يتناول الكاتب ثلاث مقاربات علّقت على ما يحدث اليوم واستشكلت واقعيّته. الأولى للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبان وما طرحه من توتّر بين دولة القانون ودولة الاستثناء. والثانية للسلوفيني جييجك واستباقه لما على البشرية الاضطلاع به ما بعد الأزمة. والخاتمة مع أدغار موران ودعوته للتفكير في الحجر كمقدمة لمراجعة نمط عيشنا السّابق.

الفلاسفة واستراتيجيات مواجهة الوباء

ماهـر حنيـن

 

كشفت جائحة الكورونا العالمية عمق القلق الإنساني الذي يجتاح قارات المعمورة الخمس وإن بدرجات متفاوتة. قلق من العدوى ومن احتمال الموت المهدّد للآلاف خاصّة من المسنّين وضعيفي المناعة من المصابين بأمراض مزمنة ومن الفئات الهشّة والمعدمة.

كلّ المناخ العالمي المسكون بهاجس الكورونا رفع الى مقدمة الاهتمام سلطة الطّبّ وعلوم الحياة لتجعلهما الإطار المرجعي اليوم للقرار السياسي والأنا الأعلي للقرار الاقتصادي والمالي محليا وعالميا، مسؤولية «الحكيم» بالمعنى الذي يعطيه لسان العرب للطبيب لسياسة المدينة تتفوّق زمن هذه المحنة على الفقيه والاقتصادي وحتى السياسي بل مملية عليهم مدوّنة سلوكهم الجديدة أمر لافت للانتباه ويفتح نافذة أمل.

لا نبالغ إن قلنا أن غليان الفضاء العام العالمي المرافق لسيلان الوباء بنفس نسق سيلان حركة البشر عبر الحدود لدوافع شتي يحمل في أحشائه ملامح عالم جديد. أزمة عالمنا المعاصر والآني ومقدّمات عالمنا القادم الممكن موضوع ورشة فلسفيّة مفتوحة انخرط فيها عديد الفلاسفة المعاصرين للحدث بكلّ محامله. ما نقترحه في هذه السلسلة من المقالات هو عرض لثلاث مقاربات علّقت على ما يحدث واستشكلت واقعيّته. الأولى ستكون للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبان وما طرحه من توتّر بين دولة القانون ودولة الاستثناء. المقال الثاني للسلوفيني جييجك واستباقه لما على البشرية الاضطلاع به ما بعد الأزمة. خاتمة السلسلة ستكون مع أدغار موران ودعوته للتفكير في الحجر كمقدمة لمراجعة نمط عيشنا السّابق. اهتمامنا بمثل هذه المقاربات وغيرها داخل الحقل الفكري الغربي وخارجه يعكس مدى حاجتنا لجعل الحقل الفكري والسياسي التونسي جادّا في التعاطي مع هذا المنعطف.

جورجيو أغمبان: دولة الاستثناء ودولة القانون

كشفت أزمة الكورنا في كلّ دول العالم ومجتمعاته عن هشاشة المنوال السائد للحوكمة وإدارة الاقتصاد وقابلية القطاع الصّحي للتصدي العاجل لتداعيات انتشار الوباء وتهديده لآلاف الأرواح البشرية لتتبين ثلاث إستراتجيات كبرى الأولي اتبعتها السلطات الصينية في محافظة يوهان وفي كامل إقليم هوباي بعد تجاهل صيحة الفزع الأولى للاطار الطبي وهي الحجر التام للجولان لوأد العدوى باستخدام القوات العسكرية والأمنية وأعوان الدّولة وتكنلوجيا الاتصال للمراقبة والتّقفي لفرض تضييق مساحة الحركة والاحتكاك بين الاجسام وتطبيق إجراء ما صار يعرف «بالمسافة الاجتماعية». هو سلوك عرّض الدّولة–الحزب للنقد فالصين دولة غير ديمقراطية لا تعددية حزبية فيها ولا مجال للحديث عن حرية الرأي والتعبير، يحكمها حزب شيوعي يدير اقتصاد رأسمالي منخرط بقوة في افتصاد العالم فهي بذلك غير ملزمة بقوانين الحريات الفردية والقرار هو قرار الحكم المركزي دون سواه

