يشدد الناقد على تميّز الكاتب في توظيف التقنيات السردية، ويجترح في «طعم النوم» مغامرة إشكالية، حين يحاكي بالتناص «الجميلات النائمات» لكاواباتا و«ذاكرة عاهراتي الحزينات» لماركيز. مما ورطته في مأزق المقارنة مع الكاتبين العالميين، كما أنه ركز بؤرة السرد على عجز الشيخوخة مغفلاً العوالم الروحية والمعرفية الرحبة لهذه المرحلة.

طارق إمام يحاكي شيخوخة بطعم النوم

صلاح فضـل

 

يتميز المبدع التجريبي الطموح طارق إمام بكفاءة عالية في توظيف تقنيات سردية جديدة في رواياته، بحيث يفاجئ قراءه كل مرة بمغامرة مدهشة في عوالم الكتابة، فيضع نفسه في قائمة الأدباء الطليعيين الذين يستقطبون إعجاب النخبة وتشجيعهم، ويشفق منهم القراء العاديون لخروجهم على المألوف وتمردهم على القوالب الفنية الجاهزة. وقد سعدت بالإشادة بباكورة أعماله اللافتة «هدوء القتلة» وعجبت من جهده الضخم في روايته الكبيرة عن شاعر الإسكندرية العظيم «كافافيس» وارتحت لحصوله على بعض الجوائز القيمة، لكنه يجترح اليوم مغامرة إشكالية بمحاكاته لاثنين من عمالقة الرواية العالمية بالتناص-أي التداخل النصي- معهما صراحة في رواية «الجميلات النائمات» للياباني «كاواباتا» الحاصل على نوبل عام 1968 ورواية «ذاكرة عاهراتي الحزينات» للكولومبي جارثيا ماركيز الحاصل على نوبل عام 1982، فيصدر «طعم النوم» معلنً معارضتهما وإعادة تدوير أعمالهما عن طريق بث عدد من الرموز الملغزة والمواقف الغرائبية الطريفة والشخصيات المستنسخة والتواريخ الموجعة، هذه هي الحيل السردية الذكية تورط كاتبنا في مأزق شديد، لأنها تضعه في قران واحد مع هذين العظيمين أمام القراء المتابعين للإنتاج العالمي، وخير لنا أن نصرف النظر عن هذه المعارضة لنتأمل عمله الإبداعي فی ذاته وما حاول أن يقدمه فيه من إنجاز فني بالرغم من ألغامه المبثوثة ونصوصه المتفاوتة المعكوسة.

