اندلعت الشرارة الأولى للموجة الثانية من الانتفاضات العربية أواخر عام 2018 مع غضب السودانيين من قرار الحكومة السودانية رفع أسعار الخبز والوقود. تلا ذلك انتفاضة الجزائريين يوم 22 شباط/ فبراير 2018 للوقوف ضد ترشح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. اليوم، تعم الانتفاضات العالم العربي، فمنذ دخول شهر تشرين الأول/ أكتوبر لعام 2019 ارتفعت وتيرة الانتفاضات العربية؛ فإلى جانب استمرار الانتفاضة الجزائرية التي تطالب برحيل رموز النظام السياسي السابق، انتفض اللبنانيون والعراقيون ضد تردي الأوضاع الاقتصادية، وانتشار الفساد والمحاصصة الطائفية.
يُعدّ اقتراح تعيين حكومات تكنوقراط واحدًا من المخارج المطروحة على أجندة الموجة الثانية من الانتفاضات العربية، وذلك لارتباط هذه الحكومات بالقدرة على إيجاد حلول للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. المنتفضون في السودان ولبنان يرون في حكومات التكنوقراط مخرجًا للتخلص من تحكم الطبقة السياسية الحاكمة، والتي تتحمل وفقًا لهم المسؤولية عن الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي وصلت إليه بلدانهم. وعلى هذا نجد سبب اختيار قوى إعلان الحرية والتغيير للخبير الاقتصادي في الأمم المتحدة عبد الله حمدوك، لرئاسة وزراء الحكومة الانتقالية في السودان، وكذلك نفهم إصرار المنتفضين في لبنان على تشكيل حكومة تكنوقراط تتركز مهمتها في إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، تنقذ البلد من الأزمة التي تسببت بها نخبة الدولة المسيّسة.
والحال نفسه في الجزائر، فقد وجد الرئيس المتنحي عبد العزيز بوتفليقة في رئيس الوزراء المكلف نور الدين بدوي خيارًا مناسبًا كأول رئيس وزراء بعد انطلاق الانتفاضة الجزائرية لمساعدته في القيام بإصلاحات اقتصادية اجتماعية تساعد في تهدئة الانتفاضة، بوصفه تكنوقراطي لم يسبق له أن أدى أي دور سياسي، ولا يعرف عنه ارتباطه بأجنحة النظام. يبقى العراق إلى حد ما يحمل خصوصية عن السودان ولبنان والجزائر، وذلك لوجود حكومة تكنوقراط يرأسها عادل عبد المهدي، منذ أكثر من عام، ينتفض العراقيون ضد فشلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري.
ما هي الأسباب المشتركة وراء هذه الاحتجاجات؟
ثمة دافع مشترك في جميع انتفاضات الموجة الثانية، وهو رفض المنتفضين للأوضاع الاقتصادية في بلدانهم، ولا سيما ارتفاع الأسعار، وفرض ضرائب جديدة. في السودان ارتفعت أسعار السلع والمواد الأساسية بشكل غير مسبوق خلال عام 2018، وتحديدًا أسعار الخبز والوقود. وفقًا لصندوق النقد الدولي ارتفع معدل التضخم في السودان إلى معدل غير مسبوق مسجلًا ما نسبته 63.3 في المئة نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2018، ومرتفعًا عن 32.4 عام 2017، و16.9 عام 2015. أضف إلى ذلك، سعى مجلس الوزراء السوداني الذي توقع تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 4 في المئة عام 2018 إلى تغطية عجزه المالي الذي بلغ أكثر من 4 مليار دولار أميركي نهاية عام 2017 بالاعتماد على فرض ضرائب جديدة، من بينها ضرائب على الاتصالات والإنترنت والتبغ. في الحصيلة، تظهر بيانات موازنة عام 2018 بأن الحكومة السودانية كانت تعوّل على الموارد الضريبية التي تمثل نحو ثلثي الموازنة الحكومية في تغطية عجزها المالي.
