الشخصيات
-
جمال عبد الناصر
-
أنور السادات
-
الملك فاروق
-
محمد نجيب
-
فرانثيسكو فرانكو
-
فيدل كاسترو
-
بينوشيه
-
ستالين
-
وآخرون
المكان غير واضح، ضبابي، اسطوري؛ لا يستبين منه للمُشاهد أي شئ يدل على مدينة معينة أو مكان بعينه.
المنظر: مائدة بيضاوية كبيرة، على جانبها فوتيهات كبيرة وثيرة، يجلس فيها ضيوف المسرحية. فى مواجهتهم شاشة ضخمة يظهر عليها من يستدعيه المحاور أو الشخصيات التى يتحاور معها. يبدأ المحاور المسرحية متخذا دور الكورس فى التراجيديات الإغريقية بشرح الموقف.
المحاور: يشرفني أن أقدم هنا للعالم كله عددا من شخصيات التاريخ التى أثّرت فى تكوين بلادهم بطرق مختلفة. وسأكون بكل تواضع المحاور الأساسى الذى يوجه مسار الحديث عن طريق الأسئلة والتعليقات، مع استحضار أى شخصية يتناولها الحوار أو حادثة معينة نتحاور بشأنها. وللضيوف كذلك الحق فى استحضار ما يريدون من شهادات تدعم أقوالهم، أو تنفى أحداثا معينة. والمحاور - بكل تواضع - يزعم أنه قد عاصر جزءا من الأحداث التى ستتناولها شهادات الضيوف، وقرأ عن الأحداث الأخرى الكثير من الكتب والوثائق، ووطأت قدماه معظم البلاد التى جاء منها ضيوف اليوم. وعملا بحق المواطنة، سيوجه أول المحاورات الى أحد الزعماء الذين عاش هو شخصيا تحت حكمهم.
(يسلط الضوء على الجالسين حول المائدة، فيتعرف المشاهدالمثقف على شخصيات: جمال عبد الناص، نابليون بونابرت، فرانثيسكو فرانكو، فيديل كاسترو، سيمون بوليفار، جورج واشنطن، بينوشيه)
المحاور: سيدى الرئيس عبد الناصر. لقد عاصرتُ قيام ثورتك عام 1952، وواكبتُ كثيرا من الأحداث بعد ذلك عن قرب، حين تواجدتُ مع أسرتى فى الإسكندرية عام 1954 وفى القاهرة بدءا من عام 1955. تعود الى ذاكرتى يوم سمعنا فى الراديو نبأ تنازل الملك فاروق عن العرش وخروجه من مصر، وكيف أسرعت أنا بالهبوط على سلالم المنزل لأخبر والدتى فى الحديقة وأنا أصيح عاليا بالخبر، مما ملأ الخروف المربوط بالحديقة - انتظارا لعيد الأضحى الذي كان على الأبواب وقتها - بالذعر ففك عقاله وانطلق يعدو في الخلاء!
جمال عبد الناصر: حادث طريف. كانت أياما عصيبة مشحونة بالمخاطر، وكذلك بالآمال الكبيرة. لم يكن يغمض لنا جفن أيامها.
المحاور: ولكننا رحبنا وأحببنا الوجه الذي ظهر لنا بوصفه زعيم الحركة.
(تظهر على الشاشة الكبيرة صورة اللواء محمد نجيب بالملابس العسكرية، وسط قادة الثورة، وتتوالى صوره وهو يخطب فى الجماهير وفى زياراته العديدة للمدن والقرى المصرية)
عبد الناصر: نعم. كنا فى حاجة الى رتبة كبيرة نتقدم بها الى الشعب. وهذا يحدث كثيرا في الثورات الشعبية.
ستالين: كان يمكنك الانتظار حتى يحين دورك كما انتظرت أنا بعد لينين.
المحاور: ولكننا أحببنا محمد نجيب بوجهه الأبوى وعفويته وقربه من قلوب الناس.
عبد الناصر (ضاحكا ): يبدو أنك تمدحه وتحبه لأن والدك كان يشبهه في ملامحه!
المحاور: وكيف عرفتَ ذلك؟ أها... لقد نسيتُ أننا هنا نعرف كل التفاصيل عن كل شخص موجود بيننا وقد سقطتْ المقاييس الدنيوية الأرضية هنا. أجل، كان والدي يشبهه؛ ولما كان هو الآخر ضابطا، كان البعض يظنه محمد نجيب. ولكن هذا لا شأن له بما أقول. إن ما أذكره هو غذاء للحوار فحسب، ولست أناصر فريقا على فريق أو شخصية على أخرى.
