يؤكد الناقد على تنوع مواضيع أقاصيص «شوكولاتة نيتشه» ويشير إلى براعة القاص المصري في أنسنة المعاني، وربطها بسياقات غير متوقعه؛ والاقتراب من الفانتازيا والمشهديات الحلميّة؛ فضلاً عن سمة الطرافة والعجائبية، التي تدفق من أحداثها التي تدور بين منتصف الستينيات وبداية الثمانينيات.

صابر رشدي يصنع الدهشة

من خلال مجموعة أيقونية جديدة

سـعـيد كامل

 

في مجموعة "شوكولاتة نيتشه"، الصادرة حديثاً عن سلسلة "أصوات أدبية" التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، يفاجئ القاص المبدع صابر رشدي القراء بعنوانها اللافت، وغير المألوف، حيث ومض في ذهنه في لحظة إلهام نادرة، وهو عنوان لأحد نصوص المجموعة، لكنه يتمتع بجاذبية لا تضاهى، يدفع كل من يراه، أو يسمع عنه، إلى السعي إلى معرفة ما المقصود به، وهل للمجموعة أي علاقة بفيلسوف القوة الألماني الشهير فريدريك نيتشه، أم لا؟

المجموعة تتكون من (27) قصة تتنوع موضوعاتها، ولكن يجمع بينها الطرافة، والعجائبية، والسخرية، ونصاعة الأسلوب، وسلاسته، وإحكامه في آن. ويبرع فيها الكاتب في أنسنة المعاني، وربطها بسياقات غير متوقعة، والنظر إليها من زوايا غير مألوفة. أحيانا يسمى أبطاله بأسماء غير أسمائهم الحقيقية مع استثناءات قليلة، وفي بعض الحالات لا يذكر أسماءهم، الأحداث تدور في فترة زمنية تنحصر بين منتصف الستينيات، وبداية الثمانينيات (تنتهي بيوم اغتيال السادات على منصة العرض العسكري)؛ وتجري في أماكن عديدة، غالبيتها العظمى في المناطق الشعبية للقاهرة، مناطق شهدت طفولته السارد وسنوات صباه. يتسلح صابر رشدي في قصه بمخيلة جامحة، ويستعين بالفنتازيا على نحو يذكر بكبار تيار الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية. كما يلجأ أحيانا إلى تقنية الحلم هروباً من واقع يصعب فهمه، أو الفكاك من أساره. يسعى إلى توليد المفارقة، واستخلاص الأبعاد الدلالية والرمزية الكامنة في النصوص. ويترك للقارئ مساحة من الحرية كي يستمتع وهو يطالع معه حكايات غنية بالإثارة والتشويق عن أزمنة عايشناها، ولكنه استطاع أن يقبض على كثير من مشاهدها، ويحولها إلى قص سحري مشحون بالبهجة، حتى وهو يستدعي اللحظات الأشد قتامة وواقعية، بنضج أسلوبي رصين ومقتضب.

يلقي الواقع المأزوم بثقله الباهظ، على أحداث وشخصيات المتتالية، التي تتعدد في ثناياها مشاهد العنف المبالغ فيه، والانحراف، والتهكم، ومظاهر الفقر، والتعاسة، والإجرام، والهروب من جهامة الراهن الخشن، بوضع حد للحياة نفسها؛ كما في قصة "سيدة النهر". أنها في مجملها ظواهر تستدعي حضوراً كثيفاً للأماكن الهامشية، التي تعمل كمسرح لجل الأحداث، ويصوغ فيها رؤاه الفنية لكل ما يجري من حوله.

يوظف السرد بضمير المتكلم أحيانا، وضمير الغائب في أحيان أخرى، لأنه يتيح قدرة خاصة على المباعدة بين السارد والموضوع، كما يفتح دائماً آفاقاً متجددة للتساؤل والدهشة، على نحو ما نرى ونحن نتابع بأنفاس مبهورة، ما يجري فوق السطور.

في قصة "برطمان زجاجي"، يقوم السارد، وباستخدام ضمير المتكلم برواية قصة طريفة، من أيام طفولته تبين مدى شقاوة الأطفال التي يمكن أن تصل أحيانا إلى مرتبة الإيذاء، كما فعل الراوي، عندما أراد أن ينتقم، من باب الشقاوة، من صديق له فجعله يسف مادة البوتاس الكاوية، بعد أن جعله يعتقد انه سُكّر.