كما أن ارتفاع أسعار السلع والمواد الأساسية وفرض ضرائب جديدة كان أيضًا سببًا للانتفاضة في الجزائر، وذلك إلى جانب ترشح الرئيس المتنحي عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. خلال عام 2018 ارتفعت أسعار المواد والسلع والخدمات المستوردة والمحلية، من بينها أسعار اللحوم الحمراء والبيضاء، والحبوب والفواكه الجافة والخضار والوقود. وفقًا لصندوق النقد الدولي ارتفع معدل التضخم في الجزائر مسجلًا 4.3 عام 2018، مرتفعًا عن 2.9 عام 2014. أضف إلى ذلك، دفعت الأزمة المالية التي مرت بها الجزائر إبان انخفاض أسعار الطاقة العالمية إلى الاعتماد على الضرائب من أجل زيادة الإيرادات العامة، فمنذ انخفاض أسعار الطاقة فرضت الحكومة مجموعة من الضرائب الجديدة على المكالمات الهاتفية، والتبغ والسيارات المصنعة، والعقارات والوقود والكهرباء؛ ناهيك عن فرضها ضرائب إضافية على رسوم استخراج الوثائق الإدارية. وبالتالي، فقد أسهم تنامي معدلات التضخم وفرض مجموعة جديدة من الضرائب، المتزامنة مع جملة السياسات الاقتصادية التي اتبعتها حكومة رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى (2017-2019) بطبع أوراق مالية (تعويم العملة) بغرض مواجهة العجز المالي في الموازنة الحكومية، في كشف حجم الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الجزائر.
في العراق، وبالتزامن مع بدء اللجنتيّن المالية والقانونية في البرلمان العراقي نهاية أيلول/ سبتمبر 2019 مناقشاتهما بشأن موازنة عام 2020، بدأت الانتفاضة العراقية احتجاجًا على انتشار الفساد، وارتفاع معدلات البطالة، وسوء الخدمات العامة. تكشف تقارير صندوق النقد الدولي عن استقرار معدل التضخم عند 0.4 عام 2018 و0.5 عام 2016، لكن هذا الاستقرار لا يعني بأن العراق لا يواجه أزمة اقتصادية، فتقارير البنك الدولي وتقرير الموازنة الحكومية لعام 2019 تشير إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر التي تصل أعلى من 25 في المئة لكل منهما، وارتفاع الديون الخارجية التي وصلت إلى 125 مليون دولار أميركي، وارتفاع عجز الموازنة الحكومية الذي وصل أكثر من 20 مليار دولار أميركي. لذا، وبالرغم من عودة أسعار النفط إلى الارتفاع عام 2018 لتصبح في حدود 80 دولارًا للبرميل، وهو رقم لم تبلغه منذ تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، فإن الحكومة العراقية لم تتمكن من إيجاد حلول لأزمتها الاقتصادية المتمثلة في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وعجز الموازنة الحكومية.
فالحكومة العراقية لم تنجح في الخروج من الظاهرة الريعية المعتمدة على مصدر دخل واحد وهو النفط. وكان يمكن للحكومة العراقية أن تقوم بتنويع مصادر الدخل وتفعيل القطاعات الاقتصادية غير النفطية، وذلك لتفادي تقلب أسعار النفط في السوق العالمي، وبالتالي تقليل الآثار الاقتصادية التي تواجه المواطن العراقي. لذلك، فقد بدا واضحًا أن انخفاض معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي من خارج قطاع النفط، والمترافق مع ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الدينار العراقي، كان سببًا كافيًا للكشف عن حقيقة الأزمة المالية التي فجّرت الانتفاضة العراقية.
وفي لبنان، وبالتزامن مع بدء مجلس الوزراء جلسات مناقشة موازنة عام 2020 خرج المنتفضون بسبب غضبهم من نيّة الحكومة فرض ضرائب جديدة، تطال الطبقات الفقيرة والمتوسطة على استخدام تطبيق "واتساب" الإلكتروني، والتبغ والمحروقات. وتزامن فرض الضرائب مع تأثر الاقتصاد اللبناني بأزمة توقف المصارف اللبنانية التحويل من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي، ورفع مصرف لبنان يده عن ضبط الدولار الأميركي في السوق غير الرسمي. من حيث المبدأ، يقبض المواطن اللبناني راتبه بالليرة اللبنانية، ويسدد ثمن العديد من السلع والخدمات المحلية والمستوردة بالدولار الأميركي. لذلك، فالخلل الحاصل في السوق بين العرض والطلب على الدولار الأميركي، وإخضاع سعر الصرف لآليات العرض والطلب، مع رفع المصرف اللبناني يده عن التدخل في تحديد سعر صرف الدولار الأميركي في السوق الموازي للسوق الرسمي، قابله ارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة، ولا سيما السلع الغذائية، وتراجع في القدرة الشرائية للمواطن اللبناني بالليرة اللبنانية. فالمعادلة هنا أصبحت شح في السيولة وارتفاع في الأسعار.
