يركز القاص العراقي في نصه على العالم الداخلي لشخصيتي الرجل والمرأة وهما يلتقيان في استراحة العمل، متفحصاً وعارضاً وسابراً الرغبات الدفينة والأبدية التي تشدهما لإدامة الحياة، وكيف ترتبك وتقمع بصمتٍ.

شياطين الروح

جليل ابراهيم المندلاوي

 

حاولت الهروب من تساؤلات قد تكشف خبايا نفسها بالاقتراب منه، لم تكن تدرك إن كانت فكرتها هذه سديدة أم لا.. لكنها تحاول، فربما تستطيع تسديد بعضا من سهام عينيها الجميلتين نحوه، عادة قديمة تلجأ إليها الأنثى كلما شعرت بقرب هزيمتها، فهذه السهام كفيلة بجعلها تشعر بلذة النصر، فلا معنى للهزيمة في قواميس المرأة، ففي أوج خسارتها تحتفل بالنصر.

خطوتين أو ربما أقل بقليل المسافة التي سمحت لنفسها اجتيازها على شفا حدود أبتدعها ذهنها للحفاظ على الصورة التي رسمتها للشخصية التي تريد طبعها في أذهان من حولها، والتي كان للخجل لمسات واضحة في ثناياها.. أو لعل دنوها منه يخفي توترا بدت ملامحه جلية على قسمات وجهها الذي يبعث على الأمل في دروب طالما أغلقتها الحياة بوجه مثل هذه الملامح.

كانت تتأمله بحذر وهو يطرح أسئلة لم تكن ذات شأن، وهو يعلم أيضا أنها كانت كذلك.. لكنها أثارت في نفسها تساؤلات أكبر عن مغزاها، غير إنها لم تجرؤ على طرحها بل أكتفت ببعض الكلمات، لم تتذكر منها سوى تلك التي كتمتها في نفسها مكتفية بتلميحاته التي تكاد تشبه تلك الكلمات.

لم يكن ليستطيع إطالة النظر في ذلك السحر المنبعث مع بريق عينيها لأكثر من لحظات لم تكن كافية لإشباع رغبات التأمل في ذلك البريق ليستسلم على مضض مكتفيا بتطويق خصرها الممتلئ بنظرة لم تكن أقل جرأة من نظراتها، سارحا ببصره في مساحات ممتدة حول جسدها وهو يعريه بناظريه حتى بدا له غضا دفعه ليصبح راهبا عند قدها المتمرد حتى التجبر بسلبه العقول التي داعبها بتمايله المجنون.

لم ينتبه أحد ممن حولهما إلى اللغة التي يتحدثان بها، رغم إنها مألوفة لدى الجميع إلا انه لم يفهم احد منها حرفا واحدا سواهما، رغم ذلك فقد كانا يتربصان بالنظرات التي تحيط بهما من كل جانب ويصغيان للهمس الذي يدور جوارهما، كل ممن حولهم كان مشغول بهموم لم يعبئا لها، هذان مرا بجانبهما وهما يتحدثان عن أمور في العمل، وتلك فتاة تبتسم لهما وهي تجري مكالمة هاتفية من هاتفها الجوال، وخلفهما مجموعة تتفق على المكان الذي سيتناولون به عشاءهم.. فعلا انه موعد العشاء لكنه لم يرغب أن يتركها ليقضي فترة استراحته في تناول الطعام خصوصا أن شهيته للحديث معها قد بدأت تصل إلى مرحلة النهم، نهم كل الكلمات التي تخرج من بين شفتيها الـ.. دقق النظر في شفتيها لبرهة، لكنه عجز عن وصفهما ربما كانتا جميلتين، لكن ماهي مقاييس الجمال التي يعرفها عن الشفاه، لم يفكر طويلا فحسبه انهما كانتا طريتين، وشعر أيضا بأنها لا تريد تركه ليس شغفا لكن ثمة شيء ما يمنعها من تركه لوحده، ربما لأنها لم تتعود على أجواء العمل بعد، ربما لأنها كانت تريد أن تعرف أمورا تجهلها عن نفسها، ربما.. لكن من المؤكد أن هناك شيء ما..

أنصتت له باهتمام رغبة منها بالإنصات دون أن تبدي شغفها، وبين لحظة وأخرى تتساءل مع نفسها، ما الذي يحدث هنا، ولم تشعر بالاطمئنان لوجوده قربها رغم أنها تريد الهرب منه فهي لا تحبذ فكره انقيادها لمعبده، وكأن همساته تغزو ذهنها وتقيدها، تلك الهمسات التي تعيد لحظات من العمر كانت تظن أنها قضت، لكن يبدو أنها لن تموت كالشياطين التي لا تفارقنا حتى يتحقق مرادها بخطيئتنا.

شياطين روحيهما ألتقت في غفلة. توقف عند لحظة اقترابها منه، تلك اللحظة التي لا تقارن بالثواني والساعات التي تمر على حياتنا، لحظة لها مقاييس خاصة، ووقتها غير معلوم، طويل جدا إلا أننا نشعر بقصره، ويبقى لذتها كعبير يعطر الروح.

أنها شياطين الروح حقا، لم تعد تشك بهذا مطلقا، لكن هذه الفكرة كانت مرعبة بالنسبة لها، وتكاد تقتل ماضيها، وتمحو ثلاثين عاما من ذاكرتها بكل ما فيها من آلام ومسرات، بدموعها وضحكاتها، شيطان لكل عام، وشيطان لكل ألم، وشيطان يدفعها للاقتراب أكثر، وشياطينه ترقص فرحا وهي تصفق لشياطينها..

لهفة الشوق يخمدها أحيانا لقاء العيون، لكن لهفته لم تخمد حتى بعد أن سبر أغوار روحها، فشياطين روحه تدفعه للالتفاف حول روحها لتمزق كيانها القديم وترقص معه على أنغام هوىً يستفز غرائزه، لكن الخجل على محياها كانت مصدا رادعا لرغباته ليصارع شياطينه التي تسحبه لكي يستسلم منقادا لهم، لكنه خرج أخيرا بنصر لم يكن يرغب به كثيرا، فالهزيمة بين أحضانها غاية لم يدركها..

كما لم يدرك أن نصره على شياطينه كان زائفا إذ أن رنين منبه الساعة التي ضبطتها على توقيت معين في جوالها كان نذيرا لها بقرب فترة جديدة من عملها، تمعنت في جوالها عدة مرات وهي تسترق النظر إليه وكأنها تستأذن منه للهروب.. وحين ابتعدت استعادت كل ذكرياتها ولحظات ظنت لوهلة أنها لم تعد موجودة.