في سياق تقويم التجربة الفكرية لفاطمة المرنيسي، لا بدّ من الإقرار بأنها ارتادت حقلا غير مسبوق في البحث الاجتماعي الخاص بعالم النساء في العالمين العربي والإسلامي، فأخلصتْ لموضوعها، وجمعت أطرافه، وحفرت فيه حفرا منهجيا قلّ نظيره، فلا أكادُ أجد لها مثيلا بين معاصريها من النساء والرجال، فقد أبحرت في التاريخ الاجتماعي للمرأة، وقلّبت صفحاته الغزيرة صفحة بعد صفحة بعين الباحث المدقّق الذي يصف موضوعه، ثم يستنطقه، ويعيد تأويله برؤية تستجيب لشروط العلوم الإنسانية الحديثة، ثم أنها طورت رؤية فكرية شاملة هدفت فيها إلى معالجة حال المجتمعات العربية والإسلامية، وتغيير موقع المرأة فيها، ومن هذه الناحية أعدّها مفكّرة وباحثة راديكالية بكل ما يحمله المصطلح من دلالة؛ فالراديكالية نعت يشمل كلّ مفكّر يتبنّى مبدأ التغيير الجذري في المجتمع الذي يعيش فيه.
عكفت المرنيسي على نقد بنية المجتمعات الإسلامية والعربية، ونقد الخطاب الداعم لمقوّماتها، فتوزّع عملها بين بحث استقصائي يُعنى برسم صورة المرأة في التاريخ، وتعبير تمثيلي عن صورتها كأنثى في مجتمع تقليدي. واشتبك البحث والتمثيل معا بهدف تعويم صورة مختبئة للمرأة في ثنايا التاريخ من جهة، والواقع من جهة أخرى، ففي كتابها “الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية” طوّرت حفرا أخّاذا في الجانب المغيّب من وعي الثقافة العربية، وبه فتحت كوّة على عالم المرأة الذي جرى إهماله عن قصد، وطُمر في طيّات النسيان، ومثاله الحريم بمعانيه الاجتماعية والدينية والسياسية.
وبحسب مقترح المرنيسي فلكي يقع تحوّل ما في بنية المجتمع التقليدي ينبغي أولا تغيير شروط العلاقة بين المرأة والرجل؛ فالحداثة، في جوهرها، تغيير في نمط العلاقات، والانتقال بها من التبعية إلى الشراكة، وكل محاولة تغفل ذلك مصيرها الفشل، ولهذا ثمة خوف من الحداثة لأنها تقوّض النمط التقليدي من العلاقات، وتقترح نمطا مختلفا. وبعبارة أخرى، فالنمط القديم للعلاقة بين المرأة والرجل مدعوم بتفسير ديني واجتماعي، فيما النمط الجديد لا ضامن له سوى الديمقراطية. ولكي تفتح سبل التغيير، ويقع الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، فمن اللازم أن يفسح الإسلام مكانا للديمقراطية، وبالمقابل فالديمقراطية ستحول دون شيوع التفسيرات المتعصبة للظاهرة الدينية، أي أنها ستوقف جموح اللاهوت المتطرّف الذي جرّد الإسلام من حقيقته التاريخية، ودفع به خارج الزمان والمكان، وجعل منه سيلا جارفا من المطلقات والمسلّمات، وما على المؤمنين غير الانصياع لمقولات لاهوتية لا صلة لها بالدين الحقيقي.
والحال هذه، فنزع اللاهوت عن الظاهرة الدينية سوف يعيدها إلى نبعها الأصلي باعتبارها تأملات تقويّة ذات أهداف أخلاقية واعتبارية غايتها التهذيب والإصلاح، لأن اللاهوت، وهو علم انتعش على حواشي الظاهرة الدينية، احتكره الرجال، وصاغوه طبقا لرؤاهم ومصالحهم، وفيه درجة عالية من التضامن الذكوري ضدّ النساء، وهو تضامن اتخذ شرعيته من تكييف خاص لبعض إيحاءات الظاهرة الدينية. ولئن كان اللاهوت من نتائج ثقافات القرون الوسطى القائمة على السجال، واحتكار الحقائق، فإن العصر الحديث، الذي أحلّ النسبية في كل شيء، لم يعد بحاجة إلى فروض اللاهوت المجردة عن التاريخ. الحداثة، إذن، ستجد نفسها في تعارض مع لاهوت ذي بطانة دينية، وتحرير العلاقات الاجتماعية من أنساقها الموروثة، سيجعل المجتمعات تقبل علاقات مغايرة، تحتلّ المرأة فيها مكانة حقيقة لا صلة لها بنوعها الجنسي، بل بدورها الاجتماعي.