وهناك دافع مشترك ثانٍ في جميع انتفاضات الموجة الثانية وهو رفض المنتفضين للطبقة السياسية الحاكمة، ولا سيما أن المنتفضين يرون بأن الطبقة الحاكمة تسيطر على توزيع أموال الدولة في الجزائر والسودان والعراق ولبنان. ولذلك فهي مسؤولة عن الإخفاقات السياسية والاقتصادية في بلدانهم. في الجزائر استمرت المظاهرات بالرغم من تنحي الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، واستحضر الجزائريون شعار "يتنحّاو قاع" الذي يدعو الطبقة السياسية الحاكمة بأكملها للتنحي عن الحكم. وكذلك هي الانتفاضة في العراق ولبنان، فالمواطنون خرجوا مطالبين برحيل النخبة الحاكمة المسؤولة عن تكريس نظام المحاصصة الطائفية باعتباره نظامًا ريعيًا، يتم فيه اقتسام السلطة والثروات الاقتصادية والاستئثار بها. في لبنان رفع المنتفضون شعار "كلّن يعني كلّن" في إشارة إلى ضرورة رحيل كل الطبقة السياسية الحاكمة. في العراق استعمل المنتفضون شعار "شلع قلع"، في إشارة إلى موقف رافض للنخبة السياسية التي تتحمل مسؤولية الفساد والمحاصصة المستشري في الدولة منذ عام 2003.
ويبدو أن الموجة الثانية من الانتفاضات العربية مرشحة لأن تصل إلى دول عربية أخرى، طالما ستستمر الزيادة في أسعار السلع وفرض ضرائب جديدة، والأهم من ذلك أن التكنوقراط يصعدون تدريجيًا في دول الانتفاضات العربية لقدرتهم على فرض أنفسهم كطبقة حاكمة من خارج الطبقة السياسية، وبوصفهم قادرين على إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية التي تواجهها البلدان العربية.
لماذا يصعد التكنوقراط في الموجة الثانية من الانتفاضات العربية؟
يحيل تعريف التكنوقراط أو التكنوقراطية (Technocracy) إلى طبقة علمية فنية ومثقفة ومتخصصة، تمارس السلطة بحكم اختصاصها التقني، إذ تصبح المهارات التقنية طريقها للوصول إلى السلطة؛ وغالبًا ما تكون هذه الحكومات غير حزبية فهي لا تهتم بالفكر الحزبي والحوار السياسي. وكما تعرّف بأنها الهيمنة الإدارية والسياسية على المجتمع من قبل نخبة الدولة غيّر المسيّسة، والتي تسعى لفرض نموذج سياسة واحد وحصري، قائم على تطبيق التقنيات العقلانية، الأمر الذي يعني نخب مستقلة لديها القدرة على فرض نموذجها السياسي والاقتصادي، من خارج السياسة التقليدية. وفي أغلب الأحيان يكون المقصود بالتكنوقراط شكل من أشكال الحكومات التي يحل فيها الخبراء محل السياسي التقليدي.
