ترصد قراءة الناقد المصري تجربة جمانة حداد الشعرية من خلال مختاراتها المعنونة ب " عادات سيئة "، من خلال تتبع لحالات تمرد الجسد الذي يتخذ مستويات متعددة في الديوان، فالبحث عن مقولة التجاوز ثم معاينة طيران الوعي المراقب لجماليات الجسد الميت.

وعي طيفي مثل وهج الموت

في «عادات سيئة» لجمانة حداد

محمد سمير عبدالسلام

في كتابة جمانة حداد الشعرية إعادة إبداع، وتأويل للحظة نشوء الجسد، في لقائها السري، والطبيعي، والأسطوري بما يسبقها، وما يليها من حالات الوعي الشبحي، أوالطيفي المتجاوز للحدود، والمعرفة، والتعين في جسد واحد. الذات المتكلمة عند جمانة حداد تحيا من خلال معاينتها للذة اختراق الوعي لما يسبق نشوء الوعي نفسه كإشراقة استثنائية في الوجود، فهو يخترق العتمة، وما فيها من اندماج كلي لا يمكن معرفته أبدا، فقد تخلى الوعي عن وظيفة الإدراك والمعرفة في اتجاه لذة الذوبان في المدلول الحسي للعدم، دون أن يكون هذا العدم شموليا، أوسكونيا. إنه سردي ويتمتع بفاعلية ديناميكية خارج الفاعل الأول، لأنه الفاعلية التي تسبق أولية التجسد في تكوين أصلي.

وتنتقل مسيرة جمانة حداد من إغواء التمرد الكامن في الجسد، إلى التوتر بين سياق الحتمية، والبزوغ الإبداعي للجسد في بكارته المتكررة، ثم معاينة اللذة الكامنة في أخيلة التدمير، واتحاد الوعي بما يسبق النشوء الأول، ويستبقه من حالات إبداعية فريدة تصالح قوة ليليت الأنثوية، وما تحمله من دلالات الوحدة، والعبث، وظلمة العدم. هذه القوة التي هي علامة تأويلية تقاوم مركزية التكوين الأول للذات الشاعرة، وتكشف عن هذا الهامش الخفي المؤسس للطيفية المستترة في الوجود، والحنين إلى المجال الكوني المفتوح المستبدل للذات في مقابل الآخر، والحياة في مقابل الموت.

الكتابة هنا لا تتعامل مع دوال أحادية أومركزية، فالأنثي تنتج من داخلها ذكرا أسطوريا. والوعي يقع في نسيج العدم السلبي، والأخير يختلط بالسردية، والفاعلية الغائبة. وعقدة الذنب التي لازمت تاريخ التجسد تختلط بمرحلة التجاوز للذات التاريخية. ونستطيع قراءة مسيرة جمانة الشعرية من خلال مختاراتها المعنونة بـ "عادات سيئة"، وقد صدرت عن هيئة قصور الثقافة المصرية في نهاية 2007. ونلاحظ فيها بروز حالات تمرد الجسد المتداخلة مع حب استثنائي، ثم البحث عن التجاوز في حالات السلب، وما قبل البدايات، ثم معاينة طيران الوعي المراقب لجماليات الجسد الميت.

في نص "لي جسد" جمعت لغة جمانة بين أخيلة الحب، وأساطير البدايات، والرؤى العلمية في تفسير ظهور الحياة على الأرض، فالوعي بالجسد هنا يبحث عن لحظة الولادة في سياق الحدث الغريزي غير المتعين المميز لنشوء الجسد، وهو الحب قبل أن يرتبط بعلامة محددة، إنه طاقة الحب التي سبقت عملية التجميع، واستبقتها في آن، فهذه الطاقة تميل إلى إغواء التجزؤ في علامات أخرى مثل المحارة، والسمكة، وحبة الرمل. تقول:

"لي جسد في قعر المحيط ينتظر/ لي جسد كبركان تلعق المياه فوهته كي لا يقذف اللذة قبل قدوم الحب/ لي جسد لا أعرفه/ قد يكون حبة رمل/ أو سمكة حمراء/ أو لؤلؤة في محارة".

الوعي هنا يمارس لذة توحده بطاقة الوجود، ويعاين بكارتها بصورة انتشارية لا نهائية، ومن ثم يختلط الحب بالبحث عن خصوصية الجسد، فيما يتجاوزها.