وفي كتاب “الحريم السياسي: النبي والنساء”عوّمت المرنيسي حالة الرسول قبل هيمنة التصوّر الإقطاعي للإسلام، أي حالته العموميّة بوصفه فردا يتواصل مع أسرته في منأى عن الضخّ الأيديولوجي الذي ولّده الفكر الإسلامي المتأخّر، إذ لم يكن ثمة انفصال بين الفرد وعالمه، ومن هذا المنظور انعطفت المرنيسي إلى دور النساء في حياة الرسول، بعيدا عن التجريد اللاهوتي الذي استقام في مرحلة لاحقة، وتصلّب حتى أزاح الدين من موقعه الحقيقي. إن اختيار المرنيسي لحالة الرسول والنساء لها أهمية استثنائية، فقد كشفت طبيعة التواصل بين النبي ونسائه، ودرجة الترابط فيما بينهم، ثم سلطت الضوء على السخاء العاطفي الذي اتصف به الرسول تجاه زوجاته، ومجتمعه، والرسالة المتوارية خلف ذلك مؤدّاها أنه إذا كان الرسول قد تميز بتقدير شخصي وعاطفي للمرأة، فما هي الوجوه الشرعية للاهوت اختزل المرأة إلى كائن ثانوي تابع، سوى التفسيرات الضيفة للدين؟ إلى ذلك فقد سلّطت ضوءا كاشفا على شخصيات نساء الرسول، ومنهن السيدة خديجة، والسيدة عائشة، وهما امرأتان لعبتا دورا بالغ الأهمية في حياة نبي الإسلام، وفي تاريخ الإسلام بصورة عامة، وذلك يبرهن على أن دور المرأة لم يكن ثانويا، إنما جرى بمرور الزمن تغييبه.
على أن المرنيسي ارتحلت في شعاب الماضي باحثة عن دور المرأة في التاريخ العربي والإسلامي في كتابها “سلطانات منسيّات”، الذي شملت فيه نخبة من النساء اللواتي تركن أثرا كبيرا في مجتمعاتهن، ثم أنها قدّمت قراءة مدهشة لصور الحريم في الثقافات الإنسانية، كما ظهر ذلك في كتابها "هل أنتم محصّنون ضد الحريم؟". وفي كل ذلك انفتحت المرنيسي على آفاق واسعة في ما يخص قضية المرأة في المجتمعات التقليدية، وكانت تلحّ على الإشكالية المعقدة جدا حول كيفية الاندماج في عالم يقوم بتحديث نفسه، لكنه منشطر بين غرب يسعى لتحويل التحديث إلى عمل مستحيل بتمزيق الأنساق التقليدية للعلاقات الاجتماعية التي لا بد لكل تحديث أن يقوم بتفكيكها، ومجتمع ذكوري يتعمّد إقصاء نصفه كعورة فاضحة، قاصرة، ومبتورة، ومطمورة، ولكنه نصف مثير للشبق والرغبة، وهو قطاع النساء.
وقد توصلت المرنيسي إلى أن كلاّ من الغرب والذكورية يتبادلان المصالح، ويقهران المرأة، وسلسلة الانهيارات المعاصرة في سلّم القيم، يراد بها الحيلولة دون تقبّل المرأة كآخر. وفي نهاية المطاف دُفعت المرأة إلى الحاشية ليجري تهميشها ككائن هامشي في إطار حياة مهملة، واتخذ وجودها معنى واحدا هو: جسد للذة والاستمتاع. المرأة جسد يمكن أن يُقلّب على كل جوانبه، يُفحص باستيهام ذهني، وتُدرج تفاصيله في سياق الشبق اللغوي، ويُعاد إنتاجه كمادة دعائية من أجل استثارة رجولة خاملة، تعاني الإخفاق والانكسار في عالمها، فتبالغ في الادعاء الذكوري. وبإزاء هذا الاختلال النفسي والاجتماعي، لا يقع توافق سليم بين الأجساد، هو توافق هشّ قوامه الاستباحة والاغتصاب والأنانية.
