يكتب الناقد المصري أن الرواية تتشكل من مجموعة من الحلقات، المختلفة الأحجام، والألوان. تدعو القارئ أن يجمع كل حلقة مع ما يشبهها في سلسة، ومن مجموع السلاسل يتكون مشهد تشكيلي عام، يشهد على حقبة من التاريخ، كانت البذرة التي آلت إليها أخري، برؤى إبداعية توحي قبل أن تُصرح.

الشمندر: يهرب بالفن .. خارج حديقة القاضين

شوقي عبدالحميد يحيى

لا شك أن ما سُمي بالربيع العربي، قد شهد العديد من التحولات المؤثرة، في حياة البلاد، والعباد، حتى تحول لكابوس جاثم على الصدور. الأمر الذي جعل الرواية، بصفتها الحاملة لنبض الشعوب، واللافظة لذلك التاريخ المصطنع الذي تحشو به السلطات أدمغة التلاميذ في المدارس. رأت الرواية أن ما يدور على الأرض، ليس بمنبت الصلة عما فات، فراحت تبحث عما كان، وكأنها تبحث عن جذور العِلة، علها تصل لأصل الداء. فخرجت العديد من الروايات، في الفترة الأخيرة، تحمل صفة صياغة التاريخ، لتأتي رواية "الشمندر"، ذلك الفنان التشكيلي (المُتخيل)، السريالي الهوية، الواقعي النشأة والمَنبْت والمصب، في ثالث أعمال الروائي المبدع "خالد الخميسي" "الشمندر" [i] لتعيد للأذهان حالة المشهد الروائي في أواخر نهايات القرن العشرين، وبدايات القرن الواحد والعشرين، حيث نزعت الرواية بعدما يئست من المواجهة على الأرض، فنزعت للمواجهة بالإبداع.

إلا أن المواجهة حينها، نزعت للخشن من اللغة، واللجوء للجنس والمخدرات، كتَحدٍ، وتكسير للتابوهات المحرمة. إلا أن كسر المحرمات في "الشمندر" جاء ناعما، فنيا، ينزع للجمال، ويهدف للخير، ويسأل العدل. فكانت مجموعة من اللوحات التشكيلية، المتشكلة في شكل حلقات متداخلة، لتُشكل في النهاية لوحة المشهد الآني، وفي خلفيتها، مشهد الماضي، البعيد منه، والقريب، لتشكل مسيرة حياة ذلك الفنان، بمراحلها المختلفة. في مقدمة اللوحة، وفي خلفيتها، مسيرة حياة وطن، تبدأ في العام 1958 وحتى العام 2018. أي منذ أن بدأت ثمار حركة الجيش (المباركة) في 1952 إلى ان بدأت ثمار الثورة المغدورة في 2011 تتضح معالمها، ويستقر زلزالها، وتتكشف. ولأننا أمام لوحات تشكيلية، تعتمد على الرؤيا، حتى لو كان الرسم بالكلمات وليس بالألوان، فإن عرض اللوحة بذاتها، أقرب للحالة، وأوقع للمعايشة دون التدخل --قدر الإمكان-.

تتشكل الرواية من مجموعة من الحلقات، مختلفة الأحجام والألوان. متناثرة على مساحة تقترب من الأربعمائة صفحة. تدعو القارئ أن يجمع كل حلقة مع ما يشبهها، أو يكملها معا، يشبك كل مجموعة في سلسلة، ومن مجموع السلاسل، يتكون مشهد تشكيلي عام، يشهد على حقبة من التاريخ، كانت البذرة التي آلت إليها أخرى، برؤى إبداعية، تبدو علي عكس البادي منها، بعيدة تماما عن كل ما هو نمطي، توحي، قبل أن تُصرح، وتحمل المتعة رفيق سفر عبر رحلة الزمان، والمكان.

تبدأ رحلة "شهاب الشمندر" بالتحول المؤثر في فترة ما بعد 1952 والتي كانت بداية التحول الاقتصادي في مصر، يرويها كخلفية للوحة "وجوه البطالحة المتطلعة للسأم الأعلى" وانطلاقا من روح الرواية، وما سرى فيها من روح السخرية، يمكن رؤية عنوان اللوحة من نجيب الريحاني في فيلم "سي عمر"، عندما قام بدور جابر شهاب الدين، الكاتب الغلبان في عزبة "البطالحة"، والتي تسري حتى في هذا العنوان نفسه: "المتطلعة للسأم الأعلى". حيث التطلع للأعلى دائما ما يكون بحثا عن السكينة، أو تحقيق الآمال. ولنرى ما يتضح من المقتطف:

{وباندلاع الحرب وجد جدي أن الإنتاج الصناعي سوف يكون أكثر ربحية من العملية الزراعية بسبب انقطاع طرق التجارة البرية والبحرية، الأمر الذي سوف يخفض من القدرة على استيراد البضائع. باع نسبة كبيرة من أرضه واستثمر في بناء مصنع للغزل والنسيج وضع فيه كل ما تعلمه في مجال الاقتصاد. حقق أرباحا كبيرة، ولكن مع تغيير النظام السياسي توقف نهر العسل عن التدفق وفشل جدي في التوافق مع الإدارة السياسية، وفي وسط هذه الطاحونة كره أبي النظام القائم بكل جوارحه وأعلن أنه لا يريد الحياة في هذا البلد واستأذن والده في الرحيل، وتزوج أمي قبل تأميم القناة بشهر واحد ورحلا معا إلى تونس. ثم تصدر بعدها قرارات التأميم ومنافسة شركات الغزل والنسيج العملاقة المملوكة للدولة والتي أغرقت الأسواق بأسعار غير رأسمالية، ليموت جدي بالسكتة القلبية، وينهار المعبد فوق رؤوس من قاموا ببنائه} ص80.

