكبر ويستقل عنهم، ولا يصبح في احتياج مباشر جسدي لهم، ولا يتقاتل الوالد والولد والأخوة فيما بينهم للنفوذ والسيطرة (في أغلب الأحوال، وإن شذ البعض لانحراف نفسي أو خلقي لديه عن تلك القاعدة، فلا نستطيع اعتبار ذلك هو الأصل). بل إن هناك قواعد حاكمة للعلاقات كما سبق أن ذكرنا.
الخامس: توالد يعتبر شاذا نواعا ما، مثل التوالد العذري الذي يتم في أنواع من المخلوقات الأصل فيها تواجد نوعين مختلفين، ولكن يحدث توالد أو ينسل نشء جديد من المخلوق الأصلي، وهو نوع غير شائع واضطراري الحدوث، وفي بعض الأحوال يكون النسل غير مكتمل الصفات، كأن يفقد القدرة على التناسل من جديد أو غيرها من الصفات، وحتى إن كان مكتمل الصفات فإنه في الغالب لا يلجأ لهذا النوع من التزاوج إن وجدت أمامه فرصة تحقيق التزاوج المعروف، وهذا التوالد العذري لا يكون للمخلوق يد فيه، أي أنه لا يقرر أن يتوالد عذريا فيفعل، ولكنها صفات وقدرات وضعها الخالق فيه لتستخدم وقت الحاجة إليها.
وإذا نظرنا بتمعن لجميع الأنواع السابقة من التوالد نجدها تشترك فيما يلي:
اولا: التوالد بأنواعه يهدف للحفاظ على استمرار النوع أولا، ثم إرضاء الغريزة ثانيا.
ثانيا: ميل الآباء نحو الأبناء والذرية متواجد في العديد من أنواعه، وبدرجات متفاوتة تبعا لدرجة الرقي العقلي، وصولا إلى النقيض من الإهمال التام وعدم الاهتمام المطلق في المخلوقات الدنيا والخلايا غير العاقلة.
ثالثا: التوالدات تشترط إما عدم وجود العقل والتحرك غير المتعمد أو الغريزي، وإما تواجد طرفين (ذكر وأنثى) من نفس النوع أو الرتبة على أقل تقدير، لحدوث تزاوج ذي نتاج، وإما أن يكون من طرف واحد لكنه ينشئ نسلا غير عاقل (كالخلية والبكتيريا) أو ناقص الصفات (كما يحدث في التوالد العذري).
وإن الممعن النظر في تلك النقاط الثلاث التي تعبر عن مشتركات التوالد والتزاوج وفي دوافعها يجدها لا تتفق ولا تليق أبدا أن تضاف ولا أن تنسب إلى إله، فكلها صفات نقص لا يمكن أن تكون لإله حقيقي يستحق العبادة والخضوع، فأي إله هذا الذي تكون له ذرية حتى يستمر نوعه الإلهي؟ والأصل في تفكيرنا نحو ذاته العلية هو الاستمرار والأزلية والأبدية، ثم إن صفات وجود الغريزة والميل وعدم امتلاك ناصية الذات والأمور هي صفات نقص لا كمال، صفات تليق بمخلوقات لا بخالق وإله بحق.
وقد يقول البعض متسائلا، ولماذا تقول إن التوالد والتزاوج الإلهيين لهما دوافع وصفات توالد وتزاوج المخلوقات، ألم نتفق سابقا على تفرد الإله في صفاته، فلماذا لا يكون له توالد وتزاوج على قدره وعظمته؟ إجابتي هنا ستكون بسيطة جدا:
الإله لا يصلح في رأيي إلا أن يكون متفردا وحده في كل شيء، في ذاته وصفاته وقدراته، وعلاقة أي شيء سوى الإله بالإله هي علاقة عبودية وتذلل وخضوع، وأيا كانت درجة قرب مخلوق من المخلوقات إلى الإله فهي في النهاية علاقة عبودية، وإن صوّر التفكير البشري قرب العلاقة بين مخلوق ما والإله على أنها علاقة بنوّة وأبوّة، فإن هذا يقودنا إلى أحد احتمالين: إما أن يكون قد أسيء تفسير علاقة قرب المخلوق من خالقه على أنها بنوة، بدلا من حقيقتها وهي العبودية. أو أن الإله الذي يعبده من يقتنعون بعلاقة الأبوّة والبنوّة ليس إلها في حقيقته.
