بمناسبة التضافر بين ذكرى الثورة الجزائرية في نوفمبر الماضي، واندلاع الحراك الثوري المطالب بالتغيير فيها، تستعيد الباحثة الجزائرية نماذج من الشعر السياسي الوطني في الجزائر، وكأنها تذكر قراءها بأن ما دفعته الجزائر من ثمن باهظ لحريتها، لا يجوز له أن ينتهي بسيادة التخلف والفساد السياسي فيها.

فــــي رحــاب الثـــورة الجزائريــة

قراءة فـي بعض النماذج الشعريـة

شميسة غربي

كلمـــــــة:
على وتر الذكرى، يعزف القلم أنغاماً، يمتد صداها إلى فضاءات الشعر السياسي الوطني في بلادنا، حيث غنت بلابل الجزائر وهي تخوض وتتعقب المشوار الثوري... مشوار، توحّدت فيه الأماني، وتجمعت الكلمة، وانحصر الأمل في معنى ثابت:

للجزائر كبرياء، للجزائر حُمَاة....

ولِفرنســا، الهزيمة والانكسار...

من هذا المنطلق، تحرك الشاعر الجزائري، شاكيا، ساخطا، رافضا، ناقما، متألّما، منزعجا من وضع استعماري بشع، جرّع البلاد والعباد؛ كأس المرارة حتى الثمالة...

ووفاءً لِذكرى الفاتح من نوفمبر، وتقديرًا لمكانة الشعر السياسي الوطني في الجزائر (مقارنة مع بقية الأغراض الشعرية الأخرى) ارتأيتُ القيام بجولة شعرية - خفيفة - في رحاب الكلمة الهادفة، والمعنى الشريف، أقول: جولة خفيفة؛ لأنها ستقتصر على بعض الأسماء لِشعراءَ عُرفوا بالألمعية في هذا الميدان، فكان منهم عرض لِمَوَاقِف، وتعزيز لفكرة، وتسجيل لفترة، وحلم بتحقيق مبدأ، تدفقتْ في سبيله أنهار من الدّماء، حتى انبثق الفجر، وتصاعدتِ الزغارِيد، مزلزلة الأفق، مفجرة حُلمَ القلوب والحناجر: ... " تحرير الجزائر".

وفي استقلالنا مِتنَا كِراما *** وبَلّغنا الرِّسالة من تَغَابَى!

البَيْتُ لمفدي زكرياء، فيه مافيه من معاني الصمود والثبات، حتى تحقيق المراد.

أَسألُ الله اللُّطفَ بأرضنا الطيّبة، فهي المَرْتَعُ لنا كيفما كان الحال:

بلادِي، وإن جَارَتْ عَلَيَّ -عَزِيزَةٌ * وقومي وَإِنْ ضَنُّوا عليَّ- كِرَامُ!

البيت لابن الرّومي، وهو غنيّ عن كل شرح.

توطــــئــــة
إن المتمعِّنَ في قصائد الشعر السياسي الوطني في الجزائر، تسترعي انتباهه أربع خصائص:

النظرة السَّوْدَاوِية لِوضع متناقض، اختصرهُ السعيد الزاهري في ترجمة حياته بقوله: "أرى الجزائر في أنياب بؤس يمضغها مضغاً، وأراها في فقر يأكلها أكلا لمّا، وأراها بعد ذلك تتخبط في جهالة عمياء، وتَعْمَهُ في ضلال مبين، فلا أستطيع في ذلك صبْرًا، أراها كذلك؛ فيذوب لها فؤادي رِقة وحزنا، وتذهب نفسي عليها حسرات، إنه ليكاد يقضي علي الكمد، ويقتلني الأسى، إذا أنا تذكرتُ ما كان لِوَطني من العزة والشرف، وما كان له من السيادة على الفرنجة، ثمّ أراه صار بعد ذلك كلّه إلى الذلة والهوان."[1]

وأشار الأمين العمودي إلى نفس الوضع فقال:

"أما حياتي، فحياة كل مسلم جزائري .. حياة؛ بلا غاية ولا أمل حياةُ مَن لا يأسف على أمسِه، ولا يغتبط بيومه، ولا يثق في غده . "[2] وفي سنة 1928، شرح رمضان حمّود المأساة فقال: "إني لتعروني هزة، وينفطر قلبي، وتنشق كبدي، وأغيب عن رُشدي، وأحِسُّ بألم شديد يدبُّ بين جوانحي، دبيب الموت في الحياة ، كلما خلوت بنفسِي، ونظرت إلى حالتنا الحاضرة، وقارنْتُ بيننا وبين أجدادِنا الفاتحين النبلاء، وتأملت في أعمالهم الذهبية التي خلّدَت لهم مجداً عاطراً في بطون التاريخ، وما آلَ إليه أمرنا من ذلّ ومسكنة.[3] "

صبغة النضال السياسي والمصير الحتمي للثورة، سطرهما مفدي زكرياء نثرا بقوله: "وعسى أن أكون بهذا قد أرْضَيتُ ضميري، وثورة بلادي، وعروبتي. وأهبْتُ - لنجدةِ ثورة العرب في الجزائر- بِكُلِّ من تَيقّظ فيه ضمير.[4] "

وشِعراً بقوله:

وثورة قلبــي كثورة شعبــــي * هما أَلْهَمَانِــــي، فأبدعـت شِعْــــراً

وحرب القُلُوبِ كَحَرْب الشُعُو * بِ، ومن صدق العهد أحرز نصْــرَا[5]

وإنه عهد ونصر، حرّكهما محمد العبيد آل خليفة سنة 1937، حينما غنّى:

فَقُمْ يابْنَ البِلادِ اليومَ وانهضْ * بلا مهلٍ، فقد طال القعود

وقل يا بـن البلادِ لكـل لــصٍّ * تجلّـى الصبـح، وانتبـه الرقود

فَخُضْ يا بــن الجزائر في المنــايا * تُظلِلْك البنود أو اللحــود[6]

الرمزية المغرقة في الذاتية، والمستلهَمَة منْ وضْعٍ معيّن كقول سعد الدِّين الخمّار:

سُلِبتُ بمن تاهت لِرقّة طَبْعِهَا * ومنْ دَأْبهَا مع كُلّ من قَدْ هَوَى الهَجْرُ

سُلبت بهيفــاءَ عَلَتْ وتَكَبَّــرتْ * لأنّ أديـــب العُــرب في رَبْعِـــهَــا غمْــرُ

أُناشِدُهَا الإنصَافَ والعَـدْلَ تارةً * ترِقُّ، وأحْيــاناً، لـــي النــظـــر الشــزرُ![7]

ربط الوطنية بثلاثة عناصر: الدين، اللغة، الوطن، كما جاء على لسان عمر بن قدور:

قلمي لسانُ ثلاثة بفؤادِي * ديني ووجداني وحبّ بلادي[8]

بين هذه النظرة السوداوية القاتمة، وتلك الصّبْغة السياسية الثورية، والبُعْد الرمزي إضافة إلى ذلك الاِمتزاج والتداخل بين الوطنية واللغة والدّين، في عيِّنات شعرية، بعيدة عن الاستقلالية في الغرض، أقول بين هذا وذاك، سار شعرنا الوطني مسيرته، مخلِّداً طابَعَهُ المُمَيّز بين الآداب العربية الأخرى، فكانت التجربة .. وكان الإحساس ... وكان الألم ... وكان التعبير.

قال محمد العبيد:

وإنْ دَعَاني قوْمِي أَنْ أُنَاصِرَهُمْ * فَعُدّتي في انتصاري: الشِّعْر والأدب[9]

أحمد سحنون
يُفاجئني هذا الشاعر؛ حين أجدُهُ يقول في مقدّمة ديوانه:

«لولا الإلحاح المتكرر من الأصدقاء، ومن الأخوة المعنيّين بحفظ التراث، والموكولِ إليهم جمعه، ونشره، لما وَجَدْتُ أيَّ باعث لِتقدِيمِهِ إلى القراء.» ويضيف: «إنني لا أرضى عن شعري لأنني لا أراه معبِّراً عمّا أشعر بِهِ، من صور وَأخيله، لأن الشعر هو شعور الإنسان ... والناس يختلفون في التعبير عن شعورهم ويتفاوَتون1[10].»

والواقع، أني أجدُه مبالغا فيما ذهب إليْه ... فقد قرأتُ ديوانَهُ ولَمَسْتُ فيه شاعرية خاصّة، تبقى شامخة في مصافِّ شعراء الجزائر، على الرغم ممّا اعتراها من توقف بين الحين والآخر ... وعلى كل حال، فـ«الشعر الحقّ إلهامٌ لا فنّ، وعفوية لا صناعة»[11] هذه "العفوية" ألمسها عند أحمد سحنون، وهو ينادي:

يا فتية الضّاد حان الوقت فاطرحوا * هذا الونى وانهضوا فالناس قد طاروا

شقوا الزحام إلى العلياء واقتحموا * أخطارها إنما العلياء أخطار

أرواح آبائكم في الخلد قد هتفت * تحرّرُوا، فجميع الناسِ أحرار![12]

إنها دعوة صادقة إلى الانتفاضة؛ بُغْيَة تغيير واقع كالح، لايرضاهُ الشاعر، وإن كان في هذه الدعوة "عمومية" إلّا أنها تحمل إرهاصات التّمرّد، لتلتقي بأبيات أخرى، تُسطر اقتراب تحقيق المنى، يقول الشاعر مخاطبا ابنه:

وتجلّدْ فأمانينا على * وشك أن يسطع في الأفق سناها

وستلقاني فتنسى كل ما * ذقت من حرب الليالي وأذاها

في بلادٍ سوف تغدو جنة * تجد الأنفس فيها مشتهاها

فترقّب فجر يوم مشرق * ينجلي فيه عن النفس أساها[13]

وفعلا صدق تكهّن الشاعر، وأشرق هذا الفجر، غير أن المنظمة السرية للمستوطنين الفرنسيين أبت إلّا أن تطمس هذا الفجر وتغسله بالدّماء، فيُسجّل الشاعر الحادثة:

جاء الربيع ولم تزل أرض الحِمَى * (بالنازلات الماحقات) تميدُ

وبكل مدرجة دم لمجاهد * وأريج قبر قد ثواه شهيد

وبكل نفس لوعة مجتاحة * وبكل قلب للأسى ترديدُ[14]

جاء الربيع وفي الجزائر مأتم * في كل دارٍ، والسرور طريدُ

لم يبق بيتٌ لم يُودّعْ راحلا * لقبر، أو لم يبك فيه فقيد

هذه المجزرة الرهيبة في صفوف الجزائريين، تذكي شعور الشاعر فإذا به يهتف متأثِرا:

إن لم تكن يوم التحرر شاعرا * فلأنت عن ساح القريض بعيد

يوم التحرر عيد شامل * فيه يُقام بكل دارٍ عيد

فإن رمت أن تجنيَ الخلودَ فهذه * ساحاته فاهتف فأنت مجيد

هات القصيد الفذّ هذا يومه * ما كل يوم ُيسْتجاد قصيد

أن يشحُّ شعركَ عن بلادٍ طالما * جادتْ عليها بالنفوس الغيد؟[15]

ولا يلبث الشاعر أن يستغلّ مناسبة إيقاف القتال، فينشد:

اليوم ينعم بالُ كل شهيد * في خلده، ويُقيمُ أعظم عيد

ويقول كل فدائي في حفله * اليوم قد حطمتُ كل قيودي

والشعب يهتف كله مستبشرًا * يا فرحتي نضجت ثمار جهودي

اليوم ترفع في الجزائر راية * تحمي عرين أبوّة وجدود

إن الجزائر خلدت تاريخها * بجهادِ ِفتْيَتِها الأباة الصيد

فاسمع أغَرَّ قصائدي في عيدها * فَبِوَحْي ثورتها، نظمتُ قصيدي[16]

ويفخر الشاعر بأرض الجزائر، فينعتها قائلا:

أرض الجزائر يا سماء كواكب * ومعين إلهام ومهد أسود

يا تربة، الشهداء يا أرضي التي * صنعت من الأمجاد كلّ فريد

قد خضت معركة التحرير لم يكن * لك في الوغى من عدة وعديد

وعتاد خصمك حِلف الأطلس كله * يزجي بأسلحة له وجنود

وخرجت بالمجد الأثيل وعدت من * ساح الوغى بالنصر والتأييد[17]

وعلى نفس المنوال، يناجي الشاعر "ابن الجزائر" مذكرا بالهوية الثابتة فيقول:

يا ابن الجزائر يا سليل أماجد * خلقوا لنشر مبادئ الإصلاح

قل للألي حكموا بلادك بالهوى * من كل سفاك الدما سفاح

متطفلين على الموائد ساقهم * شره النفوس لوفرة الأرباح

راموا لشعب باسل إدماجَه * فبدا كطود في مهبّ رياح!

إن الجزائر لا تخاف سلاحكم * فلها من الإيمان خير سلاح.[18]

وكثيرًا ما نجد الشاعر، يستعين بالسرد القصصي، فتصبح القصيدة عنده، أقصوصة، يقول مثلا عن جيش التحرير:

قد هجرت الديار في الله، لم تحفل بزوجٍ ولا وليدٍ غرير

وازدريت العيش الرخي، فلم تعبأ بنوم ولا فراش وثير

واتخذت الجبال كالنسر مأوى * وكذاك الجبال؛ مأوى النسور!

وتعرضت للجليد وللثلج ولم تخش ثورة الزمهرير

تتلقى جيش الأعاصير في الليل، وجيش الأعداء عند البكور[19]

وكأن الشاعر يستلطف هذا السرد، فنجده يحكي قصة البطل الرمز:

رأى أرض أجداده الغالية * تحكم فيها العدوّ وساد!

فأعلنها ثورة حامية! * تقوّض ما قد بناه وشادا!

