ينسج الكاتب العراقي قصصه القصيرة من حكايات العميان في مناطقهم في قلب بغداد، مسجلاً ما يتناقله رواد المقاهي، والفقراء عن ثروات العميان الخفية التي يخفونها في مخابئ لا تخطر على البال فيعثر عليها خيال الراوي الفقير ليستمتع بذهب خياله ودهشة السامعين، في لقطات مكثفة رشيقة.

مكفوفو البصر

ناجح فليح الهيتي

 

مكفوفو البصر (1)
كانا وحدهما في غرفة يتناوبان قراءة القراّن الكريم على جنازة وضعت أمامهما في صندوق، ومع تقدم الليل خيم سكون مطبق مخيف على البيت، قال الأعمى لرفيقه: أعتقد أن شيئاً مريبا قد حدث، إنني أشك بأن الوفاة وقعت وأن من في الصندوق قد فارق الحياة، مد يده إلى الصندوق، دار حوله ، تلمسه من جميع الجهات، علق رداؤه بمسمار ناتئ من خشب الصندوق أعاق حركته، ظن أن من في الصندوق فد أمسك بردائه، صرخ بأعلى صوته وواصل الصراخ ،شاركه رفيقه الصراخ، هرع من كان في البيت إليهما، فكوا رداءه، تحدثوا ومكثوا معهما قليلاً، أعادوا الهدوء إليهما وغادروا الغرفة، قال الأعمى الذي بدأ بالصراخ
مخاطباً رفيقه: الآن أيقنت أننا لسنا وحدنا في البيت وأن من في الصندوق قد فارق الحياة قبل أن نصل إلى هنا بعد صلاة العشاء.

 

مكفوفو البصر (2)
كان جائعاً جداً، لم يتناول طعاما منذ يومين، كانت جيوبه خالية من النقود، سار في شارع الرشيد ،وجد أمامه شحاذاً مكفوف البصر يستجدي ويمد يداً مملوءة بقطع النقود المعدنية، وقف أمامه، وضع يده تحت يد الشحاذ، قلب بيده الأخرى يد الشحاذ، تحولت النقود إلى يده، ضحك الشحاذ وقال: أنك تمزح معي لابد أنك ستعيدها إليَّ، لم يجب، وضع النقود في جيبه وغاب في زحام الشارع، دخل إلى مطعم يعرف عماله ،طلب من الطعام أحسنه ،أكل حتى شبع، دفع حسابه، عد ما تبقى له من النقود، وجد أنها تكفي لوجبتي العشاء والفطور وأجور الفندق وأجور السفر للوصول إلى مدينته.

 

مكفوفو البصر (3)
سمع الأعمى يحدث نفسه بفرح :الآن أصبحت مائة ،تبعه، دخل الأعمى بيتاً فيه غرف للإيجار، فتح باباً ودخل إحدى الغرف، أخرج علبة أسطوانية من\ مخبئها، فتحها ،وضع فيها قطعة ذهبية كانت تستعمل عملة في العهد العثماني(ليرة)،أعادها إلى مكانها ،ذهب إلى دورة المياه ، نسي باب الغرفة مفتوحاً ،تسلل هو إلى الغرفة ،أخرج العلبة من مخبئها ،أخذها وغادر مسرعاً إلى بيته، عد ما في العلبة, وجد
أنها مائة قطعة ذهبية حقاً.

 

مكفوفو البصر (4)
أراد الأعمى أن يعبر الشارع ،كان يمسك بيده عصا حديدية، أمسك بيده شخص يساعده على العبور ،طلب من الأعمى أن يحمل عنه العصا خوفاً أن يضرب بها سيارة مسرعة، تردد الأعمى برهة لكنه أعطاها له، تناولها الشخص بيده الأخرى، سمع في داخلها أصواتاً ،حركها مرة أخرى، تبين أنها أصوات تشبه الصليل. قرر أن يحتفظ بها وألا يعيدها إلى الأعمى ليعرف ما في داخلها، سحب يده من يد الأعمى بعد عبور الشارع، غاب هو والعصا في زحام سوق قاصداً مسكنه، فتح العصا المتكونة من قطعتين تربطها قطعة واحدة، أصيب بالدهشة وكاد أن يغمى عليه حين تساقطت أمامه القطع الذهبية التي كانت في داخل العصا.

 

مكفوفو البصر (5)
كان يُحدثُ رفيقه عصر يوم الخميس في مقهى مكفوفي البصر في محلة الحيدر خانة ويسأله: ما هذه السرقات التي تتعرض لها جماعتنا ؟ويضيف إنهم لا يعرفون كيف يحافظون على النقود، إنهم لا يعرفون قيمتها ولا يقدرونها حق قدرها ويواصل حديثه بصوت منخفض هامساً ،إنني أجمع ما أحصل عليه من نقود وأخفيه في هذه اللبادة بين القماش والقطن ،إنني أرتديها صيفاً وشتاءً وهي لا تفارقني حتى أثناء النوم، سمع شخص ما قاله الأعمى لرفيقه، أنتظر دقائق قليلة ، جاء إليه، طلب منه أن يذهب معه إلى المقبرة لقراءة القراّن الكريم على قبر والده ،أغراه بالأجر، اقتاده بعد أن دخلا المقبرة وأجلسه في مكان فيه بيوت كثيرة للنمل أمام أحد القبور ،أخذ يراقبه ،صعد النمل إلى جسمه ،أخذ يقرصه ،نزع الأعمى جبته أولاً ثم نزع بعدها لبادته جاء الشخص فأخذ اللبادة.