وأول دلائل هذا المأزق أنه ينظر للحياة في جملتها من ثقب ضيق جداً يحوطه التحريم وتحرسه التابوهات المكرسة، وبخاصة في مجتمعات القهر والكبت والنفاق التي نعيش فيها، فهو يركز بؤرة روايته على صراع الرغبة والعجز التي يختزل فيها شيخوخة الإنسان، قبل أن يجربها في حياته مثل الكتاب الذين يحاكيهم، مغفلاً العوالم الروحية والمعرفية الرحبة لهذه المرحلة. تبدو لعبة المحاكاة مهارة فكرية واضحة يستحضر طارق النص الأم الذي كان حاضنا للواقعية السحرية عند «ماركيز» وهو «ألف ليلة وليلة» فيأتي بشخصية شهرزاد ليعيد تأويلها بعكس دلالاتها الأولى، فبعد أن كانت رسول السلام ومنع قتل النساء للشك في سلوكهن عند «شهريار» تصبح في «طعم النوم» هي قاتلة الرجال، حيث تقوم شهرزاد -وهي في الرواية ممرضة سكندرية عجوز- بدس السم بالإبرة القاتلة في وريد الرجل «وتشعر براحة الاقتراب من الموت كأن السائل المميت بدأ يسري في عروقها هي كان يتحرق شوقاً -وكانت تعرف- لسماع حكايتها، الحكاية المثيرة التي وعدت أن تحكيها له مع آخر حقنة». وغني عن الذكر أن شهرزاد هنا تقتل بدلاً من أن تحكي لتفادي موتها هي، وهنا نرى أن لعبة التداخل النصي التي تحافظ على عناصر الموقف في صراع المرأة والرجل والقتل والحكي لا تعتصر النصوص القديمة لاستخراج دلالات جديدة منها بل تكتفي بمجرد تبديل عناصرها دون خلق فلسفة جمالية جديدة لوظيفة فن السرد تتجاوز بها النصوص المعكوسة. وهنا تحاول تعويض هذا الفراغ الدلالي باصطناع صياغات جديدة مدهشة حيث تكتب الرواية: «يكتب النوم هذه القصة بلغته، يستحيل على يدي المستيقظة أن تمتد إلى معجمها (لتصيغ) عبارة، إنها إرادته هو، وسواء تعلمت بعض الكلمات أو لم أقرأ حرفاً على الإطلاق، فإنه يسرد هذه الحكاية نيابة عني، ففي النوم يصبح الجميع شعراء» ومع ما في هذه الجمل من حيل تعبيرية دقيقة فإنها تخترق البنية السردية القديمة لتزعم المستحيل من أن الكتابة تتم بالنوم لتكون شعرية، والتيمة المركزية الأخرى الموظفة هنا هي اعتبار العري هو السمة المائزة لجمال الفتيات والعلامة البارزة لقبح الشيخوخة، والموت هو النهاية المحتومة للرغبة والعجز، وكلها افتراضات وهمية، فليس العري مناط الجمال والقبح، ونبل الشيخوخة لا يمحوه العجز، ولأن حركة الرواية تصبح راكدة بفعل التكرار فإن الزمن فيها يفقد سيولته، الأسماء تتكرر بين روازا الكبيرة والأخرى الصغيرة، وفعل دخول العجائز العرايا على الفتيات النائمات يتكرر عشرات المرات بعدد الحجرات والأيام والسنوات، مما يجعل إقحام التواريخ والأحداث المعروفة يتخذ صبغة رمزية بحتة، فهو مجرد محاولة لإقحام السياسة في دنيا الأسطورة، والادعاء بأن الرواية «تقرأ التاريخ المعاصر نحو خمسين سنة وصولًا لأسئلة اللحظة الراهنة» كما جاء على ظهر الغلاف افتراض تأويلي ضعيف، يؤدي إلى مقابلات مؤذية للمشاعر الوطنية، فاعتبار حقل العري والعهر والعجز والموت هو النظير الرمزي للوطن والحرب والهزيمة مبالغة مريرة، والمشهد الذي تبدو فيه القوادة وهي «ترتدي فستانًا أسود سادرًا مثل ليل لا يشرق فيه سوى ثدييها، بينما تدلت صورة ابنها الشاب من سلسلة غليظة، لقد ذهب للجبهة فاعتبرته مفقودًا وكانت تباهي بصورته المعلقة على صدرها.. كنية القوادة بين الفتيات كانت «أم الشهيد». هذا المشهد جارح للحس الوطني وبخاصة عندما نرى «خلف ظهرها فوق سريرها كانت صورة لجمال عبدالناصر تتوسط الحائط كأنها تحرس البيت»، وأصبح هذا ما تعتمد عليه الرواية في كتابة التاريخ المصري في خمسين عامًا، ولا يقابلها من هذا التاريخ سوى مشهد آخر في أغسطس عام 2014 حيث «لم تهدأ الاحتفالات بعد، الناس في الشوارع يحتفلون بهستيريا، رئيس جديد حليق ومبتسم، سابقه الملتحي/المتجهم في السجن، أشعرها مرورها السريع بينهم أنها متهمة، صيف قاتل، ظلت تردد وهي تمضي في الزحام، كأنها تلقي بتعويذة، ذائبة، في وجه المدينة المغطى بالمساحيق، بينما البحر شاهد صامت» مثل هذه الإشارات القليلة المبعثرة لمدينة شاخت منذ فقدت عذريتها تنثر قليلاً من رموز التاريخ كبقع ملونة ضئيلة في لوحة رمزية لا تعبأ بالواقع ولا تملأ فراغات سنينه ولا تعنى بالبشر الآخرين وهي تركز على أشباحها الموهومين الموسومين جميعاً، بالعهر والعجز والجريمة المدبرة بل تمضي الرواية في توزيع فخاخها الرمزية على القراء والنقاد فتخترع مثلاً مقعداً يختفي كل من يجلس عليه من الفتيات في المصنع، ومثل اختفاء أي فتاة تحتج على سحر صاحب المصنع الذي يختار لنفسه واحدة كل ليلة ليقتلها ويأتي في الصباح للمصنع يخرجها من بطنه، ثم تعليق الراوي أو الراوية قائلاً «سأعرف أنه في جميع الأمكنة ثمة ذلك المقعد الذي يوجد لكي يبقى شاغراً» ألغاز أخرى ينثرها الكاتب ليلهي بها القراء والنقاد مثل حكاية «من انتقم من مدينة كاملة عندما فشل في العثور على سرير لنومه، فقرر إعداد جيش من المستيقظين في فندق لا تطفأ أنواره أبداً، الحكاية لكاتب مصري اسمه طارق إمام وقد قرأتها ضمن حكايات كان يكتبها أسبوعياً في جريدة الدستور رشحتها لي ابنتي التي كانت من قرائه». تتكرر هذه الإشارات النرجسية للمؤلف عن نفسه عدة مرات في الرواية، وهي تذكرني بما كان يفعله بعض الرسامين في عصر النهضة عندما يرسمون صورتهم مصغرة في أسفل اللوحات بديلاً عن توقيعها مما يثير ابتسام المشاهدين.