وهبّ كعاصفة عاتية * يبيد الشرور ويمحو الفسادا

وحدق في الأفق الأوسع * كما حدّق الصقر يبغي اصطيادا!

ويستمر أحمد سحنون في عرض حكاية هذا البطل الرمز، الى أن:

ولكن قنبلة غادره! * أصابت من الوطنيِّ الفؤاد!

فلم يرهب القوة القاهرة * ومات شهيدا، يوالي الجهادا[20]

وفي سياق الرمز، والصورة الفنية المعبّرة، يوظف الشاعر لفظ: "النسر" مكنيا بها عن "الفدائي" فينشد:

يا لنسر في سماء المجد حلَّق

وبأهداب المعالي قد تعلّق

مُذْ غدا في الأفق كالنجم تألق

عشقته كل أبصار البرايا

غير أن الموت صياد النسور

قد أصاب النسر في أعلى الوكور

فهوى من أفقه بين الصخور

وتلاشى البطل الحر شظايا[21]

ويشكل سقوط النسر حتمية لصعود الحرية، يقول الشاعر:

الضحايا سلم للحريات!

ومطايا للعلا والمكرمات

لم يصل شعب الى عزّ الحياة

لم يكن يرقى على هام الضحايا[22]

يتخلّص الشاعر، من البُعد الرّمزي إلى تسطير الوعي السّياسي، فيجنح الى التعبير عن رغبة عاجلة، ويقول:

بلادي ان ليلك قد تناهى * وإن الفجر قد وشى رُبَاك

وقد لَفّ العِدَى ليل طويل * فلا يَهنأ بعُقْبَاهُم عداكِ[23]

وعيدُك سوف يُعلن فاسْتعدي * لأعياد التحرر والفكاك!

إذا خنقت صداك يد العوادي * فسوف تردد الدنيا صداك![24]

وبنفس الوعي، يتحمس الشاعر، ويفصح عن شكوى الجزائر وينشد:

يا أمة جمعتها * عقيدة الإيمان

وإخوة قد تلاقوا * على هوى الأوطان

إن الجزائر تشكو * لكم بدون لسان!

تشكو لكم ما تلاقي * من ذلة وهوان!

تشكو اغتصاب حقوق * تشكو ضياع أمان

فلتنجدوها لتحي! * كسائر البلدان

بأن تردّوا إليها * ما ضاع منذ زمان

ويح (الجزائر) كم ذا * تلقى من الحرمان![25]

ويبقى السجن في ذاكرة الشاعر أحد العوامل الدافعة إلى النظم فإذا به يصف حاله، وهو يودع رفاقه، ساعة خروجه:

وَدَاعاً وَدَاعاً رفاقي الكرام * وداع أخٍ لا يخون الذمام

فما السجن حبسك في موضع * قصيّ مع الأصدقاءِ الكرام

ولكنه البعد عمّن تود ملا * قاته، وجوار اللئام!

ولكن يخفف وقع الأسى * ويدفع وقع الخطوب الجسام

شعوري بأن الأماني الكبار * ستؤذن أنوارها بابتسام!

ويطلع فجر الحياة الجميل * بأفق (الجزائر) يجلو الظلام!

ونجني ثمَارَ الكفاح الطويل * ونحظى برغم العِدَى بالمرام

وألقاكم فوق أرض الحِمَى * ومن فوقنا راية لا ترام!

وداعا إلى يوم أن نستقل * ونعلن عيد الحمى للأنام[26]

والواقع أن حياة السجن هذه، تركت بصماتها واضحة في شعر أحمد سحنون؛ إذ أن جل قصائد الديوان تحكي حياة الرجل وأمانيه وهو في السجن. وكلما حل عليه عام جديد أو عيد جديد في السجن، إلا وترك العنان لقلمه، يسيل بمقطوعات عذاب؛ يقول مثلا:

عام جديد يقبل * هل فيه خير يُؤمل؟

هل فيه من فرح يتا * حُ، ومن هناء يشمل؟

هل فيه للكرب المنيخ على البلاد تحوّل؟

هل فيه من ذل القيود تحرر وتحلل؟

هل فيه يرجع مبعدٌ؟ * هل فيه يسكت معول؟

هل للمكافح في (الجزائر) * من ثواب يجزل؟

شعب (الجزائر) في السُّجون وفي الحديد مكبل!

شعب الجزائر كالقطيع مشرد ومقتل!

شعب يذوب شبابه بيد الخطوب ويذبل؟

شعب صَبَايَاهُ بنيران الرصاصِ تجندل!

رباه طال بلاؤنا! * فإلى متى نتحمل؟

رباه ما لكُرُوبنَا .... الا عليك معوَّل![27]

ويحس بفداحة الخطب، وهو بين أربعة جدران، ذنبه الوحيد أنه:

أيها المُبعَد ما أفدح خطبك!

أن يكون الحب للأوطان ذنبك!

وإذا حاولت أن تنهض شعبك

حاول الأعداء في أرضك حربك

أيها المبعد، في صدرك ثورة

تقتضي مثلك أن يلعب دوره

أن تزيل الجائر الباغي وجوره

إن الاستعمار قد جاوز طوره[28]

أيها المبعد، للخطب انتهاء

بالمنى كالليل، يتلوه الضياء

ويعم الكون بشر وهناء

وكذا دنياك صبح ومساء

أيها المبعد، يا رمز الجهاد!

لا تبت بالهم مكلُوم الفؤاد!

سوف يجلو النصر ليل الاضطهاد

وترى عيناك تحرير البلاد![29]

ان هذا المُبْعد، يضيق ذرعا بالسجن، فيقول:

أرى السجن خنقا للمواهب والنهى * فكيف يطيق الحر في ظله مأوى

وهل يستطيب العيش في السجن شاعر * تضيق به الدنيا فيجأر بالشكوى

تلمّ به في اليوم أخيلة الحِمَى * وتنتابه في الليل أطياف من يهوى

فيا رب حرّر مَوطني كي أزوَرهُ * فحرية الأوطان غايتي القُصوَى*

ومثلما تعرف النفس ضيقا وكمدا، فإنها تذعن للصبر في أحيان كثيرة، ونفس الشاعر السجين أولى بهذا الصبر:

يا رهين السّجن من أجل الحمى * ما جنى إثما ولا شرًّا أتاه

إنما طالب بالحقّ الذي * إن يَنَمْ عنه يكن شرَّ الجناه!

لا يخنك الصبر في معضلة * انما الصبر سبيل للنجاه!

ويذيبُ التّعلل بالقلّة في العدد، فيقول:

لا تقل نحن قليلون فما! * تضعف القلة من جند الإلاه[30]

ولا يكترث بأسلحة العدو، فيقول:

لا تقل ليست لنا أسلحة * وعتاد مثلما عند الطغاة!

عدة الإيمان أقوى عدة * كم أبادت من معدات العتاه

ويقتبس من الموروث الإسلامي، فينشد:

لك في (بدر) دليل قاطع * إذْ جنى العزل من النصر جناه

كلنا يحصد ما يزرعه * كلنا رهن بما تجني يداه![31]

إن يوماً فيه تغدو سيّدا * سوف يجلو ظلمة اليأس ضحاه

وإذا كان السِّجنُ مدعاة لأحوال نفسية متباينة، تتعاقب على الشاعر، فيصُوغُهَا في شحنات انفعالية متتالية، فإن خروج الاستعمار مدعاة إلى البناء، والرفعة، يقول أحمد سحنون في قصيدة له بعنوان: من وحي الاستقلال:

لم يبق في أرض (الجزائر) حكم على ابن الضاد جائر

ذهب الذين بنوا سعادتهم على موت الضمائر

ومضى الذين قضت شهامتهم بتقتيل الحرائر

هيا لنبني فالبلاد خرائب مثل المقابر![32]

نبني المكارم، مثلما نبني المنازل والعمائر

يا ابن (الجزائر) كن على النعمى لربك خير شاكر

واهتف لكل مناضل يسعى لتشييد الجزائر!

ولأمة قد أنجبت لك كل ماضي الحدّ باتر![33]

وسواء في ذكره للاستقلال أو اشادته بالثورة أيّام الحرب، وتعداد صفات الثوار، فإن الشاعر في المقابل، كان يندّد بفرنسا، ويوجّه إليها الخطاب السّاخر، فينشد متهكٍّما:

قل للفرنسيس الذين تجبَّروا * أسرفتم في التيه والإدلال

لم تبق سوق للرقيق ولم يعد * لأحرار ولا لموَّال!

فاصحوا من الاحلام فاستعماركم * لمواطن الثوار محض خيال!

وابن الجزائر لا يبيح أرضه * لسواه من حكم ولا استغلال

فاجلوا عن الوطن الكريم فإنه * مأوى الأسود، ومعقل الأبطال[34]

وعلى عادة أغلب شعراء الطليعة في الجزائر، كان أحمد سحنون، بين الفينة والأخرى، يسطّر مفهوم "السيَّاسة" الحقيقية، فيقول:

ليس التشدق بالفضول سياسة * كلا، ولا ذكر المجازر والحروب

أو أن تثير لدى المجالس ضجة! * حول التقدم والتأخّر في الشعوب

إن السياسة أن تفكر دائما * فيما تعالجه بلادك من كروب

وترى فتعمل ما ترى لعلاجها * ولو اقتحمت لها المكاره والخطوب

أما التشدّق بالسّياسة وحدها * من غير تضحية فذاك من العُيُوبِ[35]

وفي موقف آخر، يعلن الشاعر عن تذمّره من الخمول السياسي، في الجزائر، فينظم قصيدة بعنوان "لا تُطِلْ لَوْمِي" اخترتُ منها هذه المقاطع، وفيها تَسْتَفْحِلُ المعاناة...

يقول الشاعر:

لا تطل لومي ولا تطلب نشيدي * أنا في شغل بتحطيم قيودي

أغني ولساني موثق * وبِطَوْقٍ خانقٍ طُوِّق جيدي؟

ويغني من غدا موطنه * بين أنياب ذئاب وأسود

لا تطل لومي على صمتي فلو * هزّ قومي الشعر ما حطمت عودي

بسُكُوتِي لم يضع شعري سدى * وبشعري طالما ضاعت جهودي

لم يعد للِشعْر تأثير وَلَوْ * رجّ كالمدفع او قصف الرعود!

إنّ قومي ألفوا طعْمَ الكرى * هل يُفيدُ الشِّعر في قَوْم رقود؟![36]

ويرمز الشاعر الى وضع سياسي منحرف، فينشد:

أبعد أن ثرْنا على قيدنا * وزال قيد الذل والقهر

نرضى بقيد آخر مرهق! * للحر؟ قيد العقل والفكر؟!

وقد جنينا النصر في ثورة * كان جناها أمل العمر

لكننا لما بلغنا المدى * من ربحنا، صِرْنَا إلى خُسْرِ [37]

ويشتد تذمر الشاعر فيقول:

وإذا الأمّة صارت أمما * بدّدَت ما جمعته من قواها[38]

لم تر الراحة في استعمارها * ولدى استقلالها زاد شقاها

ويرى الشاعر، أن الصبر على هذا الأمر لا يجدي شيئا:

فالصبر لا يحمد في موطن * يساس فيه الخير بالشر!

كلا! ولا يحسن في أمة * لا تعرف النفع من الضّرّ!

كلا ولا يحسن في موضع * تداس فيه حرية الفكر!![39]

ويضيف متعجبًا:

عجبا! مَسخْنا بالهوى استقلالنا * أم كيف ندعو موتنا استقلالا!!

ويختم أحمد سحنون ديوانه ؛بنشيدٍ وطني يسجِّل فيه "رقم" ضحايا الجزائر، ذلك الرقم الذي أصبح قلادة تزيّن صدر ثورتنا، وَيجعلها مفخرة بين ثورات العالم:

موطن المليون والنصف شهيد

حاز فخراً لم يحزه موطن!

سوف يبقى خالداً ليس يبيد

مجد شعب رددته الألسن!

أي أرض قد حوت مجد السماء

تلك أرض الشهداء المنجبه

تنبت الأبطال والصيد كما

تنبت الزهر الحقول المخصبة

إننا شعب البطولات الألي

قهرنا كل باغ مُعْتد! !

نحن لم نسع إلى سفك الدماء

بل ثأرنا للحقوق المهدرة

فأقمنا للمعالي سُلّماً

وحفرنا للطغاة مقبرة!![40]

على هذه النغمة الشجية، أُوَدِّعُ شاعرنا، لاستقبال شاعر آخر من شعراء الطليعة، أحبُّوا الوطن، وأخلصوا في تسجيل أحداثه، فانطبق عليهم القول القديم:

« الشعر ديوان العرب»!

