النصوص الإبداعية الأصيلة، والنصوص التي كتبت تحت الطلب، مالم يتم نشرها، وهل هناك وسيلة لدى الكاتب الذي لا تنشر أعماله، أو تنشر ولا يتم تداولها، ليعرف معايير نجاح عمله وتقبله لدى الجمهور؟

الكتابة تحت الطلب

هل هي ضد المؤلف أم في صالحه؟

لمى طيارة

 

منذ بضعة أعوام، شاركت في مسابقة لتأليف النص المسرحي، عن نص سبق وان تداولته مع عشرات النقاد العرب، ونالا استحسانا منهم، لكن للأسف هذا النص لم يحظى بأية جائزة ولا حتى ترتيب يذكر ضمن النصوص العشرة الأفضل التي وصلت للمسابقة، كان بإمكاني حينها ان أرمي أقلامي وان استسلم لفكرة انني لا أجيد الكتابة ولا أعرف ادواتها، الا ان مسابقة أخرى أتاحت لي الجائزة الأولى عن نفس النص ولدى لجنة تحكيم أقل ما يقال عنها انها احترافية واكاديمية.

هذه المقدمة ليست بداعي الخوض بمسالة تخصني، لأنني في النهاية مجرد كاتبة هاوية، أكتب حين يكون القلم منبرا لي لأعبر عما يجول في قلبي ووجداني من احاسيس ومشاعر قد لا تستطيع أية من أدواتي الأخرى التعبير عنه ولا أكتب بهدف المشاركة في مسابقة.

بعد سنوات اكتشفت ان الكتابة، خاصة بالنسبة لمسابقات النصوص المسرحية، تأتي غالبا حسب الطلب، وليس حسب الابداع حتى لو جاءت في أغلب الأحيان نتاجاتها إبداعية، لأنها على الأقل تشترط على المشارك ان يأتيها بنصوص كتبت بلغة عربية فصحى ولم يسبق طباعتها أو نشرها؟ فهل هي كتابه مخصصة للمشاركة في مسابقه؟ ومن هو الكاتب الحقيقي الذي لا يسعى لنشر اعماله سواء كجنس أدبي أو كنص ركحي حال جهوزيتها، ويجعل هدفه او همه من الكتابة مقتصرا على المشاركة في مسابقة للتأليف تكون نهايتها جائزة مالية كبيرة او اصدار لمسرحيته، لترمى لاحقا في الادراج دون ان يقرأها أو يراها الجمهور الذي كتبت عنه و له، وانا هنا لا أوجه لوما على الشروط التي تفرضها مسابقات التأليف والتي ربما تكون لصالح الكتابة وليس ضدها، ولكنني اتيت على ذكرها كشرط لا يمكن للكاتب تجاوزه مما يجعلها الى حد كبير كتابة تحت الطلب، بالإضافة لملاحظة هامه ان بعضا من محكمي تلك المسابقات يجمعون ما بين مهنتهم كمنظمين وبين دورهم كلجنة قراءة.

يتساءل الكاتب والمخرج المسرحي بوسلهام الضعيف في كتابه (راس الحانوت) وهو كتاب ضم مجموعه مسرحيات كتبها بالمغربية الدارجة ونشرت ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة في المغرب، لماذا نكتب أصلا؟ هل للتعبير عن أشياء تشغلنا؟ هل لنقول شيئاً للناس؟ أم لاسترجاع توازننا النفسي، ويأتي رده على تلك التساؤلات من منطلق شخصي، فهو يكتب ضدا عن الموت، من أجل الحياة ورغم ان الموت يغرينا لكننا نظل نحترس منه، ونكتشف ان الحياة شاسعه وتستحق ان تعاش، ولم يقل انه كتب او يكتب ليشارك مثلا في مسابقة للتأليف، او بطلب من مخرج او منتج.

بعد كل ما سبق يبدو واحدا من محاور الملتقى الفكري الذي اقامته أيام الشارقة المسرحية في دورتها الثلاثين حول "الابداع والصنعة، الكتابة المسرحية تحت الطلب"، هاما جدا وربما كان بإمكانه الجواب على السؤال الذي حير الكثيرين، هل الكتابة المسرحية إبداعية حقا أم انها كتابة تحت الطلب؟

بطبيعة الحال لا يمكننا الانكار ان الكتابة المسرحية كجنس ادبي يجب ان تكون خلاّقة وإبداعية، على اعتبارها مساحة خاصة للكاتب دون أي ضغط او وعظ ليعبر فيها عن قضية ما تشغلها او تهمه، لكنها في الوقت عينه قد تكون تحت الطلب وابداعية في حال اتفق القائمين على أسسها، فكم من عمل سينمائي او تلفزيوني او حتى مسرحي تم بناؤه تفصيليا ليناسب احداث ما وليتناسب مع ممثل ما، ورغم ذلك نجح نجاحا مبهرا بين صفوف النخبة قبل الجماهير، فكيف لي ان لا اعتبره ابداعيا.