ويجب أن نضع في اعتبارنا أنه في الموجة الأولى من الانتفاضات العربية التي اندلعت في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا كان يمكن أن يصل التكنوقراط إلى السلطة، وذلك لتقديم حلول للأزمات الاقتصادية التي تواجهها البلدان العربية، حيث توجد لغة مشتركة بين المنتفضين في انتفاضات الموّجتين الأولى والثانية ضد الأزمات الاقتصادية التي سببتها السياسات النيوليبرالية، وفشل نماذج التنمية في البلدان العربية، ناهيك عن الأسباب السياسية المتمثلة في بقاء النظم الاستبدادية، وحكم العسكر، والتدخلات الخارجية، وتراجع دور الأحزاب السياسية العربية. ولكن في المقابل، وإن استثنينا مصر بعد وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي في حزيران/ يونيو 2014 الذي اعتمد على التكنوقراط لإظهار واجهة مدنية للحكم، فإن بلدان الموجة الأولى من الانتفاضات العربية لم تعرف صعودًا للتكنوقراط، وذلك بسبب الحروب الأهلية الطاحنة التي اندلعت في اليمن وسوريا وليبيا.
ومع ذلك، فإن التكنوقراط بوصفهم قادرين على الوصول إلى السلطة، وفقًا لقواعد المهارة والخبرة المهنية والتقنية، وقادرين على اقتراح سياسات تهتم بالنمو وتعزيز جودة حياة الناس وتحقيق الازدهار الاقتصادي، فإن ذلك يسهل وصول هذه الطبقة إلى سدّة الحكم في البلدان العربية، بوصفها تعبيراً صريحاً عن الشكل الجديد للحكومات العالمية. مع اعتبار قدرة التكنوقراط على تجاوز العديد من الأزمات الاقتصادية، أهمها قيام الدول الأوروبية بتعيين حكومات تكنوقراطية للخروج من أزمتها المالية عام 2008. وبمعنى آخر، فإنه يبدو أن المنتفضين في الموجة الثانية، الباحثين عن نخبة غير النخبة السياسية الحاكمة، والباحثين عن فرص اقتصادية أفضل، قد يمنحون التكنوقراط فرصة للصعود إلى الحكم في بلدان الانتفاضات العربية، لقدرتهم على إيجاد حلول لارتفاع أسعار السلع والمواد الأساسية وفرض ضرائب مستحدثة.
ارتفاع الأسعار والضرائب والطبقة الحاكمة هي المشكلة. التكنوقراط ليسوا الحل:
مع بروز أزمة السياسات النيوليبرالية الجديدة، وتفاقم أسعار السلع والمواد الغذائية، وفرض المزيد من الضرائب في البلدان العربية، بدا بأن التكنوقراطية التي بدأت بشكل حقيقي مع تأسيس الأمم المتحدة، وبرزت بشكل رئيس في أهدافها للتنمية المستدامة باعتبارها ثمرة للتكنوقراطية التاريخية، باتت وصفة للخروج من الأزمات السياسية والاقتصادية التي تواجه البلدان العربية. ولكن يبقى النقاش قائمًا حول قدرة هذه الحكومات على الحفاظ أو تغيير الوضع الراهن، ولا سيما أنها تُعرّف بأنها حكومات لتصفية الأزمات. فهذه الحكومات، وإن غلب عليها صفة حكومات انتقالية مخصصة لحل الأزمات السياسية والاقتصادية، إلا أنها تبقى مقيّدة من حيث الصلاحيات بالأحكام الدستورية من جهة، والضوابط التي يفرضها السياسيون والأحزاب السياسية من جهة ثانية.
ولتفادي هذا الجدل حول الصلاحيات، يبقى الأهم هو دراسة تشكيل الحكومة وأولوياتها. فقد تكون حكومة تكنوقراط بصلاحيات محدودة، ولكن في نفس الوقت قادرة على صياغة ورسم السياسة العامة، ووضعها موضع التنفيذ. في الجزائر وبعد نحو ثلاثة أشهر على اندلاع الانتفاضة الجزائرية، أصدر الرئيس الجزائري الأسبق عبد العزيز بوتفليقة قراره بتعيين نور الدين بدوي رئيسًا لحكومة تصريف الأعمال. منذ اليوم الأول لتكليفه قال بدوي بأنه سيشكل حكومة تكنوقراط من الخبراء لتهدئة الاحتجاجات الشعبية ضد بوتفليقة والطبقة السياسية الحاكمة. وفور الإعلان عن تشكيلة الحكومة تبيّن بأن بدوي حافظ من جهة على الوجوه القديمة للنظام من بينهم وزير الدفاع الوطني، ووزيرة البريد وتكنولوجيا الإعلام والاتصال، ووزيرة التضامن، ووزير التجارة، ووزير المجاهدين، ووزيرة البيئة، ومن جهة ثانية عيّن بدوي وزراء جدد من الكفاءات المقربة من الطبقة السياسية الحاكمة، من بينهم أمناء عامين في وزارات الدولة. ويبدو أن الطبقة السياسية الحاكمة وعلى رأسها قائد الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح كانت معنيّة بالمحافظة على بدوي، رغم تنحي بوتفليقة عن منصبه من جهة، واحتجاج المنتفضين الجزائريين ضده من جهة ثانية، وذلك لقدرة بدوي وحكومته على عدم منافسة صالح والنخبة المقربة منه.