مثل هذا التمشي ليس متاحا على الأقل نظريا للديمقراطيات الغربية والليبرالية العريقة المستبطنة لقيم حقوق الانسان وحريّة الأفراد منذ قطعها مع الفاشية. وبغضّ النظر عن مشروعية مساءلة الاستراتيجية الصينية غدا، فهي اليوم تسجّل تفوقها على الآخرين منذ تحوّلت الى ملاذ للجميع أو تكاد. التمشي الثاني كان شبه انتحاري وتبناه الرّئيس الأمريكي ترامب ورئيس الحكومة البريطانية والقائم على المراهنة على توقّف انتشار الفيروس طبيعيا بعد ان يصيب جزء من الساكنة المحلية ويجعلها تستعيد توازنها ومناعتها تلقائيا وهو سرعان ما تراجعا عنه للإقرار بخطورة الوضع والتوجّه نحو إجراءات حظر جزئية وتدريجية للتحكم في مساحة انتشار الوباء و الحدّ من أعداد المرضي والوفيّات.

الخيار الثالث سلكته دول الاتحاد الأوروبي وخاصة إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وهو مسايرة تقدم الفيروس دون وعي حاد بالمخاطر ممّا حوّل هذه البلدان الثلاث الى بؤر موبوءة وخطيرة على متساكنيها وعلى كامل إقليم المتوّسط وليس إقرار القادة الأوروبين منفردين ورئيسة المفوضية الأوروبية بفشل خطّتهم الاّ مدخلا للبحث داخل حدود شانغن وخارجها عن الجدوى السياسية والاجتماعية لهكذا اتحاد.

ما عبّر عنه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغمبان من تحفّظ إزاء التمشي الإيطالي استند الى رفضه القبول «بالذريعة الوبائية» وفق تقديره لتبرير مقبولية حكم «دولة الاستثناء» للحلول محلّ دولة القانون، وتفترض أطروحته المتّكئة على رأي علمي متسرّع أن المرض الذي يسببه كوفيد 19 ليس خطيرًا فهو «أكثر بقليل من إنفلونزا طبيعية» وبالتالي، فإن الإجراءات التي تتخذها الحكومة ستكون «غير متناسبة». بل في العمق نتاج نية محددة متسترّة، هي زيادة السيطرة السياسية على السكان «بحجة». كما كان الحال في الماضي، استخدام الحماية الصحية لفرض قيود على الحرية وأشكال العسكرة، لحمل المواطنين على استبطان القيود المنتشرة بشكل متزايد على الحرية.

الاستثناء القانوني الذي تتسلّح به الدّولة لفرض سيادتها وتركيزها وفقًا للإحداثيات التي تفترض مسبقًا إجراءً خارقا للعادة أو ضد القانون العادي، الحاجة الأمنية تتخفي وراء الحاجة الطبية لتأسّس قانون تعسفي وتحّوله الى «قاعدة»، في نظر الفيلسوف الإيطالي تتخلل الحياة حالات الطوارئ (الأوبئة والإرهاب والزلازل) التي تبرر الاستخدام المستمر للتدابير القهرية، فكما وظّفت الحرب على الإرهاب إيديولوجيا وسياسيا يوظّف اليوم الوباء.

