يكتب الناقد المصري أن هذه الرواية تثير مشكلة التصنيف الأدبي، غير أن نظرة للرسالة التي تحملها الرواية، هي ما يحدد الانتماء النوعي. والرسالة تسعي بشدة للكشف عن سوءات الواقع، وهو المادة التي منها يتم تشكيل الشكل الذي جاء علي هذه الصورة الفانتازية، فتوافقا وتعاونا علي خلق عمل إبداعي خلاق.

في «برج العذراء» .. لم تعد البلاد عذراء

شوقي عبدالحميد يحيى

 

في كتاب "بواكير الرواية العربية في القرن الجديد"[i] أشرنا إلي أن الرواية –في مصر- في نهايات القرن العشرين، وبدايات القرن الواحد والعشرين، وحيث كانت الأمور السياسية قد أخذت شكل التحدي، واختفي صوت العقل فيها، ولم تعد الكتابة الرمزية تصل برسالتها إليها، فعلا صوت الرواية، واخذت هي الأخري جانب التحدي، فأخذت الرواية شكل المباشرة، واستخدام اللغة الخشنة، وكأننا امام كسر أحد التابوهات العربية، وهي السياسة، إلي جانب كسر تابوهي الجنس والدين أيضا، وكأن الوضع أخذ شكل المواجهة المباشرة، بين صوت وضمير الأمة، ممثلا في الرواية التي بالفعل أصبحت هي ديوان العصر، وبين صوت اللاعقل والتمادي في التجاهل الذي تمارسه السلطة. لذا فإن قراءة رواية "برج العذراء" [ii]للروائي إبراهيم عبد المجدي، تتطلب، للفهم والوعي برسالتها، وصيغتها الرجوع إلي تاريخ الكتابة، الذي أشار إليه الكاتب، ما بين عامي 2000 و 2002 بين الأسكندرية والقاهرة. كما سيدرك القارئ، لماذا تخوف الناشرون المصريون من نشرها في ذاك الوقت، واضطر الكاتب لنشرها بدار الآداب ببيروت عام 2003. فقد اقتحمت الرواية تابوهي السياسة والجنس، بعنف يتناسب ومرحلة المواجهة المباشرة، والمُتحدية. حيث تبدأ الرواية، وفي سطورها الأولي نقرأ تلك اللغة –الخشنة- كما نتبين مسار الرؤية المتضَمنة فيها {يا أولاد الكلب يا جزم ها أنذا راشد رشاد عاقلا قويا، يا أولاد القحبة تريدون أن تطفشونا من بلادنا"}ص11.

فالصراع هنا يبدأ من صرخة "راشد رشاد" الذي يُنكرون وجوده، وكادوا يصلون به حد الجنون، أو الهرب إلي خارج البلاد، ضجرا وهروبا. رغم ما يحمله الاسم من دلالة الرشد، من جانبه، والرشاد الحامل لرسالة الفضح والكشف عن أفعالهم المؤدية إلي وأد العقل والُرشد.

عاد راشد رشاد من العمل بالبلد العربية الصحراوية، بعد عشر سنوات من الغياب. إلتقي فيها ب"سالم سليمان" حيث يحمل الاسم هنا أيضا رؤية السلم فيما فعله سالم بغيابه عن البلاد، والذي كان يعمل صحفيا مرومقا، ومعروفا من كل الناس، حيث كان له باب بالجريدة، يتلقي فيه شكاوي ومشاكل الناس. ولم يكن راشد يحمل من سالم غير صوته، الأشبه بصوت النساء. ورغم ذلك ظل الجميع يتعامل معه علي أنه سالم سليمان، وغاب راشد في أعماقه هو فقط،، ليصبح هو (المؤذن في مالطة)، أو هو ذاك الطفل الذي شذ عن الجميع، واصبح الوحيد الذي قال أن الملك عار من الثياب[iii].