والمرأة التي خصّتها المرنيسي بالبحث والاهتمام هي المرأة العربية، والمرأة المسلمة، التي سلخت حياتها في مجتمعات تقليدية خاضعة لأنساق متماثلة من القيم شبه الثابتة أو الثابتة، والتي يتصاعد فيها دور الأب الرمزي من الأسرة، وينتهي بالأمة، والتي تعتصم بهوية ثقافية ثابتة، وتخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية، وتعتبره مهدّدا لقيمها الخاصة، وتفسّر كلّ تحديث على أنه مهدّد لهويتها الدينية وقيمها الأخلاقية، وتعيش دائما تحت طائلة التأثيم، فكل فعل، لكي يكتسب شرعيته ينبغي عليه أن يتطابق مع تقليد ما أو نص، فأمسى البحث عن المطابقة أهم من البحث عن الأفكار.
بحثت المرنيسي في حاضر المجتمعات التقليدية، وفي ماضيها، وفي علاقاتها الاجتماعية، وفي تطلّعاتها المستقبلية، وانتهت إلى أنها مجتمعات ساكنة، تتحوّل المرأة فيها إلى حرباء متقلّبة، تُحجب وتُكشف، تُستبعد وتُستحضر في آن واحد؛ فخلف كل حجاب ثمة جسد يفجّره العنفوان، وصورة المرأة معقّدة في هذه المجتمعات، مرة يريدها الرجل رمادا، ومرة جمرا، يخفي كينونتها الإنسانية وراء حجب الإهمال والاستبعاد، لكنه يستدعيها وقت الرغبة والمتعة، العلاقة بين الاثنين محاطة بقلق مستفحل، ففي الوقت الذي يمارس فيه الرجل هذه الازدواجية، تستجيب المرأة للضغوط المتقاطعة التي تفرضها تقاليد شبه مغلقة صار هاجس بعثها مجدّدا أحد أكثر التحدّيات الثقافية حضورا في عصرنا، وتطلّعات تحررية مستعارة أنجزتها مجتمعات أخرى.
ومن الطبيعي أن تتلاعب هذه الأمواج العاصفة من التحيّزات الدينية والاجتماعية بالبنية الذهنية للمرأة، وتجعلها ترى ذاتها منعكسة في مرايا متعددة؛ فالجسد الأنثوي هو المرآة التي تنطبع عليها كل تلك التحيزات، فيظهر جسدا متخفّرا يدّعي العفة والطهارة والنقاء حيثما يكون في قبضة التقاليد المحافظة، لكنه في غيابها سرعان ما يستجيب للذة العرض والفرجة بوصفه سرّا مخبّأ يحتاج للظهور والكشف، والإعلان عن نفسه. وهذه التقلّبات المستمرّة في حجب الجسد وكشفه، طمرِه والإعلان عنه، منحه والبخل به، تمزّق في كل لحظة مبدأ الاحترام الإنساني له، فهو جسد مُذلّ ومُهان، لكنه مبرمج اجتماعيا ليظهر على أنه معزّز ومكرّم.
لم تغب الترابطات الخادعة بين جسد يحتضر خوفا، ويتّقد رغبة في مجتمعات تقليدية عن اهتمام المرنيسي، وفي ضوء ذلك يمكن فهم الحاجة للانتقال بالبحث من منهجيته البحثية الصارمة إلى منهجيته التمثيلية الموحية، أي من تحليل الأنساق الثقافية إلى تمثيلها بوساطة السرد، فكان كتابها الشائق “نساء على أجنحة الحلم” هو الوثيقة التخيّلية التي استكشفت بها عالم الحريم في أربعينات القرن العشرين في المغرب، وهو عالم قابع خلف بوابة ضخمة يحرسها رجل دائم اليقظة، وعرضت ذلك العالم برؤية طفلة في السابعة من عمرها، صرّح الكتاب مرة واحدة باسمها “فاطمة”، وشأنه شأن كلّ نص غايته إنتاج سيرة ذاتية تخيلية مستعادة تداخلت فيه مستويات الحقيقة بمستويات التخييل، وبقدرته البارعة على الاختلاق أوهم الكتاب بالحقيقة. قام التمثيل السردي فيه بوظيفة تجسيد أفكار المرنيسي عن المرأة، لكنه عبّر، أيضا، عن تجربتها الشخصية في طفولتها وصباها، ودعم النص بهوامش توثيقية، وحرص على إنزال الأحداث في إطار تاريخي، وترافقت تلك الأحداث مع نهضة المغرب الحديث، وهيمنت وقائع الحرب العالمية الثانية على أجواء الكتاب بالوجود الفرنسي والإسباني والأميركي، وجاء ذلك بوصفه خلفية لإعطاء معنى لمضمون الكتاب، فالرسالة التي تنبثق من خضمّ النص أرادت كشف النسق الثقافي السائد في عالم الحريم، ثم بداية تخلخل ذلك النسق بسبب المؤثرات الثقافية الخارجية.
