استوحت الكاتبة البريطانية اغاثا كريستي (1890- 1976) عدداً من الروايات والقصص البوليسية من مواقع التنقيب الأثري حينما كانت تلتقي بكبار الخبراء، في الشرق الأوسط، ومن خلال خبرتها الشخصية في العمل مع زوجها الثاني السير ماكس مالوان في مواسم التنقيب الأثري في سوريا والعراق، وزياراتها المتواصلة إلى مصر، ومنذ بدايات القرن التاسع عشر دأب عدد كبير من الكتاب والشعراء والفنانين الغربيين على زيارة البلاد العربية بتأثير من قراءة حكايات ألف ليلة وليلة التي انتشرت ترجماتها منذ الربع الأول للقرن الثامن عشر.
وتختلف أو تأتلف مآرب المستشرقين، ويظل استشراق اغاثا كريستي ثقافياً وعلمياً وإنسانياً وعاطفياً صافياً ومبهراً
ما قبل الكتابة
عاشت اغاثا طفولتها السعيدة في توركواي في الجنوب الغربي من بريطانيا، مع أمها الارلندية كلارا، وأبيها الاميركي فريدريك ميلر الذي درس في سويسرا، وأختها الأكبر مارغريت وأخيها لويس، وحرص والداها على تنويع دراستها بين الرياضيات والموسيقى والأدب، فبرعت في العزف على الآلات الموسيقية والتمثيل في المسرحيات المدرسية والتدريب المنزلي على القراءة والكتابة، ولكن طفولتها السعيدة انتهت بوفاة والدها، عندما كانت في عامها الحادي عشر، وبعد أن أكملت دراستها الثانوية في أهم ثلاثة معاهد محلية كانت تتشوق لاكتشاف الثقافة الفرنسية، فغادرت إلى باريس وانتسبت إلى ثلاثة معاهد على التوالي خلال خمس سنوات، وحينما عادت من باريس عام 1910 وجدت أن أمها مريضة، وأن الأطباء نصحوها بالاستجمام في مناطق دافئة، فسافرت اغاثا مع أمها إلى القاهرة، ونزلا في "فندق قصر الجزيرة" ثلاثة أشهر، تخللتها زيارات متعددة إلى المتحف المصري والمواقع الأثرية والسياحية، وأنجزت بعدها أغاثا رواية متعثرة بعنوان "ثلج فوق الصحراء" وبعض القصص القصيرة، التي لم تنشر.
بداية الصعود
كانت أغاثا تقرأ كل أنواع الكتب التي تجدها، ولكنها انجذبت إلى الروايات والقصص البوليسية القليلة، ومنها روايتا الكاتب البريطاني ويلكي كولينز "ذات الرداء الأبيض" و"القمر الحجري" وسلسلة قصص السير كونان دويل "شيرلوك هولمز"، وأعمال الكاتبين الأمريكيين ريموند شاندلر وادغار آلن بو.
وكانت بداية نجاحها حينما نشرت روايتها الأولى "قضية غامضة بامتياز" عام 1920، وروايتها الثانية "العدو السري" في عام 1922، ثم روايتها الثالثة "جريمة في ملعب الغولف" في العام التالي، وبرز في أسلوبها عنصرا الحبكة البارعة والتشويق.
تطالعنا في بعض روايات أغاثا وقصصها شخصية مميزة، تشكل القاسم المشترك في الأحداث المختلفة، هي المحقق هرقل بوارو الذي ظهر في ثلاث وثلاثين رواية بوليسية، وأربع وخمسين قصة قصيرة، واستوحت أغاثا شخصيته من ضابط بلجيكي كان يدير عمليات إجلاء المهاجرين والجرحى إلى لندن بعد أن اجتاح الألمان بلجيكا في الحرب العالمية الأولى، وحددت ملامحه وطباعه، فهو بيضاوي الوجه وله شاربان مفتولان، وهو أناني، ولكنه يتميز بذكاء خاص، وبرز في أهم أدواره في رواية “جريمة قتل روجيه اكرويد”، واشتركت معه المحققة الموهوبة مس ماربل، التي ظهرت في 12 رواية من أعمال اغاثا، التي تقارن بين عمل المحقق البوليسي وعمل المنقب عن الآثار.
حب وزواج وطلاق
التقت اغاثا بالضابط الطيار ارشي كريستي في قصة حب عام 1912 واتفقا على الزواج، واستمرت فترة الخطوبة عامين، وتزوجا في نهاية عام 1914، ثم انتقلا إلى لندن في الظروف الصعبة التي واكبت اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث انضمت اغاثا إلى فرقة المتطوعين في المستشفيات، بينما كان ارشي يتنقل بين فرنسا وبريطانيا، في مهمات حربية، ولم يستقر بهما المطاف إلا بعد نهاية الحرب، وفي العام التالي ولدت ابنتهما روزالند التي عاشت مع أمها، بعد طلاق الزوجين عام 1928.