كما تحدد بداية الرواية –أيضا- تلك الرؤية ، وفي سطرها الأول، حين بدأ راشد رشاد رحلته من الأسكندرية إلي القاهرة، بينما كان ينوي السير في الطريق الزراعي، لكنه وجد نفسه في الطريق الصحراوي { أراد الدخول بالسيار في الطريق الزراعي، فوجد نفسه في الطريق الصحراوي} وبكل الظلال التي يلقيها لفظي الزراعي والصحراوي. وكأنه في رحلة إلي غياب الخضرة والنماء، وبدأ السير في الطريق الوعر والجفاف، والخشونة، وهو الطريق الذي يسلكه كل من يختلف مع السلطة، وما دفعه الكاتب نفسه عندما مُنعت روايته من دخول البلاد في طبعتها البيروتية. منفردا، حيث فقد كل من الزوجة والإبنة في حادث سيارة، تلك السيارة التي صدم بها شخصا آخر، ليبدأ رحلة المعاناة والكشف لما يدور بالمجتمع، من خلال كم الرشوة التي أضطر لدفعها لكل شخص تعامل معه، في طريقه إلي قسم الشرطة، أو داخل القسم. فضلا عن أنه في قسم الشرطة، بدأ التعامل معه علي أنه "سالم سليمان" وليس "راشد رشاد". وكأننا أمام نقطة البداية، لكل الانهيارات الإنسانية، التي بدأت مع جانب من صور ما يحدث في أقسام الشرطة. ففي تخشيبة القسم، سمع "راشد" أصواتا غريبة فأخبره من يبدو عليه أكثر الموجودين إجراما {هذا من البدروم

  • بدروم؟
  • أجل تحتنا مباشرة. سلخانة ضرب وتعذيب علي أصله... في البدروم فلكه وعروسة وكرابيج وعصيان خيزران وازن وكومبروسر للنفخ. كل الإمكانيات في خدمة الشعب الحقيقة}ص30.

ويري السارد مجموعة من العصافير في خيمة ، فوق رأس الضابط المحقق، ما أن يطير واحد منها، حتي يعود مجبرا، ويمد الضابط يده ليمسك بأحدها ويأكلها، حية، باستمتاع، ويكرر الفعل أكثر من مرة. وكأن الناس قد تحولوا إلي عصافير في يد الضابط، يفعل بهم ما يشاء. فضلا عن عديد المشاهد المقززة، والمفزعة، التي تضيع فيها كرامة الإنسان.

ويذهب الضابط للقبض علي "الزعيم" من بار "برج العذراء". وفي البار، يُصر المغني الأعمي علي غناء "بيت العز يا بيتنا" لتكتمل السخرية. وليقول له الضابط الكبير { نعم، لكنك دائما تغني بيت العز يا بيتنا. إنك لا تغير الأغنية أبدا، وهذا له معني. إنك تسخر من الدول. دولتنا فقيرة لكن نحبه. فيرد المغني: والله يا باشا كثيرا ما أغني "يا أما القمر علي الباب. فيرد الضابط: طيب وهي دي شوية؟ دي دعوة للاستعمار يا مولانا. والاستعمار ليس القمر!} ص146.

