"آخر أيّام الباشا" (الدار العربية للعلوم -ناشرون) هي الحلقة السابعة في سلسلة الكاتبة المصرية رشا عدلي الروائية التي صدرت، خلال العقد الأخير، وشكّلت رواية "صخب الصمت" الصادرة في العام 2010 حلقتها الأولى. والباشا الذي تتناوله الرواية هو محمد علي باشا والي مصر في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، ومؤسّس الأسرة العلوية التي حكمت مصر من بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وتعاقب على الحكم فيها سبعة أفراد، كان أوّلهم محمد علي، وآخرهم الملك فاروق الذي أطاحته ثورة الضبّاط الأحرار في العام 1952. وبذلك، نكون إزاء رواية يُشكّل التاريخ السلك الأطول فيها.
ثمّة أسلاك ثلاثة تنتظمها حوادث الرواية، تتجادل في ما بينها ظهوراً واختفاءً، تختلف في الطول والزمان والمكان والشخصيات، وتنخرط في عملية روائية مركّبة تتمخّض عنها "آخر أيام الباشا"، العنوان الذي تطلقه إحدى شخصيات الرواية على دراسة تاريخية تقوم بها، ما يجعل الروائيّ مادّةً للكتاب.
يشكّل السلك الأوّل في "آخر أيّام الباشا" إطاراً للسلكين الآخرين، وهو الأقصر بين الأسلاك الثلاثة، ويقتصر على مشهد روائي واحد، هو عبارة عن حوار تلفزيوني تُجريه محطّة بريطانية في لندن، مع المؤرّخ جهاد مصطفى، إحدى شخصيات الرواية، في العام 2017، بمناسبة صدور كتابه "الزرافة الدبلوماسية" الذي يتناول فيه الزرافة التي أهداها محمد علي باشا إلى ملك فرنسا شارل العاشر في العام 1826، ويتمخّض الحوار عن شخصية مغرمة بالتاريخ الحديث، معجبة بمحمد علي باشا، شغوفة بالبحث، تطارد المعلومة التاريخية في مظانّها، وتتكبّد عناء السفر للحصول عليها، فهي أقرب إلى الباحث المثالي. غير أنّ ما ينتقص من هذه المثالية هو أنّها تضع الفرضيات التاريخية مسبقاً، في بعض الأحيان، وتروح تبحث عن أدوات إثباتها، في اتجاه معاكس لمنهجية البحث التاريخي.
يمتد هذا السلك/ المشهد على ستّ وحدات سردية منفصلة، تفصل بينها وحدات من السلكين الآخرين، تتراوح بين أربع وحدات، في الحدّ الأدنى، وعشرين وحدة، في الحدّ الأقصى. وإذا ما علمنا أن الوحدتين الأولى والأخيرة من الرواية تنتميان إلى هذا السلك، نستنتج أنه يقوم بوظيفة الإطار الذي يؤطّر السلكين الآخرين، على الرغم من امتداداتهما الزمنية، وعلى الرغم من أنّ نسبة وحداته لا تتعدّى الـ 9 في المئة من مجموع وحدات الرواية الست والستين.
السلك الثاني في الرواية هو سلك معاصر يتناول رحلة البحث التي يقوم بها المؤرّخ، خلال العامين 2015 و 2017، بين لندن وباريس والقاهرة، مقتفيًاً أثر الزرافة والشخصيات التي واكبتها، هادفاً إلى جلاء الغموض الذي يحيط بنهاية محمد علي باشا. يبدأ هذا السلك بالاتصال الهاتفي الذي يتلقّاه جهاد من الدكتور أكمل حامد، المهتم بحماية الحيوان، حول الزرافة، وينتهي بعودته إلى لندن خاوي الوفاض، بعد تعرّضه للابتزاز والتحقيق والاعتقال في القاهرة. وبين البداية والنهاية، تكون رحلة بحثية طويلة، يجري معظمها في باريس ومرافقها الثقافية والسياحية والحضارية المختلفة، يقابل خلالها بعض المعنيين بموضوع البحث، ويتوصّل إلى معلومات معيّنة، تشكّل مادة أوّلية لكتابه، وينخرط خلال هذه الرحلة البحثية في علاقة حب صامتة مع الدكتورة زينة نعمان التي تشاركه اهتمامه البحثي، وهي المتحدّرة من أب تركي وأم مصرية، غير أن هذه العلاقة تؤول إلى الفراق، فيتمّ النقل بالزعرور، ويتزامن الفشل في الحب مع الإخفاق في البحث.