ويبدو الحس العجائبي حاضرا بقوة في نص "المترنحات وذكور البط" الذي يصف فيه الكاتب طقوس الزار العجيبة، ويحكي عن حفل زار بعينه، كان قد اقيم لطرد الأرواح الشريرة عن مريضة ولكن الأمر ينتهي نهاية فنتازية كما يصف: "افاقت من ذهولها الزائف... وراحت تسرع مع الريح باحثة عن الضوء، وهي تتقافز مذعورة، وكأنها تطأ أرضا من الجمر، بينما تهدر في اذنيها دقات طبول صاخبة، كصدى مرعب لزلزال".

وهناك قصة "انتصارات" وبطلها شاب يدعى "محسن والي" كان يتمتع بقدرة غير عادية على النيل من خصومه في المشاجرات من خلال القبض على أحد أصابعهم بأسنانه، وتمزيقه والتهامه . وفي نهاية المطاف، وبعد أن وقع الكثيرون ضحايا له عبر سنوات، داهمته آلام رهيبة في البطن، وعندما ذهب للمستشفى وجد الأطباء، بعد إجراء، عدد من الفحوصات الدقيقة، أشياء غريبة تلتصق بكليته، لم يتم التعرف عليها، إلا بعد إجراء جراحة. وفي مشهد من أكثر المشاهد غرابة، اكتشف الجراحون أن ما يلتصق بهذه الأعضاء، لم يكن سوى أظافر آدمية.

وفي قصة " سينما فلوريدا" بالغة الطرافة، يحكي الكاتب عن اعتياده التردد على دار سينما" فلوريدا" الواقعة بالقرب من سوق الخضروات والفاكهة في روض الفرج، كانت تذكرتها بتسعة مليمات، وتعرض ثلاثة أفلام في الحفلة الواحدة. يحكي عن طقس الجلوس في السينما، حيث كان المشاهد يدفع مبلغا زهيدا للشخص الذي يقوم بإرشاده إلى مقعده، أو مكانه على الدكة في الظلام. وبعد أن يستقر المشاهد في مقعده، يفاجئ بضربة من سوط يحمله هذا الشخص مصحوبة بشتيمة مقذعة، وصيحة مخيفة يأمره بها أن ينزاح كي يفسح مكاناً للقادم. يتكرر نفس المشهد بدون تعديل، في كل مرة يدخل فيها مشاهد جديد، إلى أن يجد الشخص نفسه في نهاية المطاف، مستقراً على الأرض، إلى جانب غيره مما كانوا يجلسون على الدكة، وأصبحوا الآن مكومين على الأرض. لم تكن الإهانة التي تلحق بالمشاهدين تقتصر على ذلك، حيث كانت عربة الشرطة تقف بظهرها أمام الباب بعد انتهاء الحفلات "لتلتقط ما تيسر من مشاهدين، على نحو لا يحتاجون فيه سوى لقفزة واحدة حتى يجدون أنفسهم بداخلها". وفي قصة "النيل عند وكالة البلح" يحتد التنافس بين شابين لدرجة تدفعهما لتحدي بعضهما، بالقفز من فوق كوبري أبو العلا الذي يصل بين حي بولاق أبو العلا، والزمالك، إلى النهر، ويتأخر الشابان، ويوقن باقي الاصدقاء أنهما قد غرقا، خصوصا مع ما يعرفونه عن عمق النيل، في تلك المنطقة وينصرفون، بعد أن تأخر الشابان في العودة، وهم لا يدرون ماذا يفعلون، ليفاجئوا في وقت متأخر بقدوم الشابين احياء، ركضا وهما عاريين، إلا ما يستر عورتهما بعد أن سرق أحدهم ملابسهما، حتى يستطيعا الوصول إلى بيتيهما في اسرع وقت ممكن، قبل أن يتعرضا لمزيد من الإهانة، بخلاف الشتائم التي نالاها من محصل التذاكر في الأتوبيس، وضربه لهما بمؤخرة القلم الرصاص المعدنية مما أسال دماءهما، لعدم امتلاكهما لثمن التذكرة، ولركوبهما عاريين إلا من السروال الداخلي.