ومن البار. يذهب "صاحب الشئ"، والذي كان يجلس في مكان و يمد شيئه إلي أي مكان في البار، واشتُهر في البار بشيئه حتي تمت تسميه بصاحب الشئ. ويأتي صاحب الشئ إلي البار يكاد لا يُري أي جزء منه، تحت الشاش الذي يغطي كل جسمه. حيث كان قد ذهب إلي القسم ليعرض عليهم حلا للإيور التي تسير في كل الطرقات {نظروا لبعضهم قليلا ثم قالوا لي "أرنا بضاعتك" .. فتحت البنطلون وقلت جاءتني أكبر فرصة للشهرة، لكنه خذلني ولم يتحرك من مكانه، وهذه هي النتيجة}ص191. كما يعضد تلك الرؤية المستخلصة من تجربة صاحب الشئ، ما حدَّث به "أسعد سعيد" "راشد رشاد" عن طلاقه لزوجته التي تنام وتشخر، رغم المرات القليلة التي يقترب فيها منها. ثم يتضح أن هذه ليست حالة فردية، وقد أدت لارتفاع نسب الطلاق في البلد. وكأنها ترمز لغياب الرجولة في .. البلد، حيث يترسخ في الذهن الجمعي، ان هذا الشئ هو رمز رجولة الرجل، وما يعود بنا إلي ماسبق القول به، من أن الشرطة، قد انتزعت رجولة الرجال. خاصة إذا ما اضفنا إلي ذلك، ما رواه الوزير السابق "بو علي" عن "الزعيم" الذي طرده شعبه من البلد الصحراوي، وجاء يسألهم المساعدة في العودة إلي حكمه، والذي ماكاد يروي لراشد الحكاية، حتي بادره راشد:

  • أرجوك أنا لا أحب السياسة.

ابتسم بو علي وقال: ومن تحدث في السياسة؟ اصبر، أنا سأحدثك عن الموسيقي.. الحاكم في بلادنا كل شئ، والناس جزم}ص84.

وقد كان الزعيم قد وضع في الدستور أمرا ان يكون من حقه رؤية وسماع جماع كل رجل، بزوجته، أو عشيقته، وزرع أجهزة التنصت علي كل البيوت- ليستدعي ذلك رائعة الكاتب الإنجليزي جورج أوريل في روايته الشهيرة (1984)- ولا يخفي بالطبع أن نوم المرأة (حد الشخير) وما يحمله من غياب الفاعلية من الرجل.

ويمضي راشد في رحلة الكشف، ليجد أن العشوائيات في البلد قد تجاوزت كل الحدود، فيعزمه، أسعد سعيد علي مطعم كباب، يتحاكي به الجميع، رغم أنه يقع في منطقة عشوائية {هي منطقة عشوائية في الحقيقة، لأن المناطق العشوائية التي تقوم علي الهامش تظهر تقريبا كل يوم، لم يعد أحد ينشغل بإطلاق الأسماء عليها. المنطقة التي بها الدكان هي أحدث ما ظهر منها}ص157. وهناك يتعرف علي وضع الأطفال، عصب المستقبل. والغريب أن "راشد" كان لا يزال يملك القدرة علي الدهشة و {ما أدهشه فقط كثرة المطاعم التي علي الأرصفة، مطاعم مكشوفة لاجدران حولها، والجو بارد لكنه منعش، وخلف كل مطعم غرفة هي التي فيها يتم تجهيز الطعام. مقاعد من قش وخشب قديم، ومناضد من خشب أسود خشن غير منتظم، وناس كثيرة تأكل. أطباق قذرة بها طعام ساخن تصعد منه أبخرة تبعث علي الدفء}ص158. ولم يتوقف الأمر عند المطعم، حيث كان الأطفال والقطط، الزاحفين من الحواري العشوائية، يُزاحمون المشهد - الذي تعود فيه الذاكرة إلي رواية الراحل مكاوي سعيد "تغريدة البجعة"، والتي صدرت من نفس دار النشر (الآداب البيروتية) وفي ذات العام (2008)- فقد {رأي في الزقاق القطط تتصارع الآن مع طفلين حول عدد من قطع العظم الصغيرة ألقي بها نادل أحد المطاعم المجاورة إلي الشارع. الطفلان يهوشان بالهجوم علي القطط فتتراجع ثم تهاجمهما القطط فيتراجعان. كانا شبه عاريين وحافيين، علتهما أوساخ كثيرة، كانا ولدا وبنتا لايمكن التمييز بينهما إلا بالتدقيق الشديد}ص161. ولم يستطع"راشد" بالطبع أن يأكل وسط كل هذا، فيبدأ السير ليجد في مكان آخر، بائع حمص الشام، إلا أن العربة نظيفة، والرجل العجوز نظيف، ما شجعه علي الاقتراب وطلب حمص الشام. غير ان الأمور ليس بظاهرها، حيث يكشف له العجوز عن مآساة أخري، فيتناول الحديث بينهما ابنه الطفل، فيدعوه العجوز للنظر في الجانب الآخر من النهر ف{ رأي عشرات الأطفال جالسين مثل ضفادع صغيرة في أوضاع القرفصاء. وقال العجوز النشط: الشط سرير والسما غطا. الطفل منهم بعد أن يبيع له كلية أو دراع أو حتي عين يجد السرير الحقيقي والغطاء الصوف. أفضل من أن يصبحوا إرهابيين أو لا مؤاخذة خولات ومجرمين}ص171. كاشفا عن معهد تخريج الإرهاب والتطرف.