فالإله الحق لا يتزاوج ولا يتوالد وكل ما سواه هم من مخلوقاته وعبيده وليسوا شيئا آخر. إذن فالتوالد والإنجاب والبنوّة هي صفات يجب على العقل السليم أن يستبعد إلصاقها بالإله الذي اتخذه معبودا مستحقا للعبادة، وإذا انهدم هذا الركن أعني قبول فكرة الأبوة والبنوّة والتوارث من بناء التفكير العقائدي فستنهدم وراءه أشياء كثيرة مرتبطة به، فليعمل كل منا عقله فيما سبق وليتبع بعدها ما يهديه إليه عقله.
السؤال الثالث: هل الإله له تحيز وتجسد وجهة، أم أن الإله لا تمكن الإحاطة به في زمان ومكان؟
فلنناقش ببساطة معنى الزمان والمكان أولا، حتى ندرك ما يجب علينا إدراكه في هذا الباب، الزمن هو مدة من الوقت طالت أم قصرت، تشعر بها المخلوقات وتقوم بحسابها بناء على تغيرات وظواهر معينة تمر عليها وتقوم بملاحظتها فتعرف منها أن وقتا قد مرّ، فشروق الشمس وغروبها، وتغير حالة الطقس والمناخ وتغير وتبدل الحالة الصحية والجسدية من صحة لسقم والعكس، وغيرها من الظواهر تعطي جميعا للمخلوقات القدرة والعلامات اللازمة للشعور بمرور الوقت وحساب الزمن.
ولكن نفس المخلوق قد تتعطل لديه تلك المقدرة وحده دونا عن غيره من المخلوقات، مع استمرار الظواهر التي كانت تشعره بمرور الوقت والزمن عليه، فالنائم لا يشعر بمرور الوقت عليه سوى بعد أن يستيقظ، والمريض الغارق في غيبوبة عميقة لا يشعر بمرور الوقت عليه، والذي قد يمتد لشهور طوال. وفي الحالتين فإن ظواهر الكون لا تتوقف، لكن إدراك المخلوق لتلك الظواهر وشعوره بها هو الذي تعطل، وعندما زال عنه ذلك العطل في حواسه المختلفة التي يحتاج إليها للشعور بمرور الوقت فإنه قد يجد ما حوله من أشخاص وجمادات قد تغيروا دون أن يشعر هو نفسه بتغير يذكر في ذاته، سوى بعض التغيرات الجسدية التي قد تنجم عن الوضع الذي كان فيه طوال مدة فقدانه للشعور بالوقت، لكن الحالة النفسية والعقلية لم تتغير.
إذن وبكلمات مختصرة، فإن الزمن شيء نسبيّ، بمعنى أن المتغيرات المحيطة بنا أو بأجسامنا هي التي تشعرنا بأن شيئا ما قد تغير، وأن تغيره هذا بالضرورة لم يحدث دفعة واحدة في أغلب الأحوال، ولكن حدث بتدرج سريع أو بطيء، وهذا هو الزمن أو الوقت. وحين ننتقل للحديث عن الخالق العظيم لهذا الكون الشاسع المعقد، فإن فكرتين لا يمكن أن ينطبقا على ذاته العليّة:
الأولى: فكرة التغير في الذات الإلهية العلية، وهي ذات لا يمكن لعقول البشر أن تدرك حقيقتها وكنهها مطلقا، فهي أعلى من إدراك العقول، لأن العقل البشري قادر على أن يتصور ويتخيل أشياء لم يرها ولكنه يشبهها دائما بالأشياء التي يعرفها وسبقت له رؤيتها، ولكن الحال لا ينطبق هنا، فالإله الكبير الخالق للكون ليس له ما أو من يشابهه في ذاته ولو من بعيد أو بنسبة ضئيلة. وهذا ما يجعل تخيل أو إدراك كنه ذاته العلية مستحيلا، ولكن على الرغم من ذلك فإن العقل السليم والتفكير سويّ يدركان بالتأكيد ان الذات الإلهية لن تمر بما يعتري المخلوقات من مظاهر احتياج وضعف ومرض ثم تحسن فانتكاس، فالنقص بجميع صوره ودرجاته وأشكاله غير مقبول التفكير به فيه فيما يتعلق بالذات الإلهية.
الثاني: فكرة أن تكون تغيرات المخلوقات التي خلقها الإله العظيم، سواء كانت بالتدرج أم بالفجاءة دالة على مرور الوقت والزمن بالنسبة إلى الذات الإلهية العلية، فجميع ما بالكون هو من المخلوقات المحدثة التي أوجدها الخالق العظيم، وإن عظمت في خلقتها أو طالت في بقائها فهي بالنسبة إلى الذات الإلهية عدم لا يذكر، ولا يجوز أو يعقل أن يستدل عقل سليم بها بنسبة ولو ضئيلة على شيء ذو صلة بذات الإله العلية.