ستالين: كان يمكن له أن يستخدمه كبديل له في الأماكن الخطرة.
عبد الناصر: لا... لا. لم يكن في مصر تلك الفكرة التي سادت في بعض الدول الأحرى. لقد تعرضنا للخطر والاغتيال والحروب، وصمدنا فيها بشجاعة وقوة. أما حكاية محمد نجيب فكانت ببساطة أنه كان يريد أن يكون نجم الثورة الوحيد.
المحاور: وأنت؟ ألم تصبح بعد ذلك نجم الثورة الوحيد؟ ألم تقضِ على زملائك واحدا تلو الآخر حتى أصبحت الزعيم الأوحد؟
عبد الناصر: كلا. هذا كان لقب عبد الكريم قاسم. لقد تخلى زملائي عن مناصبهم لاختلاف الأفكار ليس إلا.
(يظهر على الشاشة يوسف صديق، كمال الدين حسين، عبد اللطيف البغدادي، زكريا محيي الدين، خالد محيي الدين)
وأنت تنسى علي صبري والسادات وحسين الشافعي. كانوا معي لآخر عمري. وحتى عبد الحكيم عامر.
المحاور: وماذا فعلت بصديق عمرك سيدي الرئيس؟
عبد الناصر: القصة معروفة. ولو كان هناك مؤامرة أو شيء من هذا القبيل فلم يكن لي يد فيها. وكان ذلك من أجل صالح الوطن.
المحاور: الوطن؟ كان الوطن قد ضاع. وحكاية عبد الحكيم عامر تكاد تكون مماثلة في كل أنواع هذه الأنظمة من الحكم. ماذا يقول السيد كاسترو؟
كاسترو: لعلك تشير الى شي جيفارا! لقد كان رفيقا رائعا وملهما عظيما لثورتنا.
المحاور: ومع ذلك اختلفت معه، ولهذا غادر ونشط في أماكن ثورية أخرى.
ستالين: وحسنا فعل. وإلا كان مصيره سيصبح مصير عبد الحكيم عامر.
كاسترو: لا، لا أيها الرفيق. لقد كنا أخوة.
المحاور: لقد لاحظتُ عند زيارتي الى كوبا في مهمة عملٍ أن الناس هناك يحبون جيفارا ويكاد أن يكون مقدسا لديهم. بل هم يفضلونه عليك يا سيد كاسترو.
كاسترو: أنت تعلم، كل من يُقتل يصبح أسطورة!
المحاور: ليس هذا فقط. لقد رأيت مدى بؤس الناس في هافانا العاصمة. ورأيت المحلات تكاد تكون خاوية، والفقر يضرب أطنابه في كل مكان.
كاسترو: هذا من فعل الحصار الأمريكي الاستعماري على بلادنا.
المحاور: ولكن، لماذا لم تفعلوا شيئا للتخفيف من ها البؤس؟ لقد استمر وقتا أكثر من اللازم. لقد كان في مصر مثل ذلك الوضع حين كانت السلع توزع في المجمعات الاستهلاكية، التي كانت فارغة في معظم الوقت. ولكن ذلك الأمر اختلف بعد ذلك.
عبد الناصر: اختلف ولكن بأي ثمن؟ ثمن التحالف مع الغرب ونبذ الاشتراكية.
المحاور: وكيف لا ننبذها وقد نبذها أهلها!
ستالين: لا تحركوا مواجعي. إني أعجب كيف انهارت إمبراطورية لينين – ستالين في أيام معدودات.
بينوشيه: لأنها شيدت على أسس مضادة للطبيعة البشرية. إن الحياة قوامها العمل والتنافس من أجل التقدم.
ستالين: تقصد الرأسمالية المتوحشة!
واشنطون: عفوا. ليست الرأسمالية متوحشة دوما، وإنما بحسب تطبيقاتها. وأريد أن أوجه الأنظار الى التجربة الأمريكية في بدء نشأتها بعد حرب التحرير عن بريطانيا. انظروا الى الدستور الأمريكي والديموقراطية التي أتى بها. وقد أثمرتْ التجربة في تكوين دولة عالمية يتمتع فيها السكان من كل حدب وصوب بالرفاهية والسعادة.
المحاور: في الواقع أنك أيها الجنرال واشنطون شخصية فريدة في التاريخ العالمي. لقد كانت شجاعتك ونضالك في سبيل حرية شعبك مضرب المثل. وتواضعك ليس له نظير في سِيَر الزعماء العالميين.