سعـد الدّيــن الخمّـــار
إنه من الذين تركوا بصماتهم واضحة في الشعر الجزائري بشكل عام، وراح الخمّار يُسجّل لَواعجه في شكل قصائد يتعانق فيها "المبدأ" بالمعاناة:

يا ناعس الفكر ممّا قد أحاط بنا * أصخِ بربّك، إن القلب نواح

ألم تر الشعب كيف انحط ممتهناً * فالقلب منفطر، والفكر جراح

ما للجزائر في نوم، على ثقة * بالدّهر، وهو إلى التدمير جناح

تبكي الجزائر كالخنساء على صخر * على بنين لقهر الجهل قد طاحوا

تبكي وحُقّ لَهَا، إذ نحن نخذلها * بين البلاد، فهل عز وإفلاح[41]

ويشتد ألم الشاعر؛ فيترك الحبل على غاربه، وينساق في عتاب تكتنفه الحسرة، وتظلّله الدمعة، وتختمه الأمنية:

قفا نبك شعبا ميتا يزدرى به * وما الموت إلا الجهل والضيم والكدر

قفا نبك شعباً مصلحوه تناكروا * لعمرك ما مثل التناكر إذْ خرُّوا

قفا نبك شعباً لا بنوه تعارفوا * فيرجى على رغم الحسود لنا الخير

بنِي جلدتي داء التناكر قد فشا * ونحن أسيرو الجهل، يحدو بنا السكر[42]

بني جلدتي لا تيأسُوا وانهضوا بنا * فلِلْيُسرِ كرَّاتٌ إذا امتلك العُسْر

وتغزو الرمزية مختلف قصائد الشاعر، فإذا به يجنح إلى التغزل في الحرية، (وهو ما اصطلح عليه باسم: التغزل السياسي) فيناجيها تارة، وتارة يسهب في وصفها، ولا ينفك يذكرها بحرقة:

ألا زحْزحي عن وجهك السّتر برهة * فغاية ما أملت أن يُكْشف السِتْرُ

فرفقا بكلوم الفؤاد متيَّمٌ * رماه بشهب الحبّ من وجهك البدر

تواعدني أن سوف يظهر سرها * مضى اليوم، والأسبوع، والعام والشهر

عشقتكِ من عهد الشبيبة والصبا * ومثلكِ من يهوى البصير، ولا فخر[43]

ولا يلبث الشاعر أن يدمج المحبوبة "الرمز" بالبحيرة المستقبلية فيتساءل:

وكم قلتُ للفكر العليل تعلُّلاً * إلاَمَ، وهذا الشعب يجري به القهر؟

علاَمَ رُكامُ الحرب حالف جوّنا * وحتى مَ، والأكوان يغمرها الذُعرُ؟

أُمُسْتقبلاً جُدْ بالحديث ولا تخف * فعندي، وحقّ الغيب، يُّدّخرُ السّرّ!

أهل أنت أضمرت الشقاء لشعبنا * وقبْلاً، أتت منك الخيانة والمكرُ![44]

الربيــع بوشامــة
الشاعر الشهيد، الربيع بوشامة الذي أعدم رميا بالرصاص، عام 1959، لم يفته أنْ يوظف قلمه في خدمة النص الشّعري المميّز، والذي يعبر في مجمله عن المأساة الجزائرية، وكم أدمت من القلوب، وكم أهدرت من الأرواح ...

يقول الشاعر في ذكرى 8 ماي 1945:

لي فيك يا (ماي) النوائب والرّدى * ذكرى ستبقى طيلة الأعوام

فقدان خير أب، وأكرم صحبة * وجحيم سجن، حفّ بالإعدام

في ذمّة التاريخ تسعة أشهر * قضيتها في غزوة وصدام[45]

ويمثل شهر (ماي) عند الشاعر؛ رمز الفاجعة، وعنوان المرارة، فيسيل قلمه:

أصبحت رمز الفاجعات بذا الحمى * تبدو بهيما، مفزع الأظلام

يا (ماي) مالك واجما لم تنتقم * أوَ ما سقاك الظلم أسوأ جام؟!

هذا حرامك بالدمى مسفوكة * قد عجّ بالأرواح والأجسام

الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن جريدة البصائر عدد 79/9 ماي

فارفع إلى مولاك شكوى ضارع * يبرأ من الحكام والأحكام

يا (ماي) إنا في انتظار حكومة * فمتى يساق الظلم للإعدام؟![46]

وتأبى نخوة الشاعر إلّا أن تذيب تلك المرارة في شعور التّحدّي وقهر الِاسْتكانة، فإذا به يحفّز العزائم، ويشحذ الهمم، وترتفع عقيرته صداحة:

قوموا لحفظ تراث من مكارمكم* وحطموا كل أغلال وأصفاد

ألا إدْأبوا لتُعِيدوا للحِمى سيراً * كريمة حاطها تاريخ أجداد[47]

هذا الإحساس المرهف الذي تموّج عبر شاعرية الربيع بوشامة، نجده يتضاعف ويصل حدّ الانفجار والسخط، عند شاعرٍ آخر، لم يسعفني الحظ في العثور إلّا على النّزر القليل من إبداعه، ذاك هو الشاعر الرّقيق:

السعيــد الزاهــري
استطاع الزاهري أن يلخص الوضع المتعفّن عام 1935، فقال:

ضقت ذرعاً برحب هذا الوجود * وبقومٍ طول الزّمان؛ رُقُود

هذه الحال في الجزائر، لا تبغوا * من الشّرح، بعد ذا، من مزيد[48]

هذا الضيق بواقع مرير، حرّك مكامِن الانفعال، وإذا بالزاهري، يمزّق قناع العجز والاستسلام، فيصيح:

واستنهض الأحرارَ لا مُتأَوِّها * فماذا عسى يجدي الجزائر: أوَّاه![49]

وحق للشاعر أن يستنهض الأحرار، فَ:(أوّاه!) منبوذة في قاموس الثورات ... مُهْمَلَة في دنيا البطولات ... ويحضرني هنا قول رمضان حمود:

أفيقوا، فلا عيش يطيب لراقد * وصونوا لنا مجداً، ليفتخر الشّعب[50]

رمضـــان حمـــود
جمع رمضان حمود بين النثر والشعر؛ في التعبير عن القضية الجزائرية ... ولا أدلّ على ذلك من كتابه: "بذور الحياة"؛ الذي عالج فيه مسائل جديدة من ضمنها: الصراع بين القديم والجديد، وهو موضوع – على أهميته – لا يتعلق بهذه المقاربة، المحصورة في الشعر السياسي الوطني في الجزائر... ومع ذلك لا أجد غضاضة في الاستشهاد بقوله نثراً: «إذا جهلتْ أمة تاريخها، فقد جهلت مستقبلها، وإذا جهلتْ مستقبلها، فقد أسِرتْ نفسها، وألقتها في يد غيرها.» انطلاقاً من هذا المفهوم؛ تفتّقتْ شاعرية رمضان حمود لِتُتَرْجِم وضْعاً؛ لا تُحْسَد الجزائر عليه ... يقول الشاعر:

بكيت، ومثلي لا يحقّ له البكا * على أمة مخلوقة للنوازل

بكيتُ عليها رحمة وصبابة * وإني على ذاك البكا غير نادم

ذرفت عليها أدمعاً من نواظر * تساهر طول الليل ضوء الكواكب[51]

ويعرج الشاعر على شرح فلسفة البكاء؛ وأن هذا البكاء ليس وليد ضعف في العزيمة، أو نفاد في الصبر، أو خوفٍ من المواجهة ... وإنما البكاء عنده راحة نفسية ممزوجة بالحسرة على فهمٍ خاطئ:

بكيتُ عليهم – لا أبا لك – فالبكا * طبيب يبلّ الصدر عند المصائب

ولم أبكِ جُبْناً أو مخافة ناطـــــق * فلي همّةٌ مُنْتامة للجلائــــــــــل

تمر على المكروه وهي طليقـــة * وتلبس ثوب الصبر عند العظائم

ولكنما أبكي نفوساً ضعيفـــــــــة * رأتْ خدمة الأوطان ليس بواجب![52]

لا يلبث الشاعر استبدال فلسفة البكاء؛ بفلسفة "الرّمز" فيطلق العنان لشاعريته؛ ويتغزل في الحرية، وكأنه يجد في هذا الغزل متنفّساً لحلمٍ موعود:

لا تلمني في حبها وهواها * لستُ أختارُ ما حييتُ سواها

إن عمري ضحية لأراها * كوكباً ساطعاً بِبُرْج عُلاهــــا

فهنائي موكل برضاهـــــا * وشقائي مسلم لشقاهـــــــــــا[53]

ويلجأ رمضان حمود في أحيانٍ كثيرة إلى الجمع بين الرمز والطبيعة ... فيوظف هذه الأخيرة كَمَدَدٍ فنّي للتعبير عن حالة نفسية ضائعة ... يقول في رقة وعذوبة، يُحِسّهما المتذوق:

أيها الطائر المحلّق فوقي * هلْ أجد فيك حكمة وانتباها

أترى هلْ تكون مني رسولاً * يحمل السرّ للحبيب وجاها

قلْ لها ما شهِدْتَ مني جميعاً * فعساها ترثي لِحالي عساها[54]

وعلى كل حال، فالشاعر انطلق من أن التجربة الشعرية؛ هي أولاً وقبل كل شيء؛ إحساس ... إحساسٌ يستوْعبُ واقعَ الإنسان، ويتغنّى بآماله، وبآلامه، وكان رمضان حمود يرمي إلى أدبٍ هادف يخدم الأفكار التي تربط بين أفراد الأمة؛ لِتقْوى وتتّحدَ ... يقول في هذا الصدد: « لستُ من الذين يكتبون للتسلية أوِ الترويح عن النفس. ولا من الذين يتلذّذون بالعبارات المنمقة الرقيقة، ولكنّي أكتبُ لِأفيد، وأستفيد، أكتبُ. لا لِيُقالَ إنه كتب ... بلْ ليقول لي ضميري: إنكَ قمتَ بواجبك![55]

ويُضيف: «لا يُسَمّى الشاعر شاعراً عندي؛ إلاّ إذا خاطب الناس باللغة التي يفهمونها ... لا أن يُكلّمونا في القرن العشرين بلغة امرئ القيس وطرفة والمهلهل الجاهليين الغابرين.»[56]

الشاعر البطل الأمير عبد القادر
هذا الرجل تسامى فوق التخصّص، فجمع بين "اليراعة والأسل" ، وانبرى ينسج وشاح المجد، بالسّيف الباتر تارة، وبالقلم الثائر تارةً أخرى، فكان بطلا على مستوى الكفاح، وكان عبقريا على مستوى النغمة الشّعرية العذبة، الّتي تنساب في شغاف القلب دون استئذان. يقول الدكتور "ممدوح حقّي" في تقييم عامّ لشعر الأمير:

«وهو -على العموم- آخر حلقات الشّعر المتحدِّر من القرون الوسطى، بكل ما فيه من مزايا وعيوب، وهو إلى النظم، أقرب منه إلى الشّعر، غير أنه سجل صادق لعصره، يَحسُن أن يُدرَس نموذجا للأسلوب في زمنه، ونحن ممّن لا ينكر تغيُّر الأساليب، وتلوُّن الألحان، بتغيّر الأيام، وتقلُّب الأزمان.»[57]

وأنا أقول: خلافا للشعراء السّابقين، والذين كان منهجهم سياسيا وطنيّا محضاً، على الرّغم من تنوع الأغراض في القصيدة الواحدة، فإنّ قصائد الأمير تعرف ازدواجية بين غرض الفخر الذّاتيّ، والمنظور السّياسي، بحيث لا يمكن الفصل بينهما نظرا لكون الرّجل خَبِرَ المعارك ومارس مهنة الجنديّ، والقائد فسال قلمه بحبر التجربة:

إذا ما لقيت الخيلَ، إني لأوَّلٌ * وإن جال أصحابي فإني لها تالِ

ومن عادة السّادات بالجيش تحتمي * وبي يحتمي جيشي، وتحرس أبطالي

سلي الليل عنّي، كم شققتُ أديمه * على ضامر الجنبيْن، معتدلٍ عالِ

وعنّي سلي جيش الفرنسيين تعلمي * بأن مناياهم بسيفي وعسالي[58]

وفي موقف آخر، انتصر الأمير على أربعة جيوش فرنسية، وعلى الكثير من القبائل، التي انضّمت إلى الجيوش الفرنسية، والتي كان يقود إحداها الخائن "يوسف العنابي"، فافتخر بهذا النّصر، ودوّى صوتُه في الآفاق:

لنا في كل مكرمة مجال * ومن فوق السماك لنا رجال

سلوا، تخبركم عنّا فرنسا * ويصدق؛ إن حكت منها المقال

فكم لي فيهم من يوم حرب * به افتخر الزمان، ولا يزال[59]

ونسير مع النّخوة الأميرية، في هدوء فنيّ، نلمس فيه نفحة من فخر "عنترة"، وومضة من تحدّي "عمرو بن كلثوم"، وجوّا حربيّا، قوامه الخيول والسّيوف، والرّايات المُرَفرِفة، ورائحة المنايا المواثل:

وأغشى مضيق الموت، لا متهيّبا * وأحمي نساء الحيّ، في يوم تهوال

أميرٌ إذا ما كان جيشيَ مقبلا * وموقد نار الحرب، إن لم يكن صالي[60]

أدافع عنهم ما يخافون من ردًى * فيشكر كل الخلق من حسن فعلي

وأورِدُ رايات الطعان صحيحة * وأصدرها -بالرمي- تمثال غربال

فما همّتي إلّا مقارعة العِدَا * وهزمي أبطالاً شداداً بأبطالي[61]

ويشير الشاعر إلى حادثة الأسرى الفرنسيين، الذين أطلق الأمير سراحهم، بعد أن عاملهم معاملة حسنة، ولمّا التحقوا بجيشهم أعادتهم فرنسا لِقتال الأمير على أساس أن هؤلاء الأسرى أعرف الناس بالأمير من سواهم، وباستطاعتهم أن يكشفوه في المعركة، ولكنهم حينما رأوا الأمير؛ قد سقط عن فرسه، وهو يحاول حمل جثة ابن أخيه الشهيد، أحدق هؤلاء الأسرى بالأمير وحَمَوْه ريثما أوتي له بفرسه، فركبه وأتمّ القتال، وربح المعركة!