برعت المرنيسي في إيراد الحكايات في تضاعيف كتبها، لكنها ضاعفت من هذه البراعة في كتابها “نساء على أجنحة الحلم”، فصرّحت بالصفة التخيلية له “هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية، وإنما أحداث متخيّلة على شكل حكايات ترويها طفلة في السابعة”. زاد هذا التوضيح الأمور التباسا أكثر ممّا جلاها لأن النصّ تخطّى التبسيط الذي أكدته تلك الفقرة، فهو يمثل إحدى أكثر الرؤى عمقا للعالم المغلق الذي عاشت فيه المرأة العربية، العالم المغلق الذي دارت حوله نصوص أدبية كثيرة شُغلت بإثارة الشهوات الحبيسة، لكنها أخفقت في تمثيل التراتب الاجتماعي والثقافي فيه، ولم تتجرّأ على الدخول في تفاصيله النفسية، وفي كشف نمط العلاقات السائدة فيه، وفي تأشير العلاقات المتكسرة بينه وبين العالم الخارجي الذي احتل الرجل المركز الأساسي فيه.
لا يمكن لكتاب توثيقي أن يؤدّي هذه المهمة العويصة، فعالم الحريم مجاز رمزي كثيف لا يعبّر عنه بلغة وصفية، كونه قد غادر، بفعل الزمن، حقيقته الموضوعية، وأصبح موضوعا مشبعا بتقاطع الرؤى الأيديولوجية التي تصدر عن منظورين متعارضين، أحدهما مشغول بالحفاظ على الهوية الثقافية بمعناها التقليدي، والنظر إلى المرأة كقطيع من الحريم، والآخر مهموم بفكرة تدّعي التغيير، بتأثير من استعارة نماذج أخرى دون النظر في اختلاف السياقات الثقافية. الأول يريد إعادة صياغة ذلك العالم بما يطابق الاستبعاد الثابت لدور المرأة، والثاني يسعى إلى إلغاء هذا المفهوم من أساسه، ثم تتفجّر المشكلة بعد كلّ هذا، فالتيار الأول يريد تكييف دور المرأة بما يوافق تعليمات “الماضي” الديني، والثاني يريد إعادة دمجها في الوسط الاجتماعي استجابة لتعليمات “الآخر” الغربي. والمقصود، بالنسبة إلى التيارين، الاستجابة لأنساق فرضت حضورها بالتعلّم الغربي الذي جلبته التجربة الاستعمارية، أو الاستجابة لأعراف المجتمع التقليدي.
تقاطعت هذه المواقف المتعارضة في وعي الصغيرة “فاطمة”، فالطفلة التي تحبو في عالم الحريم وجدت نفسها منقسمة على ذاتها بين الاستجابة لرغبات الأم الحالمة بأن تكون ابنتها منفكّة من قيود الحريم، ومتخطية لأسواره، وبين الامتثال لروادع «للاالطام» التي تتعهد دروس التربية الدينية، وتحاول أن تزرع في قلب الطفلة فكرة مؤدّاها: كل خرق لسياج الحريم هو تهديم لركائز الدين القويم. وفي كل ذلك، كما يخيّل لي، أسقطت المرنيسي وعيها اللاحق على طفولتها المبكّرة في بيت مغربي تقليدي، لتجعل من تجربة طفولتها مجالا لمناقشة حال المرأة، ويتعذر تخطّي التطابق الصريح بين “فاطمة” الحقيقية و”فاطمة” المتخيّلة، ففاطمة الصغيرة، طفلة الحريم، هي قناع عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي التي بلورت، خلال رحلتها الفكرية، وعيا راديكاليا زعزعت به التحيّزات التي رسمت صورة المرأة في الثقافة العربية-الإسلامية قديما وحديثا.
(ناقد عراقي)