لا يترك الفنان موقفا إلا ويبحث عن جوهره ليرسمه. فحين تم القبض عليه، وبعض من أصدقائه التاريخيين (اليونانيين). كانوا في طريقهم بعد جولة سباحة أرهقتهم كثيرا، ففكروا في الاستمتاع بالجيلاتي بالقشدة، استمرارا لحالة المرح التي سادت بينهم، وكانت البنات، أفروديت، وإيليني والجميلة، ومعهم أنجلو، أبناء عائلة فيروبولس" يرتدين المايوهات فوقها شورت، فيأتي من يحطم روعة اللحظة، ويبعث السأم، بديلا للأمل:

اصطحبهم الضابط إلي قسم الشرطة، الفقير من أي لمسة جمال، تُرك السارد في القسم فكان تفكيره –كما العادة – تحويل كل مشهد، أو موقف إلى لوحة فنية. فكانت لوحته: "الجدار العظمي لقسم اللبان والسباحة مع دنيز". وبعد وصف بؤس منظر جدران القسم:

{كسر أنجلو حاجز السكوت وبدأ الحديث:

-هل تعرفون من قائل عبارة "الحرية هي الجريمة التي تحتوي على الجرائم كافة؟"

ردت الجميلة: أظنه هيجل. وأجبت أنا: بل الماركيز دو ساد} ص58. ويجيب أنجلو: {استعملت العبارة بالتأكيد في ثورة 68 في فرنسا..... الحرية هي الجريمة الحقيقية التي تسعي الشرطة إلى خنقها، العدالة في أذهان السياسيين ورجال الأمن لا تتحقق إلا بأدوات القمع والإذلال، والشرطة بوصفها أداة قمع هي أداة تطبيق العدالة، إذن القمع والإذلال والإهانة هي الوجه الآخر للعدالة. أو فلأقل هي وجهها الحقيقي.. وهذا ما نعيشه الآن في هذه اللحظة التاريخية داخل القسم الذي استقبل ريا وسكينة. تجلي العدالة في أعظم صورها....... لا يمكن أن يسمح الساسة بمنح حرية كفيلة بالاستخدام العام للعقل. وبالتالي لا بد لأدوات القمع، أي رجال الشرطة، أن تكون من بيئات اجتماعية منغلقة} ص59.

وفرض النظام الجديد القيود، وتم التضييق على كل الأجانب، مما دفع الكثيرون إلي ترك البلاد على غير رغبتهم، حيث ولدت أجيال في مصر، ورغم أن الكثيرين منهم كان قد قضي في مصر (كعائلة فيروبولس) نحو ثمانين عاما. وهو ما أثر بالضرورة على الاقتصاد المصري. وهو ما كان جزءً من خلفية نفس اللوحة:

{كنت قد سافرت إلى الإسكندرية في صباح هذا اليوم لزيارة عائلة "فيروبولوس"، أصدقاءنا التاريخيين، الذين قرروا الرحيل عن مصر بعد أكثر من ثمانين عاما علي وصول الجد إلي الإسكندرية. وصل إليكسي فيروبولوس من مدينة أثينا إلى ميناء بور سعيد في الثامن من سبتمبر من عام 1899}.

{"دينيز" هي من كانت ترفض بإباء وشمم فكرة الرحيل عن الإسكندرية}.

{كان سيغضب منك لو سمعك تقول عليه إنه كان إيطاليا. كان يعتبر نفسه إسكندريا وفقط. كان يكرر أن حدود دولته وعالمه هي الإسكندرية} ص65.

ولم يقتصر الأمر على تهجير الأجانب، إذ سرعان ما صدرت قوانين التأميم والتفتيت، والتي يمكن القول بأنها أفقرت الأغنياء، ولم تُغن الفقراء. وهو ما كان خلفية اللوحة المعنونة "جسد برلنتة الشفاف في حمام سعيد السعداء". وبرلنتة هي خالة السارد، التي فُتن بها صغيرا، ومن كانت تعيش في بيت بسبع غرف، فيتحدث السارد عن خالته برلنتة:

{كما تعرف أن أمها تعاند العالم لتعيش كما عاشت طوال حياتها وسط الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة. أحزن أمها بستان كثيرا انتقالها بعد وفاة زوجها من جاردن سيتي إلى المنيرة. على الرغم من أن شقة المنيرة كانت أكثر اتساعا، وصاحبة العقار اختارتها خصيصا لأنها زوجة أحد أقطاب حزب الوفد. لكن كان مرورها في شارع القصر العيني من غربه إلي شرقه ضربة موجعة لها. مرور الشارع كان لها إشهار بهبوط في الشريحة الاجتماعية التي اعتادت الانتماء إليها} ص51.

أتصور أن الكاتب قد وضع في خلفية للوحة، ذلك التدهور الحادث ل"بستان"، والذي تمثل –برمزيته عبر طبقة اجتماعية كانت، والآن أصبحت. كما وضع ألوانا مميزة على قرار صاحبة العقار بأفضلية بستان عن غيرها {خصيصا لأنها زوجة أحد أقطاب حزب الوفد}. ليلفت النظر إلى وضع الحياة السياسية، ووجود الأحزاب، الفعلية، وتأثيرها.