يقول البطل الشاعر:

بيوم قضى نحبا أخي فارتقى إلى * جنان له فيها نبي الرضا أوى

ومن بينهم حملته حين قد قضى * وكم من رمية كالنجم، من أفقه هوى

ويم قضة تحتي جواد برمية * وبي أحدقوا، لولا أولو البأس والقوى

وأسيافنا، قد جرّدت من جفونها * فردّت إليها؛ بعد ورد، وقد روى![62]

محمد العيد آل خليفة
تغنى شيخ شعرائنا؛ يوماً فقال:

سأمضي إلى دار البقاء؛ كما مضتْ * خلائق قبلي؛ لا تُعَدّ ولا تحصى

وأترك شعري من ورائي خالـــــِداً * عزيزاً على الأجيالِ؛ تأبى له الرّخصا[63]

فعلاً! والديوان بين يدي، أكاد ألمس روح الشاعر وهي تُرفرف بين الصفحات، وتقفز بين السطور، لتفرض وُجوداً أدبياً عايش مراحل مختلفة، تعاقبتْ على البلاد، أهمها مرحلة الاستدمار بمحنه ونوائبه ... فكان التطلع إلى الحرية، وكانت النزعة الإنسانية؛ تتصاعد عبر شعر هذا الرجل؛ وهو يرى شعبه مُثْخَناً بالجراح، ينزف من التمزق ... والشعر كما أشار "صالح خرفي" «لم ينتظر إعلان الاستقلال ليحتفل بحريته، بل عانقها مضرجة بالدماء، مثقلة بالجماجم، محدوّة بآهات اليتامى وأناتهم، محمولة على أرواح الشهداء»[64]

من هذا المفهوم؛ كانت الانطلاقة عند محمد العيد آل خليفة؛ في بدايتها رمزية تتعلل بالأماني وترشف من حزن دفين:

أين (ليْلاي) أيْنَها * حِيلَ بْيني وبيْنها

روَّعَتْني ِبَبيْنــــها * لا رعى اللهُ بيْنَها

مالِ (ليلايَ) لم تصلْ * مُهْجاتٍ فَدَيْنَــها

وقلوباً علِقْنَــــها * وعيوناً؛ بَكيْنَهــــــا

كمْ تساءلتُ سالكاً * أنْهُجاً ما حويْنَها

لم يُجبْني سوى الصّدى * أين (ليلاي) أْينَها ؟![65]

ويترك الشاعر "ليْلاه" على حال الصدّ والهجران؛ ليذوب في مناجاة ليلٍ طويل، ضاق به ذرعاً.. يقول:

يا ليلُ! طلتَ جناحا * متى تريني الصّباحا؟

قد ضقتُ بالهمّ ذرعاً * وما وجدتُ انشراحا![66]

ويسير الشاعر على وتيرة الرّمز؛ قرابة الثلاثين بيتاً، إلى أن ينفجر في انفعالٍ شديد. فيحرق الهدوء الرّتيب، ويكشف عن الغصّة الناشبة؛ ويقول:

ودّوا النزاع فكانوا * مثل الكباش نطاحا

أخشى على الشعب هلكاً * يُبيده واجتياحا

من ألْسُنِ قاذفات * تروي القبيحَ؛ فصاحا

وأنفس خائنات * تهوى الخنى والسّفاحا

من أيْن يُفْلحُ شعبٌ * أبى الهُدى والصّلاحا؟!

خاض الميادين دعوى * فأعقبتْه افتضاحا

لأنه لم يُهَيِّءْ * غير الكلام سلاحا !![67]

ويستمر الشاعر على هذا المنوال؛ من التصنيف لِمظاهر المأساة، في أبيات يكتنفها اللوم تارة، واليأس تارة أخرى. ثمّ يختمها بالعودة إلى المناجاة المشحونة بنفاد الصبر، يقول:

يا ليلُ! كم فيك عادٍ * داس الحمى واستباحا !

إلى متى أنتَ داجٍ * تغشى الرُّبا والبطاحا؟

نفسي إلى الفجر تاقتْ * متى أرى الفجر لاحا؟

متى جناحُكَ يُطْوى * يا ليلُ؛ طُلتَ جناحــــا!![68]

وينتقل الشاعر من رمز "الليل"؛ إلى رمزٍ جديد. سمّاه: يا هزاري! ومن ضمن ما قاله مناجياً هذا الهزار:

ناجني نجوى ادّكارِ * واشدُ لي ليلَ نهارِ

قدْ دنا فكّ الأسارِ يا هزاري![69]

وإذا كان الشّاعر يحلم بالانطلاق، ويحسّ في هذا المقطع من القصيدة بقرب الموعودِ، إلا أنه سرعان ما يتذكّر، ولسان حاله يقول:

غير أنا فاتنا نيل المنى * فتولّانا فتور وعنا

خبتَ في الشدو كما خِبت أنا * في حياتي، فتمنّيتُ احتضاري

وتبرّمت بداري يا هزاري!![70]

ولا يلبث أن يصبح هذا التبرّم رغبة جديدة، فاعلة، تفصح عن ترقّب دفين لِـ: "ذات الفخار" فيقول الشاعر:

وادعُ لي ذات الفخار، يا هزاري!

أشرقت مثل الدراري * ورنّت خلف الستار

ترتجي خوض الغمار يا هزاري!

إن تكن ولهان فيها مستهاما * فاقتحم معقلها الوعر اقتحاما

أو ترد منها التفاتا وابتساما * فترنّم بأهازيج الضواري

وتهيّأ للطواري يا هزاري...!![71]

وفي دوّامة الإحساس المرهف، بنفور الطرف الآخر من الاتعاظ، وتغيير الحال، يقف الشاعر وقفة الحائر المرتاب، فينشد:

فمــا باخـتـيـاري * ضياع اجتهادي

وثـقــت بـدهــري * لشغف اعتقادي

ومن فرط حمقي * سخائي بزادي

وقـصـدي صـلاحـا * بأرض الفساد

وعـرضـي نفيســا * بسوق الكساد!!

زمانك حرب * لحرّ المبادي[72]

وفي قصيدة أخرى، نجد نفس المعنى يتكرّر، معنى اليأس وإن كان الشاعر قد حاول هذه المرّة مزجه بالحصانة في الموقف وتحريك النخوة، وشحذ الهزيمة:

كل الأراضي في النعيم رضية * إلّا الجزائر فهي تصلى النارا

يا لـلــرجال لحرمة مهـتوكــة * أفشاعرون أم الرجال سكارى؟!

ما بالكم لا تقلعوا عن وهمكم * وتحرّروا من قيده الأفكارا ؟

كــونوا على المتـعززين أعـزة * كونوا على المتكبرين كبارا

كونوا الجبال الراسيات مناعة * كونوا الحصون الحاميات دمارا[73]

وبعد هذا التوجيه الصّادق، ينادي الشاعر قومه، وكأنّه ينفض عنهم الغبار فيقول:

يا قوم هل بعد الرقاد إفاقة * كم نائم سمع النّداء فثارا

لا تيأسوا، فالله جعل العلا * دولا، كما خلق الورى أطوارا

فلعلّ من بعد المهانة عزّة * ولعل من بعد العسار يسارا![74]

وفي سياق الوطنية الواعية المتأصّلة، نجد الشاعر، ينادي بني وطنه منبها تارة:

بني وطني، إن الحياة مفازة * لكم قد كساها الليل أسبغ سربال[75]

بني وطني، لا خير في كل معرض * عن الشعب منكم واهن النفس بطال!

ومكتفيا تارة أخرى؛ بالإعلان عن مشاعره، يقدّمها قرْبانا لهذه الأرض العزيزة، يقول:

ويا وطني، روحي فداك وراحتي * وعيشي وذودي فيك عنك وتسآلي

وفيك اهتمامي وانشراحي وشدّتي * وليني وإعلالي عليك وإبلالي

وبسطي وقبضي في هواك ومنطقي * وصمتي وهوني في رضاك وإعجالي[76]

ويحس محمد العيد في هذا الوطن بالمتناقضات:

يحييك مشتاق على القرب مشفق * من البعد، مشغوف، بحبّك هائم

لهُ فيك؛ ألوانٌ من الرّأي عدة * فأبيض وضاح، وأسود قاتم

فآونة فيما يرى متفائل * وآونة فيما يرى متشائم[77]

غير أن هذه المتناقضات، لم تكن يومًا لتغيّر من رأيه، أو تقلّل من تعلقه بالجزائر،

بل بالعكس، كانت له بمثابة الحافز على التشبُّث بمعنى الذّوبان في حبّ أرض المعجزات:

وهبتكِ روحي يا جزائر فأمري * كما شئتِ إنّي خاضع لك خادمُ

أصرح أحيانا بقصدي واضحا * وأكن أحياناً، فهل أنت فاهم؟[78]

والشاعر في تصريحه تنتابه نزعة التّملك، ونزعة الشغف، والحرص على هذا البلد الطيّب:

يا موطنا لي خصبه ونعيمه * وله هواي على المدى وتشيُّعي

مازال حبّك ناشئا مترعرعا * في ناشئ بجوانحي مترعرع

أقسمت لو خيّرتني في مصرع * ما اخترتُ الّا في سبيلك مصرعي![79]

ويلمس محمد العيد، في الشعر، المتنفس لبثّ لواعجه، وعرض قضيّته بشكل أو بآخر:

قد كدت أجفو الشعر لولا أنّ لي * بالشعر بعض تعلل وتمتّع[80]

ومن عيون ديوانه، قصيدة ألقاها الشاعر عام 1932، وكانت مثار مضايقات لمحمد العيد، من الدّوائر الاستعماريّة لما شملته من إلحاح على المجابهة، يقول في بعض المقاطع:

عرفتكِ يا نفس ازهدي أو ترهبي * على كل حال مذهبي فيك مذهبي[81]

ولي مطلب صعب الوسائل موعر * فيا ويح نفسي من وسائل مطلبي

سأحملها فيها على الموت ساخراً * من الموت، أو ترمي شعار التهيب

فليس ِبحُرٍّ من يرى العزّ ممكنا * ويبقى أسير الذلّ، تحت التغلّب

وأغرب خطب هالني خطب موطن * لنا منعته الشّمس أسراب أغرب

وِبأسًى شديد، يقول:

فيالك فردوساً تحولت دمنةً! * ويا وحشتا مِن أغرُبٍ فيك نُعَّبُ! [82]

وما أنا إلّا طائر فوق بانه * يردّد سجعا خافتا، ذات مغرب

يسربه تحت الدجى متستّرا * ليأمن رمي الصّائد المترقب

فلا تحقري صوتي الرّقيق فإنّه * من الشّعب، كالّسّلكِ الرّقيق المكهرب[83]

وفي عام 1936، يطالعنا الشاعر بقصيدة (هذه جذوة)، نلمس فيها حسّا سوداويّا قاتما، ومعاناة من ظرف خانق، أغلقت دونه الأبواب وإذا بالحارس يتحوّل إلى لصّ، وإذا بالرّغبة في المجد يلفّها الإحباط، وتلوحُ ساعة النّواح:

نُحْ على أمّة * حظّها تاعس

أمة مجدها * دارج دارس

أمة ما لها * قائدٌ سائس

في نبت الهوى * نبتُها مائس

قد نبا سيفها * وكبا الفارس!

أبإصلاحهــا * يهمس الهامس؟![84]

كلّ رأس بها * مطرق ناكس

كل قلب بها * حائر يائس

خصمها دائب * فوقها دائس

وبنوها أخٌ * لأخٍ باخس

وهوىً منهم * لِهوًى عاكسُ

نحن في بيئة * لصّها حارس!![85]

هذا اللص المتحضّر -في عرف الشاعر- والذي لاذت به الجزائر يومًا، ومنحته الولاء:

يا فرنسا بكِ الجزائر لاذت * وأكنَّت لك الولاءَ الشديدا!

لص الأرض والعرض عليه أن يفهم:

ليس حقا أن تحرمي الشعب حقا * لقي النار دونه والحديدا!

ليس حقا أن تستريحي ويشقى * ليس حقا أن تسكني ويميدا

ليس حقا أن تستجدّي ويبلى * ليس حقا أن تخلُدِي ويبيدا

يا فرنسا ردّي الحقوق علينا * وأقلّي الأذى وكفّي الوعيدا!

نحن رغم الطغاة في الأرض أحرا * رٌ، وإن خالنا الطغاة عبيدا![86]

ويدرك الشاعر، أنه ينزل حاجاته بواد غير ذي زرع، ويلمس بقاء دار لقمان على حالها، فينشد:

هل من جديد فقد سئمنا * سياسة الوعد والوعيد؟![87]

وتعتري الشاعر موجة انفعالية، بسبب ما لاحظه من اختلاف في الرّأي عند ساسة الشعب، فإذا به بقدر ما يكتب عن الوضع، يكتب أيضا عن هذه الشوائب العالقة التي تنخر المجتمع، فيقول:

ويا شعب، اجتنب حرب التعادي * وخلّ اللّغو فهو لها وقود

ولا تزعجك بادرة افتراق * فبدت، فلكلّ عاصفة وقود

بغى الباغي رداك فخاب سعيا * وللباغي الرّدى، ولك الخلود[88]

وتسمو نفس الشاعر إلى ما فيه مصلحة البلاد والعباد، فيدعو إلى المحافظة على الوحدة الوطنيّة، عن طريق تحكيم رأي الشعب، ونبذ النّعرات الحزبية، لما فيها من تقويض لأسس مواجهة الِاستدمار:

قفْ حيث شعبك، مهما كان موقفه * أوْلا، فإنّك عضو منه منحسم

تقول أضحى شتيت الرأي منقسماً * وأنت عنه شتيت الرأي منقسم

فكن مع الشّعب في قول وفي عمل * إن كنت بالرّجل الشّعبي تَتّسِمُ

أعدى عِدا القوم من يُعزى لهم نسبا * ويسمع القدح فيهم وهو يبتسم!![89]

هذه التوجيهات من الشاعر كانت ضرورية للحركة الوطنية، إن هي أرادت تحقيق الأبعاد المسطرة، والتخلص من بيئة عفنة، وصفها محمد العيد بقوله:

أبت السّياسة في الجزا * ئر، أن نعامل كالبشر!!

ولعل من نظم السيا * سة، أن نغش وأن نغرّ

ولعل منها أن يدسـ * سَ، لنا ونُجذَب للحفر!