في عام 1926 اختفت أغاثا فجأة لمدة أحد عشر يوماً، بعد أن غيرت ملامحها، ونزلت في فندق مغمور وادّعت أن اسمها تيريزا نيل، من كيب تاون في افريقيا الجنوبية، وشغل اختفاؤها الصحافة العالمية والناس ومنهم 15000 شرطي بريطاني كُلفوا بالبحث عنها، وخصصت إحدى الصحف جائزة لمن يعثر عليها، وكان اختفاؤها رداً على طلب زوجها الطلاق منها ليتزوج من امرأة أخرى، وتحولت حادثة الاختفاء إلى فيلم سينمائي بعد خمسين عاماً، من إخراج مايكل ابتيد وبطولة فانيسا ريدغريف وداستن هوفمان.
إن ولع اغاثا بتنويع المكان والزمان قادها إلى استحضار الماضي البعيد، ومعاينة المكتشفات الأثرية في الشرق، وكان لها أصدقاء ممن عملوا في الحفريات الأثرية في العراق، فسافرت والتقت عام 1930، بين أطلال مدينة اور، بخبير الآثار ماكس مالوان، الذي تكبره بخمسة عشر عاما، فتزوجا وعملا معاً في الحفريات الأثرية في نينوى وأور ونمرود والأربجية، قرب الموصل.
أرقام قياسية
تشير مصادر الإحصاء أن أعمال اغاثا كريستي هي الأكثر مبيعاً في العالم، وهي الوحيدة التي نافست أعمال شكسبير، وترجمت إلى أكثر من مائة وثلاث لغات، كما تجاوزت النسخ المباعة منها، قبل وفاتها عام 1976، أربعة مليارات نسخة، بينما تجاوزت مبيعات روايتها "لم يكن هناك أحد" مائة مليون نسخة.
استمرت العروض المتواصلة لمسرحيتها "مصيدة الفئران" في لندن ستين عاماً، منذ عام 1952، وتناوب على أداء أدوارها أكثر من 400 ممثل في أكثر من 25000 عرض يومي في حالة غير مسبوقة، وتحولت إلى فيلمين سينمائيين، وعرضت في التلفزيون، وتحولت إلى لعبة فيديو، وهي في الأصل مأخوذة عن قصة قصيرة نشرتها اغاثا عام 1948 بعنوان "الفئران العميان الثلاثة" في عام 2013 أجرت جمعية كتاب الروايات البوليسية استطلاعاً للرأي ضم 600 كاتب انتخبوا رواية كريستي التي نشرت عام 1926 "جريمة قتل روجيه اكرويد"، كأفضل رواية بوليسية في العالم، وهي تمثل حجر الزاوية في هذا المجال.
تحولت أكثر من ثلاثين رواية وقصة من أعمالها إلى افلام سينمائية، وتحولت أكثر من ثلاثين أخرى من مؤلفاتها إلى مسلسلات تلفزيونية وإذاعية وأشرطة فيديو.
كانت حياة اغاثا عاصفة لا تهدأ، فمع ولعها المتواصل بالكتابة اليومية كانت تطوف في القارات بكل وسائل النقل، لتعرف كل وجوه الحياة في العالم، وتكتشف كل ما هو غريب أو جميل أو عجيب أو مخيف، في الطبيعة والمدن والشواطئ والجزر وسكانها وتقاليدهم وطباعهم، فزارت جنوب افريقيا واستراليا ونيوزيلندا وهاواي وكندا والولايات المتحدة وجزر الكناري وتركيا وغيرها.
الطريق إلى تل براك
وفي عامي (1937–1938) قاد مالوان واغاثا ورشة تنقيب في حوض نهر الخابور، في الشمال الشرقي من سوريا، في تل شاغر بازار، ثم استقرت في تل براك في منتصف الطريق بين مدينتي الحسكة والقامشلي، وكانت اغاثا ترصد كل المتاعب والمسرات والأحداث والشخصيات والمفاجآت التي مرت بها في رحلتها الطويلة، من لندن إلى بيروت وحمص ودمشق وتدمر وحلب ودير الزور، وصولاً إلى الحسكة، وذهلت من كثرة التلال المتناثرة في الجزيرة السورية، وهي أكثر مئة تل، ولكن عشقها انصب على تل براك، الذي لا يشبه غيره، بعد أن كشف عن أسراره المخبأة، في مدينة متكاملة، بما فيها القصر و"معبد العين"، برموزه الساحرة، التي تليق بعاصمة متحضرة في زمنها البعيد، الذي يمتد في عصر البرونز بين نهايتي القرنين السادس والثالث قبل الميلاد، وكان طيار فرنسي أول من صور هذا التل من الجو، وبدا في الصورة كوحش أسطوري عملاق نائم، وأثارت صورته اهتمام الباحثين، وكان أولهم ماكس مالوان واغاثا كريستي.