ويزداد الخناق علي البشر، وتبدأ الأحكام العرفية، فيصف الفنان جزءً جديدا في اللوحة الجامعة "الجدار العظمي لقسم اللبان والسباحة مع دنيز" من منطلق أن الشرطة هي من كان لها النصيب الأكبر من أوزار ذلك العهد، وغيره:

{نظر الضابط إلي سيقان البنات الثلاث وبدأ أسئلة لا نهاية لها: أين، ومتي، ولماذا، وكيف؟ كان زمن قانون الأحكام العرفية قد بدأ في العام السابق، وسيظل معظم سنوات عمري. وبلا أدنى شك سيقان عارية بعد منتصف الليل كفيلة بتعريض نظام الأمن العام للخطر الداهم} ص61.

ثم يتعجب السارد من أن رفيقاته من الفتيات -اللاتي تم القبض عليهن لارتدائهن ملابس قصيرة- لم يرتعبن أو يخفن من كونهن مقبوضا عليهن:

{استغربت أنهن لم يبدين أي شعور بالخوف من كوننا مقبوض علينا في قسم شرطة في الثانية صباحا. محتمل أن وضعهن الاجتماعي والمالي جعلهن دائما خارج دائرة الرعب المتأصلة في أرواح الأغلبية المطلقة من المصريين} ص60.

ولا يزال الكاتب يزيد من البقع اللونية على الأحوال التي يترجمها إلى كلمات، لتبدو للقارئ، كما لو أنها جملة عابرة، وما هي بعابرة.

وكانت النتيجة الطبيعية لذلك النهج هو المحطة التالية في قطار البلاد: النكسة. يرد ذكر الخامس من يونيو (النكسة) في لوحتين. الأولي عندما ابتلع الشيخ يونس عبد الحميد، والد "ضحي" زوجة السارد، والذي يعتز بمصريته، بإصراره على أن تحدثه ابنته، ابنة الألمانية، بالمصرية.

{ظل ابوها بلا كلل يدرسها كل يوم النحو والصرف ويقرأ لها المنفلوطي، وفي أحد الأيام استيقظت من النوم ووجدت أباها يستمع إلى الراديو ويبكي بحرقة، ثم دخل حجرته وتناول مائة حبة منوم ونام إلى الأبد. كان هذا اليوم هو السابع من يونيو من عام النكسة} ص271.

أما الانكسار الثاني المصاحب لتلك الذكري الموجعة، والذي ينفتح على رؤية البلاد منها، فجاء في لوحة" تموت السادية عندما تقضي الماسوشية نحبها".

وتقول حكاية اللوحة. قتلت "جليلة" "رتيبة هانم، واستولت على مجوهراتها، وتزوجت من طبيبها د رشاد، الذي عاشر الخادمة "فريال"، تحت الوعد والوعيد. لتتفق معها "جليلة" تحت تهديد الفضيحة والقتل، أن يُكتب المولود باسمها هي، حيث كانت عاقرا. وتم لها ما أرادت وقتلت زوجها رشاد. {بعد هزيمة يونيو بأسبوع واحد، وخرجت لوحة "جليلة" مبهرة وكاملة كما خططت} ص238.

فكيف تصور الكاتب هذه اللوحة التي أسماها " تموت السادية عندما تقضي الماسوشية نحبها"؟ {مقعد ملقي بجوار شجرة هزيلة. حبات برتقال متناثرة بين الفروع، رجال في عز الفتوة والقوة والجمال يقفون حول المقعد. تجلس جليلة علي شكل الإله "ياما" إله الموت الهندوسي وهي في حالة افتتان من صبوة الشباب الذين جاءوا لإغوائها وفي يدها تمسك سوطا قبضته من الجلد الكستنائي. يحتويها ذات المقعد الذي أجلس عليه الآن لأعترف أمامكم بألوان أوراق شجرة حياتي. وعلى الأرض بجانب الشجرة تستلقي امرأة بائسة تتلقي ضربة السوط في استسلام. المرأتان مربوطتان برباط السوط. الأولي تقرع، والثانية تتلقي الغرزة} ص239.

ونستطيع قراءة اللوحة، في ظل معطيات ما قدمه الكاتب عن تلك القصة، منطلقين من الإشارة العابرة – وهي ليست بعابرة – {بعد هزيمة يونيو بأسبوع واحد}، لنري فيها صورة مصر في تلك المرحلة، حيث تطاير الكرسي وتبعثرت حبات البرتقال، بجوار شجرة هزيلة، وهي الحالة التي تكشفت بعد كشف الغطاء عن تلك الصورة – التي كانت عليها (جليلة) - والإحالة هنا مفهومة- وما كانت تشعر به من سادية، في مقابل "فريال" تلك القابعة في استسلام ومذلة، تتلقي سوط التعذيب باستمتاع. وكأننا أمام سالب وموجب لا يكتملان إلا بتواصلهما. وكم كان الكاتب موفقا في اختيار المصطلحين المستخدمين في التعبير عن اللذة الجنسية، حيث السادية تلك التي تبلغ لذتها عندما ترى من معها يتألم، وعلى الجانب الآخر تأتي "الماسوشية، وهي التي لا تبلغ لذتها إلا بشعورها بتعذيب الآخر لها، وهو ما يتماشى مع حالة القصة، وفي ذات الوقت مع تلك الحالة العامة للبلاد، التي أراد أن يصورها الكاتب، ويصور بها "الديك الرومي"، بينما الرجال {في عز الفتوة والقوة والجمال يقفون حول المقعد}، وكأنهم الباحثون حول الكرسي، انتظارا للمغانم والاستمتاع واللذة. وكم هم كثيرون.