ولعل منها أن تما * طل، كي يساورنا الضجر

كُفِّي! فحكمك يا سيا * سةُ، في الورى سُوسٌ نخر![90]

هذه السياسة اللعوب، جعلت الشاعر يبكي حال الجزائر، فيقول:

إن الجزائر جوها الـ * وضاح، كالليل اعتكر!

إن الجزائر شعبها افتـ * قد، المرافق وافتقر

والمدعي العمران فيها * اليوم يخرب ما عمر![91]

وتقفز أحداث الثامن ماي 1945، لتثبت تكهّن الشاعر، وتفضح وحشية (الفرنسيس) أدعياء الحضارة، والتمدن!!:

فظائع (ماي) كذبت كل مزعم * لهم، ورمت ما روّجوه بإفلاس!

ديار من السكان تخلى نكاية * وعسفا، وأحياء تساق لأرماسِ!!

وشيب وشبان يسامون ذلة * بأنواع مكر، لا تحدّ بمقياس

ومعتقلات في العراء مبيدة * عليها لصوص، في ملابس حرّاس

فيالك من خطب تعذّر وصفه * ولم تجر أقلام به فوق أطراس[92]

وإذا كان الوصف قد تعذر، فالصمت -في أحيان كثيرة- يعتبر أفصح الكلام، الصمت ليس عجزًا، ليس تنصلا من قضية، وليس رضًى بواقع (كما يظن البعض) ... وقد صمت محمد العيد، برهة من الزمن، فأثار صمته الانتباه وهو الذي ملأ الدنيا تغريدًا، وعزَّ على أصدقائه أن يخبو صوت هذا البلبل الصداح، فأرسل إليه أحمد سحنون عام 1947، منشدا معاتبا:

شاعر الضادِ والحِمَى ما دَهاكا؟ * فحرمت النّهى ثِمَارَ نُهَاكَا؟!

ما الذي أسكت الهزار عن التغـ * ريد، يا ملهمي، جُعلتُ فِدَاكا!

كنتَ لا تستطيعُ صبرا عن الشعـ * ر، فمن ذا بهجره، أغراكَا؟

كان نجواك، كان سلواك إن نا * بكَ خطبٌ، وفي الهوى لَيْلاكَا!

عجبا، تستبيح صمتك يوما * ويد الظلم تستبيح حماكا!! [93]

وقرأ محمد العيد هذا العتاب، ولم يتباطأ في الردّ، فكان منه ما يلي:

من لي بإقناع الرّفاق فإنهم * لم يقنعوا بقواطع الأعذار

لا َتلْحَني في الصّمت إنّي أرْتئي * أن الضمير أحق بالإضمار

أمّا الحمى فهواهُ بين جوانحي * يرغي ويزبد داخل التيّار

متدفقا كالموج؛ لكن صُنْته * عن شاطئ الحمآت والأكدارِ[94]

ويتغلغل الشعور الوطني عند محمد العيد، مصاحبا للنّزعة الإنسانية المتطلّعة للأفضل، النابذة لأمر عقيم:

يا قوم هبوا لِاغتنام حياتكم * فالعمر ساعات تمرّ عجالا

الأسرُ طال بكم فطال عناؤكم * فُكّوا القيود، وحطِموا الأغلالا!!

والشعب ضجّ من المظالم فأنشدوا * حرية تحميه واستقلالا

وإذا أراد الشعب نال مراده * ولو أنه كالنّجم عزّ منالا [95]

كانت هذه الصيحة عام 1950، بداية المخاض، لحال جديدة، يواكبه الشاعر، ويخلص في تسجيله، حتى عندما ضُيّق عليه الخناق، وفرضت عليه الإقامة الجبرية، فاستكان إلى الشعر، واستكان إلى” أبي بشير “يرى فيه ظِلالَ حلم قريب:

جزمت بقرب إطلاق الأسير * غداة سمعت صوت أبي بشير*

وجئت أبثّه نجواي سرًّا * ومَنْ للحُرِّ بالصوت الجهير

أناجيه بآمالي وحالي * وأستفتيه عن شعبي الكسير

فقلت أبا بشير أنت ضيف * قِراك شعر، لا حَبُّ الشعير[96]

ويستمر الشاعر الأسير في مناجاة أبي بشير، فيما يقرب من عشرة أبيات، حتى يجيء رد ابي بشير "الرّمز": فقال:

لقد أتيتك من بعيد * فاصغ إليّ وارْوِ عن الخيبر

كأنّي بالجزائر في ابتهاج * بنصرتها على الباغي المغير!

لقد نشطت فرنسا في أذاها * وحطّتها إلى الدرك الحقير

كأني بالمواكب وهي نشوى * من التحرير؛ ترفُلُ في الحرير[97]

وتهتف للجزائر عابرات * بشتى الطرق، تعبق بالعبيـــــــر

وحسبك ثورة الأحرار؛ حكما * أخيراً منه في العهد الأخير

ولا تزعجك آلاف الضحايا * وما أجراهُ من دمه الغزير

أتى استقلاله حتْماً؛ فأبْشرْ * وبشِّرْ ما لقولك منْ نكيـــــر !

ودعْ عنك التشاؤمَ فهو وهْمٌ * وهمٌّ ليس يجْمُلُ بالبصير

فليس لأمةٍ بالحق ثارتْ * مصيرٌ غير تقرير المصير!![98]

وِمن "أبي بشير" إلى رمز آخر: "أبي منقوش" حيث يرحل الشاعر في مناجاة الذوبان، وهو الذي عشق الحرية ... وفنِيَ في "ليْلاه"؛ فإذا به يجد نفسه؛ مُطوَّقاً بالأسر، تُحْسَبُ عليه أنفاسُه، وتتقاذفه القرارات المُجْحِفة:

أبا المنقوشِ* هل تدري بحالي * فأنت اليوم جاري في الجبال!

رماني حول سفحك موج دهري * أسيراً بعد أحْداثٍ طِوالِ

فعشتُ به كيونُسَ في سقامٍ * لدى قومي ولكن في انعزال

أرى الأحياء من حولي قريباً * وهمْ بالعيش عني في اشتغال

وأعذرهم؛ فعين الخصم يقظى * ترى شزراً، وتنذر بالوبال

يعيش الحُرُّ مثلك وهو حُرٌّ * يلاقي كل عصفٍ وهو عالي[99]

ويستثقل محمد العيد هذا الوضع الشاذ؛ ويطفح به الكيل:

متى يأتي بربك نصر شعبٍ * يقاسي كل ألوان النكال

أَكُلُّ عصوره أمد اضطهاد * وكل عهوده أمد احتلال؟

قد بذل الفدى؛ ثمناً وضحّى * بكلّ دمٍ عزيز منه غالي

فهلْ آنَ له الأوانُ ليحظى * بما يرجو المجاهد من منال!

فقال: أجلْ؛ سيلقى الشعب عِزّاً * ويرقى بالفدى رُتب الجلال

فإنّ الثورة اكتشفتْ مداها * ولاح لها التحرر كالهلال!

وما في الجوّ مِن غيْم كثيفٍ * وإن طال المدى؛ فإلى زوال

وقُلْ لِابْن الجزائر كنْ صموداً * فنصر الله لِلبأساء؛ تالي

تَحَدَّ الأقوياء بكلّ صبرٍ * ووالِ الاِحْتِجاجَ ولا تُبالِ[100]

وإذا كان محمد العيد شاعر الأحداث؛ فإنه لم ينس بصمات "المرأة" في هذا الظرْفِ المعنت.. فخلّد ذكرها في نغمات، وسجّل بطولتها في نفحات:

جدّ جدّ النساء وانطلق الرّكْــــ * بُ مع الرّكبِ؛ للمدى باتّحاد

فإذا جنسنا اللطيف عنيفٌ * وشريفٌ في ساحة الأمجاد

أنا ثوريةٌ؛ سلاماً وحرْباً * فكرتي عُدّتي، وعلمي زادي

وعفافي درعي وصبري دفاعي * وصلاحي حِصْني وديني عِمادي!!

لستُ أنسى مفاخري فاطمئني * وثقي بي في ثورتي يا بلادي!![101]

وحُقّ للشاعر؛ ألاّ ينسى جميلات الجزائر، اللواتي جعلن الثورة ثأراً، والثأر دماً، والدم عربون تحدّي في مسيرة الكفاح الطويلة، فكانت منهنّ الممرّضة، وكانت منهنّ الجندية...

يقول محمد العيد على لسان الجميلات:

صهرتنا الخطوب حتى ظهرنا * بالبطولات في كفاح الأعادي

كم غدونا إلى جريحٍ طريحٍ * فأسوْنا جراحه بالضّماد

وحَنَوْنا على شهيد مجيد * خطّ تاريخه بأزكى ِمداد

واتّخذْنا من الرّصاص عقوداً * وانتطقْنا به على الأكباد!

واعتقلنا رشّاشنا ساهراتٍ * شاهِراتٍ لهُ؛ على استعداد

وقدَحْنا زنادَنا فقهرنا * وبهرْنا العِدا بقدْحِ الزّناد![102]

وحظي جيش التحرير؛ بوقفات تقديس، وإجلال من طرف محمد العيد؛ فنظم قصائدَ غُرّاً، تروي صفحات كفاحه المستميت، وتُخلّدُ تَربُّعَهُ على عرش المجد:

نحن جيش التّحرير جند النضال * نحن أُسْدُ الفدى؛ نمور النّزال

وأدَرْنا رحى الوغى فانتصرْنا * وأذقْنا الأعداءَ مُرَّ النّكال

وقبرْنا استعمارهم؛ وفكَكْنا * شعبنا من سلاسلِ الأغلال[103]

ويرتبط ذكر الجيش عادة؛ بالعلم الوطني، وهي التفاتة طيبة من الشاعر، يكتنفها الإحساسُ بمسؤولية "الكلمة" في تخليد المفاخر، وكيف لا؟ والشاعر وهب نفسه للقضية على عُمق أَبْعادِها.. يقول الرجل متغنياً بالعَلَم الوطني وحاِمله:

وحلّ علينا حامِلاً في يمينه * لِواءً عزيزاً، عالياً، غاليَ السّعر

تألق برْقاً لامعاً في سمائها * وحلّقَ يصطاد المشاعرَ كالصّقر[104]

فيا رايتي قد فزتُ منك بغايتي * وحققت حلمي الحلو فيك بلا نكر

رأيتك تستعلين في الجو فانحنى * اليك فؤادي بالتحية والشكر[105]

ومن الجيش والراية، يستلهم الشاعر وقفة قدسية، يقفها على قبور الشهداء، يغمس قلمه في مِداد من عطر:

إن ذكرى الشهيد أرفع من أنْ * ترفعوها بالصخرة الصّمّاء!

فأقيموا لهم تماثيل عِزّ * في قلوب ثورية الأهواء

إنما تربة الجزائر مهد * عبقري لثورة العظماء[106]

وأختم هذه الجولة في رحاب ديوان محمد العيد فأقول:

إن هذا الشاعر جدير بالدراسة، وجدير بمصاف شعراء المشرق وجدير بأن يُعْتنى بديوانه، فيُطبع مرات ومرات، ويثري المكتبة العربية بتلك النفحة الجزائرية الخاصة، وما أحوجنا إلى تفهم شاعر كهذا، وإلى رصد أفكاره وتطلعاته، فقد خدم القضية والشعر معًا، ورسّخ رسالة الشعر، وآمن أن فن القول موجة لا شاطئ لها، ويستطيع الشعر استيعاب جميع مظاهر الحياة، بحلوها ومرها، بجليلها وسخفها، بهدوئها وصخبها، بفرحها ونُوَاحها ...

ورأيي من رأي الدكتور عبد الملك مرتاض، حين صرح:

« أما ما يزعمون من أن شعراءنا كانوا في جملتهم وتفصيلهم شعراء مناسبات وأعياد، فلا عليهم أن يكونوا شعراء مناسبات ألف مرة ومرّة، وأي شاعر على الأرض في القديم أو في الحديث في الشرق أو في الغرب، لم يكن شاعر مناسبات؟ والشاعر الذي لا يكون من هذا الصنف ليس بشاعر. بل ليس بإنسان على الاطلاق! لأنه إما أن لا يتأثر بما يضطرب حوله، وإمّا أنه يعيش في عزلة ذاتية تخيم عليها الدموع، ويكتنفها الأوهام والأباطيل. »[107]

وأنا أعيد الديوان إلى مكانه، لا يسعني إلّا أن أردد مقاطع من قصيدة له في الذكرى العاشرة لفاتح نوفمبر (1964) وأنا على يقين من أن هذه المقاطع كان لها الأثر الواضح في كتابات من جاء بعده من الشعراء...

قال رحمة الله عليه:

نوفمبر قد وافى الجزائر طاويا * من الثورة الكبرى سنين لها عَشرا

نوفمبر وافانا فذكرنا الفِدى * وثورتنا العظمى، وأعوامها الغبرا!

نوفمبر وافانا وهل كنوفمبر * درى دارس الثورات فيما درى شهرا؟!

ففاتِحُه؛ كان أعظم فاتح * لنا كسب التحرير، وانتزع النصرا!

نوفمبر عملاق الشهور ببأسه * وجبارها تُحْنى الرؤوس له جبرا

نوفمبر (هاروت) الشهور بعصرنا * و(ماروتها) أبدى بثورتنا السحرا

وعلّمنا الايمان والصبر والفدى * وجلّ مقاماً ان يعلّمنا كفرا!![108]

ويكفي أن أهمس في أذن شاعرنا:

نعم، إنك بعد الموت، بالشعر لامعُ*!! وكيف لا؟!