من هذه النقطة تحديدا أختلف مع المداخلة التي قدمتها الكاتبة المسرحية تغريد الداود وهي كاتبة كويتية سبق وان نالت عدة جوائز في التأليف المسرحي، لم يظهر أي منها على خشبة المسرح، واعتقد ان ذلك سببه عدم المرونه من قبلها ككاتبه تعتبر النص الادبي المسرحي مقدس، ولا يمكن العمل على تعديله، ورغم ان مناظرتها قد تميزت بالبعد عن الكلام التنظري او التأريخي للكتابة المسرحية، الا انها في الحديث عن تجربتها الشخصية مع المنتجين والمخرجين وخاصة الذين يطلبون منها كتابة أو تفصيل عمل، اعتبرت ذلك أمراً محزنا وذا شجون، لانه يحول الكاتب الى مجرد آلة كاتبة؟؟، مشيرة إلى الفرق الشاسع ما بين النظرية والتطبيق، كما عبرت عن خوفها من سيطرة هذه الآلية الإنتاجية على جيل الشباب، فتكون الكتابة حسب الطلب ظاهرة، وأوضحت أن صناعة نجوم المسرح في الكويت، ساهمت في خلق هذا النمط بشكل كبير، خاصة أن المنتجين يصّرون على وجود هؤلاء النجوم لضمان شباك التذاكر، رغم ان بعضا منهم لا يعملون في الفن واكتسبوا شهرتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي يصبح الكاتب مطالباً بتفصيل الدور على مقاس النجم.

أما المسرحي الأردني هزاع البراري فلقد قدم ورقته من منطلق تاريخي حول الكتابة وأهمية الكاتب، “ورأى ان الكاتب صاحب السلطة الأولى والنهائية، وتأتي أهميته على اعتباره حافظاً للتاريخ والحضارة، ومدون للمعرفة، لدرجة أصبح فيها ذو حظوة كبيرة في المجتمع وصنف من فئة النبلاء، ومن هذا المنطلق يستغرب كيف يمكن ان يطلب المخرج من الكاتب نصوصاً تفصيلية، فهذا الامر ليس ابداعيا“، ولكن كلام الأستاذ هزاع بات اليوم ومع تطور التكنولوجيا وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي غير صحيح وخاصة بالنسبة لجيل كامل من الشباب لا يقرؤن الادب ولا يعرفون من هم كتابه.

اما الدكتور كمال خلاوي من المغرب فكان الوحيد الذي لم يتفق مع منصته بقدر اتفاقه مع جمهورها، حين أكد أن فكرة الكتابة تحت الطلب لا تزعجه كموضوع، ولكنه يخاف ان يتحول الكاتب معها من مقاوم الى مقاتل، وأتى على ذكر ادواردو غاليانو الروائي والكاتب الاوروغواني، وقال متى تحول الى كاتب، بطبيعة الحال لم يكن الأمر قرارا منه، لكنه جاء بعد ان تم تكليفه بتصوير البحر لمن لم ولن يراه في حياته، وعندما قبل ان يستضيف الجميع الى شرفته ليروه، وعندما أيقن ان الكتابة تنفع لأمور كثيرة، حبن ذلك فقط كان قراره بأن يصبح كاتباً قرارا نافعا وممتعاَ.

وهو يرى ان مسأله الكتابة تتعلق بسؤالين اساسين لماذا نكتب وماذا سأكتب، مؤكدا على ان السؤال الأول وعلى اهميته لا يؤدي مباشرة وتلقائيا الى جريان الحروف والنصوص على الأوراق او على شاشات الحواسب، وان السؤال الأهم يبقى حول ماذا اكتب وما عساها تكون الكتابة غير التفكير في الحياة المشتركة.

ويختتم كلامه بأن مهمة الكتابة تكمن في ترويض الحيرة ما بين الرغبة في تحقيق السعادة واستحالة تحقيق هذه الرغبة في زمن السيولة المعممة، وعلينا ان نعرف ان هناك فرقا جوهريا ما بين الكاتب والكتابة، فاذا كان أساس الحاجة الى الكتابة في زمننا الراهن هو ترميم الحياة المشتركة وتحقيق أفضل العوالم الممكنة، فإن هذا الهدف لا يخص الكاتب لوحده وانما يشترك فيه جميع المحيطين بالكاتب أو الذين يعيشون معه، وهذا ما يؤكد لنا ان كمال خلاوي يرى في مسألة الكتابة تحت الطلب هي كتابة مفيدة ومثمرة.

في النهاية لا بد لنا من الإقرار انه هناك فرق كبير ما بين النص المسرحي كجنس أدبي ينتهي دور الكاتب فيه مع انتهاء كتابته، وبين النص الركحي الذي يقوم المخرج بتعديله واللعب عليه ليناسب عرضه المسرحي المتخيل، واذا كان الإقرار بالاختلاف ما بين النص المسرحي كجنس أدبي والنص الركحي كعرض قدي يكون في مرات كثيرة مجحفا وظالما وربما مشوها لعمل الكاتب، فإن الكتابة حسب الطلب ستكون هي الحل الأمثل لجمع عقليتين او أكثر (المخرج والكاتب والمنتج) لتقديم عمل متناغم تقبل به كل الأطراف.

بالنهاية يبقى السؤال الأهم، كيف لنا كقراء او مشاهدين ان نميز بين النصوص الإبداعية الاصيلة والنصوص التي كتبت تحت الطلب وبشكل شبه تفصيلي مالم يتم نشرها، وهل هناك وسيلة لدى الكاتب الذي لا تنشر اعماله أو تنشر ولا يتم تداولها ليعرف معايير نجاح عمله وتقبله لدى الجمهور؟

(نقلاً عن دورية مسرحنا، العدد 656، القاهرة 23 مارس 2020)