كانت اغاثا تستقبل القطع الأثرية المكتشفة بالترحيب، وتحاول أن تكفكف دموع الفرح، ثم تمنح العمال الذين ينتزعون القطع من التراب مكافآت مجزية، وتنظف القطع بحرص شديد وتستخدم أدوات التجميل في تلميعها، وتقوم بتصويرها وتوثيقها قبل حفظها في صندوق خاص، وكانت تعرف كل العمال في الورشة وترصد طباعهم وتعالج نساءهم وأولادهم، وتعطيهم الأدوية المناسبة، حسب خبرتها التي اكتسبتها في العمل التطوعي في المستشفيات في سنوات الحرب.
نشرت اغاثا عام 1946 كتاباً نادراً ومختلفاً عن كل ما كتبت، وجاء بعنوان "تعال قل لي كيف تعيش؟"، وفيه وجوه متعددة من متعة أدب الرحلات، ويوميات خبيرة الآثار، في تل براك، واستعادة لبعض الذكريات في شمال العراق، بلمسات شعرية مشبعة بالحنين:
"بعد أربع سنوات من الحرب وجدت أن مشاعري تغيرت واتجهت شيئاً فشيئاً، نحو تلك الأيام التي قضيتها في سوريا، وفي النهاية اندفعت إلى تجميع كل مسودات ملاحظاتي ويومياتي المضطربة التي بدأتها من هناك ثم تركتها جانباً، وبدا لي أنها تعيد لي ذكريات طيبة في الزمان والمكان ".
نزعة الكتابة اليومية
تركت أغاثا إرثاً غنياً من الروايات والمسرحيات البوليسية الأكثر انتشاراً في الأدب العالمي الحديث، فنشرت 66 رواية بوليسية و 153 قصة قصيرة في 14 مجموعة قصصية و 19 مسرحية، ومجموعتين شعريتين، ونشرت ست روايات عاطفية تحت اسم مستعار هو "ماري ويستماكوت"، وكانت اغاثا حريصة على عادة الكتابة اليومية، واختيار أفضل الزوايا في أفضل الفنادق، لتنفرد وتواصل الكتابة بطابعتها الصغيرة في مواعيد محددة، بينها موعد شرب الشاي في الساعة الخامسة عصراً.
درست اغاثا كل ما يتعلق بالأدوية والسموم وأساليب العلاج، مما ساعدها على توصيف جرائم التسمم ودقة النتائج التي يصل إليها المحققون في تشريح الضحايا و الكشف عن المجرمين، إلى جانب تحليل شخصياتهم ودوافعهم الشائكة، واختيار الأزمنة والأمكنة المختلفة لكل جريمة، ففي رواية "جريمة في قطار الشرق السريع" تُكتشف جثة الضحية في الساعة الخامسة صباحاً في القطار المتوقف في محطة حلب، وفي رواية "موت في النيل" جرت الجريمة في سفينة، وفي رواية "موت بين الغيوم" حدثت الجريمة في طائرة، بينما جرت جريمة أخرى في مكتبة.
كما كتبت روايتين استوحتهما من ذكرياتها في العراق وهما "جريمة بين النهرين" و"الذين وصلوا بغداد" ومجموعة قصص وقصائد من وحي زيارتها إلى القدس بعنوان "نجمة فوق بيت لحم"، ونشرت قصة "جريمة في البتراء" من وحي زيارة الأردن، وقصة "بيت في تبريز" من وحي زيارة إيران.
في عام 1950 بدأت اغاثا بكتابة سيرتها الذاتية في منزل هادئ في موقع النمرود، واستمرت في كتابتها، إلى جانب كتاباتها الأخرى، ولكنها لم تنشر إلا بعد وفاتها عام 1976، عن خمسة وثمانين عاماً، وهي مثقلة بالجوائز والأوسمة والتكريمات، وورثت ابنتها روزالند ثروة طائلة، من ايرادات الكتب و شراكتها مع دار نشر "بوكر" التي أسست جائزة البوكر عام 1968، وبعد وفاة روزالند عام 2004 عن خمسة وثمانين عاماً أيضاً، ورثها ابنها ماثيو، حفيد أغاثا الذي كان يرافقها في رحلاتها الطويلة في سنواتها الأخيرة.
(المصدر: مجلة نزوى)