هنا نصّ الورقة التي قدمها الروائي الأردني في ندوة تحمل عنوان "صناعة الرواية". وفيها يساجل العنوان بالمساءلة حول المفهوم. ليخلص إلى أنَّ الرواية ليست صناعة في ذاتها، ككتابةٍ مادتها اللغة، وأن التعامل معها هو تفاعلٌ جَماليّ، فكريّ، تخيليّ، تختلف فيها عملية الاسقبال وتتباين بتباين أذواق القُرّاء.

هل أصبحت الرواية صناعة؟

إلياس فركوح

 

أقامت مؤسسة كتارا ندوةً في عمّان عنوانها "صناعة الرواية"، في تشرين الثاني/ أكتوبر من العام الماضي، كُلّفتُ فيها بكتابة ورقة موضوعها "صناعة الرواية بين تكاليف النشر والمردود المالي المستدام!"

نصّ الورقة:

شكَّلَ لي عنوان الورقة، وهو عنوان الندوة نفسه، صدمةً على صعيد “المفهوم”! منذ البداية وجدتني في حالة سِجال مع تداعيات العنوان، وما يفرض عليَّ، إذا ما دققتُ فيه، طرحَ حزمة أسئلة، أوّلُها: هل الرواية صناعة؟

ببساطة الأشياء وبَداهتها، أزعمُ أنَّ الروايةَ جنسٌ أدبيٌّ فنيٌّ كِتابيٌّ يعتمد اللغةَ أداةً، ووسيلةً، وجانباً أساسياً في تخليق "جماليات" هذه الكتابة ومَجْلاها. وبالتالي، هو فِعْلٌ إبداعيٌّ فرديٌّ بامتياز، ما يعني أنَّه لا يستطيع أن يتضمنَ أكثر، أو أقلّ، مما احتازه كاتبه/ كاتبته من قدرة السيطرة على آليات هذا الفعل، ومرونة الانتقالات فيه، واستبانة عمق التجربة وسِعة الخبرة، ناهيكَ عن خصوبة الخيال المبدع.. أو قحطه!

فإذا اتفقنا على كلّ، أو جزء، مما زعمتُ؛ فإنَّ الرواية ككتابة تتصف بجميع ما سَلَفَ، تجافي في مُعطاها الكُلّي، ومفهومها في المحصلة، الصناعةَ كعمليات إنتاج تتسلسل من إيجاد المادة الأولى (الخام)، مروراً برسم تصميمات السلعة التي نبتغي تصنيعها منها، وصولاً إلى طرحها بوفرةِ ما يتطلبه السوق المحلي تلبية لاحتياجاته، والأسواق الخارجية الأخرى كذلك. وهذا يعني اجتماع وتضافر جهود مجموعات من المختصين في كلّ حلقة إنتاج عبر هذه السلسلة.

إذَن، الفارق الأوّل بين الرواية ككتابة تخليقية أدبية عِمادها اللغة، والصناعة كإنتاجٍ ماديّ فيزيقي نتحسسه عبر الموارد المستخرجة من الطبيعة وتكييفها، فارقٌ جوهريٌّ يتمثّل في “الوسيط أو الواسطة”.

أوّلاً: اللغة مقابل المادة.

ثانياً: الفرد الواحد الوحيد المنخرط بكامل العملية الإبداعية ليطلع بنصِّ إذا ما تكررَ يفقد جدواه وتميزه. ما يشير إلى أنّ فرادته هي سبب عبوره للزمان والمكان، مقابل مجموعات من الأفراد ذات تخصصات متنوعة لكنها تتكامل لتخرجَ بمثال/ نموذج model يتكرر إلى أن تنتهي الحاجة الجماعية إليه في زمانٍ ومكانٍ؛ عندها يفقد جدواه وتميزه.. فيوقفون إنتاجه.

وإذا كان لي أن أماثلَ الشيءَ بالشيء؛ فإنّ الفارقَ هو بين لوحة الـ”غرنيكا” الأصلية بقياسها الجداري الكبير (3.50 x 7.80) بمواد رَسْمها كما هي، والمعروضة في متحف مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون في مدريد، وملايين المستنسخات عنها المطبوعة بأحجام مختلفة، المعلقة على جدران آلاف المنازل والمؤسسات ومحال بيع الملصقات الفنيّة حول العالم!

الروايةُ تولدُ من الخيالِ، والمَجازِ، وفي كثيرٍ من الحالات تتراكب وتُبنى وتقوم على/ ومن عناصر لا تتآلف في خارجها الموضوعي بالضرورة! وبذلك؛ فإنها لا تخضع لأيّ “قانونٍ” في الطبيعة يحكمها ويتحكّم بها (كقانون الجاذبية مثلاً)، بقدر امتثالها لـ”قانونها” هي الخاصّ بها وبخصوصية مبدعها دون سواه.