ويواصل التطواف، فما أن تدعوه "وداد" للذهاب معهم لاصطحاب "أسعد سعيد" للكشف عليه في معهد الأورام، ليتعرف هناك علي المعاملة غير الآدمية التي يتعامل بها المعهد، بدءً من رجال الأمن، إلي الأطباء مرورا بالممرضات. وكم هو مزدحم بالمرضي ومناظرهم المؤلمة في العنابر العديدة. وصولا إلي مكتب المدير، الذي لم يجده مكتب المدير، ووجد مجموعة من الصلعاء، غير أنهم أنظف قليلا من غيرهم في باقي المستشفي، حيث يخبره أحد الأطباء بأن{هذا من أصول العلاج. البروتوكول الموقع بين المعهد وبين شركات الدواء الأجنبية لتجريب العقاقير الجديدة في مجال السرطان ينص علي ذلك. عزرائيل وقع علي البروتوكول كطرف ثالث ضامنا للتنفيذ... أرجوك صدقني. أنا أخشي أن يخطئ عزرائيل فيقبض روحك}ص208. وكان راشد قد وصل قمة الهلع من تلك المناظر، فبدأ رحلة الخروج من المكان، بعد أن يئس من العثور علي مكتب المدير، الذي كان قد دخله في البداية، ليجد نفسه في متاهة، فما أن يدخل من باب حتي يجد وراءه باب، ووراء الباب باب {ماذا يحدث لو أسلمه الباب الأخير إلي الصحراء مرة أخري، كل مرة يتخيل أن الباب الأخير سيسلمه إلي فضاء لانهائ، إلي الجحيم الذي رآه من قبل! هذه الممثلة تريد مغادرة البلاد. إنه يشم رائحة سياسة كبيرة في المكان وهو يكره السياسة. ثم إنه غير قادر أن يري أحدا يتعذب مرة أخري}ص109. ولا نعرف نحن إلي ما صار وسار راشد، وكأنه قد تلبستنا حالة التيه التي تلبست، راشد رشاد، الذي فقد الرشد، وفقد الطريق، فراح يهذي { لابد أن هذا البلد امتلأ بالمجانين. الجميع فيما يبدو ينتقمون منه وهو مسكين لم يستطيع أن ينتقم من أحد}ص119.