وأنت من قيل عنه:

« إنك تقرأ شعره (محمد العيد) فلا تحتاج معه إلى قاموس ينجدك في تفسير الغامض من الألفاظ، ولا تحتاج إلى كد ذهني للوصول إلى ما يريد من المعاني. فهو شعر قريب من النفس لبعده عن التكلف من ناحيتي الأسلوب والمعنى. وبعده عن الخيال الجانح والتصور البعيد، والرمز الغامض...»[109]

مفـــدي زكرياء
من بحث عن الاحتضان البطولي للثورة، من رغب في لمس ذلك الإدمان على الثورة، من تاقت نفسه أن يرتشف من كأس الاستماتة في شعر هز القلوب، وأطرب الآذان، من أراد ان يعرف دور "الكلمة" في تحريك المشاعر الوطنية، من أراد ان يعرف هذا وذاك، فليقرأ شعر هذا الرجل. إن "مفدي" صورة لِلانتماء الأصيل، إنه حكاية لمأساة ليل طويل، حاول الشاعر تحدّيه، فرفع عقيرته، في شجاعة متناهية ... إن شعره من جهة أخرى بمثابة التقعيد الفنّي للشعر السّياسي الوطني على مستوى الشكل والمضمون، زخر بالوقائع التاريخية، وحفل بالاقتباسات*، المتنوعة، تستهويك منه تلك النكهة الشعرية، العذبة التي نادراً ما تصادفها في أشعار اليوم.

يقول الرجل، مبيّنا وظيفة الشعر:

رسالة الشعر في الدنيا مقدّسة * لولا النبوءةُ ... كان الشعر قرآنا!!

فكم هتكنا بها الأستار مغلقة * وكم غزونا بها في الغيب أكوانا!

وكم جلونا بها الأسرار مبهمة * وكم أقمنا بها للعدل ميزانا!

وكم صرعنا بها في الأرض طاغية * وكم رجمنا بها في الإنس شيطانا![110]

والدارس لإنتاج مفدي زكرياء، لا يمكنه إلا أن ينحني بخشوع أمام النزعة الثورية الوطنية التي عانقت مراحل تاريخية هامَّة، لم يهملها الشاعر حتى وهو بين قضبان السّجن، يتجرع كأس العذاب في صبر:

سيان عندي؛ مفتوح ومنغلق * يا سجنُ، بابُك، أم شدّت به الحلق

أم السياط بها الجلاد يلهبني * أم خازن النار يكويني فأصطفق!

سرّي عظيمٌ، فلا التعذيب يسمح لي * نطقا، ورُبّ ضعافٍ دون ذا، نطقوا

يا سجن، ما أنت؟ لا أخشاك، تعرفني * مَنْ يَحْذُق البحر، لا ُيحْدِق به الغرق![111]

ويعلم الشاعر بخذلان المنظمة الدولية لقضية الجزائر، في دورتها الثالثة عشرة (1957)، فيعلنها حربا بلا هوادة، حرباً تمزّق لغة الكلام، ليحلَّ محلّها:

نطق الرصاص، فما يباح كلام! * وجرى القصاص، فما يتاح ملام!

وسهت فرنسا للقيامة، وانطوى * يوم النشور، وجفت الأقلام[112]

وتشتد لهجة الشاعر فيقول:

لغة القنابل في البيان فصيحة * وضعت لمن في مسمعيه صمام!

والحق والرشاش، إن نطقا معًا * عنت الوجوهُ، وخرّتِ الأصنامُ![113]

والشعب شق إلى الخلود طريقه * فوق الجماجم، والخميس لهامُ[114]

ويطرح الشاعر فكرة حمق (الفرنسيس) في نسق فنّي جميل، عليه مسحه من السخرية، اللاذعة، فيقول:

زعمت فرنسا في المحافل ضلّة * مُلْكَ الجزائر ... والجنون غرام

كاللص يسترق المتاع ويدّعي * ملكاً ... أيسمع للصوص كلام!!

لا تعجبوا فالقوم ضاع صوابهم * يا ناسُ، ليس على المريض ملامُ!![115]

لا أظن أن شاعراً عربياً، من شعراء الشعر السياسي توصل إلى هذا المعنى، في هذا القالب السهل البديع.

ويسترسل الشاعر في تقريعه للطامعين، فيقول:

يا معشر المستعمرين تربّصوا * ودعوا المطامع ... فالسحاب جهام

إن أثخمتكم في القديم حبوبنا * وبطرتم ... فعلى الحبوب سلام

أو أسكرتكم بالمدام كرومنا * لم يبق في هذي الكروم مدام!![116]

وبيقين المنتصر، يغرد الشاعر مؤكداً:

فكلما نزلتم، راحلون ... وهكذا * حقّ الزوال، إذا يقال:(تمام)![117]

إن تنكر الحق الصراح سياسة * فهيا توزع في الخفاء سهام!

فلنا على عبث السياسة ثورة * ولنا لرد الطامعين، سهام!

وحقوقنا اعترفوا بها أو أنكروا * فطريقنا لبلوغها: الإرغامُ![118]

إنه الإلحاح المستمر، المتولد عن القناعة الثورية، والذي لا يرضى بأنصاف الحلول، وحق للشاعر أيصيح في وجه (غي مولي) رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك، والذي دعا للانتخابات في شتاء 1958:

لاذ بالانتخابات (مولي) سفاها * في بلاد تسيل فيها الدماء!

نحن نبغي استقلالنا ... حرفوه * ما استطعتم ... ان صدّ عنه الحياء

لقبوه تكافلا ... وارتباطا * ماعساها، تهمنا الأسماء؟

إن جهلتم طريقه ... فعليها * (لافتات) .... حروفها حمراء!!

اعتراف ... فدولة.... فسلام * فكلام ... فموعد ... فجلاء!![119]

بهذه القوة المهيبة، والنبرة العاتية، واليقين الراسخ، ظل مفدي زكرياء، رافداً من أكبر روافد المعنى الثوري في الجزائر، واخترق قلمه الزنزانة رقم (375) بسجن (البرواقية) عام 1958، ليشارك عن بعد، ومن وراء القضبان، في تخليد الذكرى الرابعة لفاتح نوفمبر:

هذا (نفمبر)، قم! وحيّ المدفعا! * واذكر جهادك ... والسنين الأربعا! !

واصدع بثورتك الزمان وأهله * واقرع بدولتك الورى و(المجمعا)

واعقد لحقك في الملاحم ندوة * يقف السلاح بها خطيبا مصقعا! !

"الثورة القضية" في عُرف الشاعر، يباركها الرب تبارك وتعالى، يقول الشاعر:

إن الجزائر في الوجود رسالة * الشعب حررها، وربك وقعا![120]

لا أجد مثيلا لهذا البيت! وأدع المتذوق يحكم.

والثورة في عرف الشاعر أغنية، لحنها الرصاص، ونظمت قوافيها الجماجم، وأسمعت من به صمم، وأنارت طريق الأعمى، فيقول الشاعر:

ان الجزائر قطعة قدسية * في الكون لحنها الرصاص ووقعا!

نظمت قوافيها الجماجم في الوغى * وسقى النجيع رويّها، فتدفّعا!!

سمع الأصم رنينها، فعنى لها * وأرى بها الأعمى الطريق الأنصعا![121]

ويحتكم الشاعر إلى النزعة البطولية، ويغوص في كشف فلسفة "السياسة" وسبر أغوارها:

وإذا السياسةُ، لم تفوض أمرها * للنار، كانت خدعة وتصنُّعا!

إني رأيتُ الكون يسجد خاشعا * للحق والرشاش، إن نطقا معا!!

خبر فرنسا يا زمان بأننا * هيهات في استقلالنا، أن نخدعا![122]

وإن كان الشاعر قد نظم معظم أشعاره في السجون، فإنه أشار إلى بعض أسماء هذه السجون، ضمن أناشيده الحماسية، كنشيد "بربروس" الذي قال فيه مثلا:

يا سجن، ازخر ... بجنود الكفاح

فأنت يا سجن .... طريق الخلود...!

أنت، محراب الضحايا

في حناياك الأسود

أنت ... أنت... أنت... يا بربروس![123]

ويرى الشاعر في السجن، مصنع المجد، والبطولة، وملتقى الأحرار، ومنبع الالهام، فيقول:

يا مصنع المجد ورمزا الفدا * يامهبط الوحي، لشعر البَقا

يا معقل الأبطال، والشهدا * يامنتدى الأحرار، والملتقى

أنت ... أنت... أنت... يا بربروس![124]

وكثيراً ما يلتحم غرض الفخر عند مفدي، بالموقف الثوري، والمعنى الوطني، فيتحدان في سياق واحد، ويمثلان صورة فنية، تتحكم فيها النزعة الإنسانية:

وثبنا كالكواسر واتخذنا * إلى استقلالنا الأرواح طرقا

فلا نخشى العذاب ولا نبالي * إذا وجب الفدا، سجنا وشنقا

إذا ما الرزق صار حليف ذلّ * مضينا نبتغي في الموت، رزقا![125]

سيعترف الزمان غذاً بأنا * سبقنا وثبة الأقدار سبقا!![126]

ولم يخل ديوان مفدي ممّا يعرف باسم: الشعر الجديد، فنجده يحتفظ بالمضمون، مع مخافة الشكل، يقول عام 1959، في قصيدة له بعنوان: أنا ثائر:

قام كالمراد ....! يرتاد المنايا

وتهادى

يملأ العالم بشرى

وتحدّى الدهر ... لا يخشا الرزايا

وتمادا

يغمر الأكوان عطرا...[127]

ويغني فوق أعواد المشانق

فتحيّيه الخوافق

وتزكيه الخوارق

أنا ثائر

في الجزائر

أنا ثائر

إن أمت: تحي الجزائر!![128]

هذا النوع من الشعر- على أقليته- عبر قصائد الديوان، أستشف منه توحد الإحساس عند الشاعر، فهو سواء اختار العمود الشعري، واستبدله بمقاطع جديدة، فإنه يبقى على النفس الشعري الواعي بضروب التأثير، والمتمكن من الرصد للمعاني الثورية الوطنية، التي تسير في ركاب الحنين المتوقد إلى عالم البطولة والشرف، عالم الإثارة بما يحويه من انفعال تارة، وهدوء تارة أخرى.

وتتوزع في بعض قصائد الشاعر، استفسارات، وتساؤلات، يعرف جوابها مسبقا، مع ذلك نجدها تتكاثف من باب التعظيم، والتهويل، لما تجرعه هذا البلد الطيب على أيدي " الأراذل الأنكاس" يقول مفدي زكرياء:

أكباد من؟ هذي التي تتفطر؟

ودماء من؟ هذي التي تتقطر؟

وقلوب من؟ هذي التي أنفاسها

فوق المذابح للسمآ تتعطر؟

ورؤوس من؟ تلك التي ترقى إلى

حبل المشانق، طلقة تتبختر؟

أجهنم... هذي التي أفواهها

من كل فجّ، نقمة تتفجّر؟[129]

ويصل الشاعر دروة الانفعال، فيسيل قلمه لهيباً وشواظاً:

وتكلّم الرشاش جل جلاله! * فاهتزت الدنيا، وضج النير

وتنزلت آياته لهّابة * لواحة، أصغى لها المستهتر!

والنارُ، للألم المبرح، بلسمٌ * يكوي بها العظمُ الكسيرُ، فيجبرُ![130]

وتطوف بمخيلته، أحداث الاحتلال، فيخاطب شهر (يوليو) قائلا:

والذكريات وان تقادم عهدها * في امة، أشباهها تتكرر!!

هل جئت يا (يوليو) تذكرنا بالأسى * عهدي بنا، طول المدى نتذكر!

في كل حي بالجزائر صورة * وبكل شبر في الجزائر، منظر[131]

ويقترب من الذكريات أكثر، فيقول في مرارة، تذيب القلوب حزنا:

سل نسوة، فيها ذبحن، ورضعا* واسأل صبايا، فكّ عنها المئزر!!

وسل الحرائق، في لظى نيرانها* مهج الكرام، اصّعّدت تتبخر[132]

ويخرج الشاعر من هذه الذكريات المثخنة بالجراح، ليسطر أن دوام الحال من المحال، وان الجرح لا ينسى، فيقول:

والجرح لا يُطوى على علاته * والدهر يقبل كالحظوظ ويدبر

ويح القوي من الضعاف، إذا هم * يوم القصاص، على الطغاة، تنمروا!![133]

ويلتفت الشاعر إلى الأمم المتحدة، إثر موقفها المفضوح من قضية الجزائر، في الدورة الرابعة المنعقدة في شهر نوفمبر 1959، فيكيلها الصاع صاعين، ويطلق العنان للقلم السّاخر:

أكذوبة العصر، أم سخرية القدر؟

هذي التي أسست في صالح البشر؟!![134]

سوق، يباع ويرى في معابرها * حق الشعوب، لنصّاب ومحتكر!!

كم خان فيها قضايا العدل ناصعة * قوم يسوقهم "الدولار" كالبقر!!

يا للحماقاتِ في (نيويورك) كم حفظت * فيها الجزائر، للأجيال من عبر!!

مهازل تضحك الأحجار، جاء بها * قوم، قلوبهم قدّت من الحجر!!

إن يطلبوا السلم في الدنيا، فهل ذكروا * أن الجزائر، ترمي الكون بالشرر؟![135]

ولا يفوته أن يذكر الأمم المتحدة ب:

لا نرتجي العدل من قوم سماسرة * خير البرية منهم، غير منتظر

مصيرنا بالدم الغالي، نقرره * في محفل الموت، لا في عقد مؤتمر!![136]

للّه ما أروع هذا المعنى!! إنه يسد مسدّ أي تأويل غير مرغوب فيه ...

وكما ورد اسم (غي مولي) في قصيدة سابقة، فقد أورد الشاعر اسم (ديغول) في مقاطع تهكمية، أذكر منها:

(ديغول) يعلم ما نريد ويفهم * ما باله حيران، لا يتكلم؟[137]

فقد الصراحة، ام أضاع فصاحة * أم ان تقرير المصير، توهّم؟!