كاسترو: وأنا أيضا ناضلت وحاربت في سبيل حرية شعبي.
عبد الناصر: وأنا كذلك.
ستالين: وأنا حاربت النازيين وقهرتهم في ليننجراد.
المحاور: هذا صحيح، ولكن التاريخ لا يأخذ بالنوايا الحسنة ولكن بالنتائج الأخيرة. فأنت يا سيد ستالين ضحيت بالملايين من شعبك قبل الحرب العالمية وبعدها. نعلم انك خذلت العالم وقتها بعقدك معاهدة سسلام مع هتلر، ولم تحاربه إلا بعد أن غزا بلادك.
ستالين: فعلتُ كل ذلك من أجل الشعب السوفيتي. ولا تنس أنني بنيت دولة عصرية عالمية وقفتْ ندا للدول النووية بعد ذلك. وحافظت على التوازن العالمي الذي استفادت منه بلدك أيها المحاور.
المحاور: كان الاتحاد السوفيتي عامل توازن بين كتلتين من الشعوب. ولكن هذا قد أدى الى عواقب وخيمة حين انهار الاتحاد ودول أوروبا الشرقية، وانهار معه توازن القوى وكذلك التجربة الاشتراكية بعامة.
ستالين: التجربة سليمة وناحجة، ولم ينهدم البناء إلا من جراء أفعال ذلك الرجل.
(تظهر على الشاشة صورة جورباتشوف)
جورباتشوف: أنت مخطئ أيها الزعيم. لقد كان الاتحاد هيكلا بلا بناء داخلي. كان كل شيء يوشك على الضياع، مما حدا بي الى محاولة الإصلاح. ولكن كان الأوان قد فات وانهدم المعبد على رؤوس كل من فيه.
كاسترو: لقد انهدم أيضا على رؤوس آخرين آمنوا بالشيوعية والاشتراكية. ولولا محبة الشعب الكوبي لى شخصيا لكانت البلاد قد راحت كما راحت بلدان أوروبا الشرقية.
بينوشيه: إنك محظوظ يا سيد كاسترو. لقد بقيتَ في السلطة حتى آخر أيامك. كان يمكن أن يحدث لك ما حدث لشاوشيسكو.
كاسترو: أظن أنك آخر من يحق له أن يقول ذلك، أنت الذي عانيت من الإهانات والمحاكمات على ما اقترفتْ يداك في حق شعبك، ولم ينقذك من هذا الهوان إلا الموت.
بينوشيه: ولكني أنقذت بلادي من الشيوعية التي كادت توشك أن تحول تشيلي الى كوبا أخرى من الفقر والتخلف.
المحاور: ولكنك يا سيد بينوشيه قد غاليت في أفعالك. لقد لقى الكثير من الأبرياء حتفهم دون تمييز. ولا أنسى سوء المعاملة التي لقيها أكبر الشعراء عندكم.
بينوشيه: بابلو نيرودا. لقد كنت أحب شعره الغنائي العاطفي، ولكنه كان شيوعيا حتى النخاع وله أشعار سياسية صرف. وأنا أعرف أن السيد المحاور يذكره لأنه أحد مترجمي شعره الى اللغة العربية.
المحاور: إنه شاعر عظيم. حتى شعره السياسي لا يخلو من صدق وصور حية. لقد كان من بين أوائل المؤلفين الذين بحثت عن كتبهم حين ذهبتُ للعمل في مدريد، هو ولوركا. وقد دهشت حين أجابني صاحب مكتبة سألته عن كتب نيرودا:" سنيور، نحن لا نبيع مثل هذه الكتب". وعرفت بعد ذلك أن المكتبات هناك تنقسم الى مكتبات محافظة وأخرى ليبرالية، وبينهما حروب شعواء. وقد دهشت أيضا حين شهدت أول عيد للكِتاب في مدريد في ذكرى مولد كاتبهم العظيم سرفانتس، عندما وجدت من يبيع المواد الفاشستية وصور هتلر وموسيليني والخنراليسيمو، الى جانب آخرين يبيعون كتب لوركا ونيرودا.
فرانكو: إن هذا هو ما حققته لبلادي. لقد فتحتُ أبواب اسبانيا لكل التيارات الثقافية، وأصبحت الكتب التي كانت ممنوعة سابقا متاحة للجميع، حتى كتب نيرودا التي فيها سباب شخصي لي ولزملائي القادة الذين حرروا البلاد من الشيوعيين والفوضويين.