ولأن الرواية تدور كلها عن الشيخوخة العارية باعتبارها كناية كبرى عن المجتمع المصري فهي تسرف في تقبيحها بإمعان مقصود، تقول الفتاة التي تتظاهر بالنوم كي لا يلمسها العجوز «أولاني ظهره ليخلع ملابسه، بدا من الخلف بظهره الخالي من الشعر وعجيزته اللدنة الضخمة المنتوفة وبترهلات جنبيه كامرأة تحيض، وفي لحظة استدار بثديين مترهلين استناما عند قوس كرشه، عبرا عيني في لمحة خاطفة أغمضهما». ولست أعرف وظيفة هذا الوصف الجسدي ولأية مشاعر يريد الكاتب أن يستفزها به، فهذا الجسد المترهل لا يمكن أن يختزل فيه الإنسان بكل عقله ووجدانه وخبرته وحكمته، ومجرد التركيز على الجانب المادي المباشر لإقامة مقابلة لا يستوفيها الكاتب مع أجساد الفتيات الجميلات النائمات لا يمنحنا دلالة خصبة غنية، بل يستحيل إلى مجرد ثرثرة فائضة لا تثري العملية الرمزية للسرد. وحتى الأطفال في المدينة التي أصبحت محوراً دالاً في الرواية يتحولون إلى شيوخ هرمين، «فشهرزاد عندما تغادر دار العجائز، وفور مواجهتها الشارع تستشعر وهناً غريباً، كان ظهرها محنياً، مفاصلها تؤلمها، وثمة رغبة حارقة في أن تنزع وجهها وكأنه قناع ثقيل، وبينما تهش طفل الصباح الذي عاد يجذبها من البالطو لدى خروجها من البوابة لتشتري منه علبة مناديل انتبهت فجأة، رفعت الطفل من جذعه.. كان وجهه غابة من التجاعيد، لقد أصبح عجوزاً مكتملاً، نظرت حولها متمنية ألا ترى ما تأكدت من وقوعه، لقد صارت الإسكندرية مدينة كاملة من العجائز».

ومهما كان مقصد الكاتب من هذه «المورفيسيس» في تحولات العاصمة الكوزموبوليتانية المتوسطية الفاتنة إلى وكر للسلفيين والظلاميين والهرميين قبل الأوان فإن ذلك لا يتطلب على الإطلاق هذا الاستغراق الشديد في تمثيل شيخوخة المدينة غرائبيا مسرفا، فجميع المبدعين الذين كتبوا عن تحويلات الإسكندرية في العقود الأخيرة، وفي مقدمتهم إبراهيم عبدالمجيد خاصة في روايته «الإسكندرية في غيمة» وبقية الثلاثية البديعة رصدوا هذه الظواهر دون مبالغات مكرورة وتمثيلات صارخة تحيل المدينة في نهاية الأمر إلى مجرد صفوف من السرر التي تتكئ عليها فتيات عذراوات في انتظار شيوخ مخصيين، مقابل صفوف أخرى من المقابر التي تفغر أفواهها في انتظار الجثث التي ستلقي في جوفها ويصبح القتل مثل الشيخوخة هاجساً لا تمر فقرة في الرواية دون أن تنعمس فيه، حتى لنجد الراوية تحاول فلسفة هذا الوضع محدثة ذاتها «عندما تستيقظ في الصباح التالي لقتلك شخصا ما يكون قد بدأ حياة جديدة بداخلك» وسواء كانت عمليات القتل مادية أم معنوية رمزية على الطريقة الكافكاوية فإن الطابع الذي تدفع به الرواية لابد أن يكون عبثياً لا تجدي معه التأويلات التاريخية، ولا تنفعه شبكة الرموز المتعالقة.

ومع بروز العلاقة الحميمة بين القتل والنوم الذي يعد في الوجدان الشرقي ميتة صغرى والذي ينتظر أي عجوز يخرج على قانون البيت خلال رؤيته المطولة لجسد الفتاة العارية فإن أحداث الرواية في جملتها لا تخرج عن هذا التداول المكرور في المصائر والأقدار بين الشخوص من الإناث- وهن الأغلبية- والقليل من الذكور وهم الضحايا في هذه الأمثولة، مع أنها لا تخلو من بعض التأملات العميقة والاستطرادات الذكية، وتقتفي كثيراً من الإشارات التي تحفل بها الروايتان اللتان يعارضهما لتضفى عليها دلالات جديدة ومبتكرة، وإن كان المجال لا يتسع هنا لعقد هذا القران الذي يطمح إليه كاتبنا الشاب مع العماليق السابقين عليه، وحسبه أن يمتد طموحه ليجاريهما في لعبة السرد موظفًا خبرته المتجذرة بعوالم ألف ليلة وليلة وحساسيته المرهفة في تشكيل الأقاصيص الرمزية والكنايات الكلية وقدرته على مزج عوالم الحلم بكوابيس اليقظة، مع امتلاك لغة وصفية شفيفة وبلاغة السردية يؤكد بها مكانته في طليعة المبدعين الشباب بتمكن واقتدار.