السلم نحن رجالها، لكننا * شجعان يا (ديغول) لا نستسلم

إن كان في طيّ السلام مذلة * فالموت أشرف للكرام وأسلم!

أو كان تقرير المصير خديعة * فلنعم تقرير المصير جهنم![138]

ويشير الشاعر إلى تجاهل (ديغول) للقضية، فيقول:

أبعد خمسٍ شداد مُلئت عجبا * (دي غول) بالكلم المعسول يغرينا؟!

ثم يتوعده قائلا:

لا سلم في الأرض، مادامت قضيتنا * لم تلق في الأرض، بالقسط الموازينا[139]

وتتكرر عبر قصائد الديوان، فكرة فلسفة السياسة عند مفدي زكرياء، فيصور شعبا سئم السياسة والساسة على السواء، واختار طريقا أكثر اختصاراً ووُضوخاً:

رأى طرق السياسة شائكات * ففضل ساحة الشرف اختصارا!

ولا تجدي السياسة مع لصوص * تستّر بالدجى، تخشى النهارا!![140]

والسياسة في رأي مفدي:

وخيرُ سياسة في الأرض قول * إذا ما قلته، ألهبتَ نارا!

ومن طلب الكرامة وابتغاها * يقدم مهرها المهج الحرارا!![141]

ويتعمق أكثر فأكثر، وبوعي كبير، يقرر:

وما السياسة، ضربٌ فوق مائدة * إن السياسة، إنشاء وتجديد

وما الزعامة أقوال وشقشقة * إن الزعامة، إصلاح وتشييد

وما النضال، احتجاجات على ورق * إن النضال، كفاءات ومجهود[142]

ويستغل الشاعر حادثة المتمرّدين بالجزائر في 28 جانفي 1960، وهي حادثة جعلت كيد فرنسا في نحرها، وعِلّتها في بَنيهَا، قال الشاعر مستهزئاً، متشفياً:

فقدت فرنسا رشدها وصوابها * وغدت تسجل في الأنام ضلالها!

فاترك فرنسا – وهي في أحلامها * سكرى – يمزق جندها أوصالها!

دعها مع الأحداث تحصد زرعها * وَذَرِ الزمان، يعجل اضمحلالها

واضحكْ على (ديغول) في جبروته * (أورتيز) أفلتَ من يديْه عقالها!

وافضح مع الأيام جمهورية * كشف الزمان، جنونها وحبالها!![143]

وفي مقابل هذا التنديد (بالفرنسيس) وقادتهم، يذكر الشاعر أثر الثورة الجزائرية في البلاد العربية، وصيتها البعيد، على مستوى الحركات التحررية في العالم ....

يقول الرجل:

جزائر... حررت الشعوبَ، ولم يزل * بأرضك للتحرير، يحتدم الكرب!

فحربك للدنيا انعتاق ورحمة * وثورتك الكبرى، لهذا الورى كسبُ[144]

وإذا كان الأثر الثوري الجزائري، قد أتى أكله في المحيط الخارجي، فإن البلد الذي هو مهد الثورة، ومُضرِمُهَا، سيجعل من الثأر شريعة، ومن الجماجم مرتقى، ومن المقاصل سلمَا:

سنثأر للبيت الذي كان آهلا * فرجّت به الألغام تسحقه سحقا

سنثأر للبنت التي ديس قدسها * ودنس أحلاس الخنا عرضها الأنقى

سنثأر للطفل الرضيع وقد غدا * -وفي فمه الرشاش – يحسبه رزقا!

وللحبليات الحور، شقت بطونها * وللمرضعات العيد، أثداؤها تلقى![145]

ويحز الألم في صدر الشاعر، عندما يلمس ذلك الانقسام الواقع في صف الحزب الوطني، قبيل نشوب الثورة الكبرى، فيستنكر الأمر، ويذهب به الانفعال مذهباً بعيداً:

فلن تستحق العلا أمة * توليّ القيادة أرذالها![146]

وكيف تريد البقاء بلا * دٌ، تعُد الضفادع أبطالها!!

ولا خير فيها إذا لم تثر * لتنسق بالنار أغلالها!![147]

وتشدّ غيرته على بلاد، تعاني الأمرّين، بلاد من المفروض أن تتطهر من كل الشوائب، ليسلم مسارها الثوري، ولتتفرغ للقضية الامّم، خزعبلات الأهواء، والصراعات:

وفي الجزائر نصابون همهمو * على الدراهم، مقصور ومحدود!

وفي المجالس، أصنام تحركها * يد المعمّر، تحميها التقاليد

وفي القيادة أبقار مُعَمّمة * للعار، تدفعها غربانها السّود![148]

ويأبى الشاعر أن يقف موقف المتفرج أما هذا الموضع المنحرف، فيكرر النداء:

أيها الشعب -والليالي حبالى- * بعد حين سوف يطلع الله فجرا

اتقوا الله في الجزائر يا نا * سُ، فقد ضاقت الجزائرُ صبرا!

فاسألوها، تجبكم من حشاها * صرخات الجدود، تنذر شرّا

وتنادي: اليس فيكم رشيد * يدفع اليوم، منكر القول، جهرا[149]

وفي خضم معالجته لهذا الوضع الشاذ في الجزائر، يترصّد الشاعر الأحلام الباطلة عند (الفرنسيس) وكأنه يحذرها من استغلال فرصة الانشقاق، فيقول:

فرنسا، ذري الأوهام، فالوهم قاتل * فلسنا نضحي من جزائرنا شبرا

فرنسا... دعي الأطماع، فالسعي فاشل * فكل فرنسا، لا نبيع بها الصحرا!

وإن تيّمتْكم، ثورة في بطونها * حفرنا لكم، في بطن صحرائنا، قبرا![150]

ويحرص الشاعر على التذكير بوطنيته الصادقة كلّما عنّ له القريض، فها هو فيتهنئته للمغرب بمناسبة ذكرى استقلاله (1955-1956)، ها هو يذكر الجزائر، غارقا في نشوة حبّها:

وتيّمني حبّ الجزائر فارتوى * نشيديَ في الساحات، من دمها القاني[151]

وها هو من لبنان، يبعث بتراتيل عِشقه للأرض الطيبة:

بلادي، التي أعنو – احتسابا – لوَجْهها * واحمل في الأرزاء من أجلها إصرا[152]

بلادي، التي من ذوب قلبي، نظمتها * نشيداً، فغنى الكون، ثورتها شعراً

غمستُ بمطلول الجراحات، ريشتي * فجاءت (رسومي) تلهم العقل والفكرا

وواكبت في الأعماق ثورة أمتي * ولا زلت، حتى (أرسم) البعث والنشرا![153]

بهذا الوعي الشخصي، تبلور الاتجاه الوطني عند الشاعر، فإذا به يحتل مرتبة التخصص في باب الشعر الثوري، المتفاعل مع الأحداث، المتشبع بالمبادئ العليا للكفاح، ولا أعتقد أن شاعرية هذا الرجل، يمكن تلخيصها في صفحات، وإنما يقتضي الإنصاف، سبر أغوارها لكشف الصورة الفنية المتولّدة عن المعاناة الذاتية المتطلّعة – في سُمُو- إلى النزعة الإنسانية التي يصنعها الحدث والتي تستلهم الوقائع من التاريخ، فلا تبعد عنه، بل هي منه حذوك النعل بالنعل.

ولا يفوتني هنا، وألحان " اللهب المقدس" ماتزال تشد مشاعري:

وهل تضيق القوافي، وهي مخصبة * عن الخوالد؟ لو تصفو نوايانا؟![154]

أقول: لا يفوتني أن أشير، ولو من بعيد إلى جوهرة هذا القرن، تلك الجوهرة الفنية التي أطربت العالمين: إلياذة الجزائر وكفانا فخراً، أن تصبح الالياذة مرجعا فنيا تاريخيا، سياسيا، يختصر عمر الجزائر في دقّة، ودراية، قلّما تُصادفان عند محترفي القريض ... وللهِ درّ الشاعر، وهو يقول:

وإن يجحدوني ... فحسبي أني * وهبت الجزائر، فكري وعمري!!

فآمن بي كل حُرٍّ أصيل * وأنكر شمس الضحى كلُّ غِمْرِ!![155]

وكأني بصوت الرجل، يدوّي في الآفاق، وترفرف روحه، وقد اكتنفتها مسحة من عتاب رقيق:

وقالوا: هجرت ربوع البلاد * وهِمت مع الشعر في كل وادي!

أجلْ! قد بَعُدْتُ لأزداد قرْباً * ويلهبُ حُبُّ بلادي فؤادي!

أرى في كيان الجزائر ذاتي * بكل اعتزاز، وكل اعتداد!

ومازلت عنها بدنيا القلوب، سفيرَ القلوب، بدون اعتماد

وإني بتخليد مجد بلادي * مقيم على العهد، رغم البعاد!![156]

فعلا، إن الرجل خلد تاريخ بلاده، حلوه ومره، ولِمَ لا؟ وَ " الشعر مغامرة واعية، سفر مرهق بالمعاناة والمكابدة، سفر متواصل عبر الأماكن المجهولة، والشاعر هو ذاك الجوال المولع بالحركة، الثأر على السكونية، المتمرد على القوانين الجامدة، والتعاليم الجاهزية. الشاعر هو الذي يصنع قوانينه بنفسه... وزادُهُ في ذلك التجارب الإنسانية المختلفة، واحساسه المرهف والثاقب." [157]

نفحات من الشعر "الجديد".
يقول أحمد حمدي في مجموعته:" تحرير مالا يحرر": « ليس كل جديد ضدّ كل ما هو قديم بالضرورة، ومع ذلك فالجديد يعني مغامرة في طريق غير معروفة، ويعني أنه ينطلق ليؤسس أنماطا وعوالم جديدة، لم تكن موجودة. هذا هو الجديد، وعدا ذلك، فكل شيء ترميم وإصلاح لأنماط قوالب موجودة في الواقع، وقد أدركها الجمود.»[158] ويقول: «والتجديد في القصيدة الجديدة، لم يكن إطلاقا منحصراً في قضايا الموسيقى، والأوزان، بل يتعدّاه الى مسائل اللغة والصورة والفكرة، وبمعنى أدق البنية الشعرية بكل تفاصيلها...»[159] وما يهمني من هذا الرأي، هو أني وجدت بعضا من شعرنا الوطني، يغرف من النمط الجديد للقصيدة العربية، فيساهم بدوره في إثراء رصيد الشعر الوطني الجزائري ككل، والحقيقة أنَّ المشاعر، مشاعر.... كيفما كانت القوالب، وكيفما كانت الصيغ، إذ المعول عليه في العملية الإبداعية، انما هو صدق الوجدان، وخلق واسطة للتفاعل بين المبدع والملتقي، لضمان المتعة الفنية باعتبارها أساس كل عملية إبداعية.

وفي هذا الصدد، اخترت نماذج من الشعر الجديد، الذي احتوى الثورة، وصاغ التحدي بشكل أو بآخر، وانبرى للمواجهة الواعية، والصرخة الشديدة، في وَجْه الدخيل، فكانت منه هذه الروائع:

أبو القاسم سعد اللّه
وهيهات، يا ألف قفل حديد

ويا ألف سوط شديد

ويا ألف زنزانة مظلمة

ستنهار جدرانك الشامخة

وأقفالك المحكمة

كأمس البعيد

بأسلحة الظافرين

بأيدٍ غلاظ شداد

بأيدي الجموع الغضاب

ستغدو من الذكريات[160]

ويتحدث سعد الله في قصيدة (برقية من الجبل) عن المرأة الجزائرية الشجاعة، تتلقى نبأ استشهاد ابنها بثبات، واعتزاز، يقول مستعملاً النمط القصصي:

وفضت الغلاف في اضطراب

أنامِلُ معروقة سمراء

تفوح بالدهان والعرق

وكان وجهها خطوط

وقلبها بخور

وشعرها خميلة جرداء

"برقية من الجبل"

وتمْتمت ...:

"استشهد الصديق"

"محمد بطلقة صماء"

"إذ كان في اشتباك"

"يطارد الأعداء"

"وقال في احتضاره"

"المجد للوطن"

ومدت اليدين في الفضاء

وفي العينين دمعتان من لهب

وثرثرت بصوتها المخنوق:

"المجد للوطن"[161]

ويوظف الشاعر سعد الله مبدأ الالتصاق بالأرض كأحد رموز الثورة، وكقاعدة ترسّخ بذرة الحرية:

يا مالكين

هذا ترابي من قديم

أسقيه من عرقي، وأفراحي الحبيبة

أسقيه ذكراي الحبيبة

أسقيه ألحان البطولة

هذا ترابي من قديم

يا مالكين

يا مترفين

إنها هنا، أبدًا هنا

لا شيء، يمنع سَيْلنَا

نمشي على الشوك المدرب والحديد

ونشيد الدنيا، من أمانينا الحبيبة

دنيا طليقة

في أرضنا الملأى بطاقات الحصيد

سنعيش أحرارا وصيد

في أرضنا البكر الولود[162]

صالح باويه
أقسمت أمّي بقيدي، بجروحي، سوف لا تمسح من عيني دموعي

أقسمت أن تمسح الرشاش، والمدفع، والجرح، بمنديل دموعي

أقسمت أن تغسل الجرح، وتغدو شعلة تضرم أحقاد الجموع!

أقسمت أن تحمل المدفع مثلي، أن ترش الدّرب بالعطر الخضيب

أن أراها ضربة عذراء، تغزو بسمة السفاح في السهل الخصيب

أقسمت أن ترضع الفجر واختي في ضفاف الموت، في عنف اللهيب[163]

وفي موجة الثورة العارمة، يسير صالح باوية في هدوء صاحب اليقين:

إن تزرنا أيها النجم المغامر

نطلق الأقمار من غضبة ثائر

نطلق الأسرار من صمت الحناجر

وغدًا، حين تواريك خناجر

ودماء وعطور، احمل المنجل، فالحصد لهيب ومخاطر

واعبر الدرب صموتا في بلادي، فترابي، ثورة، فوج، مخاطر....