وتبلغ السخرية المريرة مداها في قصة "النافذة"، وهي عن شاب كان يعمل مساعدا لأحد مقاولي البياض، وتنحصر مهمته في غربلة الجير وخلطه بالرمل، والإسمنت، وأثناء استراحته من العمل، راح يسلي نفسه بالنظر من نافذة الشقة، فيفاجأ بزوج وزوجته منهمكين في ممارسة الحب، فينهمك في لعبة استجلاب اللذة التي يمارسها الكثير من المراهقين للتغلب على حرمانهم الجنسي، ناسياً أن يده مشبعة بالجير والإسمنت، مما يترتب عليه إصابة جزء حساس من جسمه بالتهاب شديد، جعله يصرخ من الألم "ويدور على نفسه كقط احترق ذيله"، ثم ينزل إلى الشارع وهو يمشي بصعوبة مباعدا بين ساقيه ليراه اصدقائه على هذا الوضع، الذي جعلهم يستلقون على اقفيتهم من الضحك بعد أن حكى لهم عن السبب. ورغم الحرج الذي قد يصيب القارئ عند مطالعة القص، إلا أنه سيكتشف أنه يعاين قصيدة نثر، حيث صور الكاتب المشهد على نحو شعري بالغ العمق.

وفي قصة "طابور" يتحدث الكاتب عن طوابير الفقراء الذين يترددون على العلاج، من أمراض مختلفة في المستشفيات الحكومية. وبعد الكشف على كل واحد منهم بواسطة الطبيب المتخصص في المرض الذي يشتكي منه، يقفون في نهاية المطاف، في طابور لصرف دواء واحد، لا يتغير للجميع، مهما كان مرضهم عبارة عن "دواء شراب برتقالي اللون" و"اقراص سلفا". وعندما كان الصيدلي يشعر بأن ما لديه من أقراص سلفا ومن هذا السائل البرتقالي قد أوشك على النفاذ، كان يقوم باختصار عدد الأقراص المصروفة، وخلط السائل البرتقالي بالماء. هذا الوضع لا يعجب سيدة من حي شعبي معروفة بشراستها تدعى "أم شكل"، فتشتم العامل، الذي يقوم بتوزيع الوصفات وتسكب ماءً على رأسه، وتغادر وهي تسب وتلعن.

وفي قصة" الطريق إلى الإستاد" يحكي الكاتب بضمير المتكلم عن تجاربه في مشاهدة مباريات الكرة في صباه، وكيف كان يقطع المسافة من منزله حتى إستاد القاهرة، ولما لم يصدق اصحابه أنه يشاهد المباريات في هذا المكان البعيد، شديد الحراسة والتأمين، كما كان يحكي لهم، اتفق معهم على أن يراقبوا المباراة القادمة، في التلفزيون حيث سيسمعونه وهو ينادي على كل واحد منهم في الميكروفون باسمه. وهو ما فعله يوم تلك المباراة، حيث دخل الاستاد برفقة شخص آخر أكبر سناً بدون أن يدفع تذكرة كما كان يفعل كل مرة، ثم انتهز فرصة مناسبة، واقترب إلى اقصى مسافة ممكنة من المعلق، ثم أخذ ينادي على أسماء اصدقاءه واحدا واحدا، ثم ينسحب بعيدا بعد أن أثار غضب المذيع، واستياء الجمهور، "ليستكمل مشاهدة المباراة مبهور الأنفاس سعيداً بهذا الإنجاز المذهل" كما يقول.

وفي قصة "ريح أمشير" تتزوج أرملة مسنة، من رجل متقدم في السن، ضامر الجسم، بادي الشيخوخة، ولكنه مشهور بجدارة لا تضاهى في الفراش، وثقتها زيجات عديدة. وفي الليلة الأولى للزواج، وبينما يتهيأ لممارسة الحب مع زوجته الجديدة، تتجمع أعداد من القطط، يبدو أنها كانت تمارس التزاوج في شهر أمشير، موسم سفاد القطط، وتبدأ في مواء شرس يعكر عليه مزاجه، ويحبط ما كان قد نوى أن يقدم عليه، فيخرج ويطرد القطط، ويضرب قطا اسود كبير لم يهرب مثل غيره من القطط، بهراوة على ظهره، بقسوة بالغة. يحاول مجدداً مع زوجته ولكنه لا يستطيع أن يحقق المراد، ويستبد به الإنهاك فينام، ثم يستيقظ على كابوس وهو يصرخ، بعد أن حلم بأن القط الأسود يتشبث به ويكاد يخنقه، كما حكى لإمرأته، التي لا تصدقه، وتظهر على وجهها علامات السخرية والتهكم، مما يغيظه، ويجعله ينظر إليها على انها نذير شؤم، جاءت لتقضي عليه، وتضع نهاية لتاريخه الحافل في الفحولة، فيصدر إليها أمره بمغادرة البيت فورا، ويفتح الباب" ويلقيها على الدرج، وراء القطط" التي كان قد طردها عندما أثاره مواؤها الشرس.