هذه الأطروحة التي تتهم الحكومات بالتذّرع بالعدوي للتّحول الي حكومات تسلطية أثارت جدلا داخل الحقل الفلسفي وخارجه. جان لوك نانسي المفكر الفرنسي أجاب أغمبان ليؤكد على حقيقيتن. الأولى كليّة وهي موضوع اتفاق معه: إن حضارة بأكملها متورطة، ولا شك في ذلك. هناك نوع من الاستثناء الفيروسي -البيولوجي، والثقافي والسلوكي في نمط عيشنا واستهلاكنا- يعيقنا. بل يكاد يقطع أنفاسنا والحكومات هم مجرد أدوات في يد سلطة الشركات الكبرى و المنظمات المالية والحقيقة الثانية آنية وهي أن هذه الحكومات اليوم منفذة حزينة لسياسة أمنية لا مفرّ منها، مما يجعل مهاجمتها من زاوية التشكيك في مقاصدها بلا جدوى سياسية آنية.

تنبيه نانسي صديقه أغمبان من عدمية العناد فلسفيا مفيد من أجل فهم نقدي جماعي لما يحدث. هناك فرق كبير بين أن ننظر الى سلطة الدّولة التّحكمية التي تحرّكها دوافع أمنية أو اقتصادية أو وعقائدية لتشديد المراقبة والمعاقبة، وأن ننظر الى هذا النموذج اليوم المستند الى مرجعية علمية بوصلتها هيئات طبية عالمية خيمتها الجامعة المنظمة العالمية للصّحة تتصدى للمرض وتعمل للوصول الى علاج والى لقاح. سرّ هذا الفرق هو قدرة الطب والبحث العلمي علي فك الارتباط –ولو مؤقتا– مع لعبة السلطة الكبرى المالية والعنصرية والسياسية التي وضفته سابقا ليتورّط في شباكها. في هذا المنعطف يبرز الطبيب « كنبيّ الإنسانية» الأرضي المشترك. مدافعا عن حق الحياة بعد أن تجاهلت دوائر القوة اللاّمسؤولة نداءات الأيكولوجيين وهي تدق نواقيس الخطر منذ عقود. الحياة فوق الأرض واحدة وحتى للكائنات المتناهية في الصّغر فيها عظيم الأثر.

ذاكرة الأخلاق الطبية العائدة الى أبقراط والمبجّلة لقواعد السّخاء والتّعاطف وروح التّضحية والمجانية هي المغذّية اليوم لأداء الأطباء والإطارات الطبية والصّورة الأبلغ على ذلك هي وعي الأطباء وفرقهم المساعدة أنهم معرضّون للعدوي ويستمرون في الأداء . وهم يعدّون أبطالا قوميين في نظر مجتمعاتهم كلّ يحييهم بطريقته الخاّصة.

ما تتبعه الدّول اضطرارا الآن لا يعدّ انحرافا تسلطيا جوهريا في طبيعة الدّولة للتخلي عن ماهيتها كدولة حق وهو ليس حلاّ دبّر بليل من قبل حكّام فرديّين، هم الآن على عكس كلّ ذلك بصدد ملاءمة السياسي وجعله يقدّس الحياة الإنسانية أولا. السّياق الاستثنائي يجعل القانون المدني يقوم على الحقيقة (العلمية لا الدينية) لا على المؤسسات الدّستورية الممثّلة في كلّ مجتمع ديمقراطي للتّعديدية التي تخترقه وهذا موضوع محيّر فعلا وغير قابل للتجاوز لماما.

في الأخير تبقي المشكلة الأصلية قائمة والتي من حق أغمبان إثارتها في كلّ حين قبل أزمة الكورونا وبعدها وهي معنى هذه الحياة التي على الدّولة أخذها بعين الاعتبار وضمانها هل هي «الحياة العارية» أي البيولوجية فقط أم الحياة الأكثر غنى؟ فهو على حق حين يستحثنا من أجل فهم حقيقي لأنفسنا نتشبّث عبره بما في الحياة من قدر كبير من تعدد للمعاني وهو التعدد الذي تحاربه الشموليات الدينية والكليانيّة والاقتصادية النيوليبرالية

* * *

(1) Giorgio Agamben, le 17 mars 2020 https://itself.blog/author/akotsko

https://mars-infos.org/agamben-le-coronavirus-et-l-etat-d’exeption 6mars 2020

(2) Jean-Luc Nancy, le 27 février 2020

https://antinomie.