(تظهر صورة نيرودا وهو يتلو سطورا من قصيدته المشهورة "اسبانيا في القلب")
المحاور: ولكن لا أحد ينسى أيها الجنرال ما قامت به قواتكم الوطنية من دمار وقسوة خاصة، ما قمتم به في بلدة جرنيكا...
فرانكو: هذا من عمل طائرات هتلر وموسوليني. لقد كان ذلك تكتيكا ضروريا. وتذكّر أن اسبانيا لم تشارك في الحرب العالمية الثانية رغم الضغوط التي مارسها هتلر علينا وعليّ أنا شخصيا.
المحاور: وهناك أيضا قضية مصرع لوركا وسجن ميجيل إرناندث.
فرانكو: لقد كان مقتل لوركا مما أصبح يسمونه الآن من الأضرار الموازية Collateral Damage . لم يكن مقصودا بذاته. وقد جاء بعد أنباء عن مصرع الكاتب بينافنتي الموالي لنا في مدريد. أما عن فظائع الحرب، فقد سبق اليها الجمهوريون بتدميرهم الكنائس وقتلهم رجال الدين واستلابهم ممتلكات الناس.
ستالين: كان ذلك تحقيقا للعدالة الاجتماعية وتمكينا للبروليتاريا.
فرانكو: تقصد مرامي الشيوعية، وها أنت ترى كيف انتهت إمبراطوريتك الشيوعية، بينما ازدهرت بلادي وتقدمت في كل الميادين.
المحاور: ولكن ذلك جاء بعد فترة من التطهير العقائدي والقمع الذي ظل سائدا حتى وفاتك. ونحن بالذات نقف كثيرا عند حادثتيْ جرنيكا ومصرع لوركا.
(يظهر لوركا على الشاشة)
لوركا: لم أكن شيوعيا في يوم من الأيام، بل كنت منحازا الى الضعفاء والفقراء من أهل بلادي، خاصة في غرناطة مدينتي الحبيبة.
فرانكو: لم أكن قد سمعتُ عنك حين هبّ أدباء العالم يدافعون عنك. وقد قلتُ ساعتها إن ذلك حدث في غمرة الاستيلاء على السلطة من الشيوعيين في مدينتك. وها أنت ترى كيف تحتفي بك البلاد الآن وتقيم لك التماثيل والاحتفالات.
المحاور: وقد احتفلنا به في بلادنا كذلك وطبعنا له الأعمال الكاملة، وكنتُ أحد المشاركين في ترجمة أعماله. ولكن مصرعه يأتي دائما مقرونا بك أيها الجنرال.
فرانكو: ربما كان مقتله على هذه الصورة هو سر شهرته، فعلى حد علمي، هناك شعراء كثيرون في جماعته هم أكثر منه شعرية وإنتاجا.
كاسترو: أيها الجنرال، أنت لا تعرف شيئا عن الفن والأدب، فلتترك ذلك لمن يقدرونه ويحبونه.
فرانكو: وأنت يا سيد كاسترو، ألم يهجر همنجواي الإقامة في ظل نظامك وترك لك داره ومقتنياته؟
كاسترو: ولكني كنت أحبه وأحب قصصه. ولا تنسى صداقتي بجابو العزيز الذي داوم على زيارتي الى آخر عمرينا.
المحاور: أريد الإشارة أيضا الى حبي لجابو، جابرييل غرسية ماركيز، وأني كنت أول من ترجم له قصة قصيرة بعنوان "ليلة الكروان" ونشرتها عام 1977 بل أن يلتفت اليه المترجمون العرب ويترجمون أعماله حتى قبل صدور ترجماتها الإنجليزية.
بينوشيه: إنى كنت أعجب دائما عن سر انحياز الأدباء والفنانين الى الشيوعية بدلا من الديمقراطية التي تتغنى بالإنسان.
المحاور: ذلك أن الشيوعية هي الأقرب الى العدالة الاجتماعية. ولكنها للأسف انحرفت عن ذلك الهدف النبيل وأصبحت ممرا الى الدكتاتورية والفساد.
بينوشيه: وهذا ما قضى عليها في نهاية الأمر.