وفي واقع الأمر، فإن هاتين الفكرتين المنفيتين عن النسبة إلى الذات الإلهية العلية هما في ذاتيهما الفكرتان اللتان ينبني عليهما مفهوم الزمن ونسبيته، وإن شئت الدقة هنا فإن النسبية هنا إن أردنا أن نقدرها فهي لا تكاد تقارب الصفر حين نقارن المخلوقات أجمعها إلى الإله العظيم. إذن فالزمن لا يعتد به عند الإله العظيم، إنما هو خاص بمخلوقاته فقط، ولكن ماذا عن المكان؟ في باديء الإجابة، سأضطر أن أربط هذا الجزء من بحثنا عن إجابة السؤال الأخير بجزئه الأول، هل الإله له تحيز وتجسد؟ سؤال شائك، واعتقد أن بشرا ما، وإن ظن أنه قد أوتي من العلم الكثير فلن يملك إجابة واضحة عنه، وكم من معارك جرت – فكرية وكلامية وغيرها- لمحاولة الإجابة عن هذا التساؤل، وسأجيب كما اتفقنا منذ البدء بما أراه الأقرب لعقلي والأكثر طمأنة لذهني:
فلنتفق على القواعد:
أولا: ما يوجد في جهة ما، أي ما نقر بوجوده في جانب ما فإن الجهة والجانب المقابلين سيخلوان منه.
ثانيا: فكرة التحّيز، أي أن شيئا ما ينحاز إلى جهة ما وهي مشابهة للفكرة السابقة.
ثالثا :الذات الإلهية مختلفة بما لا يدع مجالا للشك اختلافا تاما عن ذوات وتركيب المخلوقات، فلا يمكن أن يختلط هذا بذاك أو أن يتداخل هذا بذاك، فشتان ما بين طرفي المقارنة، ناهيك أن يحل هذا بذاك أو يتحد معه، العقل السليم والتفكير الطبيعي يرفضان ذلك، فمن أين للناقص الضعيف أن يتحمل حلول الكامل فيه أو اتحاده معه.
رابعا: فكرة التجسد كما تعرفها أذهاننا هي في الأساس تستلزم التحيز والإحاطة، وأعني هنا إحاطة الحواس وليست إحاطة الحيز والمكان، والتجسد هنا يعني ويوحي للأذهان بالشيء الكثيف المحسوس أو بالحلول والاتحاد، وهما ما لا يتفقان والعقل كما سبق وذكرنا، وهي فكرة مادية نفكر فيها بعقولنا المادية القاصرة تجاه مخلوقات مادية قاصرة مثلها، وليس تجاه الذات الإلهية العلية.
خامسا: لا يجوز مطلقا أن نقارن أو نمثل أو نشبه الذات الإلهية العلية بما نعرفه أو سنعرفه بعقولنا التي تزداد معرفة يوما بعد يوم (و هو دليل احتياج للعلم وليس دليل امتلاك له)، ولا يجوز أن نقارن بعقولنا هذه بين الصانع والخالق العظيم وبين مخلوقاته التي لا زلنا نجهل الكثير منها، فكما ذكرنا في بدايات بحثنا، فإن دقة وتعقيد المصنوع كالكون ومخلوقاته دليل بالضرورة على مهارة وقدرة الصانع، وليست دليل تشابه أو بيان عن ذات الصانع وكنهها. مما سبق أخلص إلى نتيجة مبسطة، وهي أن الخالق العظيم لا يشبهه شيء من مخلوقاته، فلا يجوز أن نفكر في ذاته كما نفكر في ذوات مخلوقاته، فهذا أكبر من قدراتنا، ولكن يمكننا أن نفكر في صفاته وقدراته التي تليق به كمعبود يخضع له الجميع، والتي يجب بالضرورة أن تكون جميعها صفات كمال لا نقص، غنى لا احتياج، وأن تكون القدرات مطلقة لا محدودة، لأن الناقص المحتاج إلى غيره، أو المحدود القدرة لا يستحق أن يكون إلها يعبده مخلوق أو يتقرب إليه.