التقنية الروائية

تثير "برج العذراء" مشكلة التصنيف الأدبي، وهل تنتمي إلي الفانتازية، أم إلي الواقعية، غير أن نظرة للرسالة التي تحملها الرواية، هي –في تصورنا- ما يحدد الانتماء النوعي. والرسالة تسعي بشدة للكشف عن سوءات الواقع، الذي تخطي كل خيال، وكما سبق أن ذكرنا في دراسات سابقة، أن الشكل الروائي إرتبط بواقع وطبيعة المجتمع منذ رواية "زينب" لهيكل في العام 1914، وهو ما يتجلي هنا بصورة أكثر وضوحا، فالواقع هو الأساس، وهو المادة التي منها يتم تشكيل الشكل الذي جاء علي هذه الصورة الفانتازية، فتوافقا وتعاونا علي خلق عمل إبداعي، يتطلب النظر إليه بموضوعية، بعيدا عن الرؤية الأخلاقية. حيث يجب النظر إلي أن هذا الشكل العبثي، هو المعبر عن الأوضاع في البلاد. وأن ما جاء به من جنس، بعيدا تماما عن الإثارة، أو اللعب بغرائز القارئ، وإنما ما جاء إلا كرمز لرؤية أبعد. مستخدما الثقافة العامة، والتي تشير أن الإنسان العربي، لا يفكر برأسه، وإنما بما بين وركيه. فحديث الجنس حاضر دائما بين كل اثنين، بل في أعماق الإنسان العربي في كل سيره وتفكيره، وهو ما عبرت عنه الرواية بالإيور التي تمشي في الشوارع، وتجلس في البار، وكأنها قد فرغت الإنسان وحولته إلي مجرد إير. فضلا عن أن الجنس هو أساس البقاء، وسيرورة وجوده، فإلي متي نظل ننظر للأمور كما النعامة؟. كما أنه لا يجب أن نغفل إشارة "راشد رشاد" في البداية، بانه يحاول الانتقام لموت زوجته وابنته – مثلما أراد "مصطفي سعيد" في رواية "موسم الهجرة إلي الشمال" للسوداني الطيب صالح، حين أراد أن ينتقم من الاستعمار الإنجليزي، بركوب نسائه في بلدهم- .

وكما أن "البار" هو المكان الجامع للشخصيات، فماذا نتوقع أن تكون اللغة فيه؟.

وإذا كان "برج العذراء" يحمل في طياته السخرية ، فكذلك إتخذه الكاتب نقطة محورية، ينطلق منها السرد إلي كل الجهات، وفيه الملتقي، حيث تتلاقي كل الشخصيات، فجاء اختيارا منطقيا، حيث الرؤي كلها تبدو غير منطقية، وكأن الشخوص كلها في حالة سُكر. لتتماشي مع الأحداث والوقائع. ففيه إلتقي السارد بأسعد سعيد، كاتب السيناريو الشهير، والذي لم يُقبل له أي سيناريو، وسعي إلي "سالم سليمان"، الصحفي المرموق، كي يتوسط له في قبول السيناريو الذي أعده عن حياة "صاحب الشئ"، لينطلق السرد إلي الاتجاه الرأسي، بعد أن سار طوال المشاهد السابقة في الاتجاه الأفقي، أو السطحي، حيث يعود بحياة "صاحب الشئ، إلي تلك الثورة التي فعلت غير ما أعلنت أنها جاءت من أجله، كاشفا عن خطاياها، وكأنها جذور ما يعيشه ناس المرحلة الحالية، او أنها إشارة إلي بداية سيطرة وتحكم جهاز الشرطة، خاصة إذا ما رجعنا إلي أولي روايات إبراهيم عبد المجيد "في الصيف السابع والستين" والتي تناول فيها ماساة يونيو 67، بعد أن تعرض فيها لمجموعة من الأحداث التي تبدو وقتية، ثم عرج علي استبطان الوقائع بالرجوع للوراء عن حياة الشخوص، ليحدد البداية التي منها انطلق تقزيم الفرد، في الصيف السابع والستين، وهو أيضا ما يشير إليه في "برج العذراء{فهو لا يتكلم عن الحرية ولا يعرف شيئا عن المعتقلات- فكرت مرة أن أبدأ كتابة كتاب عن تاريخ الاعتقال والمعتقلات في مصر- ولا يعرف أنه يمكن القبض علي أي شخص واعتقاله دون سابق إنذار أو تحقيق. وأنه يمكن للإنسان أن يخرج من منزله فلا يعود إليه، وإذا عاد فإنه دائما فاقد لشئ ما بدءً من الأصابع حتي عضو التذكير، مرورا بالعقل الذي هو الهدف الأول}[iv]ص145.