- هذا السلك عن شخصية جهاد المؤرّخ الباحث التي سبقت الإشارة إلى بعض صفاته، ويضيف إليها صفتي العاشق الصامت في باريس الذي يؤول إلى الافتراق عن شريكته، والخائب الذي يتراجع عمّا يبحث عنه في القاهرة، تحت وطأة الابتزاز والتحقيق والاعتقال، على الرغم من اقترابه من هدفه، وما تكبّده من جهود لتحقيقه. ويتمخّض عن شخصية زينة الغامضة، المنطوية على وحدتها وأسرارها، المفاجئة بتصرّفاتها، الغارقة في غربتها، حتى إذا ما أتيحت لها فرصة الدخول في علاقة جديدة، تحدث في المكان والزمان غير المناسبين، وتؤول إلى الانقطاع.
تاريخ ومدن
يمتد السلك الثاني، على مدى ثلاثٍ وعشرين وحدة سردية، تتموضع بين الوحدة الثانية والوحدة الخامسة والستين، وهي تتصل حيناً، وتنفصل أحياناً، وفي هذه الحالة الأخيرة، يتمّ ردم الانفصال بوحدات من السلكين الأول والثالث، في إطار جدلية الظهور والاختفاء التي تخضع لها الأسلاك الثلاثة، على أنّ نسبة وحدات هذا السلك إلى مجموع وحدات الرواية تبلغ 35 في المئة.
السلك الأطول في الرواية هو السلك التاريخي، الممتد على مدى سبع وثلاثين وحدة سردية، تتموضع بين الوحدة الثالثة والوحدة الرابعة والستّين، ويشكّل 56 في المئة من الرواية، وتدور أحداثه في الإسكندرية والبحر المتوسط ومارسيليا وباريس، بين العامين 1826 و1828، والعلاقة بين وحداته تتراوح، بدورها بين الاتصال والانفصال، وفي هذه الحالة الأخيرة، يجري وصل المنفصل بوحدات من السلكين الأول والثاني. وهكذا، نكون أمام رواية مركّبة، تتعدّد فيها الأسلاك والأزمنة والأمكنة والفضاءات والشخصيات والعوالم المرجعية، ويتحاور التاريخ والحاضر، ويصطدم الشرق بالغرب، وتختلط السياسات العامة بالمطامع الخاصة، وتزدوج الممارسة بالخطاب. وهذا السلك ترسم بدايته شخصية محمد علي باشا بأبعادها المتعدّدة، فيبدو ذكيّاً، رابط الجأش، دائم الشك لا يثق في أحد، قويّاً يرعب من حوله، باطنيّاً لا يعكس وجهه دخيلته. ولأنّه العمود الفقري للرواية، فإنّ من شأن إلقاء الضوء على هذا السلك أن يضيء الرواية بكاملها.
تُشكّل حالة القلق التي تعتري محمد علي باشا جرّاء تراجع علاقته بالأوروبيين، إثر مشاركته في الحرب التي شنّتها الدولة العثمانية على اليونان، البداية الفعلية لأحداث هذا السلك الروائي، يرسل في طلب القنصل الفرنسي برنادينو دروفيتي، وهو شخصية ذكية، مراوغة، باطنية، جبانة، وفاسدة، ويعرف من أين تُؤكل الكتف، ليبحث معه في عودة العلاقة مع الفرنسيين إلى مجاريها. يشير عليه الأخير بإرسال زرافة هديّة إلى الملك شارل العاشر، فيعهد إليه بإنجاز هذه المهمّة. وهنا، يستدعي القنصل كبير صانعي السفن ورئيس النجارين ورئيس المرافىء طالباً إليهم إجراء ما يلزم لتنفيذ أمر الوالي، حتى إذا ما تمّ اصطياد الزرافة وبناء السفينة المناسبة لنقلها، يعهد إلى حارسه حسن البربري، الجندي السابق في فرقة الانكشارية الذي انتُزِع من حضن ذويه طفلاً ويجهل هويته الأصلية، وإلى عطير الشاب الأفريقي الذي ساهم في اصطياد الزرافة الصغيرة، مواكبة الهدية والاهتمام بها حتّى وصولها إلى صاحبها.