وفي قصة "مخدرات الطفولة" يحكي الكاتب عن تجربته هو واصدقائه مع المخدر، وطريقه شراءه، في حيهم الشعبي، وعدم اكتفاءهم بذلك، واتخاذهم لقرار بالذهاب إلى حي الباطنية معقل تجارة الحشيش في القاهرة. يحكي الكاتب عن جغرافية المكان، شديد الحراسة، ونوعية القائمين إليه، وطريقة البيع واستمتاعهم بشراء الحشيش من معلمة بادية الصحة تتمتع بجمال شعبي، وتجوالهم في الحي، سعداء بالسير في دروبه الشهيرة، ثم جلوسهم للراحة على مقهى، يقابلون فيه معلم يسألهم عن الحي القادمين منه، ويتعجب لأن الحشيش متوافر في ذلك الحي بل ويعدد لهم اسماء المعلمين الذين يوزعونه، ولكنهم يقنعونه بأنهم جاءوا إلى الباطنية لأن الحشيش فيها مختلف عن أي مكان آخر، قبل أن ينصرفوا "سعداء ومفعمين بنجاح المغامرة".

قصة "حالة" عن طبيبة خنثى، أي تجمع صفات الذكورة والأنوثة معا، تمارس عملها بإخلاص وضمير، وتعالج جميع الأمراض، للأطفال والنساء والرجال، على حد سواء، وتتعامل مع الجميع بجدية تصل إلى حد الصرامة. تتناول القصة نظرة المرضى إليها، وخشية الرجال والنساء من التقدم للزواج منها، بسبب هذه الحالة النادرة، وعدم مبالاتها هي بذلك، مواصلة عملة غير عابئة بالنظرات الفضولية المتعجبة إليها .أما في قصة " مزلقان" فنرى اشتغالاً باهراً للفانتازيا، إلى حد يحاكي كتاب الواقعية السحرية في أميركا، مما يرسم حالة من الصخب، واللامعقول، والفوضى والغرائبيات، ومنها طيران كاب مأمور القسم الذي جاء ليضع حدا لحالة الفوضى والاضطراب وضياعه، قبل أن يفاجأ به في نهاية المطاف مستقراً على سطح مكتبه في مركز الشرطة "فخشى لمسه، وظل ينظر إليه ذاهلاً، ومستغرقاً في الأسئلة، التي راحت تومض بشدة في تعقيدات هذا العالم، وأشيائه الغامضة".

ويتبدى الحس الفكاهي بجلاء، في قصة "جاهل في الأوبرا" بدءا من العنوان نفسه الذي يثير الابتسام عند قراءته، وكيف أنه قرر -مدفوعاً في ذلك بحبه لتقليد المثقفين، والأرستقراطيين في تقديرهم للموسيقى الكلاسيكية- أن يذهب إلى حفل لأوركسترا القاهرة السيمفوني. في هذا الحفل كانت القاعة تعج برواد تلوح على محياهم علامات الثراء والارستقراطية. وبعد أن بدأ العزف بمقدمة سريعة ومرتفعة بتدرج متقن، توقفت مرة واحدة، وساد صمت، صفق صاحبنا بحماس، كي ينقذ الفرقة من الحرج كما قال، ولكن تصرفه أثار استياء الحاضرين، وتهكمهم، ونصحه أحدهم بألا يصفق إلا في نهاية السيمفونية. ظل صاحبنا صامتا يتابع العزف وعندما انتهى العزف تماماً، تردد في التصفيق إلى أن بدأ الآخرون في التصفيق فجاراهم في ذلك "حتى لا يبدو كصبي أخرق، مقطوع الصلة بهذا العالم الثري".

