ينسج القاص المصري في نصٍ قصيرٍ محكم صورة للحب الخالص بصوت امرأة محبة فقدت زوجها فلم تصدق الخبر، فهبت تبحث عنه وتخلقه من الأمكنة والوجوه والأقوال إلى أن ينبع داخلها جنينا في استلهام للأساطير المصرية القديمة عن الثيمة نفسها.

إيزيس

رجب سعد السيّد

 

ذابَ في غيومٍ متكاثفة.

ضاع مِنِّي، وكان رُوحَ قلبي وسَـنَدي.

آخر كلماته كانت عن حُضني أنا، الموضِعُ الوحيدُ الذي يأمن له. كنتُ أطربُ عندما أسمعه يهمس في أذني: أنتِ وطني.

قاسمتُه مخاوفَه من متربصين يستهدفونه، ولم أكن أطمئنُّ في غيابه، حتى يأتيني وتراه عيناي وتتلمسه أناملي. وغادرني الاطمئنان، فقد طال غيابُه.

أين حبيبي، وزوجي، وأبي، وإبني الجميل؟

أتراهم ذوَّبوه، حقاً، كما جاء في رسائل مجهولة تُركتْ عند باب بيتي؟

ولم أصدق من جاءني بصورة يقول إنها له، وهو يصارع الموج بعد أن غرق به قاربٌ في رحلة هروب. وليس حبيبي من يتخاذل ويتراجع هارباً، كما أن الملامح الغائمة في الصورة لا يمكن أن تكون لوجه لا تغيب ابتسامته، ولا يتوارى فيه بِشْـرٌ.

ووجدتُ من يهتمُّ بإعلان ذهاب حبيبي إلى العدم. قال لي: سننشر له نعياً يليق به. قلت: أرفضُ نعيَك، لسبب بسيط جداً، هو أن حبيبي لم يمت، وسأستعيده من غيابه .. سأستعيده ..

وقالت لي من حسبتها أخلص صديقاتي: أصابك مسٌّ من خَبَل، وأراك تضيعين وراء وهم!. أفيقي!. وأولتني ظهرها ومضت بلا رجعة. كانت آخر من تخلَّى عني. غير أنني لم أكن وحدي. لم يكف الأمل عن السريان في دمائي. فقدان الأمل لا يليق إلا بالأموات. هكذا حدَّثني .. هكذا علَّمني. وهو لم يفقد الأمل، بالرغم من انتشار الحلكة، لأنه متمسك بالحياة.

قال نفرٌ من أقاربي ستضيعين عمرك في وهم. أعداؤه أعتى مما تحسبين. لن يتركوا أثراً يدل على أنه كان موجوداً. فاذهبي وفتشي في مقابر الأرض، وقلِّبي التربة، ولن تجنين إلا الخيبة.

ولم أكن لأنتظر أحداً يدلني على ما ينبغي عليَّ أن أفعله.

بحثتُ في المياه، حلوها ومالحها، وفي الصحارى، وديانها وجبالها، والحقول. قضيت زمناً طويلاً بين الناس الذين كان يحمل على كاهله قضية أمنهم ويسر معيشتهم. وكنت أعود، بعد كل جولة، بيقين زائد من جدوى جولاتي، فقد كنت ألملم ملامح وجوده، قطعةً قطعةً، من مشاعر كل من عرفوه وأولوه ثقتهم وأملوا فيه. فلم يكن مستغرباً لديَّ أن أشعر بحركة جنين في بطني. نعم. صرتُ حُبلى. والمؤكد أنني لم يمسسني بشرٌ عداه، فهو الذي عادت روحُه وأخصبت بويضة رحمي، التي راحت تنقسم على نحو أذهل الأطباء، حتى أتممتُ حملي في أيام معدودة، واستقبلتُ وليدي، الذي حدثني في مهده، قال: لم أبتعد عنك لحظةً .. كنتِ معي طول الوقت .. ألم أقل لك؟ .. أنتِ وطني.