يرسم القاص المصري لوحة موحشة عن العالم والحياة من خلال فتحة شباك ورجل يراقب العالم بنصف وجه وهو بين النوم واليقظة الواقع والأحلام، في منطقة تطل من حافة الواقع على حافة الفجر والجامع وطقوس الصلاة الممزوجة بالعنف حيث ربط مصلي هنديا بسيارته ودخل يصلي.

بنِصفِ وجهٍ وروحٍ باردة

هاني سعـيد

يستل روحه الباردة من الفراش الوثير الدافئ؛ متحركا صوب إحدى الستائر، التي يتسرب من شُباكها ضوءٌ أصفرُ قاتمٌ يكاد يميل إلى الحمرة، يفتح مساحة كطول إصبعه الأوسط تكفي لنصف وجهه أن يتفقدَ العالم بعد منتصف الليل، هكذا كان يظنه منتصف الليل، لكن نصف وجهه المحشور فيما بين فتحة الشباك والحائط جعلته يدرك أن الفجر قد أوشك، ولم تكن خطواتُ مؤذّنِ الفجرِ البطيئةُ المتجهةُ إلى المسجد المطلةِ عليه شرفتُه هي الدليلَ الأوحدَ على اكتشافه اقتراب الفجر، بل الصمت المتكلس على الأرصفة والجدران، وخلود البشر أخيرا إلى شخيرهم المنسكب على النوافذ، ووقوف السيارات سعيدة في صفوف إلى جوار الأرصفة، بعد أن أخلدت هي الأخرى إلى الراحة بعد كدّ وتعب- مؤشرات كلها على أن بضع دقائق وستنطلق أنفاسُ الفجر .

هَمَّ بإغلاق الشباك بعد السعال المتقطع الذي أصابه من نَفَس الهواء البارد المنسرب عبر فتحة الشباك، غير أنه – وفجأة- أخذ يوسّع فتحة الشباك إصبعا آخر ليُدخِل نصف وجهه الآخر؛ في محاولة لمراقبة هذا التحرك الغريب الذي ظهر أمامه فجأة لجسد نحيل من بين سيارتين (لاند كروزر) تحتضنان الرصيف من أمامه، لم يتمكن نصف وجهه الثاني من مراقبة ما يحدث بدقة؛ نظرا لضيق فتحة الشباك التي لم يشأ أن يُوسِعَها فتراقبه أعينٌ استيقظت في هذا التوقيت لتكون أشد حساسية في التقاط كل صوت، وقرر أن يكتفى بالمراقبة بنصف وجهه الأول فقط...

إنها حركة فتى في عقده الثاني أو تخطاه بقليل، مُسلسَلٌ بسلسلة ذرعها سبعة أذرع إلى قائم من الحديد المعلق في خلفية السيارة اللاند كروزر، تفحّص للمرة الثانية وأرهف النظر بعينه المعلقة في نصف وجهه فبدا وكأنه من الجنسية الهندية، كتلة شعر منساب بعضه على وجه يميل إلى السواد، وأسنان بيضاء تظهر من بين شفاه مرتجفة، وبقايا قواه تحاول جاهدة تحريك السلسلة غير أنه لم يتمكن سوى من الانبطاح على الأرض في كل محاولة، صوت الأذان ينطلق مدويّا في الفراغ المتراكم في الغلاف المحيط بالمكان، ولو أُذِنَ للحوائط والبيوت في القدوم للصلاة لهرعت جميعها، غير أنها خاشعة تسمع، في حين بنو آدام قد استغشوا بطاطينهم وأوسدتهم في سبات عميق، بضع أرجل تتحرك إلى المسجد، لا يكمل حاصل جمعها أكثر من ثلاثة رِجال، رابعهم قد انحرف إلى السيارة المربوط فيها الفتى بخطى سريعة، فضربه بقدمه ليمنعه من محاولات الفكاك التي عبثا يبذلها مع السلسلة، ثم قال: "اخسأ يا كلب ... سأصلي واجيك يا شيطان ..." الرِّجْل نفسُها التي داست وجه الفتى الهندي هي هي التي هرَعتْ إلى المسجد في محاولة جاهدة للحوق بركعتي الفجر، اللتين هما خير من الدنيا وما فيها!، ما إن تأكد الفتى الهندي من دخول من ركله إلى المسجد حتى عاود محاولاته البائسة في الفكاك، وكأنه يعلم أن الآتي ليس خيرا، لا يزال بنصف وجهه يتابع حركات الفتى وأنّاته ورنات السلسلة المقيدة بها رقبتُه ويداه، وهو يرى أقدام الفتى تتحرك مسافة بُعد السلسلة عن السيارة ثم يجري في حركة مفاجئة؛ ظنا منه أنها سوف تنقطع، لكنه يبوء بالفشل في كل مرة... أخيرا يقطع هذه الأنات والرنّات صوتُ إقامة الصلاة، صوت الإمام في الفاتحة أجش أضيفت له حشرجة آخر الليل فخرج هو الآخر كأنّات تواسي هذا الفتى المربوط، وقد زادت المواساة حين أخذ يقرأ:" خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه..."! دقائق وانتهت الصلاة، وكان صاحب السيارة الذي داس الفتى آخرَهم خروجا، لأنه على الأرجح كان أكثر المصلين حرصا على ختم الصلاة وترديد أذكار الصباح والمساء!!، توجه صوب السيارة... بقوة فتح بابها...داس بقدمه على دواسة البنزين، فانطلق صوت الموتور كـــمَوْتُوْرٍ قد أصابته لوثة، أخرج نصف وجهه من زجاج السيارة؛ محملقا بعينه البرّاقة في عيني الفتى، التي يبدو أنها كانت تعرف مصيرها، انطلق بقوة يقطع الأرض بــــ(الأرض) كروزر، في حين كان الفتى يصرخ الصراخ الأخير، وهو يُجَرُّ خلفه بعنف على الأسفلت، فتتناثر الدماء، وبعض قطع من لحمه النحيل قد أخذتْ تتطاير على جانبي الطريق!!

اكتفى أخيرا من تفقد العالم من حوله بهذا المشهد، فأدخل نصف وجهه المُعلّق، وأغلق كوة الشباك، وجرّ روحه الباردة إلى الفراش الدافئ الوثير؛ ثم تثاءب تثاؤبا مصحوبا بصوت كصوت الثور، وأطبق أجفانه وراح في سبات عميق !!

15/01/2020