أما في قصة "شوكولاتة نيتشه" المكتوبة ببلاغة نافذة، والتي تحمل المجموعة اسمها، فنرى تجسيداً حياً، وقدرة على خلق أجواء غرائبية، وتحويل ما هو مألوف، ومتداول، إلى ما هو خارق للمألوف، ومتعلق بعوالم ماورائية. القصة عن رجل يحكى ما جرى له مع قرين زوجته التي تعاني من مرض "بعد أن اكتشف وجوده مصادفة أثناء تحولاتها خارج حدود الوجود الأرضي، وتأرجحها بين عالمين متضادين"، وتمنعها عليه على الرغم من إبداء رغبته في الوصال، وعندما يتكرر الرفض منها يهجم عليها بوحشية، ويقيدها، فيفاجأ بها تتحول إلى كائن غريب، يهدده بصوت كأنه صادر من صبي، بألا يقترب منها مرة أخرى. رآها مغمضة العينين، يخرج الصوت من أعماقها منذراً، ومهدداً، ومشحونا بعبارات بذيئة، فيوقن من صحة كلام أمه عنها، عندما كانت تردد على مسامعه عباراتها: "زوجتك مسكونة، يلازمها قرين غيور" بعد حوار قصير من الصوت، يتأكد صاحبنا من أنه أمام جني صغير. قضى الليلة كلها وهو يحاوره، ويهدده من آن لآخر، بأنه سيحضر له شيخا ليصرفه، فيطلب منه الجني الصغير، أن يدعه وشأنه، مقابل أن يلبي له كل مطالبه، وقال له إنه، بشكل خاص، يستطيع أن يساعده في الأعمال المنزلية الشاقة، بشرط أن يحضر له طعمية ساخنة، وعندما نفذ طلبه قام الجني بعمله، على خير وجه، وعلى نحو بالغ الدقة والإخلاص، مما دفع الرجل لاستغلاله في الأشغال المنزلية في بيوت أخواته المتزوجات، فقام بكل ما يكلفنه به من أعمال التنظيف، لدرجة أنهن طلبن منه إعادة طلاء شققهم، ففعل. بعد ذلك قرر الصديق استثمار الجني في صناعة صغيرة، تتم كلها داخل منزله، عبارة عن صناعة نوع جديد من الشوكولاته، أطلق عليه "شوكولاتة نيتشه"، مستفيداً من خبرة سابقة له في هذا المجال، فحقق المشروع نجاحا كبيرا، وتوسعت تجارته، وانهمرت عليه النقود، ولكن الجني أصيب بالضجر، بعد بعض الوقت، وبدأ يتلكأ في العمل، ويفاجئ سيده بقدر كبير من الاستعلاء والتمرد وبدلا من الطعمية الساخنة، بدأ يطلب لحوما ودواجن مشوية، وعندما وفرها له صاحبنا، اندفع يعمل بأقصى طاقته، في الوقت الذي رفض الإنسي ان يمنحه أي قدر من الراحة. وفجأة بدأت تظهر اعراضا غريبة على مستهلكي الشوكولاته، في صورة إسهال وقيء، ورائحة عطنة تتصاعد منها عند مضغها؛ مما دفع التجار لمطاردته، وأمسك به أحدهم وقرر أن يبلغ عنه إلى الشرطة، فرجاه ألا يفعل ذلك، مقابل أن يرد له ما دفعه من نقود، وهو ما فعله مع تجار آخرين متذمرين، حتى تقلص مقدار ما لديه من نقود، بعد أن بارت تجارته. في الوقت ذاته، بدت علامات الحمل تظهر على زوجته، التي تحولت إلى عجوز، شائهه، متهدلة الجسم، على الرغم من أنه لم يقربها خلال الشهور الأخيرة، وتنتهي القصة العجيبة كما وصف الكاتب على النحو التالي: "عرف سريعاً ما حدث، وعرف متأثراً بغريزته المهجورة ما جرى في فترة انشغاله المفرط بالعمل، بعدما وضعت المرأة طفلاً غريباً، مخالفاً لأي حضور فيزيائي للبشر، عندما أبصره، ارتج تماما، وسقط في غيبوبة قاتلة".

في قصة "اشتباك" يتناول الكاتب أحداث "انتفاضة الخبز" في مصر، في 18، و19 يناير عام 1977، عندما ثار الشعب على نظام السادات، بسبب رفع أسعار بعض السلع الغذائية بشكل مفاجئ. يحكي عن المشاهد التي رآها رأي العين، ومشاركته في أحداث تلك الانتفاضة، والدروب الفرعية التي كان يسلكها للوصول لمكان الاشتباكات، أو للهرب من ملاحقة الأمن والأحاسيس التي كانت تنتابه خلال ذلك، وعلاقتها بالواقع السياسي والاقتصادي السائد في تلك الفترة. يحكي السارد عن أنه قد أصيب، أثناء أحداث الانتفاضة، ولكن تلك الإصابة لم تأت بواسطة رصاص رجال الأمن، أو هراوتهم، وإنما بحجر طائش قذفه نحو أحد المتظاهرين بالخطأ، مما جعله ينزف دما، ولكنه يتمكن من الهرب من ملاحقة رجال الأمن، بمساعدة البعض عبر دروب جانبية، حاملاً مع دليلاً لا يقبل الجدل على تضحيته في تلك الأحداث التاريخية.