إن طاقة الحياة هنا تستعيد لحظة ارتباط الأنوثة الأسطورية بتناقضات الماء، وتتقاطع مع التأويلات العلمية المعاصرة التي ترى أن الأركيات ربما تكون شبيهة بصور الحياة الأولى، وبهذا الصدد يعرض دونالد جورج سميث لبعض السيناريوهات المحتملة لهذه الحياة، مثل كمونها في حجر نيزكي، أو أنها كانت تمتلك جينوما شبيها بالأركيات في قعر المحيطات، أو أن الأركيات هي الأقرب للنمط الأصلي (راجع ـ دونالد جولد سميث ـ البحث عن حياة على المريخ ـ ت إيهاب عبد الرحيم ـ عالم المعرفة ع 208 ص 122).

لقد كان الوعي يراقب الجسد كحدث متوهج في قاع المحيط. هل كان جسدا حقا؟ إنه يبحث عن القوة الأسطورية للحب والحياة معا هذه القوة هي التي تدمر الجسد المحدود، وتعيد كتابة الحب من خلال بروزها كحدث أول يجمع بين الماضي والمستقبل، وسنعرف أن هذه القوة نفسها ستصاحب الموت ضمن دلالات التجاوز في كتابة جمانة. تقول:

"في قعر المحيط/ داخل فقاقيع الرغبة/ لي جسد لك كما لي معك غد وأبد/ غد تصل منه إلي/ وأبد تفتح فيه المحارة ببطء".

لقد سبقت الرغبة الصوت، وملكية الجسد، فبدت الخصوصية استثناء تاليا، أو تعبيرا عن لذة ارتباط الوعي بقوته الأولى التي تجمع بين الحب والدمار المتوهج. وفي نص "ذات جنون" تنتقل هوية المتكلمة إلى فضاء أنثوي ذي زمن دائري لا يمكن تحديده، كما أنها تحدد هويتها في تحقق أخيلة الأنثى الأخرى الكامنة في اللاوعي، ومن ثم تنهار الحدود بين الأداء السلبي للذات الأخرى التي توشك أن تتحقق، والسياق الشعري للمتكلمة الأولى التي أوشكت أن تستبدل، أو تصير فراغا من دون صوت مركزي. نحن أمام حديث مؤجل، ولكنه يقيني في الوقت نفسه مثل الأنثى والزمن، والصوت، والجنون. تقول:

"عندما يحين الوقت/ ذات جنون/ سأصطاد الفضاء وأصافح الغيمة/ سأستعير الزوبعة/ فأترك الدموع الطافرة ورائي دموعا طافرة وأذهب... سأجهر بوجهي المتلبد/ وأدفن وجوهي الصافية... حتى تطفو على وجه النهر تلك المرأة التى أدخرها".

وتبدو العاشقة المتعالية في حالة حنين لوهج الاندماج السابق لتكوينها في نص "دعوة إلى عشاء سري"، فحالة العشق في النص تستعيد أحلام العاشق الأول المقدس مثل تموز، وتعيد تكوين الأنثى في استدعاء حدث الحياة المقترن بالحرارة، والطاقة الكونية، فالعشاء السري بين العاشق، والعاشقة هو رغبة خفية في الذوبان، والاستجابة لإغواء الطاقة الأسطورية في مرآة الآخر، هكذا يتحقق الحب في سلب الأنا المتعالي من حضوره المستقل. تقول:

"يتسرب الشوق من فراش العاشقة ويستميل الشعر إلى كوكب ملؤه أنت وبعض الشموس وحر كثير... العاشقة لك. أنت عمادها وفي تربة راحتيك تغرز جذورها السموية. تحمل لها في عينيك نداء الاشتعال ووعدا بانقشاع السكينة وكم تشبه في أوجاعها حب ما قبل الحب الأول... تجعلك إلها متى نظرت نفسك في عينيها وتعيدك رجلا متى نظرت هي في عينيك".

إن الذوبان يغيب الصوت، ويضخمه في آن. يفرق التكوين في تشبيهاته، ومراياه المتخيلة الخفية.

وفي نص "عادات سيئة" نرى فعل التمرد مضادا للذات التاريخية، بكل ما تحمله من صمت، وذاكرة، وملل، إنه يحقق الخسارة في الفوز بما وراء الحياة، وما يستبقها، ويتجاوزها، الخسارة هنا هي وهج الحياة المنسية، الحياة الأولى التي سبقت الحياة الزائفة، كما سبقت الكلام والصمت، والتاريخ. هي حياة تدميرية للأثر المحدود، أو يصير التدمير فيها وهج للوعي بالنسيان، أو بتحقق حدث النسيان كمستوى آخر للحياة. تقول:

"قالت إنها امرأة ضجرة/ إنها أيضا لا تصلح للنوم/ لكنها تنام كي تظل شبيهة بالجنين/ وتغمرها مياه الهاوية... قالت إنها خاسرة بالفطرة/ خاسرة كي تستحق فوزها/ قالت أخيرا إن الحياة عادة سيئة/ ربما لن تشفى منها يوما بشيء من العزم/ وبنسيان كثير".