لم يزل باروده رعدًا يعربد

لم تزل أجراسه حولي تردد:

ساعة الصفر انطلاقات مشاعر

يقظة الانسان ميلاد الجزائر[164]

ونلمس جلال المضمون البطولي، في قصيدة له بعنوان:" الانسان الكبير" من مقاطعها:

حيث شعبي يمضغ الإعصار شوقا لنداءات التلاقي

حيث شعبي سَاعدٌ صلب، وأنهار صراع

حيث تنهار عروش واهنات، باصراعي!

حيث يمتد الضياء الطّلْقُ في زنزانة مهزومة من كبريائي!

يعتق الانسان إنسان الفداء

يا أخي لن تنحني للسجن في أرض عظيمة

تلد الانسان حُراً، تلد الزيتون، والشمس العظيمة

فأنا، أنت، زنود تحمل الفأس الكبير

وقلوب صامدات ..... وبذور ...

وغداً تورق أشواق وأعياد، وأشلاء تثور ....[165]

خاتمـــــة:
اقتصرتِ المقاربة على بعض الشعراء دون سواهم، فقد تمنيت الحصول على انتاجات أخرى منها مثلا: "أطلس المعجزات" للدكتور صالح خرفي، وديوان "أوراق" لأبي القاسم الخمّار، وديوان "همسات وصرخات" للأخضر السائحي؛ ولكن لم يسعفني الحظ، فاجتزأتُ بالقليل الذي توفّر لديّ في ظرفٍ وجيز، هو ظرف الإعداد للمناسبة التاريخية المجيدة: غرة الفاتح من نوفمبر.

سيدي بلعباس/ الجزائر

الكتب المعتمد عليها:

الشعر الجزائري الحديث، صالح خرفي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984.

شاعر الجزائر محمد العيد آل خليفة، أبو القاسم سعد الله، المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الثالثة، 1984.

مظاهر المقاومة الجزائرية من عام 1830 حتى ثورة نوفمبر 1954، محمد الطيب العلوي، دار البعث للطباعة والنشر، قسنطينة، الطبعة الأولى، 1985.

ديوان محمد آل خليفة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1979.

ديوان الأمير عبد القادر، شرح وتحقيق: ممدوح حقّي، الطبعة الثالثة، المطبعة التعاونية اللبنانية، 1964.

ديوان أحمد سحنون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1977.

نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر 1925- 1954، عبد الملك مرتاض، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية،1983.

ديوان اللهب المقدّس، مفدي زكريا، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع، الجزائر، 1983.

إلياذة الجزائر، مفدي زكريا، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1987.

ما ذنب المسمار يا خشبة؟ ، حمري بحري، مجلة آمال، مركب الطباعة، رغاية، الجزائر، 1981.

تحرير ما لا يُحرّر، أحمد حمدي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985.

 

[1] ينظر كتاب: الشعر الجزائري صفحة 17 لصالح خرفي.

[2] ينظر المرجع السابق صفحة 18.

[3] ينظر كتاب بذور الحياة صفحة09 لرمضان حمّود.

[4] ديوان اللهب المقدس صفحة 04 لمفدي زكرياء.

[5] إلياذة الجزائرصفحة 25 لمفدي زكرياء.

[6] ديوان محمد العيد آل خليفة: المقدمة لأحمد طالب الإبراهيمي .

[7] كتاب: الشعر الجزائري الحديث، ملحق القصائد صفحة 93 صالح خرفي.

[8] كتاب: مظاهر المقاومة الجزائرية صفحة 78 لمحمد الطيب العلوي.

[9] ديوان محمد العيد آل خليفة صفحة 51.

[10] مقدّمة ديوان أحمد سحنون صفحة 05-06.

[11] ديوان اللهب المقدس صفحة 04 لمفدي زكرياء.

[12] ديوان أحمد سحنون صفحة 29.

[13] من حصاد السجن ديوان أحمد سحنون صفحة 73.

[14] المرجع السابق صفحة 79.

[15] المرجع السابق صفحة 81

[16] المرجع السابق صفحة 85

[17] ديوان أحمد سحنون صفحة 87

[18] المرجع السابق صفحة 90

[19] المرجع السابق صفحة 93

[20] من حصاد السجن ديوان أحمد سحنون صفحة 95.

[21] من حصاد السجن ديوان أحمد سحنون صفحة 97.

[22] من حصاد السجن ديوان أحمد سحنون صفحة 98.

[23] ديوان أحمد سحنون صفحة 103.

[24] من حصاد السجن صفحة 104.

[25] ديوان أحمد سحنون صفحة 107- 108.

[26] ديوان أحمد سحنون صفحة 111.

[27] من حصاد السجن: ديوان أحمد سحنون صفحة 122.

مرَّ الشاعرُ بلحظاتِ ضيق شديدة، فثار على كل شيء، ونفض يده:

دعني أقاسي عذَابي * ولايهمك مابي

ولاترعك شكاتي * ولا يهلك انتحابي

ولا تضق بشجوني * ولا يسؤك اكتئابي

الذنب ذنبي لاني * وثقتُ بالأصحاب

كم جَرَّ لي حسن ظني * في الناس من أتعاب!

[28] من حصاد السجن: صفحة 156.

[29] من حصاد السجن: صفحة 157-*161.

[30] من حصاد السجن: ديوان أحمد سحنون صفحة 216.

الالاه: هكذا كُتبت في الديوان.

[31] من حصاد السجن: المرجع السابق صفحة 217.

[32] ألقيت في حفل ديني بالحراش الديوان صفحة 113.

[33] من وحي الاستقلال الديوان صفحة 114.

[34] من حصاد السجن: الديوان صفحة 124.

[35] ديوان أحمد سحنون صفحة 143 [نشرت بالشهاب].

[36] المرجع السابق صفحة 151 [نشرت بالبصائر عدد 215].

[37] المرجع السابق 210.

[38] المرجع السابق صفحة 219.

[39] المرجع السابق صفحة 221 * صفحة 255.

[40] ديوان أحمد سحنون: صفحة 326.

[41] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن جريدة الفاروق عدد 66/22 لعام 1914

[42] نفس المرجع.

[43] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن جريدة الفاروق عدد 59/14 ماي 1914 *حتى مَ= هكذا كتبت في الديوان.

[44] المرجع السابق عن جريدة الفاروق عدد 95/15 يناير 1915.

[45] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن جريدة البصائر عدد 79/9 ماي 1949

[46] المرجع السابق.

[47] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن جريدة البصائر عدد 73/28 مارس 1949.

[48] المرجع السابق صفحة 47.

[49] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن جريدة البصائر عدد 73/28 مارس 1949، صفحة 105.

[50] جريدة وادي ميزاب 10 ديسمبر 1926.

[51] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن" شعراء الجزائر" الجزء الأول الصفحتان: 173-174.

[52] المرجع السابق. نفس الصفحتين.

ملاحظة: خروج الشاعر عن القافية الموحدة، وله في ذلك أقوال...

[53] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن جريدة وادي ميزاب عدد 93/28 جويلية 1928.

[54] المرجع السابق.

[55] مجلة الثقافة 1975 صفحة 70.

[56] المرجع السابق صفحة 73.

[57] مقدّمة الطبعة الأولى من ديوان الأمير عبد القادر صفحة 18.

[58] ديوان الأمير عبد القادر صفحة 38.

[59] المرجع السابق نفس الصفحة

[60] المرجع السابق ص 41

[61] المرجع السابق ص 43

[62] ديوان الأمير عبد القادر الجزائري صفحة 57.

[63] ينظر غلاف الديوان.

[64] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي صفحة 277.

[65] ديوان محمد العبد صفحة 41 نظمها عام 1938.

[66] نفس المرجع الصفحة 45 نظمها عام 1951.

[67] المرجع السابق صفحة 47.

[68] المرجع السابق صفحة 48.

[69] ديوان محمد العيد صفحة 49 نظمها عام 1951 أيضا.

[70] المرج السابق ص 49.

[71] المرجع السابق ص 50.

[72] ديوان محمد العيد صفحة 54

[73] ديوان محمد العيد صفحة 113.

[74] ديوان محمد العيد صفحة 114.

[75] ديوان محمد العيد صفحة 126.

[76] ديوان محمد العيد صفحة 128.

[77] الديوان صفحة 135.

[78] الديوان صفحة 139.

[79] الديوان صفحة 144.

[80] الديوان صفحة 145.

[81] الديوان صفحة 288.

[82] الديوان صفحة 289.

[83] الديوان صفحة 290.

[84] الديوان الصفحة 291.

[85] الديوان صفحة 292 – 293.

[86] الديوان صفحة 294.

[87] الديوان صفحة 295.

[88] الديوان صفحة 305.

[89] الديوان صفحة 371 نشرت في العدد 42 من جريدة البصائر عام 1936.

[90] الديوان صفحة 307 نشرت في مجلة الشهاب جويلية 1937

[91] الديوان صفحة 308.

[92] الديوان صفحة 326.

[93] ديوان أحمد سحنون صفحة 18.

[94] ديوان محمد العيد صفحة 328-329.

[95] ديوان محمد العيد صفحة 339-340.

[96] الديوان صفحة 422 * أبو بشير: طائر صغير الجسم، يستبشر الناس برؤيته ...

[97] الديوان صفحة 422.

[98] الديوان صفحة 424.

[99] الديوان صفحة 425 * أبا المنقوش هو جبل (بومنقوش) القريب من بسكرة جنوب الجزائر.

[100] الديوان صفحة 426.

[101] الديوان صفحة 430 -431.

[102] الديوان صفحة 431.

[103] الديوان صفحة 427

[104] الديوان ص 433.

[105] الديوان ص 433.

[106] الديوان ص 435-436.

[107] يُنظر كتاب: نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر 1925-1954 للدكتور عبد الملك مرتاض الصفحة 14.

[108] الديوان صفحة 438-439.

*يقولون لي أمسيتَ بالشعر لامعاً !* فهل أنا بعد الموتِ، بالشعر لامعٌ؟!

ينظر ديوان محمد العيد ص 278

[109] ينظر كتابك شاعر الجزائر محمد العيد آل خليفة للدكتور: أبي القاسم سعد الله صفحة 213.

[110] ديوان اللهب المقدّس مفدي زكرياء ص 290

*وقل: الجزائر...! واصغ إن ذكر إسمها * تجدِ الجبابرَ ساجدين ورُكّعا! ص 58

من منا لا يذكره الشطر الثاني بشعر عمرو بن كلثوم’

[111] ديوان اللهب المقدّس ص 20-21.

[112] ديوان اللهب المقدّس ص 42.

[113] المرجع السابق ص 44.

[114] المرجع السابق ص 45.

[115] الديوان صفحة 48-49.

[116] الديوان صفحة 49.

[117] الديوان صفحة 49.

[118] الديوان صفحة 50.

[119] الديوان صفحة 53-54.

[120] اللهب المقدس صفحة 57.

[121] اللهب المقدس صفحة 58.

[122] اللهب المقدس صفحة 67.

[123] اللهب المقدس صفحة 88.

[124] اللهب المقدس صفحة 91.

[125] اللهب المقدس صفحة 122.

[126] اللهب المقدس صفحة 123.

[127] اللهب المقدس صفحة 125.

[128] اللهب المقدس صفحة 126.

[129] اللهب المقدس صفحة 133.

[130] اللهب المقدس صفحة 134.

[131] اللهب المقدس صفحة 137.

[132] اللهب المقدس صفحة 138.

[133] اللهب المقدس صفحة 138.

[134] اللهب المقدس صفحة 140.

[135] اللهب المقدس صفحة 141.

[136] اللهب المقدس صفحة 142.

[137] اللهب المقدس صفحة 143.

[138] اللهب المقدس صفحة 145.

[139]اللهب المقدس صفحة 151.

[140] اللهب المقدس صفحة 152.

[141] اللهب المقدس صفحة 153.

[142] اللهب المقدس صفحة 267.

[143] اللهب المقدس صفحة 157 (أورتيز) أحد المتمردين

[144] اللهب المقدس صفحة 181.

[145] اللهب المقدس صفحة 200.

[146] اللهب المقدس صفحة 275.

[147] اللهب المقدس صفحة 276.

[148] اللهب المقدس صفحة 266.

[149] اللهب المقدس صفحة 283.

[150] اللهب المقدس صفحة 314.

[151] اللهب المقدس صفحة 320.

[152] اللهب المقدس صفحة 317.

[153] اللهب المقدس صفحة 318.

[154] اللهب المقدس صفحة 320.

[155] الالياذة صفحة 115.

[156] الالياذة صفحة 117.

[157] مقدّمة حرز اللّه محمد الصالح لديوان: ما ذنب المسمار يا خشبة؟

للشاعر حمري بحري صفحة 05.

[158] مجموعة تحرير مالا يحرر أحمد حمدي صفحة 08.

[159] المرجع السابق صفحة 09.

[160] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن النصر للجزائر صفحة 243. عن النصر للجزائر

أبو القاسم سعد الله دار الهنا للطباعة مصر 1956.

[161] الشعر الجزائري الحديث صالح خرفي عن النصر للجزائر صفحة 22.

[162] المرجع السابق الصفحة 25.

[163] الشعري الجزائري الحديث صالح خرفي عن مجلة الفكر التونسية. عدد 7 أبريل 1958.

[164] المرج السابق عن مجلة الفكر التونسية عدد 05 فيفري.

[165] المرجع السابق عن مجلة الفكر التونسية 8ماي 1958.