ستالين: لا يجب أن يصدر هذا عنك فأنت أيضا أصبحت دكتاتورا وحكمت بالحديد والنار. فليتحدث الديمقراطي الحق (يشير الى واشنطن)
واشنطن: أشكر السيد ستالين على لفتته. وأقول إنه بالفعل فإن الولايات المتحدة الأمريكية قد حاولت بعد حرب تحريرها أن تقيم دولة مثالية ينعم فيها الجميع بالحرية والأمان والسعي الى تحقيق السعادة في الحياة. وقد تجسد ذلك الهدف في الدستور الذي وضعه زملائي في الدولة الوليدة، وهو الدستور الوحيد الذي لا يقبل الإلغاء أو التبديل، بل إضافة تعديلات عليه حسب الأوضاع، وبموافقة الشعب الأمريكي. وقد حققتْ هذه الديمقراطية توازنا عادلا بين السلطات، مما ضمن إقامة العدالة ومكافحة أي فساد. وبالطبع، فإن الطبيعة الإنسانية قد جُبِلت على حب النفس، ولهذا نجد أوقاتا اهتزت فيها ديمقراطيتنا، ولكن سرعان ما كانت تعود مرة أخرى كما كانت، وأساس ذلك الدستور القوي الذي ما يزال ساريا.
ستالين: لقد وجدنا بعد فترة من إنشاء الولايات المتحدة أن القوى الرأسمالية والشركات والاحتكارات هي التي تسيطر على مقدرات الأمور.
واشنطن: ولكن لدينا قوانين صارمة وضرائب توقف هذه القوى عند حدها، ونظاما يتيح لكل انسان أن يحلم ويطمح ويبدع ويستمتع بحياته.
المحاور: إن هذا الهدف، وهو الى السعي السعيد هو ما افتقدناه في بلادنا منذ عهد طويل. لقد عشنا دوما تحت المطالبة بالتضحية في سبيل التقدم والنمو، ومحاربة الاستعمار، وحروب خارجية، واستعداء الغير، حتى أفقنا على انهيار كل ذلك فوق رؤوسنا. وحتى بعد ذلك، عشنا في شعارات وخطط ومشروعات لم تؤد بنا إلا الى الخراب.
عبد الناصر: هل تقصد مصر بكلامك أيها المحاور؟
المحاور: نعم. لقد انتقلنا من هيئة التحرير الى الاتحاد القومي ثم الى الاتحاد الاشتراكي والاشتراكية. وعشنا الوحدة مع سوريا ثم انفصالها. وبعد كل كارثة، كان هناك شعار يرفع: دقت ساعة العمل الثوري؛ النكسة؛ بيان مارس؛ ورقة أكتوبر... وهكذا. وقد عشنا والآلة الإعلامية تمدنا بالغذاء الذي يزيد من خداعنا وانتظار النصر والجنة الموعودة التي لم نعرفها أبدا. لقد أحطتَ نفسك بكل ذلك، وعرفنا القبضة الحديدية الخانقة للحريات وللرأي، وأصبحنا لا نسمع إلا يا أهلا بالمعارك، ويا جمال يا مثال الوطنية، وصور من الخيالات الوهمية. ومن كل من عمل في الحقبة المدعوة بالناصرية، لم يكن هناك إلا لأفراد معدودون من المؤمنين حقا بالاشتراكية والمبادئ الثورية. وحتى هؤلاء القيتَ بكثيرة منهم في المعتقلات مثل الدكتور لويس عوض. وأذكر هنا الفنان العظيم صلاح جاهين، الذي آمن بمبادئك، وأصابته النكسة بالاكتئاب وذوى تدريجيا وهو يرى أحلامه تضيع وتتبدد. أما الكثيرون فقد تغيروا حسب الظروف وأصبحوا يتعايشون مع أي مبادئ سائدة. وحين تشكلتْ عام 2007 لجنة من أجل "تطهير الدستور المصري من الاشتراكية" عرفنا أننا ضيعنا حياتنا معك أيها الرئيس هباءً منثورا.
عبد الناصر: وما ذنبي في ذلك؟ لقد كانت الاشتراكية هي الحل الأمثل للشعب المصري للقضاء على الجهل والفقر والمرض.
المحاور: وهل قضت سياسة حكمك على هذا الثالوث؟ إن هذه الأزمات ما زالت تعصف بأهلنا جميعا.
عبد الناصر: يُسأل في هذا من خلفوني.
المحاور: وتُسأل أيضا سياسة الرأي الواحد التي سادت البلاد منذ عام 1954 والتي أدت الى كارثة 67. لقد كنا نعرف بما يحدث من مطاردة الرأي المعارض، وانتهاج نظام الحزب الواحد، وتأميم الصحافة وفرض الرقابة، وتعذيب أهلنا الذين قمتم بالثورة من أجلهم. وحتى بعد كارثة 67 استمر النظام في سياسته وغطى على احتقان الشعب ببيان مارس ومثل هذه الأمور التي انتهت الى مزبلة التاريخ.