لقد تحقق المسار الآخر من خلال علامات الوجود المسبب للضجر، فصار الهدم بداية جديدة، والنوم اندماجا كليا، والتمرد شفاء من الحياة باتجاه وهج الفقدان البديل، وسنرى أن هذا الوهج الملازم للفقدان هو ما يشكل تجربة جمانة حداد الشعرية، فهي تبحث عن وعي متقد بالموت، والعدم، والفقدان. هذا الوعي بحد ذاته يناظر حب الحياة، وصيرورتها في اتجاه سلبي، وهو في الوقت نفسه دائري، وسردي، أي يتحقق في الزمن بصورة لا نهائية، ومن خلال أداء لا يرتبط بفاعل معين وإنما بالجنس البشري في اتحاده بحدث الحياة الملتبس.

يقترن الانتحار في نص "امرأة"  بالانتشار والتعدد، فالذات تؤجل تحققها مثلما تدفع الموت بتجدد البدايات، تلك التي لا تترك وراءها أثرا صافيا سوى الوعي المعاين لبكارة التجسد، والهدم معا. تقول:

"كل هذه الجروح لتتعلم الحياة/ كل هذه الجروح ولا جدوى/ أحلامها يدان إلى هاوية/ ساطعة وفاضحة كشهوة منتصف الليل/ ولهى بأقنعتها كي تدهش المرآة/ ولهى بأقنعتها كي ينصرف وجهها إلى مسيرة انتحار".

إن مفاهيم الصراع، وعقدة الذنب، وصخب الحاجات الأولية تتحول عند جمانة حداد إلى قوة تخيلية تشبه اللعب أو الحلم، فهي إذ تؤذي الجسد، وتتركه مشوها، تعيد إبداعه في اتجاه مضاد لقوانين اللعبة العبثية التي تقوم على الأنا في مقابل الآخر، إنها لذة القبض على معنى الصراع دون أطراف تعيشه في حالة مأساوية، ويبدو هذا واضحا في نصي "الغابة"، و "شيطان"، ففي الأول يولد صخب الغابة من الحكي، حيث يكتشف الوعي لذة الصراع قبل أن يحدث مما يعزز أولية هذه اللذة وأصالتها. أما الصراع المحدود فهو استثناء. تقول:

"في الغابة/ أحلام تنزل من أقمار رأسي الوفية.. حريق يحفظني كالحارس/ حوار مخدر طرفاه لا يتعارفان/ حكاية إثم وتوبة/ من جحيم الخيال إلى مطهر الأصابع".

وفي نص "شيطان" تستعيد الأنثى قسوة البدايات الأسطورية للصراع بين الرجل والمرأة، خاصة ما ورد في الملاحم البابلية بصورة غير واعية، ثم يتحول هذا الصراع إلى لعبة متكررة تندمج فيها رتابة العبث، بلعبة الإغواء المتجددة التي صارت بحد ذاتها وهما جماليا شعريا يدمر اللقاء الواقعي الأول، ويستبدله، فقد ترك اللقاء أشباحه دون تحقق للحب، بل إنه عزز من آثار الالتهام كمدلول أول في اللعبة ينفي وجود طرفي العشق المتصارعين. تقول:

"أنت في أوج الذكاء/ وأنا في أوج المأدبة/ أنت تفكر كيف ستبدأ حديث المغازلة/ وأنا تحت ستار وقاري أكون قد فرغت من التهامك/ حياتان مختلفتان وفعل اختلاس".

الالتهام ينتج الجسد ابتداء في حالة السقوط. تلك التي ميزت تاريخ الذات المستقلة المتعالية دون الإعلان عنها أبدا.