ففي "برج العذراء، يعود الكاتب إلي ذات الفترة، فيقرأ اسعد سعيد المعالجة التي أعدها للسينما عن حياة صاحب الشئ، الذي إعترض علي أن السيناريو يذكر اسمه الفعلي رفعت"، فيبدأ في تزييف الحقائق { فليكن أبوه وكيلا أول لوزارة التعليم، وأمه ناظرة لمدرسة بنات ثانوية، ولتكن أخواته كلهن في الجامعات الخاصة، أما جده فقد كان من الثوار الذين حاولوا إنقاذ البلد من الفقر والجهل والمرض. مات جد رفعت وخلف للعائلة قصرا كان قد تسلمه من حكومة الثورة بالخدم والتماثيل والحديقة والأثاث الكلاسيكي واللوحات التشكيلية الأصلية والسجاد الإيراني والكلب}ص125.

غير أن صاحب الشئ أراد ألا يستمتع بما تركه الجد وأن يعتمد علي نفسه. بحثا عن زوجة جميلة وغنية، فأشار عليه أحد أصدقائه ب"غصن" التي تعمل في البنك الاستثماري، وفي زيارة لبيت والدها رجل الأعمال(فشرح له أبوها كيف اشتري القصر من أحد رجال الثورة، ولما لاحظ رفعت أن الأركان خالية من التماثيل ورأي ذقن الرجل طويلة أدرك أنه رجل محافظ ورجعي، فقال له أن أباه يحتفظ بالتماثيل في قصرهم، فبان الغضب علي وجه أبي غصن، وأدرك رفعت أنه علي هذا النحو لن يطلب زيارة عائلته أبدا فيظل سره مكنون}ص128. وتدفع "غصن" صاحب الشئ لأن يكسب الملايين، وفي النهاية كان مصيره هو إلي السجن، بينما هربت هي إلي خارج البلاد بالملاين. وهي أيضا إشارة إلي الواقع المعيش، وما شهده من تكرار تلك الحوادث.

ولو تصورنا أن الكاتب قد أحاط سرده بدائرة تشمل البعدين، الأفقي والرأسي، فقد وسع من تلك الدائرة، ليحيط كذلك بالدول المجاورة، وكأنه يري أن المناخ في كلها واحد. فيعرض لنا ذلك "الزعيم" المطرود من بلده، وجاء إلي هنا لمساعدته في العودة إلي حكمه { لقد حضرت إلي بلدكم لتساعدني حكومتكم علي استرداد حكمي لكنها خذلتني. إنها تريد أن تعرضني علي طبيب نفساني. هل أنا مجنون؟ هل الزعماء يمكن أن يصابوا بالجنون؟ هل أنا مجنون يا وزيري؟}ص121. غير أن الدولة إعتبرته "مجنون" وانتهي به الأمر بأن يعمل ووزيره "بو علي" كعاملي نظافة في معهد السرطان. ذلك الذي حكي وزيره عن مهازله وما فعله في شعبه {انتظر حتي أحكي لك كيف كان الزعيم المبجل يأكل خصومه. أجل كان يحتفظ في ثلاجته بمخاصي وأيور الرجال ونهود وأفخاذ النساء. تماما كالإفريقي عيدي أمين} لينتفض الزعيم من نومه ويقول{لا تسخروا مني فأنا أقل من يفعل ذلك}ص136.

وفي إشارة الزعيم النائم توسع أكبر لمساحة الرؤية، حيث أن غيره من الزعماء، أو الرؤساء كان يفعل أكثر مما فعل. وهو ما دعي "دلال" للقول {بلادنا جميلة يا أستاذ، لكن أفسدها الحكام}. وهو ما حافظ عليه إبراهيم عبد المجيد في روايته التالية "ايسكايلوب" الصادرة من تونس 2018، حيث تنظر إحدي العائدات من الموت إلي الشارع المصري، لتقول {تكفى هذه العمارات العالية التي رأيتها حولى وقد كانت كلّ البيوت في أيّامنا صغيرة وجميلة.وهذه القاذورات التي تملأ الشوارع من أين تأتى؟ كانت البلديّة في الماضى تكنس الشوراع كلّ مساء. وهؤلاء الأطفال النائمون على الأرصفة؟ ألم يعد لهذه البلاد حكّام؟} وهو ما يؤكد أن الهم العام، هو قضية حملها الكاتب علي عاتقيه منذ روايته الأولي وإلي أحدث أعماله.