ستالين: يبدو أن المحاور أو أسرته قد أضيرت من نظام عبد الناصر؟
المحاور: بالعكس، لقد استفاد والدي بترقيات متسارعة، ولم يصيبنا أي ضرر. ولكني كنت أتابع الأمور وأستمع وأتقصى الحقائق.
عبد الناصر: لا تنسى أن هذا الشعب هو الذي خرج يوميْ 9 و 10 يونيه مطالبا ببقائي في الحكم.
المحاور: أجل، لقد تحققتُ بنفسي من صدق ذلك رغم ما يذكره البعض من خروج الناس بأمر من الاتحاد الاشتراكي. لقد كنتُ في منزلي أستمع لخطابكم في التليفزيون وشاهدت جيراني وأهل شارعي يصرخون ويبادرون بالخروج والدموع في أعينهم. وحتى والدتي كانت تبكي عند استقالتك.
عبد الناصر: شكرا على شهادتك.
المحاور: ولكني لا أنسى صورتك في التليفزيون بأناقتك المعتادة والياقة المنشاه والأساور المذهبة، ثم هذا الذي قلته من أنكم كنتم تنتظرون العدو من الشرق فجاء من الغرب، مما أصبح نادرة في تاريخ الحروب العسكرية؛ بعد كل هذا التحدي والاستعدادات، والمؤتمر الصحفي العالمي الشهير الذي نددتَ فيه بإيدن.
عبد الناصر: لقد راجعتُ نفسي بعد ذلك على ما جاء في ذلك المؤتمر، وفي خطاب التحدي، ويُسأل في ذلك من كان يكتب لي خطاباتي.
(يظهر على الشاشة محمد حسنين هيكل)
المحاور: أيها الأستاذ الكبير، لقد كنتَ صحفيا مبشرا بالخير حين كنتَ شابا، وقرأنا لك التحقيقات الصحفية العميقة مثل كتابك "إيران فوق بركان". ثم دارت الأيام وأصبحت أقرب الناس الى الرئيس عبد الناصر، وشريكا في صنع القرار، فماذا فعلتَ من أجل مصر؟
هيكل: لقد وفقني الله الى خدمة بلدي كما يجب، وقدمت الى حاكم البلاد ومن خَلَفَه النصائح الخالصة المخلصة التي آمنتُ أنها ستقود مصر الى التقدم والرفاهية، ولكن ذلك لم يتحقق للأسف بفعل مؤامرات الخارج وما أدت اليه من قلاقل داخلية.
المحاور: ما نعرفه أنك حين اقتربتَ من الرئيس عبد الناصر، عملتَ كل جهدك الى أن تصبح الصحفي الأوحد" وهو الاصطلاح الذي سكه كبير المؤرخين في عهدنا، واستوليت على صحيفة الأهرام الذي أصبح كأنه الجريدة الرسمية لمصر، وأصبحتْ صفحتك المعنونة "بصراحة" هي أكثر الأعمدة انتشارا حتى أنها كانت تطبع وتوزع على السفارات المصرية بالخارج كأنها التعبير الحقيقي عن السياسة المصرية. وكنت أنت المسؤول الأول عن فكرة "تأميم الصحافة" مما كان بداية الخراب الإعلامي الصحفي الذي دام حتى الآن. أنك دبرت الخطط للإطاحة برموز الصحافة حتى ممكن كانوا أساتذتك في الماضي. ونعرف أنك كنت المدافع عن الاشتراكية وتقريب الفوارق بين الطبقات، فإذا بك تمتلك مزرعة بها قصر لك، وتطوف بالبلاد حيث تقيم في أفخر الفنادق، وتعيش عيشة الأثرياء المرفهين. والشئ الوحيد الذي يُحسب لك بالخير هو نصيحتك للرئيس السادات الشهيد محمد أنور السادات بأن يبادر بالقبض على من أسماهم مراكز القوى وألقائهم في السجون، وبهذا خلّص الله مصر من بعض الوجوه القبيحة التي أفرزها عهد الدكتاتور الساحر.
المحاور: أظن أننا قد تعبنا الآن بعد كل هذا الحوار، وأرجو أنه كان حوارا بنّاءً، ونكمل في فصل آخر إن شاء الله.
تخفت الأضواء تدريجيا وينتهي الفصل.