يرى الناقد المصري أن سيرة الأسرة في هذه الرواية تمتزج بسيرة الوطن، كما أن التفاصيل الصغيرة تمتلئ بالدلالات الكبيرة، وتمكن المؤلف من تقنيات السرد واضح ومميز، مما جعل الرواية أيضا عن ساردها بنفس الدرجة التي تحكى فيها عن عائلته.

مقاومة.. حكايات من متحف الذاكرة

محمود عبد الشكور

 

يبدو لي أن معنى «المقاومة» الأهم في هذه الرواية البرازيلية الممتازة، ينصرف بالأساس إلى مقاومة النسيان، وإلى تسجيل ما جرى سواء لأفراد الأسرة، أو لموطنهم الأصلي في الأرجنتين
من هذه الزاوية، فإن رواية «مقاومة» لمؤلفها البرازيلي جوليان فوكس، والتي ترجمها سيد واصل، وصدرت عن دار مصر العربية، تحقق نجاحا فنيا فائقا، ذلك أن سيرة الأسرة تمتزج بسيرة الوطن، كما أن التفاصيل الصغيرة تمتلئ بالدلالات الكبيرة، وتمكن المؤلف من تقنيات السرد واضح ومميز، مما جعل الرواية أيضا عن ساردها سباستيان، بنفس الدرجة التى تحكى فيها عن عائلته.
لم يلجأ فوكس إلى السرد الكلاسيكى، الذى يلخص حكاية عائلة أرجنتينية، اضطرت العام 1976 إلى ترك بوينس أيريس، لتعيش بساو باولو فى البرازيل، وكانت الهجرة لأسباب سياسية، ولكنه اختار حيلة فنية ذكية، أتاحت له أن يختار من متحف الذاكرة بحرية قطعا معينة من الماضى، يضعها بجوار بعضها البعض، بحيث تمتزج بمقاطع لرحلة قام بها السارد، ابن العائلة الأصغر، إلى مدينة بوينس أيريس، بعد سنوات طويلة من سقوط الديكتاتورية فى الأرجنتين.
الحيلة أن سباستيان يخبرنا أنه سيحكى فى البداية عن أخيه الأكبر المتبنى، ثم نكتشف أنه يحكى تدريجيا، وبالضرورة، عن أبيه وأمه، وكانا طبيبين نفسيين فى بوينس أيريس، ثم يأخذنا إلى نشاط والده ووالدته اليسارى والثورى، وانتمائهما إلى جماعة مسلحة، ولكنهما احتفظا بنشاطهما السلمى، ومع توالى السرد، يختلط الخاص بالعام، وتختلط محنة الأحفاد المفقودين من زمن الديكتاتورية، التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، مع أزمة الأخ الأكبر المتبنى، الذى عاش عزلة في حجرته، وكأنه يترجم مشكلته الشخصية، وأزمة عائلته المغتربة، التي اقتلعت جذورها من الأرجنتين، وأصبحت جزءا من بلد آخر.
ليست الحيلة فى هذا التداعى المحسوب فحسب، والذى يوسع الدائرة من الأسرة إلى الوطن، ثم يعود لتكبير التفاصيل من الوطن إلى الأسرة، بل إلى أحد أفرادها، ولكن الحيلة فى دمج السارد نفسه سباستيان منذ البداية، أو بمعنى أدق توريطه، فى أن يروى القصة نيابة عن الجميع.
هو ابن الأسرة الذى اختار الكتابة، أخوه الأكبر المتبنى يصرخ فى وجهه مطالبا بأن يكتب عن أزمته كإنسان متبنى ومنعزل، والأب والأم يراجعان فى النهاية ما كتب سباستيان، وكأنهما يواجهان الذاكرة، سواء كانت واقعا، أو خيالا أضافه ابنهما.
هي إذن رحلة مراوغة ومتشككة فى الذاكرة، سباستيان يشعر بالحيرة مما يكتب، ترهقه التفاصيل، ويخشى عدم الدقة، ويشعر بالشك في نوعية ما يكتب، ويعترف أحيانا بأن ما يكتبه هو حكاية فشله الشخصي، وليس أزمة عائلته ووطنه.
هذا سارد شديد الحيوية، وكأنه عدة أصوات فى صوت، وهنا أيضا اعتبار خطير لمحاولة فتح متحف الذاكرة، الذى كان يمكن أن يضيع فى ضباب النسيان، وهناك اعتبار أيضا لخطورة ما حدث فى الخاص والعام: نبذ ومطاردة للأبوين، الحصول على ابن متبنى لأم إيطالية تخلصت منه، انفضاض الأصدقاء عن الأسرة اليسارية المطادرة، الأب يهرب بأسماء وهمية فى منازل كثيرة، اختفاءات وتعذيب وملاحقات، ثم بداية من جديد فى وطن آخر، دون قدرة على النسيان.
فشلت مقاومة الأبوين اليسارية فى تغيير واقع الأرجنتين، ولكن مقاومة النسيان احتفظت بالحكاية كلها، أفرزت التجربة المؤلمة جدات الأحفاد المخطوفين، سيدات تبحثن عن حفيداتهن من الأيام السوداء، عندما كانت السيدات المعتقلات تجبرن على ترك أطفالهن، ليتم توزيعهم على أسر أخرى من باب التنكيل.
فى أحد أفضل أجزاء الرواية يشاهد سباستيان فى بوينس أيريس احتفالا للجدات بعودة أحد الأحفاد، هناك عشرات غيره ما زالوا غائبين، لعلهم صاروا أزواجا بعد أن تربوا فى أماكن وعائلات أخرى، ولكن الجدات لا تتوقفن أبدا عن البحث.
المقاومة الأكثر استمرارا فى هذه الرواية البديعة هى المقاومة بالذاكرة، هى تلك الحروف التى كتبها سباستيان من قلب الشك والتردد، خوفا من أن تكون كلماته أقل تعبيرا عما يحس ويشعر.
نتعاطف مع الأخ الذى عاش فى عزلة، ومع أحلام الأب والأم الضائعة، ولكن الأخت تعمل تستكمل الطريق فتعمل طبيبة نفسية، وتنجب حفيدا للعائلة، ثم يكتشف سباستيان بوينس أيريس من جديد، بعد سنوات من الهجرة، تغيرت أسماء الأماكن، ولكنه عاد حاملا ذاكرته، وذاكرة أسرته فوق ظهره، ليقاوم بهما من جديد.

 

جريدة الشروق المصرية