في السودان توّلى الخبير الاقتصادي عبد الله حمدوك رئاسة حكومة التكنوقراط الانتقالية. منذ اليوم الأول لتكليفه، صرح حمدوك بأنه سيختار للحكومة أعضاء من التكنوقراط بحسب كفاءاتهم. عمد حمدوك في خطابه إلى الحديث عن أولويات الحكومة، مركزًا على إيقاف الحرب وبناء السلام المستدام، ومعالجة الأزمة الاقتصادية، وبناء اقتصاد يقوم على الإنتاج، ووضع سياسة خارجية معتدلة، والحرص على التمثيل العادل للنساء. لم يأت حمدوك الذي شغل منصب الأمين العام للجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة على ذكر الكيفية التي سيعالج بها أزمة السودان الاقتصادية، ولا سيما ارتفاع الأسعار وفرض الضرائب وتقليل الإنفاق العسكري. وقد نتذكر أن أحد الدوافع الرئيسية للانتفاضة السودانية كان بسبب السياسات الاقتصادية النيولبرالية، ولا سيما الخصخصة ورفع الدعم الحكومي عن السلع الرئيسية، والمستجيبة لوصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي يعتبر حمدوك واحدًا من صانعي السياسات فيها. أضف إلى ذلك، قد يكون من الصعب إحداث تغييرات على المستوى السياسي، فالاتجاه الجديد هو ليس حماية الديموقراطية التي تعني حكم الشعب، بل حماية الطبقة الحاكمة الصاعدة من ذوي المهارات الفنية والتقنية. وبهذا فإن القضية الغائبة في السودان، لا تقف عند من يكتسب القوة، ولكن عند من يفقدها، فالتكنوقراط ليس صعودًا للخبراء فحسب، بل تراجع للمنتفضين السودانيين ومطالبهم.
ومن المرجح أيضًا أن يصل التكنوقراط إلى الحكم في لبنان، حيث يتوقع تشكيل حكومة تكنوقراط لا تضم أي وجوه من الطبقة السياسية الحاكمة، ولا سيما أن المنتفضين بدوا حاسمين في مسألة نقدهم للطبقة السياسية الحاكمة، والأحزاب والتيارات السياسية الموجودة في الحكم. وقد يعطي خطاب التكنوقراط المُنّصب على الجوانب الاقتصادية فرصة أكبر لهذه الطبقة إدارة المرحلة القادمة، ولكن النقطة المهمة هي أن أي شخص يتوقع أن لا تتدخل الطبقة السياسية الحاكمة والأحزاب السياسية في عمل التكنوقراط سيخيب أمله.
وأحد الدروس التي نتعلمها اليوم هو أن حكومة التكنوقراط التي ترأسها عادل عبد المهدي في العراق منذ 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2018 لم تنجح في تخطي الأزمات السياسية والاقتصادية؛ ولا سيما أن الرهان على اختياره رئيسًا للوزراء كان رهانًا على الإصلاح الاقتصادي وإعادة الإعمار وتحسين الخدمات وتفكيك نظام المحاصصة الطائفية. فقد واجه عادل عبد المهدي مجموعة من التحديات من بينها أن عبد المهدي لا ينتمي إلى أي تيار سياسي، وليس مرشحًا من أي تيار، ولم يسعى إلى بناء ائتلاف سياسي يدعمه. ومع مرور الوقت تبيّن أن تسمية عبد المهدي رئيسًا لحكومة التكنوقراط العراقية بوصفه من خارج الكتل السياسية الفائزة في انتخابات البرلمان العراقي في أيار/ مايو 2018 جاء بناء على تسوية تقبل بها الأحزاب السياسية بشرط عدم التدخل أو المساس بالشؤون التي تتحكم بها وتديرها مراكز القوى في العراق.