وفي نص أدرينالين نلاحظ انتصار المسار الإبداعي غير المبرر في النظر للحب وتكوين الأنثى، على المسار الحتمي للهرمونات التي تشكل النوع، وتؤثر في حدث الحب، ولكن هذا الانتصار يكشف عن تعارض أساسي بين الحتمية، والإبداع رغم تداخلهما في الجسد، فبروز الجسد يعزز من التكوين الفريد الذي لا يحتمل التكرار، بينما تعمل الهرمونات على إنجاز القاعدة الحتمية وقد فرغت من أصالتها لأنها لا تنجز إلا في صورة فريدة، هي صورة الأنثي كمجال طيفي يشبه قوة التخيل الإبداعي قبل أن تتجسد في مجال مفتوح بين المتكلمة، والذكر/ المخاطب. تقول:

"لكني عندما أنظر إليك/ فأشعر أن ثمة قلبا داخل قلبي/ وقلبا داخل هذا ورابعا وخامسا إلى ما لا نهاية كدوائر أزلية على وجه  وعندما بين الدوائر يبرز اسمك/ اسمك وحدك بلا سؤال ولا خوف/ بلا تفسير ولا تحليل/ حياة تؤخذ وحياة تعطى/ بفطرة زهرة برية تنمو بلا إلحاح من أحد/ مثل معجزة فوق الطبيعة والمنطق/ عندما أنام فيك شجرة تنام في شجرة.. آنذاك أقول أنا/ هذا وهذا فقط هو الحب".

لقد تعددت دوائر العاشقة مثلما تعددت زوايا النظر الإبداعية لها من قبل الوعي المؤول، فالحياة تنقطع وتتجدد في الانقطاع نفسه ضمن الآخر المحب، وهو بدوره يتسع بقدر اتساع مجال اسمه الفريد. العاشق لم يكن في النص صورة تحفز الهرمونات الجسدية، ولكنه نداء سري داخلي للعودة إلى ما قبل صوت المتكلمة الخاص.

ينبع الوجود عند جمانة حداد من سياق غير يقيني، ومن ثم فالاحتمال هو ما يميز حالة المتكلم، وهويته المتبدلة، تقول في نص "احتمال":

"خريف يكفي لتتنبأ غيمة بمصيرها/ كنز من جمر ليتدثر البرد في موقد الشتاء../ تفاحة، أو فكرة تفاحة/ لتحتفي الشجرة بشهوة أنوثتها.. احتمال واحد يكفي لتتغير وظيفة القلب/ ورجل واحد/ أقول رجل واحد يكفي/ لأكون امرأة".

التبديل هنا يميز الهوية، ولكنه يختلط بالفراغ، فهو يؤسس لقتل خفي يعمل داخل البروز المتعالي، ليفكك وحدته الأولى، ويبقى الاحتمال مثل العمل الفني بين التحقق، والسلب في حالة طيفية متخيلة هي التي تولد ما يسمى بالأنوثة.

وفي نص "لم أرتكب ما يكفي" يتخذ التمرد صورة الخطيئة، وما يليها من وعي بالعبث، ومن ثم ولوج عذاب الوجود، ومخاوف العدم. هذا الولوج يؤجل حدوث عقدة الذنب، والانهيار الفعلي للذات، فهي تؤجل سياق الذنب من خلاله، لأن وجودها لا يمكن القبض عليه. إنه يتمرد من خلال المحاكاة السلبية للخطيئة.

الأنا عند جمانة حداد غير مشبعة بحدث الحضور، ولهذا فهي معلقة بين الوجود وارتكاب الخطيئة. تقول:

"علقت سهوا في الحياة/ ورغما عني/.. تعمدت أن آثم لتكون لي ذنوب مستحقة/ سرت طويلا في صحبة الظل/ وطويلا أغويت الملذات../ ما صادفت نارا إلا أخذتني/ لكني لم أرتكب ما يكفي من الأخطاء/ وسيمضي وقت طويل قبل أن أبكي كما يجب".

في كتاباتها الجديدة يختلط الصوت المبدع للشاعرة جمانة حداد بوعي الموت فيما يتجاوز الموت، ويشبهه، كما يشبه الحياة في نشوئها المتوهج.

للموت صوت، وطاقة، وأخيلة، وعشق عند جمانة، فرموزه الحضارية تعود وتختلط بصوتها لتؤكد تلك البهجة السرية المصاحبة للتكوين المفكك، أوهي بهجة المجال الذي يحيط بالصمت، فيصنع له صوتا جديدا، هو ثورة بحد ذاته على الصوت الحاضر المشبع بمركزية الوجود، ولكنها ثورة داخلية تنبع من البيولوجي ومن أساطير الوعي الجمعي، وأحداث التاريخ. يبدو هذا واضحا في ديواني "عودة ليليت"، و "مرايا العابرات في المنام"، ففي نص "نشيد سالومي ابنة ليليت" يختلط الصوت المبدع بأخيلة سالومي التي تجدد حدث القطع، وتحتفي بحب ما بعد الموت، فقد برز الوجه الآخر لرأس يوحنا في سياق جمالي يجعل من الموت تجسدا جديدا مضادا للجسد الأول. إنها حالة تجدد للميت تمنح سالومي صوتها، وتشكله منذ البداية.