* * *

إذَن؛ أخلُصُ إلى أنَّ الرواية ليست صناعة في ذاتها، ككتابةٍ مادتها اللغة، والتعامل معها لا يكون “استخداماً” مادياً بقدر ما هو تفاعلٌ جَماليّ، فكريّ، تخيليّ، فرديّ، و”العائد” عنها يتباين بتباين أذواق قُرّائها، ومستوياتهم الثقافية، وخِبرة القراءة لديهم، وجموح ما يملك الواحد منهم من مخيلة وتراكم معرفي يغذّيها.

غير أنّ صِفة “الصناعة”، وفق اجتهادي، أُلْصِقَ بها هكذا، ربما، بسبب ما صرنا نطلق عليها “صناعة الكتاب”، أو “صناعة النشر”.

أبدأ بالإقرار أنّ الكتاب باتَ “سلعةً” تخضع، مثلها مثل أيّ سلعة تتوفر في السوق، لمنطق السوق إيّاه.. أي: منطق العرض والطلب! وما دمنا حيال السوق المتمثل في المكتبات العامة والمَحال التجارية لبيع الكتب ومراكز التوزيع وأكشاك الأرصفة، والعرض القائم على ما يبذله الناشرون من أجل “تسويق” كتبهم لدى هؤلاء؛ فإنَّ القُرّاء يتحولون إلى بؤرة الاستقطاب والفئة المستهدفة من كِلا الطرفين. أي: إنهم هُم الذين يتحكمون بمصائر تلك الكتب وحركتها، صعوداً وهبوطاً، إقبالاً وإدباراً، قبولاً ورفضاً، وبالتالي: ربحاً حين “يطلبون”، وخسارةً عندما “يمتنعون عن الطلب”. حينها؛ وبناءً على هذه الحركة/ اللاحركة، إما ينشط النشر ويزدهر، وتعمَر المكتبات بالجديد، ويغتني المجتمع ثقافياً ومعرفياً – وبالتالي وعياً ناقداً عارفاً، أو يتقلص النشر، وتبور المكتبات، ويتراجع الوعي، وتنكمش الثقافة، ويتخلّف المجتمع!

إنّ الإجابة عن السؤال الحاضر في عنوان الورقة كما وردت إليّ: تكاليف النشر والمردود المالي المستدام، إنما يستدعي منا مساءلة الناشرين عن ذلك، ومحال بيع الكتب والمتداولين لها. وإني، بصفتي الأخرى الملازمة لي كصاحب دار نشر، إلى جانب صفة الكاتب/ الروائي؛ وبناءً على تجربتي المعيشة، أصرِّحُ بأنّ الرواية، أسوةً بسواها من كتبٍ في مجالات أخرى مختلفة، تخضع لقانون السوق المشار إليه: إذا كان الطلبُ مُلِحَّاً ومتواصلاً وواسعاً للرواية؛ فإنّ العرضَ سيتواصل لها ويتسع لتلبيته من جهة، ولتغطية تكاليف نشره وطباعته من جهة أخرى، ولتحقيق “رِبْحٍ ما” يُسْتَثْمَر في نشر مزيدٍ من الروايات قيد الطلب.

ولستُ في قولي هذا أوّل مَن اخترعَ العَجَلَة بالتأكيد!

* * *

ولكن: عن أيّ رواية نتحدّث؟

أطرحُ سؤالي هذا بدافع اعتراضي على التعميم الماثل في “أل التعريف”، الذي يجمع في سلَّةٍ واحدة ضروباً شتّى من الكتابات الموسومة بـ”رواية”! والتعميم، في عُرفي، تعميةٌ وتمييعٌ وإعتامٌ وخَلْط!

فثمّة ما نجيز لأنفسنا أن نُعِدَّها رواية شعبيّة تُكتب وتروْجُ وتنتشر وفقاً للجهات الموَجِّهة لطريقة تفكير معيّن، ورؤية للعالم معينة، في مرحلة اجتماعية سياسية معينة، في مجتمعٍ معيّن. وهذه تتشكل دوائرُ قرّائها من الجيل الشبابي (ذكوراً وإناثاً) يَقبلون بها ويُقبلون عليها ولم يكتسبوا بعد خبرةً قرائية وثقافية ومعرفية تكفي للنظر في ما يقرؤون بوعي فنيّ نقدي متفحِّص. وغالباً، إنْ لم يكن دائماً، ما تتصف هذه الروايات بلغةٍ مباشرة، إبلاغية، توضيحية، توجيهية، رسالية، تحتذي بـ”كليشيهات أو مأثورات” تراثية/ مدرسية/ دينية الطابع، ذات مستوى لا يرقى للغة الأدب السردي الرفيع وبِنيته القائمة على الإيحاء، المرتكز إلى ذكاء المتلقي وإشراكه عبر التفاعل المبدع. روايات قِوامها “حكايات” مفتعلة مسبقة الحَبْك، ومؤداها “إطنابات” على عالمٍ طهرانيّ مزعوم مُبتغى!