وفي قصة "جولات س.ع" وهى الحروف الاولى لاسم فتى كان معروفاً بشغفه المجاوز للحدود بالجنس الآخر. يصف كيف حاول هذا الفتى المتهور التحرش بفتاة صغيرة، مستغلاً بنذالة مفرطة، مرضها العقلي، ولكن الصغيرة، تشي به عند امها، التي قامت بإبلاغ الأمر إلى أبنائها، وهم ثلاثة شبان مشهورون بشراستهم في الحي، فقاموا بتكسير عظامه بلا رحمة، مما دفعه، بعد هذا الدرس القاسي، للبحث عن فرائسه بعيدا عن الحي. في إحدى المرات، ذهب إلى حديقة يوجد بها أماكن لممارسة المتعة الحرام، حيث جرى استدراجه بواسطة امرأة جميلة، ظن أنها هي التي ستكون من نصيبه، ولكنه وجد نفسه في النهاية في كوخ مظلم وحيداً مع امرأة ممصوصة، داكنة اللون، شديدة القبح، أقبلت عليه في نهم يشبه السعار، ولكنه تقزز منها، ولم يتمكن من التخلص منها، إلا بعد أن دفع لها مبلغاً إضافياً للمال حتى تتركه يذهب. بعد ذلك نقل الفتى نشاطه إلى الأتوبيسات المزدحمة حيث دأب على التحرش والاحتكاك بأجساد النساء، مما جعله معروفا، ومعرضاً للطرد من كل اتوبيس يستقله، بل وللضرب المبرح أيضا. فكان يعود إلى بيته، كل مرة، مثخنا بالجروح، لينال تقريع أهله وتهكم أصحابه. ولكن ذلك لم يصرفه عن هوايته المفضلة. ولم تجد عائلته وسيلة، سوى شراء موتوسيكل كي يستخدمه في تنقلاته، ولكنه كان يترك الموتوسيكل في أي مكان آمن، ويعود لمواصلة هوايته الشائنة في الاتوبيسات، مما دفع رجال الأمن للقبض عليه، بعد أن تكررت ضده الشكاوي، وأخذوا تعهداً عليه بالامتناع عما يفعله، ووزعوا ملصقات تحمل صورته، كتبوا تحتها: من يجد هذا الشخص داخل أي اتوبيس، يقوم بتسليمه فورا للسلطات.

وفي قصة "وسط البلد" يحكي الكاتب عن ذكرياته مع مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسته" مستر ماهر"، الذي كان كثيراً ما يراه في وسط البلد، أثناء تجواله في شوارعها، بكامل أناقته، وبخطواته البطيئة المتزنة، ونظراته السوداء التي تضفي عليه مظهرا غامضا، ومبسم سيجارته العاجي التي يشعلها من قداحة ثمينة. يحكي الكاتب أن هذا المدرس كان يؤدي عمله بجدية شديدة، موقنا بأن التدريس هو العمل الرسولي الوحيد في هذا العصر. في المدرسة يستوقفه "مستر ماهر" ويقول له إنه يراه كثيرا في وسط البلد، فيخبره أنه يذهب إلى هناك لشراء الكتب ودخول السينما، والذهاب إلى مقهى ريش لمشاهدة نجيب محفوظ فيتعجب، ويقول له إنه مازال صغيراً على ذلك. بعد ذلك تتوطد علاقته بمدرسه، الذي يوجهه، ويشجعه على القراءة وتنمية ثقافته.. كان "مستر ماهر" يقوم بعمله على خير وجه، ويتفانى في ذلك، لدرجة انه كان يجمع التلاميذ من الفصول التي كان يدرسها، لمراجعة الدروس معهم أخر اليوم الدراسي. ويتذكر الكاتب أنه في بداية السنة النهائية، وقبل أن تتوطد علاقته به، استوقفه مستر ماهر، وطلب منه أن ينتظر، ثم قال له إنه كتب إجابة سؤالين بيده اليسرى في ورقة إجابته في امتحان آخر العام، حتى لا يضيع عام دراسي من عمره، وأن تلك كانت أول مرة يفعل فيها ذلك في تاريخه المهني. ينهي الكاتب القصة هكذا: "انتابني حرج شديد، مشفوع بالامتنان وهو يضيئ لي لغزا غامضاً، فقد كنت أتوقع الرسوب في هذه المادة، ولكني أخيراً وجدت تفسيراً واضحاً لهذه المسألة".