صوت سالومي يمارس إغواء الاختفاء في الأخيلة المحيطة بالميت، ويختبئ خلف الشاعرة ليعلن حضوره الطيفي في كل صوت. تقول:

"سوف أقبل رأس حبيبي في فمه/ لكي يبتسم الموت لي مرة أخيرة/ فيا معشوقي وكاملي../ تعال يا يوحنا/ أنا القلادة المخطوبة لعنقك المقطوع/ تعال عمدني بالشمس التي لوحتك/ من أجلك وحدك أنا عدت/ دماؤك التي أهرقتها اجعلها تدلك على الطريق".

الموت يحمل بدايات أخرى لعشق سالومي ولعنتها، إنه مسارها الجمالي الذي يقتفي أثر الدم وما يحمله من عقاب أصيل، ووهج للحياة الجزئية المقطوعة.

وبهذا الصدد يذكر ول ديورانت بعض الروايات التي تخص مقتل يوحنا، فيوسفوس يرى أنه كان بسبب الخوف من إثارة القلاقل، والأناجيل تفسره بانتقاد يوحنا لهيرودوس، لأنه طلق زوجته، وتزوج هيرودياس زوجة أخيه غير الشقيق فيليب، ويذكر كل من مرقس ومتى أن سالوم فتنت هيرودوس برقصها حتى أراد أن يكافأها فطلبت رأس يوحنا بتحريض من أمها ( راجع ـ ول ديورانت ـ قصة الحضارة ـ ج 11 ـ ت محمد بدران ـ هيئة الكتاب 2001 ص 216 و217 ).

لقد ارتبطت سالومي إذا بالخطيئة، والدم، والشهوة معا، فصارت رقصتها في النص عشقا للموت/ العقاب، واستدعاء سرديا له دون توقف، فسيظل الدم حياة للموت، ومسارا مضادا لحالة السكون، إذ نبع الموت من عشق متكرر، وكذلك ولد العشق من الدم والعقاب فصار الرأس حياة سالومي الأخرى التي تتولد من الانقطاع في الصوت الشعري المبدع.

ترتبط ليليت في الموروث الجمعي بعدد من الدوال التي تؤكد العزلة، والتمرد، والعنف الأنثوي الأول، مثل الليل، وسرقة الضوء، والبوم، والصحاري، والعاصفة، والخراب، والصراخ، وأنها زوجة آدم الأولى، وقد أخذت هذه الدلالات من التوراه، وجلجامش.

وأعادت جمانة حداد إنتاج هذه المعاني بتجديد صوت ليليت، حيث يتشكل من خلاله الوعي الطيفي، ويمارس لذة الاختفاء، واحتلال موقع المرأة/ الأم، فالوحشية الأنثوية الأولى تستمر بشكل دائري ولكن من خلال المراقبة لثلاثية التمرد، واللعنة، والموت. تلك الثلاثية التي تترك الصوت مجردا، وحيدا يعاين انهياره بفرح، ويشكل مساره المتخيل اللاواعي من الثلاثية نفسها التى تفككه. ولكنها لا تفتته في حالة سكون، وإنما تدفعه للتجدد في الصوت الآخر/ الحي. تقول جمانة:

"أنا ليليت المرأة الغابة.. آكل جسدي كي لا أعير بالجوع، وأشرب مائي كي لا أشكو عطشا. ضفائري طويلة من أجل الشتاء وحقائبي غير مسقوفة. لا يرويني شيء، ولا يشبعني شيء، وأعود لأكون لبوءة الضائعين في الأرض".

ليليت تتجدد في وحدتها، وانهيارها الذاتي، الذي يحقق انتشارها في أصوات كثيرة تنبع منها، ومن خارجها.

إنها تحول الموت واللعنة إلى غناء جسدي مرح، وكأنها تستبق الحياة في الموت، وترى فيه مسارا طويلا متوهجا. تقول:

"من ناي الفخذين يطلع غنائي ومن غنائي تذهب اللعنة مياها في الأرض".