وإذ تصل الهدية، بعد مسارين، بحري وبري، طويلين، يُشكّل وصولها حدثاً تاريخيّاً، يحتفي فيه الملك والصحافة والشعب بالهدية الغريبة، وتُصاب المدينة بهوس الزرافة، فَيُقبِل الصناعيون والحرفيون على صناعة ما يشبهها في الشكل واللون، ويُطلق اسمها على كثير من المنتجات الصناعية والحرفية. وتنظّم مواعيد الصحافيين والجمهور لزيارتها. أمّا مرافقاها حسن وعطير، فيكون لكلٍّ منهما شأنه المختلف عن الآخر؛ ينخرط حسن في الوسط الثقافي الفرنسي، ويتعرّف إلى كبار الأدباء والفنانين، ويؤم الصالونات الأدبية، ويرتبط بمدام شانتال صاحبة إحدى هذه الصالونات، الأمر الذي يثير حفيظة النخبة الفرنسية التي تنجلي عن ازدواجية واضحة بين ما تعلنه من حرية وديمقراطية وما تمارسه من عنصرية إزاء الآخر المختلف، فيتم إقفال الصالون وإخفاء صاحبته، ويُلقى بحسن، ذات ليلة مثلجة، في نهر السين. بينما ينصرف عطير إلى جمع المال مستغلًّا وظيفته في حراسة الزرافة، ويحقق بذلك حلماً قديماً طالما راوده.
وعليه، يكون هذا الحدث التاريخي وما ترتّب عليه من نتائج مجلًى لاصطدام الغرب بالشرق، في حينه، وهو اصطدام تتعدّد تمظهراته في الرواية، وتختلف تبعاً لاختلاف طرفيه؛ فالشرق، من منظور غربيّي الرواية الفرنسيّين، يرادف الأرض المستعمَرة، والآثار المهرّبة، والأزياء الغريبة، والتخلّف، والاستبداد، والفحولة الجنسية. والغرب، من منظور شرقيّي الرواية، يرادف المستعمِر، وسارق الآثار، والتقدّم العمراني والحضاري، والازدواجية، والعنصرية. ولكلٍّ من هذه المرادفات ترجمته الفعلية في الوقائع الروائية.
على الرّغم من الجهد الكبير الذي تبذله رشا عدلي في "آخر أيام الباشا"، فإن الحظّ لم يحالفها في رسم بعض الشخصيات، فنسبت إليها ما لا قِبَلَ لها به، وأتت بنتائج لا تتناسب مع المقدّمات المتعلّقة بها؛ فكيف لجندي سابق وحارس حالي لم يكن له حظّ من اللغة الفرنسية سوى بضعة أشهر قبل سفره أن يتحدّث بها عن تجربته الانكشارية في صالون مدام شانتال بحضور كبار الأدباء والفنانين، ويقيم علاقات صداقة مع هؤلاء، ويتحدّث معهم من موقع الند للند، ويبدي وعياً سياسيّاً متقدّماً، ويمارس نقداً اجتماعيّاً جريئاً، ويجري حواراً صحافيّاً ينقسم حوله الرأي العام الفرنسي؟ وكيف لحارس الزرافة الأفريقي أن يسمّي الأشياء بأسمائها من دون خوف، ويطرح الأسئلة الجريئة، ويتحدّث عن بصمة الإغريق الحضارية، ويرتّب مواعيد الصحافيّين والجمهور؟ ثمّ إنّها لم تسلم من الخلط بين الشخصيات الروائية، فتنسب إلى إحداها ما يتعلّق بالأخرى، كما يحصل مع جهاد وأكمل (ص 47، 48)، والقنصل والباشا (ص 78). أضف إلى ذلك أنّنا قد نقع على روايتين متضاربتين للواقعة نفسها، فتذكر أن مدة زواج جهاد من طالبته الجامعية ثلاث سنوات مرّةً (ص 49)، وسبع سنوات مرّةً أخرى (ص 96).
- أيّة حال، هذه الهنات لا تحول دون الاعتراف أنّنا إزاء عمل روائيّ مركّب، تتعدّد فيه الأسلاك والأزمنة والأمكنة والفضاءات والعوالم المرجعية، وتظهر قدرة الكاتبة على الإمساك بالأسلاك السردية المختلفة والتصرّف بها، في إطار جدلية الظهور والاختفاء، ما يتمخّض عن جديلة روائية متماسكة تستحق القراءة والكتابة عنها.
اندبندنت عربية