وتأتي المرحلة اللاحقة: "حرب أكتوبر" وما جري بعدها، وما أثارته من ردود أفعال

{ثم اندلعت حرب أكتوبر وانتهت بسرعة كبيرة. انقسمت العائلة إلى فريقين. فريق يتغنى بالانتصار، وفريق يتحدث عن خيانة السادات وعمالته للولايات المتحدة. لم أهتم آنذاك بالفريقين} ص98.

ولأن ما فعله السادات من تحرير لأرض سيناء، سواء بالحرب أو بالسلام، لم يكن محل اتفاق. لجأ الكاتب لتقديم الأدلة الحية، بصورة عما اصبحت عليه أرض الفيروز، وكأنه يرد على سلفيي الرؤي السياسية، والعائشون في جاهلية عبادة الأصنام، في لوحة ناطقة، مؤكدة قدسية الأرض التي دنسها من وطئوها، ومن سلموها:

{ليلتي الأولي في شبه جزيرتنا المبهرة... الأرض التي يتجسد فيها المعني المطلق للمقدس، حيث كلم الله كليم الله، وحيث التقي سيدنا موسي بالخضر. عرفت القداسة معناها عندما طرقت أقدامها أرض الفيروز} ص143.

{ذهبت شادية إلي مسرح الزمالك وغنت "يا اللي من البحيرة ويا اللي من آخر الصعيد، يا اللي من العريش الحرة أو من بورسعيد" فعبرنا ثلاثتنا قناة السويس. كنا قد استعدنا شرم الشيخ، وتم التصريح للمصريين بالسفر إلى هناك} ص144.

حاول زوج والدته –الضابط والمعارض لاتفاقية السلام- منعه من رحلة أرض الفيروز، إلا أنه –السارد- صمم على الرحلة:

{فأعلنت له أنني غير مهتم بعالم السياسة وما يهمني هو الجمال وفقط. عندما علمت ناريمان بخطتي فتح سيناء، صرخت في وجهي صرخة مدوية: فيها أو أخفيها} ص144.

ولا أتصور الكاتب يخفي ما يسربه من إبراز لما كانت عليه سيناء، وما أصبحت عليه، من جمال، ومن السماح بالعبور، وقد كان محرما.

ويمضي قطار الزمن، وعند محطة جديدة نقف لنتأمل، ما الذي تغير، ولنتبين أن الكثير مما نعيشه ونعانيه، لازال على أرض الواقع، بل جد عليه الكثير، كانفراط عقد الاستدانة. وما يشير السارد إليه في اللوحة الساخرة المعنونة: "مقتل الأراجوز من الرجل الغوريلا وإصابة شيخ البلد من فحيح امرأة".

بعد أن أصبح من اشتراطات التعيين، إرسال طالب التعيين لسيرته الذاتية، وهو أمر جديد:

{أمر جديد في بلدنا أن يطلبوا لمن يريد التقدم لشغل وظيفة أن يرسل سيرته الذاتية وخطته في العمل.. منذ آلاف السنين والمسؤول يختار من ضمن رعاياه ما يري سيادته أنه الشخص المناسب. بالتأكيد سموه سوف يختار في النهاية من يريد. أمر عجيب. ربما جاء بند من بنود الاتفاقيات الدولية التي نضطر أحيانا للتوقيع عليها مع جهات خارجية، يفرض علينا مثل هذه الأمور} ص254.

وهنا أيضا، أتصور الفنان اختار لونا مغايرا للكلمة التي قد تمر مرور الكرام (رعاياه):

{ومع أزمة السكن واختفاء ظاهرة الإيجار وهيمنة عالم المقاولات على النظام السياسي} ص272.

وليصل بنا قطار الرحلة عبر الزمن، إلى محطته الأخيرة، في يناير 2011، وإن لم يذكرها الكاتب صراحة، ويكتفي بعرض الخلفية، في لوحته "ضباع ونعام والبحث عن الأكسجين"، والتي يتعرض فيها "محب" ابن السارد لحادث سيارة. حيث يظل الابن، دائما، هو المستقبل. وهو الشباب، الذي صدمته سيارة الربيع التي لم تتجاوز سرعتها خمسة كيلو مترات في الساعة، وتقلص حجم رئتيه، وكأنها تعبير عن غياب القدرة على التنفس، التعبير الجديد لغياب الحرية، حيث تأتي الحادثة في ثالث أيام العيد، ليتحول العيد من الفرح والبهجة إلى الحزن والخوف والقلق. يتأمل الأب (السارد) صورة محب ويتساءل:

{هل كان من الممكن أن أتخيل أنك انضممت إلى "ألتراس أهلاوي"؟ تأملتك في وسط الصورة التي أخرجتها من حافظتك: علي وجهك علامات الإصرار والتحدي، ترفع ذراعا بعلامة النصر وتُمسك باليد الأخرى أحد الشعارات الثورية المطالبة بالتغيير. لم أصدق عيني.. سألتك فأجبت ببساطة أنك تنتمي لجماعة المشجعين. لكنك يا محب لم تتابع يوما كرة القدم. جاء صوتك رقراقا كعادتك: أحتاج إلى أن أنتمي لجماعة من نفس عمري، نتشارك في الأحلام، ونُجبر من أغلق الأسبلة أن يتراجع. علينا أن نملأ الفراغ القاتل الجاثم على أرواحنا..... دون فتح مسارات للتعبير عما تجيش به صدورنا لا معني للحياة ...... أنت يا محب دون شك شاب جاد يتألم على حال البلد ويفكر بإيجابية لإيجاد مخارج للوضع الكارثي الذي نعيشه} ص338.

