"كيف لي أن أخرج من هذه الورطة؟"
كانت السيارات قد أحاطت بسيارتي من كل جانب.
"ماذا يحدث؟ ولِمَ الطريقُ غير سالك؟"
بدأ بعض السائقين يتذمر، وفي الوقت نفسه شرع بعضهم بإطلاق أصوات الزمور عسى أن يلحظ القائمون على انسيابية السير انسداد الطريق فيجدوا حلاً للمشكلة. أطفأت المحرك ونزلت من السيارة. كانت الشمس الحارقة والغبار يجعلان التنفس صعباً. رفعت يدي اليمنى فوق عيني عسى أن أتمكن من رؤية ما يحدث هناك في المقدمة. قال صاحب السيارة التي تقف خلف سيارتي. "لا تتعب نفسك. الأمر لا يجدي." كان كهلاً نحيلاً يضع نظارات خمنت أنها للسياقة. قلت: "أريد أن أعرف ما يجري هناك؟" قال الرجل: "لن تستطيع." قال سائق السيارة التي تقف أمام سيارتي: "لا أدري لِمَ اخترت هذا الطريق." ثم أخذ يعبث بمسبحة زهرية اللون. قلت: "لا بد لأحد أن يستطلع الأمر؛ وإلا سنبقى عالقين إلى أجل غير معلوم." ولما لم يتحرك أحد، أقفلت سيارتي، ثم شرعت بالتحرك نحو مقدمة رتل السيارات حيث تكمن المشكلة. سرت حوالي سبع دقائق وسط الشمس اللافحة والغبار والضجيج والعبارات الساخرة التي يطلقها السائقون والمارة. ولم أتمكن من الوصول قريباً من مقدمة الرتل إلا بعد جهد ومشقة. كان الجميع يتكلمون، ولا أحد يصغي. فجأة صرخ رجل في سيارة تحمل ثلاث نسوة في الحوض الخلفي، وكانت إحداهن تئن بصوت مسموع: "زوجتي في حالة طلق، يا ناس!" ثم أضاف في لهجة توسل، "أسألكم بالله أن تفسحوا لي الطريق!" نظر رجل في الخمسين من عمره إلى الرجل وإلى النسوة المرتبكات، ثم شرع بقراءة سورة الفاتحة. نظرت في وجه الرجل الخمسيني باستغراب، فقال: "أنا أقرأ سورة الفاتحة للحامل ولما في بطنها." قلت: "لِمَ؟" سيموتان لا محالة." غامت الدنيا في عينيَّ. ولما لم أكن طويل القامة على نحو كافٍ، فقد وقفت على الطرف الأمامي من الحذاء فاستطعت أن ألمح شخصين بملابس الشرطة المحلية وهما يحاولان توضيح الأمر. كان أحدهما قصيراً ضئيل الجسم وفي الثلاثينيات من عمره، أما الثاني فهو ضخم الجسم ويكاد يبلغ المترين طولاً في مقتبل الشباب. التبس الأمر علي، فما علاقة الشرطة المحلية بضابط المرور؟ ثم رأيت أحد الشرطيين يشير إلى كابينة ضابط المرور وهو يقول: "لقد نقلت آراءكم إلى السيد الضابط قبل لحظة، وهو يقول لكم إن لديه تعليمات بخصوص السير، وهو ينفذها بدقة، فلا تقلقوا." عاد الرجل الذي توشك زوجته أن تضع حملها إلى الصراخ: "حرام عليكم. أنتم تقتلون زوجتي وابني." في اللحظة ذاتها تحول أنين المرأة الحامل إلى صراخ مكتوم. لم يصغ إليهما أحد. قال شاب أسمر يقف على يسار الشرطي: "وما هي هذه التعليمات؟" قال الشرطي الثاني: "لا يحق لأحد أن يطرح أسئلة تستهين بحكمة السيد الضابط أو تثير الشك حول صلاحياته!"
لم أتمالك نفسي فتساءلت: "ولكن ألا يحق لنا أن نعرف ما يجري لنا؟" قال الشرطي الأول: "انتبه لنفسك! فسؤالك هذا هو مما يثير الفرقة بين الناس." عقَّبَ شيخ معمم بالقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جمع فاضربوا عنقه كائناً من يكون." لم أعد أستطيع التحمل، اندفعت إلى الأمام حتى صرت أمام الشرطيين، وبملح البصر دفعت الشرطي ضئيل الحجم الذي يحول بيننا وكابينة الضابط؛ بسرعة فتحت بابها، فإذا هي كابينة فارغة إلا من طاولة صغيرة وكرسي متهالك. وحين أدرت بصري شمالاً ويميناً، تيقنتُ أنْ لا أحدَ في الكابينة. وما أن التفت أروم الخروج، حتى رأيت الشرطي الضخم يسد علي باب الكابينة، وعيناه تقدحان شرراً. قال: "ماذا ستخبر الناس المتجمهرين في الخارج؟"
الحلة. السبت 13/10/2019