كما كان البار هو المكان الأول الذي رأي فيه السارد "فرح" ذلك الطيف الذي يخترق الجمادات، وهو الشيطان، والذي ساعد في رؤية السارد له في النهاية، بأن ما يفعله "فرح"، مقارنة بما تفعله السلطة الحاكمة في البشر، شيئا جميلا {ثم ماذا فعل فرح المسكين حتي يفكر في قتله حقيقة. إنه كائن جميل يتولي عنه الانتقام من المدينة، ويضحك دائما أمامه في أوقات عجزه وأوقات انتصاره أيضا}ص183.

وتبلغ السخرية قمتها، عندما ينشغل السارد ولا يريد أن ينام مع "وداد". فيدعوها راشد لأن تنام مع فرح، وبعد أن استمتعا وتغيرت أساريرهما ، تغير صوت وداد، واصبح يشبه صوت راشد {ثم بدا أنها اندهشت بشدة. لقد أدركت أن نغمات صوتها قد تغيرت حقا. لكنها بسرعة ضحكت وصفقت وراحت ترقص في الصالة..... لقد تغيرصوتي بعد أن نام فرح معي. صار صوتك. أليس كذلك؟ .. إذا فرح نام معك قبلي ونقل إليك هذا الصوت من قبل... لا تغضب مني. انا أيضا شاذة أنت تعرف. وإذا احببت أن تنام معي الآن فلن أتضايق }ص181. وكأن كل الأمور ، في كل الاتجاهات، قد تآمرت عليه لتوصيله للجنون، حتي انه شك للحظة، حيث حادث نفسه، بان سالم سليمان لم يكن مثليا، وكذلك أنا لم أكن شاذا!!. وهو ما يقودنا إلي رؤية التداخل في الأسماء العبثية. فقد بلغ الكاتب ذروة لعبته الفانتازية، مع قارئه، عندما تداخلت الأسماء، الموحية والساخرة، لتنضاف إلي الانشقاق الظاهر في الشخصية المحورية (راشد سليمان أو سالم رشاد) واللذين ليسا إلا شخصا واحدا، بل يشير الكاتب إلي أن هذا الشخص ليس إثنان فقط وإنما هم أكثر من ذلك { الأسماء العجيبة التي يحملونها.سالم سليمان الذي لم يظهر حقيقة حتي الآن ويبدو أنه مات أو قُتل، راشد رشاد الذي يكاد يفقد عقله، أسعد سعيد المريض شديد التعاسة. إن أي مؤلف لا يحب الوصول إليها بهذا المعني، لقد جاءت صدفة، ومن يعرفها يتصور أن لها دلالة ومعني.. لقد صارت لها دللالة حين التقي كل منهم بالآخر. فلا يعرف أحد أن سالم لم يعد سالما غير راشد، ولا يعرف تعاسة أسعد إلا راشد أيضا، وراشد نفسه يبدو فاقد العقل، فهو الذي استولت غصن علي أمواله ودخل السجن ثم غادر البلاد وانقطعت أخباره.. ثم إن الجميع ينادونه بسالم. راشد إذا غير موجود، وفي كل الأحوال فهذه الأسماء تتآمر علي أصحابها}ص156، وكأن الرشد قد عاب، وكأننا أمام شخص واحد تآمرت عليه أحوال البلد فتشقق، وانشطر إلي شظايا، ليزيد الإحساس بأن ما يحدث في البلاد ، فوق طاقة التصور البشري، حتي أنه لا يعرف إن كان رجلا أم إمرأة (الصوت النسائي، وإشارة "وداد" له بعد أن تحول صوتها ليشبه صوته، بعد واقعة نومها مع فرح). ولا يعرف إن كان حيا أو ميتا، قاتلا أو مقتولا ( حيث يشير إلي أنه عندما التقي سالم في الصحراء قد قتله. وكذلك تفكيره في قتل "فرح").