ويستمر الوضع على ما هو عليه {بعد عشرة أيام ودون مقدمات، عادت الرئة إلى حجمها ولكنه ما زال يبحث عن الأكسجين ولا يجده} ص344.

فقد عادت الدولة، ولم تعُد الحرية.

ويتأمل السارد وضعه في ظل الرؤية الجديدة لابنه "محب" حيث تكاد اللوحة تنطق، وكأنها عتاب الأجيال، بانت هاهنا الرؤية الكلية، حيث يضع السارد نفسه، وفلسفته، في مواجهة مع ابنه:

{لم أهتم حقيقة سوى بالفن والجمال، لم يشغلني الشأن العام كثيرا. نعم، كان انحيازي دائما للعدل والحرية، لكن لأنني لم أقرأ قط عن حكم يتصف بالعدالة ويوفر مجال حرية فقد عشت فاقدا الأمل في المأمول. هيمنة جماعات من القتلة أو المؤتمرين بأمرهم على حكم البشر كانت القاعدة في تاريخ الإنسانية كله. هل يمكن أن أكون في اللحظة التاريخية التي سوف تغير مسار السياسة؟ لا أظن. ليس أمامي إذن سوي أن أتجاهل دوائر الحكم وأنشغل بمبدعي الجمال المجهولين، هؤلاء الذين ظلوا بلا أسماء، ولم يدخلوا حديقة الخالدين المحجوزة فقط لأصدقاء القاضين} ص339.

هي، إذا، عملية هروب، من واقع غير مقبول، كتلك التي أشرنا إليها عن بعض الروايات التي ظهرت قبيل ثورة يناير[ii]، وما اطلقنا عليها "الهروب الاحتجاجي".

التقنية الروائية

نستطيع القول بأن المنهج الذي اتبعه الكاتب في رسم لوحاته، السريالية، والتي تُبني على خواطر النفس، حيث تلجأ إلى الحلم واللاشعور والتحليل النفسي الفرويدي، لاستخراج ما بالعقل الباطن، كنوع من الهروب من سطوة العقل التي أدت إلى الحروب والهدم والدمار. وهو ما يشير إليه جد "ماجدة" التي تعرف عليها السارد في مستشفى "جوستاف روسي" بباريس الذي ولد في نهاية القرن التاسع عشر:

{أنا غير راض عن الميراث الذي تركه جيلي لكم. مع التقدم السريع والمجنون ظل مشروع عبادة القوة هو الأساس. القوة في مفهومها الجسدي أو السلطوي أو المالي هي وصمة العار الأصلية في جبين كل من يفكر أو يشعر. سعيد أنا لأنني سوف أترك هذا العالم البغيض الذي يكرر ببغاواته أقذر الأفكار ذوات الروائح المرعبة على أساس إنها إنتاج أجمل الزهور} ص201.

تقول "زوفين آسيا" في أحد فصول الرواية عن السريالية إنها الحرية التي تتعارض مع النظم العسكرية، القائمة على الطاعة والالتزام الصارم:

{أكره رجال الأمن والجيش والشرطة، ورجال الأعمال والبنوك، ورجال الدين، يسيطر هؤلاء على عقول البشر، فهم يدفعون لنشر أكاذيبهم ويُنفقون ببذخ لكتابة التاريخ المقرر في المدارس والجامعات} ص327. وهو ما يفسر لنا رؤية السارد لنظام يوليو 52، الذي وضح فيما سبق.

وذات الرؤية، هو ما تؤكده "زوفين آسيا" السورية السريانية التي أتت مصر تبحث في موضوع الفن والحرية، والسريالية:

{أي فن لا يثير التساؤل والتعجب والاندهاش والصدمة في أذهان المتلقي لا يكون فنا. تدرسون اللا فن وترسمون الجمال البشع، ولكن أين طريق كل فنان للتفكير وللحب وللبغض؟.... الفنان يجب أن يكون سرياليا. أن يستطيع التعبير عن العقل الباطن ويُظهر مناطق اللاوعي بصورة غير رياضية أو منطقية. فلو كتبت أو رسمت وفقا لبناء مُحكم فأنت تقدم للأغبياء علبة شكولاتة للاستهلاك السريع} ص322 ، 323.

اتخذ شكل السرد طريقتين: الدوائر أو الحلقات المتشابكة وعملية الاستباق، فتراه يُسرب بعض الأسماء، أو بعض الملامح، التي لم نكن نعرف عنها شيئا، ليوقظ بداخلنا الشغف والبحث، وبعدها بفترة نبدأ التعرف على أصل الحكاية. مثل أن ينفتح المشهد على السارد ومعه أنجلو الذي يثير اسمه الشغف، فالاسم غريب، بل ومعه الجميلة. فمن تكون الجميلة؟ ومن يكون "أنجلو"؟ لا نتعرف على العائلة، أو المتبقي منها بعد أكثر من حلقة، أو لوحة، لنكتشف أنهم بقايا أسرة "فيروبولوس" اليونانية، التي عاشت بمصر، وتستعد للرحيل، مرغمة.