وبالتالي؛ إنَّ روايةً تتصف بذلك كلّه لا بدّ لها من قارئٍ ما يتماثل معها يريدها ويطلبها لتكون هكذا، ولا يلتفت لسِواها، ولو بدافع الفضول أو المقارنة. إنها رواية “شعبية/ شعبوية” شائعة ورائجة.. ورابحة وضامنة لديمومة مردودها المالي، وما عدد طبعاتها اللافت غير المألوف، وانتشارها خارج أقطارها، يشهد على ذلك.

إنّ تطرقي لمسألة التخصيص والتحديد، واعتراضي على التعميم في ما يتعلّق بـ”الرواية”، ينسحب على ما يتعلّق بـ”القارئ” أيضاً. ثمّة رواياتٌ ما تستهدفُ قارئاً ما، وأخرى تجدُ رواجاً نسبياً لدى قارئ ما آخر.. وهكذا. وإذا كان هناك من نتيجة أتوخاها عبر ما أشرتُ إليه؛ فإنها التنبيه إلى حالة تذبذب وعدم استقرار وفقدان توازن في خريطة ما يُكتب ويُنشر من “روايات” عربية. وهذا يؤدي للصعوبة في أن نُصدرَ حكماً نهائياً، أو تقييماً لا يعتوره نقصٌ هنا أو هناك. ففي الوقت الذي تحصد فيه الرواية الشعبية/ الشعبوية مردوداً مالياً كبيراً ومتواتراً يؤهلها لديمومة الحضور (أشير هنا أيضاً إلى موجة كاسحة من روايات تخلطُ الرعب بالتاريخ المجتزأ بالأسطورة بالخرافة بالجريمة بالموت وما بعد الموت بالقصص الديني الشعبي، إلخ، تخصصَت بكتابتها أسماءٌ تملك قاعدة عريضة من القرّاء العرب، ومن كافة الأعمار، كما تملك دورَ نشرها الأكثر من ناجحة على الصعيد التجاري)؛ تشهدُ الرواية الأدبية ذات البناء الفني المتطلّبة قارئاً مثقفاً واعياً ومتفاعلاً على نحوٍ ناقدٍ (قارئاً محترفاً أعني)، انحساراً ومحدوديةً في عدد طبعاتها.. وقرّائها بالتالي، ما يعني عجزَ ناشرها عن استرداد ما صرفه من أجل طباعتها ونشرها، إلخ.

رواية الجوائز ومسألة الموديل model

إنَّ التباين الصارخ في مستوى عديد الروايات العربية الفائزة بالجوائز المخصصة لها، داخل بلدانها الوطنية وتلك المُتاحة للجميع (بوكر وكتارا)، أدّى إلى عكس ما هدفت إليه أوّلاً تلك الجوائز، ألاْ وهو الارتقاء بكتابتها! فالمعاينة القارئة لتلك الروايات قيد التحفظ تفيد بوجود تفاوت صارخ في تقييمات أعضاء لجان التحكيم، ما ينتج عنه التساوي بفوز رواية لا تتحلّى بالسويَّة الفنيّة بالإجمال لكاتب/ كاتبة ما زالا في مرحلة الخطو الأوّل، مع أخرى كُتبت بما يقرب الاكتمال الفني والتميّز وقد تسلّح كاتبها/ كاتبتها بخبرة سردية روائية واضحة! ولهذا الأمر، إذا ما تكررَ ليصبح ظاهرةً، عواقبَ تتصدرها الاستهانة بالرواية واستسهال كتابتها كجنسٍ كتابي أدبي فني دقيق، والتعامل معها بوصفها مسألة “تجريب حظ وهواية!”

كما أنّ من تلك العواقب، النسج على منوال تلك الروايات المبتدئة، لدى المبتدئين/ المبتدئات باعتبارها المِثال أو الموديل model الناجح! أي القدوة باتجاه مستقبلٍ واعد وجديد للرواية العربية!

وأكتفي الآن بهذا.