ويخرج راشد أو سالم عاريا من "برج العذار" ليس البار، ولكن الرواية، ليعلن للقارئ، أن أحدهما يكتب رواية حياته، حياة وطن، تصاعدت المشاهد فيه حتي تصيب أي إنسان بالجنون.

{إنه لا يعرف من الذي يكتب قصته الآن، ولا من يكتب قصة هذه المدينة. لقد رأيتك مع سالم سليمان كما قلت لك أيها الكاتب. رايت كيف عاشرتما فتاة واحدة في وقت واحد من الناحيتين. إنني أمشي بين الضوء الباهر رغما عنك، والهواء المنعش القادم من النهر رغما عنك، مسكين لم يكن يعرف أنه يمشي داخل كتاب وأنه قطع كثيرا من صفحاته. ربما لو أدرك أن النهاية اقتربت انتحر، ربما سافر. لكنه في كل الأحوال لن يفلت من يدي، المؤلفون الخبثاء يستطيعون ملاحقة الناس حتي وهم خارج الأوطان! راشد رشاد أو سالم سليمان، لا فرق. كليهما يصيب أي مؤلف بالجنون!}ص169. حيث يتبين أن سالم سليمان ليس إلا شخصية في رواية، وأن قتل رشاد له كان قتل لشخصية رواية يتحكم هو في مصيرها. ليُحكم الكاتب حبكته الروائية، التي تؤكد القدرة علي التلاعب بقارئه، وقلقت مضجعه، ليخرج عن الاستنامة، وينظر ماذا هو فاعل أمام كل تلك المآسي التي يعيشها.

وإذا كان إبراهيم عبد المجيد، قد اتخذ لكل حديث شكله الموائم، فخرج عن السرد المتتابع في أعماله الكبيرة السابقة، مثل"لا أحد ينام في الأسكندرية" أو " طيور العنبر" فإن المحيط الاجتماعي والسياسي، هو ما ساعده علي إخراج "برج العذراء" علي هذه الصورة الساخرة، والعبثية، ليعلن أن الكاتب ابن مجتمعه، يسايره ويعيشه، فيأخذ منه ليقدم إليه، لا أن يتوقف به الزمن عند شكل محدد، يتجمد بداخله، مثلما رأينا مع رائد الرواية العربية "نجيب محفوظ" الذي سايرت فيه رواياته شكل المجتمع طوال ما يزيد عن الخمسين عاما. وليصدر – الكاتب – بعدها تحذيره وإنذاره في السايكولوب" - التي أتت بعد "برج العذراء" - علي لسان الرجل الضيئ "البهي" {ورأيت الرجل المضىء يعود بنسائه إلى المقبرة بعدما رأى أنّ الحياة في مصر مرّة أخرى لا تستحقّ الحياة! وطلب منّى أن أوصيكم بالانتباه إلى كثيرين سيعودون من المقابر ولا أحد يعرف كم عددهم ولا كم سيستمرّون بينكم، أتوقّع كثيرًا من الجرائم لن يصل أحد إلى مرتكبيها. ألا هل بلّغت؟ اللهمّ فاشهد».}.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[i] - كاتب هذه السطور – بواكير الرواية في القرن الجديد – مركز الحضارة العربية – 2008، والتي اقتصرت في نماذحها علي الروايات الأولي لأصحابها خلال القرن الجديد.

[ii] - إبراهيم عبد المجيد – برج العذراء -دار الربيع العربي وبيت الياسمين – ط 2 يناير 2015.

[iii] - قصة ثوب الملك العاري – للكاتب الدنماركي "كريستيان أندرسون"

[iv] - إبراهيم عبد المجيد – في الصيف السابع والستين – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ط2 1989.