إلى جانب عملية الاسترجاع التي يلجأ إليها الروائي كثيرا، حيث يسير السرد في الزمن الآني، ودون أن نشعر نجده قد عاد بنا إلي سنوات بعيدة، مع جدته أو والده. وكأنه كلما شعر بذبول الثمرة، عاد إلي الجذر يسأله السقيا. كي يظل الآني حاضرا بالاستباق، والاسترجاع، مما يصنع الحركية الدائبة، ويُخرج القارئ من الوقوع في النمطية، أو الملل، خاصة في ظل المعلوماتية المتدفقة، والداعية للاستفاقة.

بعد أن صعد العمر بالسارد لمرحلة الإنتاج التشكيلي، علت نبرة الجنس، والآلهة. فإذا عرفنا أن الفنان، عموما، والفنان التشكيلي خصوصا، قد عُرف عنه البوهيمية، والبحث عن المطلق، وحقيقة الأمور. والنظر إلي السماء، مثلما قال كامل زهدي صديق السارد، حينما التقيا بشارع محمد محمود: {أما زالت أقدامك مغروسة في السماء؟} ص158.

فإذا ما تأملنا حياة بعض الفنانين التشكيليين في العالم، وظروف رسم بعض لوحاتهم، سنتبين أن الخميسي تشرب روحهم، واستلهم أعمالهم في صناعة شخصية سارده. فسنجد، مثلا، أن فنانا وعالِما كليوناردو دافنشي (1453 – 1519) صاحب اللوحة الشهيرة "الموناليزا"، والذي اتُهم بالمثلية الجنسية، وإن كان قد تم تبرئته لعدم كفاية الأدلة. تعتبر رسومه حول الجنين في الرحم، والقلب، والأوعية الدموية، من أهم اهتماماته. بما يشير إلي بحث الفنان عن البدايات. وعن العمق. وهو القائل: [الرسام الجيد لديه أمران أساسيان يرسمهما: الرجل وروحه. الأول رسمه سهل، ولكن الثاني صعب لأن الروح عليك أن تعبر عنها من خلال الإيماءات وحركة الأطراف].

واللوحة التي اشارت إليها الرواية، لوحة "أصل العالم" ل"غوستاف كوربيه" (1819 – 1877)، كتبت عنها الروائية كريستين أوريان روايتها "كنت أصل العالم" المنشورة عام 2000 وفي هذه الرواية منحت "جوانا هيفرمان" الموديل لهذه اللوحة، وعشيقة كوربيه صوت لتتحدث عن تجربتها بعد 136 عاما من إنتاج اللوحة.

وسلفادور دالي (1904 – 1989) اهتم كثيرا بكتابات سيجموند فرويد، وما منحه من اهتمام بالحياة الجنسية وما تمنحه للصور اللاشعورية، وتأثيرها على الحالة النفسية. تزوج دالي من الروسية "إيلينا ديماكونزفا" التي قال عنها دالي (إن كل رسام يريد أن يكون مبدعاً وينجز لوحات رائعة، عليه أولاً أن يتزوج زوجتي". ومع الوقت تحولت جالا إلى مديرة العلاقات العامة لدالي والمسؤولة عن تسويق منتجاته، وبدوره فقد كان دالي يتعلم كيفية استغلال فضائحه واستفزازاته في مشاريع تجارية مربحة).

الأمر الذي يوضح كيف نجح خالد الخميسي في تصوير شخصية "الشمندر" كفنان تشكيلي، بما وصل معه حد التصديق بوجوده الفعلي. وما يمنح كل ما يمكن أن يراه البعض (تجاوزات) الشرعية والمنطقية الواقعية، فضلا عن وقوفها عند حد الرؤى الفنية، البعيدة عن الإثارة، أو رشوة القارئ، سواء من ناحية العلاقات النسائية، أو الرؤي الدينية – خاصة ما جاء منها على لسان "صالح" العراقي اليهودي، غير المعترف بدين أو وطن – لتظل هي أيضا في نطاق الرؤى الفنية، ورسم الشخوص. وكأن السارد، باعتباره فنانا تشكيليا، يرسم بالفعل لوحات تكشف عن الأعماق، أكثر مما تكشف عن الظاهر، تطبيقا لرؤية "دافنشي" السابق الإشارة إليها. وبما يمكن معه القول بأنه حطم التابوهات العربية، باللمس (الدين والجنس والسياسة)، وحيث يظل الفن، هو القوة الناعمة، التي تُصيب، دون أن تجرح، او دون إسالة الدماء.

رسم الروائي شخصية "شهاب" الإنسان، وسط عائلة موسرة. تزوج أبوه من غير أمه، وتزوجت أمه من غير أبيه. كانت شخصية جدته هي المسيطرة على مشهد العائلة، أثرت على الجميع، بمن فيهم شهاب، فكان من المنطقي، أن يمنح الكاتب مساحة كبيرة للشخصية التي كان لها التأثير الأكبر على بطل العمل، وسط عالم النساء العابرات، فمنحها الاسم الدال عن رؤية السارد لمرحلة بأكملها: "بستان". فهي نبع الحكايات التي غذت وجدانه، وصنعت شخصيته. ويتبين ذلك في عديد الإشارات إليها، خاصة في فترة التشكل:

{ما زلت أتذكر وقفة أمي أمامك يا بستان العمر وهي ترتجف خوفا، وأنا غير مصدق أن من اعتبرها تقبض على الحكمة والشجاعة في كفها اليمني، وتملك المعارف الإنسانية في الكف الأخرى، ترتعد هكذا أمامك. احتجت إلى سنوات طويلة قبل أن أعرف أن أمي لم تكن تلك المرأة القوية، كانت عايدة ظلا باهتا من روحك المتوثبة} ص26.