في المحصلة، فإن الحكومات التكنوقراطية الصاعدة في بلدان الموجة الثانية من الانتفاضات العربية تمتلك القدرة لتفرض علينا فهمًا جديدًا للسياسة؛ فهي تسهم في بروز قوى ونخب فاعلة جديدة، تقتحم النظام السياسي والسلطة، يقوم فيها الخبراء لا السياسيون بصنع السياسات العامة، ما يعني أن تصبح عملية صنع السياسة العامة للبلدان العربية تبدو وكأنها عملية فنية وتقنية لا عملية سياسية. علاوة على ذلك، برز مؤخرًا تعبير متداول لدى الطبقة السياسية في لبنان، ويقع في جهة مضادة للتكنوقراط وهو "تكنو – سياسية". هذه التسمية ليست مضادة للتكنوقراط، فقد برزت في أدبيات التكنوقراط نظرًا لصعوبة الفصل بين ما هو سياسي وما هو تقني، وتعرف أكاديميًا بحكومات "شبه سياسية" أو "شبه تقنية". في الحالتين، نحن أمام التصاق السياسي أو السياسة مع التقني أو الخبير؛ غير القادر على تغيير الوضع الراهن، وذلك لتعقيدات ومحددات مرتبطة بالنخب والأحزاب والتيارات الحاكمة.
وعليه، فإن ما تحتاج إليه البلدان العربية المنتفضة في الموجة الثانية ليس تعيين خبراء في مراكز صنع السياسة والسياسات العامة من أجل إيجاد حلول سحرية لارتفاع الأسعار والضرائب وفشل النخبة الحاكمة، فهؤلاء لن يتمكنوا من ذلك ولا يمتلكون هذه الحلول؛ فالتجارب التكنوقراطية في البلدان غير الديمقراطية لم تنجح في تخطي الأزمات التي واجهتها، ودخول هذه الطبقة من الخبراء إلى السياسة في المرحلة الحالية يرشحها لأن تصبح جزءًا من إعادة إنتاج السلطة القائمة، وليس تجسيدًا مضادًا لهيمنة واستبداد السلطة. وهذا تحديدًا ما حصل في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وبعض البلدان العربية في تجارب تاريخية منذ تسعينيات القرن الماضي.
وبالتالي تتطلب مكافحة مشاكل الطبقة السياسية الحاكمة المعاصرة، ومشاكل الأزمات الاقتصادية التي تواجهها البلدان العربية، إيجاد طرق لجعل المؤسسات والنخب السياسية التقليدية أكثر استجابة لمجموعة أوسع من المواطنين، بدلاً من مجرد مجموعة فرعية منهم. إذا لم يفعلوا ذلك، فإن جاذبية الطبقة السياسية التقنية ستزداد. إذا كنا نتوقع من التكنوقراط أن يجدوا حلول للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلدان العربية، ويطوروا المهارات والمعارف اللازمة لنجاحها في ظل السلطويات العربية الموجودة؛ فإننا بحاجة إلى إيجاد طرق لدخول التكنوقراط إلى السياسة، وذلك من خلال تأسيس حزب سياسي يتكون من مجموعة من التكنوقراط مهمتها الرئيسية الوقوف ضد سلطوية الدول العربية، وتقديم بدائل في مقابل الساسة المتحكمين بصناعة القرار.
بالمعنى الحرفي، لا يمكن أن نجد حلولا لأزماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية إذا لم يشارك السياسيون في الحياة السياسية. لذلك، فالمطلوب هو إعادة الاعتبار للسياسة والسياسيين والأحزاب السياسية، للتفاوض على تطبيق شروط الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وليس التفاوض على شروط الديمقراطية وفقًا لأسس المحاصصة في السلطة والمال.
عن جدلية