"أنا لعنة اللعنة التي سبقت، مظللة الزوارق كي لا تستتب عاصفة.. اتبعوني مثلما تتبع اللمسة القبلة".

تحاول ليليت استعادة الفرح الأول الكامن في الصرخة من دون تجسد محدد. الصرخة الطيفية المجردة من الجوع، والألم، والنقص.

وهي أداء تأويلي للتاريخ، لما فيه من دموية، وعقاب، وتجدد لأخيلة الموت في وعي ولا وعي المجموع، إنها الأداء الأرضي دون ذات فاعلة، أو اسم ثابت، فهي سالومي، وقوة تدمير الأسرى، وأحلام الرعب، وتجدد وهج العتمة، أوهي العتمة غير المعلنة لصخب التاريخ. تقول:

"عندما تخليت عن آدم صارت البراري خلوا من الخطايا. هام على وجهه وكسر كماله، فأنزلته إلى الأرض وأشعلت له زهرة التين".

"أنا ليليت، رقصة سالومي الأخيرة، وغيبوبة الضوء. أرتقي ليلكم حجرا حجرا كلما تضرج أفق بشمس الذهاب.. لألج شرودكم، وأرتب لرأسي مكانا في نومكم".

"أنا اللبؤة المغوية أعود لأهتك الأسرى وأملك الأرض. أعود لأصحح ضلوع آدم".

ليليت تستعيد الذات المفقودة الإبداعية التي تمارس بكارة النسيان، والشروع فيما وراء الاسم، إذ يعود التكوين من خلال صوتها المتجدد إلى القوة التي تجمع الحب والوحشية معا.

هكذا اكتسبت مارينا ـ الشاعرة الروسية المنتحرة ـ لذة المراقبة لجماليات موتها الفريد، واندمجت بالانقطاع الأصيل في الصوت المبدع لتستعيد بكارة موتها المتوهج كمسار لحركة كونية قوامها الذوبان في أخيلة الذات المفككة. تقول:

"أتأمل جثتي الممددة، الشاحبة، وأجدني، للمرة الأولى جميلة. جميلة كأسطورة جريحة... لا أنتظر شيئا. لا أنتظر منكم شيئا. يكفيني أن جثتي تبتسم لي، أن عنقي يشف، وأني في طريقي إلى النسيان. جميلة أنا كنسيان".

ونلاحظ أن الصوت لا ينسب نفسه لهوية، ولكن لوعي يوشك أن يكون طاقة للأخيلة الكامنة وراء الجثة، إنه نسيان الجثة الذي يستبدلها بصوت متحرر من الحدود التي توصف بها البدايات، أو النهايات.

يلتبس إذا الموت عند جمانة حداد، ويقترن ببهجة تنشأ من مدلوله نفسه، مما يذكرنا بأحاسيس التجاوز القائمة على تحقيق القوة من خلال الزوال عند فريدريك نيتشه، إذ يقول في كتابه "هكذا تحدث زارادشت":

"إن عظمة الإنسان قائمة على أنه معبر، وليس هدفا"، وما يستحب فيه هو أنه سبيل وأفق غروب. إنني أحب من لا غاية لهم في الحياة إلا الزوال، فهم يمرون إلى ما وراء الحياة... ما أنا إلا منبئ بالصاعقة ( راجع ـ نيتشه ـ هكذا تحدث زاردشت ـ ت فيلكس فارس ـ مطبعة البصير بالإسكندرية ص 8 و 9).

ولكن جمانة حداد بدأت مما وراء العواصف فمنحت الموت تلك القوى الطبيعية في الحياة مثل البرودة، والسخونة، والجنس، والمواء، والعواء، وغيرها في نص "أغنية للميت"، فصار قوة جاذبة نحو استعادة الحياة في شكلها المفكك، والطيفي، وهذه الاستعادة هي التي ينبني عليها مشروع جمانة الشعري. تقول:

"الميت لا يعرف أن يخاف مثلما الخوف لا يعرف أن يموت. الميت لا يعرف أن يموت، مثلما لا يعرف الخوف أن يخاف.. الميت لا يخاف.. فحيح الموت عويل الموت صهيل الموت نعيب الموت زئير الموت صرير الموت عواء الموت نعيق الموت مواء الموت هديل الموت.. برودة الموت سخونة الموت.. قضيب الموت".

نحن نعاين هنا بهجة الحدث، دون فاعلية، فهي تحاكي الفاعل من خلال اختفائه فيما يشبه الحياة، والموت معا. 

ناقد من مصر
m-sameer@hotmail.com