ألخص بحثي السابق في هذه السطور:
أولا : الكون الهائل هذا لم يخلق نفسه بنفسه، والطبيعة ليست ذات ذكاء أو عقل لتعطي وتمنع، وما فيها من ظواهر توحي بالذكاء ما هي إلا قوانين كامنة موضوعة بداخلها.
ثانيا: الكون معقد للغاية ومتسع للغاية ومتداخل للغاية، فلابد لصنع الشيء المعقد المتداخل من ذكاء وتدبير وقدرة أعلى من تلك التي تمتلكها المخلوقات التي تسكن هذا الكون، وتستمد مقومات حياتها منه.
ثالثا: لا شيء يصنع نفسه بنفسه من العدم، ولابد من وجود خالق أو صانع لكل شيء اتباعا لمبدأ السببية.
رابعا: الخالق أو الإله العظيم الذي خلق هذا الكون وأوجده، لا يوجد أحد يمكنه أن يشاركه أو يستحق أن يشاركه في ملكيته وتصريفه لهذا الكون، فالكل سواه هم مخلوقات خلقها واتباع له وإن تفاوتت درجاتهم ومراتبهم.
خامسا: الخالق العظيم قد حاز جميع صفات الكمال بصورتها المطلقة، فهو خالق لكل شيء، عليم بكل شيء، قوي قوة لانهائية، قادر على فعل كل شيء، يسمع كل شيء في كل مكان وفي كل زمان، يعلم كل ما مضى على مخلوقاته وكل ما سيأتي عليهم.
سادسا: الخالق العظيم منّزه عن كل الصفات التي تنتقص من قدره، كالشهوة والاحتياج لمن يخلفه أو يعينه أو يساعده.
سابعا: الكون هذا كله مبني بروابط بين ذراته، سميتها في بحثي هذا بالاسم الذي نعرفه وهو الطاقة، وبمقدار حجم وشكل وتوزيع تلك الطاقة تختلف أشكال الذرات والجزيئات والتركيبات، وتختلف معها أشكال المخلوقات وأحوالها، وتوزيع الطاقة في أشكالها وروابطها التي نعرفها هو الآخر أداة قوية من أدوات تحكم الخالق بمخلوقاته وتغيير أحوالهم..
ثامنا: العقل البشري بقدراته أقل مقدرة من أن يتمكن من الإحاطة بذات الخالق العظيم فالعقل يتخيل ويصور لذهنه ما يغيب عنه أو ما لم يراه من قبل في صور عرفها مسبقا، وهذا ما يستحيل في شأن الخالق العظيم، ولكن العقل الانساني يمتلك المقدرة على التفكير في صفات الخالق الكاملة التي تليق به ويستحقها المعبود الحق.
خاتمة:
وبعد، فإذا رضيت أيها القارئ أن تكمل تلك السطور إلى نهايتها فإنك بهذا تكون قد قطعت الخطوة الأولى، وعليك بعدها أن تخطو الخطوة الثانية، وهي البحث بين الأديان والمعتقدات عن المعتقد الذي يجمع بين المبادئ التي سبقت إن كنت قد اقتنعت بها، وهذا في وقتنا الحالي ليس بالأمر العسير المجهد، بضعة أيام من البحث الجاد عبر الكتب وشبكات المعلومات ستغنيك، وحين تعثر على هدفك المنشود اتخذه دينا لك، ولا تتوقف عن استعمال عقلك في التفكير بعدها، فإن عدم إعمال العقل ليس عذرا لك، وابحث عن الحقيقة دوما دون رفض مسبق ولا انقياد أعمى، فالفكر الإنساني دائما ما يميل إلى الاقتناع بما ترغب فيه عاطفته، وإن لم يكن هو دوما الصواب الحقيقي، فحتى بعد ان يهديك تفكيرك إلى الطريق الحق، ستجد من التفسيرات والشروحات للعقيدة التي ستختارها الكثير والكثير، منها ما سيرضي عقلك وتفكيرك السويّ، ومنها ما دون ذلك، فاحرص على استخدام عقلك وتفكيرك في تلك الامور المشكلة، ولا تغمض عينيك عما لا تفهمه، فتظن بذلك أنك في الجانب المريح (قد يكون مريحا مؤقتا ولكن ليس دوماّ)، بل ابحث وابحث، حتى تصل إلى ما يقنعك دون تحيز لرأي أو تعصب لفكر.
وقد كان هدفي الأوحد في هذا البحث، وأرجو أن أكون قد وفقت فيه هو الوصول إلى الحقيقة، الحقيقة التي أرغب أن أمضي حياتي تحت ظلالها.