{ماما رفيعة بصارة، ولكن ليست مثل كل البصارات....... أتاني صوت جدتي بستان وهي تُخبرني بحقيقة الأمور} ص19.

 

{عالم رواياتك يا بستان الدهر هو كل لوحاتي.. كل عمري} ص31.

 

كما يرسم الخميسي شخصية العرافة "ماما رفيعة" بروية من استغرقه فن الرسم، وهو ما يتطلب من القارئ تجميع الإشارات لنتعرف على شخصيتها، خارجيا وداخليا، وتأثيرها:

{ماما رفيعة صعيدية قح. رفيعة كالمسمار، صلبة كالمسمار، ورأسها كرأسه صغيرة حقا، ولكنه يدق ككل المسامير أعين من أمامه في جبروت لا يفل.......... لا، هي لم تته عن ذاكرتي، بل دفعت بها دفعا خارج الضفتين، لأعود إلى نهر الأمان. فقصتها ممنوعة من النشر، كما هي ممنوعة من الصرف. تخرج عن قانون المكتوب وتدخل في ملكوت الشفاهي} ص19.

{ماما رفيعة... جاءت إلى الدنيا في قرية "ساقلته" أو سواقي قلته. لم يكن اسم رفيعة هو اسمها يوم مولدها، بل اسم اختارته وهي في العشرين من عمرها. كان الاسم الذي اطلقته عليها والدتها وهي تلدها: "خريسيانا"، تيمنا باسم راهبة وطبيبة فرنسية وهبت حياتها لخدمة المرضي في سوهاج ونواحيها} ص20.

 

المعلوماتية

نسج الكاتب من العديد من الجنسيات التي تعرض لها "شهاب الشمندر" في حياته (مثل ثورة الفلسطينية، وتارة العراقية، وفرانشيسكا الإيطالية، ماجدة البولندية، وصفاء المغربية، ضحي الألمانية و"زوفين آسيا" السورية) شبكة من المعلومات التي تضع الرواية في محيط ما أسميناه في قراءات سابقة ب(الرواية التنويرية). وهي الرواية التي خلت من الحدث الرئيس، التي تتجمع في داخلها الخيوط، واستعاضت عنها بالكثير من المعلومات المدعومة بالتواريخ الحقيقية، والمواقف الفعلية، والمعلومات التي قد لا يعلمها إلا المتخصصون، والتي يخرج معها القارئ بالتنوير والمعرفة، دون أن تفقد قدرتها على الإمتاع، حيث تدخل المعلومة في نسيج السرد، دون افتعال، أو إقحام.

{تقوم الحرب العالمية الأولي ويسافر مراد كاظم للمشاركة في القتال وينضم للجيش الثالث العثماني ويترك عائلته في الإسكندرية. لا يمر عام واحد علي سفر الأب إلا ويهبط الخبر الصاعقة على رأس "دلبر" لقي مراد كاظم حتفه في معركة ساريقاميش في نهاية ديسمبر من عام 1914، وهي المعركة التي نشبت بين الجيش القوقازي الروسي وبين العثمانيين بقيادة وزير الحربية أنو باشا. صار من يومها اختفاء الآباء من طبائع الأمور في عائلتنا الكبيرة} [iii] ص27.

{كانت سيارة سوداء، فرشها جلد أحمر دم غزال، أهداها أدولف هتلر للملك فاروق في عام 1937. وعوضا عن النجمة الثلاثية المعروفة بأنها علامة السيارة المرسيدس، فَرَدَ ملاكٌ فضيٌ جَنَاحيه مكانها} ص43.

{كان "فرانسيس دالي" مدرس اللغة الإنجليزية بالمدرسة، شابا من مدينة مانشستر خرج على المسيحية واعتنق ديانة جديدة تُدعي "ويكا" تم تقديمها للجمهور في انجلترا في عام 1954. ديانة وثنية جديدة تؤمن بإله ذكر ذي قرنين وإلهة أنثي تمثل ثالوثا مقدسا} ص148.

{امرأتان في مصر بلغتا من الثراء ما لم يبلغه أغني أغنياء العائلة المالكة المصرية: قوت القلوب الدمرداشية، ورتيبة هانم كامل. كل واحدة كانت مثالا للتربية السليمة والذوق الرفيع والحس الاجتماعي الفاعل} ص44.

{تعزف عائشة، وأرسم أنا الكشك الخشبي العملاق الذي تشربت عروقه النغمات الصادرة من مئات العازفين منذ إنشاء هذه الحديقة في 1919. وبين هذا وذاك نتبادل القبلات} ص115.

 

كان السارد يجلس وحيدا، يتأمل السماء والنجوم، ويرسمها على الرمال، حين أتت "تارا" العراقية التي تعرفوا عليها في سيارة الرحلة إلي سيناء، ومعها صديقها "صالح شفيق" اليهودي العراقي، غير المؤمن بأي ديانة أو وطن، لم يستطع العيش في إسرائيل، فذهب للعيش في سيناء، والذي تعجب من رسم السارد للنجوم، وربطها بعلم إسرائيل

  • {هل ترسم علم إسرائيل
  • هذه نجمة سداسية.
  • هذا رمز إسرائيل. نجمة داود.