وينهي صابر رشدي هذه المجموعة الشائقة بقصة "الرئيس سيمر بعد دقائق"؛ فيحكي عن تواجده في ميدان التحرير قبل مرور موكب الرئيس الراحل أنور السادات، المتجه للعرض العسكري السنوي الذي يقام في السادس من اكتوبر، ومحاولته الصعود لكوبري المشاة المطل على الميدان فلا يتمكن من ذلك حيث منعه ضباط الأمن، فتحرك من المكان، ووقف عند ناصية شارع "شامبليون" انتظاراً لمرور الموكب الرئاسي. وكان الكاتب قد مر بالصدفة على بروفات العرض قبل ذلك التاريخ بأسبوع، وورد على ذهنه خاطر مشحون بحس تنبؤي غريب، مؤداه أن تقوم دبابة بالاستدارة فجأة، وتوجه فوهة مدفعها ناحية المنصة، وتطلق قذيفة عليها. وعند ما مر الموكب أمامه، توقع أن يرى الرئيس مبتسما ابتسامته الشهيرة، محياً الجموع بطريقته المعهودة ولكن الرئيس لم يفعل ذلك، بل بدا حزينا شاردا في جلسته في السيارة التي كانت تقله. يصفه الكاتب وصفاً رائعاً يخلب اللب حيث يقول: "كان يطفو في عالم آخر، ساهياً بوجه متجمد لا ينتمي إليه... شعرت بغصة، وبرياح تعصف صامتة حول كائن منعزل يتأرجح بين يدي التاريخ والتراجيديا، بين الغيوم والمجهول، ودورات السياسية الغامضة"؛ وينهي القصة "رددت بقلب خافق وصوت مسموع على غير إرادتي: (هذا الرجل سيموت اليوم)".

"شيكولاتة نيتشه" مجموعة قصصية ملهمة، تحتفي بالتفاصيل الصغيرة والمهشمين، وتلقي ضوءًا كاشفاً، على كافة تنويعات وغرائبيات السلوك البشري، خصوصا في الأحياء الشعبية عبر تقنيات متنوعة، تعتمد على تحويل الواقع إلى حلم، وتحويل الحلم إلى واقع بصياغة سردية محكمة، تهتم باللغة ونسغها الصافي، وتستخدمها بسلاسة في رسم أجواء تتجاوز تخوم الغرابة. بأسلوب يجاور -بدون أدنى مبالغة- أساطين القصة القصيرة في العالم. صابر رشدي، كاتب، ينتحي جانباً، ويبعد عن ضجيج الوسط الأدبي، ويعمل في هدوء على مشروعه الإبداعي الخاص، الذي يبتنيه لبنة وراء الأخرى، بتؤدة وتمهل، غير عابئ بما يدور حوله من صراعات ومعارك، ومكايدات، منهمكاً بشكل دائم في تطوير أدواته الفنية، مما ينبئ بقدرته على الوصول إلى ذروة سامقة في هذا النوع الأدبي، في نهاية المطاف. فنحن أمام كاتب يعرف كيف يصنع عوالم رائعة، ويسردها بمهارة فائقة، رغم تحليله المتأني لانحرافات متعددة. إنه كاتب استطاع تجنب الوقوع في القبح، وأدهشنا بصياغات جديرة بالتقدير، كاشفا النقاب عن مهارة فائقة، وحس ساخر، وربما نبرة لاذعة، وروح متمردة أحيانا، تمثل الوجود الرمزي لهذا الصبي الذي يتقافز فوق صفحات هذه المجموعة الفاتنة، ممسوسا بالفضول، والشغب، وحب المغامرة، حيث يرافقنا الانبهار، ويتسرب إلينا السحر ونحن نطالع هذه الحكايات المثيرة.

 

(كاتب ومترجم، مصر)