أعرف أن هناك نجمة في علم إسرائيل، مثلها مثل أعلام المغرب والجزائر وتونس وسوريا وموريتانيا والصومال والأردن وجزر القمر وهذا في من منطقتنا فقط، فلم أفهم لماذا أهتم إلى هذه الدرجة بخطوط نجمة علي الرمال؟

  • وهل احتكر الأستاذ داود كل النجوم المرسومة بست زوايا} ص151.

ويتحدث صالح عمن يملكون صناعة العقول، ويحددهم بالثلاثي المخيف: رجال الدين ورجال المال والجنرالات. ص153

{في طريقنا وقفنا أمام "شجرة الحرية". قلت لرامي: شجرة أرز أطلسي، جاءت بذرتها من جبال الأطلس، ليزرعها الفرنسيون في عام 1939م بمناسبة مرور مائة وخمسين عاما على الثورة الفرنسية. عجب عجاب. شجرة من بلادنا العربية المحتلة، تنبت في جبال الأطلس العالية يزرعها المحتلون في باريس، في الأرض الواطئة، للاحتفال بثورتهم ثم يطلقون عليها: "شجرة الحرية". كم عدد المتناقضات في هذه القصة القصيرة} ص192.

طلبت فرانشيسكا من رامي في أول مقابلة {أبيعك نفسي لمدة عام في مقابل أن تعلمني لغتك. متسرعة بالنسبة إلى فتاة من صقلية. ولدت في مدينة (ألكاموا)، منطقة من العالم تتحكم فيها العلاقات الأسرية التقليدية} ص193.

 

روح السخرية

ولأن الرواية تتناول تقلبات الحياة بمرارتها، بين صعود وهبوط، وموت وحياة، كانت السخرية – غير المفتعلة – هي السلاح الفارض للابتسامة وسط الحزين من المواقف. فعلي سبيل المثال، يبدأ الكاتب لوحة "عاهرات مبرة ريري الخيرية"، وعلى ما في العنوان من سخرية، يقوم الموضوع كله على السخرية، إلا ان الكاتب يبدأ الحديث عن الصراع بينه وبين عزرائيل قابض الأرواح، عندما أتي ليقبض روح جده يوسف مراد كاظم، استهلالا بالغ الجمال والتخييل:

{قابلت الموت. صافحني فصافحته. وعندما سلخت يدي عن يديه، واجهني ملاك الموت بعينيه البغيضتين وبحلق في وجهي باستهانة القادرين، ثم أزاح وجهه عني وبدأ في مهمته بنشاط يحسد عليه لمن هم في مثل سنه. ظل يرجرج جنبات الجسد بجبروته اللين لمدة قاربت الساعة ظننتها أنا دهرا...} ص143.

وكان جده قد تزوج عاهرة، وأنجب منها. وعندما مات. توافدت العاهرات لتقديم واجب العزاء لزميلتهم:

{قصدت إلى دارنا وفود لا تنتهي من العاهرات لتقديم واجب العزاء، حتى ظننت أن نقابة العاهرات الدولية قد أرسلت أمرا رئاسيا لجميع من يعمل في المهنة بضرورة الحضور شخصيا، والامتناع عن التعزية تلغرافيا} ص245.

وتتجلي السخرية عندما كانت "ريري" أكثر الحاضرات غما وكمدا. لتسأل السارد:

  • هل عَرَق جبينه وهو يُسلم روحه؟
  • نعم، عرق جبينه.
  • الله أكبر. قال رسول الله صلعم: "موت المؤمن يُعرِق الجبين".

ثم تأتي "ريري" في حشد ضخم من النساء إلي السارد في مرسمه الذي ورثه عن جده يوسف، وتعرض عليه فكرة وجدتها نيرة

{أليس تعريف الدعارة هو بيع خدمات جنسية في مقابل مادي؟ فإذا ألغينا الأجر المادي انتفت صفة الدعارة. وتصبح المسألة تقديم خدمات ترفيهية دون مقابل. ولأننا نقدم السبت والأحد، فلا مانع من تلقي خدمات إنسانية غير مادية} ص250.

ويموت – كما كل الكائنات – شهاب الشمندر في النهاية، بعد رحلة، قطعها في الزمان والمكان، استطاع فيها خالد الخميسي أن يقنعنا بصدقها، بقدرته على بث الحياة في شخوصه، والتذكير بماضينا، للتحوط في مستقبلنا، ليبقى عمله معنا، حلقة من حلقات الرواية العربية، مخالفا لرؤية "ليلي" التي التقاها في البحرين، تلك التي أرخ لحياته بما قبلها وما بعدها، قالت له عندما أخبرها بأنه رسام يبحث عن نفسه ولم يجدها بعد، حين قالت له:

{بعد خمسين سنة من الآن سوف تجد ما يبرر لنفسك كل ما فعلت في حياتك. وسوف يجعلك هذا راضيا عن اختياراتك. فلا تقلق... سوف تجمع في النهاية كل أحاديثك وأفعالك وتلفقها في قماشة جميلة لتلف بها جسدك العجوز. أحاديثك الملفقة وأكاذيبك المزخرفة سوف تُجَمِل وشم جلدك} ص170.