على امتداد رقعة الشطرنج المتخيلة تدور لعبة التأمل التي يربط فيها القاص المرموق هنا بين اللعبة وأحابيل الدور الذي تفرضه السلطة المطلقة. فلا يقر المستبد أبدا بالهزيمة، أو حتى بمأزق Zugzwang الشهير، الذي يفرض على أي عاقل الانسحاب من اللعبة قبل «كش مات» التي تجرّ الكارثة على الجميع.

رقعة متخيلة

منتصر القفاش

 

عام 1996، وفي أثناء انتظار الصعود إلى الطائرة التي ستقل الوفد المصري إلى الدار البيضاء للمشاركة في لقاء الرواية المصرية المغربية، رأيت الروائي الكبير فتحي غانم والصديق الدكتور الناقد حسين حمودة يحدقان في الفراغ، ويتناوبان الهمس لبعضهما البعض، وأحيانا يشير أحدهما إلى مواضع في الهواء ويحرك يده كأنه يمد بينها خطوطا. عرفت بعد ذلك من حسين أنهما كانا يلعبان الشطرنج غيبا، وأن الدور لم يكتمل بسبب بدء الصعود إلى الطائرة. لم أكن أعرف وقتها أن فتحي غانم لاعب كبير في الشطرنج، وكان من أبطال الجمهورية في اللعبة. وتذكرت الفترة التي امتدت طول المرحلة الثانوية وكان الشغل الشاغل فيها لي ولأصدقائي لعب الشطرنج، وتسجيل الأدوار كتابة كما تعلمناها من كتب عبد الرحمن محفوظ التي استعرناها من مكتبة عامة بالجيزة، وكانت ذاخرة بتحليلات لأشهر مباريات بطولات العالم في الشطرنج.

حاولنا وقتها لعب الشطرنج غيبا، ومغالبة أي شيء يشتت تركيزنا، سواء أصوات التليفزيون والرادايو المنبعثة من شقق الجيران أو شجار نشب فجأة في الشارع، فلا نسارع كعادتنا للفرجة عليه. ونظل في أماكننا نحدق في الفراغ، في قطع الشطرنج التي لا يراها غيرنا. وكلما استطعنا الصمود في وجه الإغراءات الخارجية التي لا تنتهي ازدادت متعتنا، وفي الوقت نفسه اشتدت دهشة أفراد أسرنا الكبار من سكوننا المريب. ورغم كل هذا التركيز لم نفلح في إتمام دور على بعضه إلا نادرا، فسرعان ما كنا نصل إلى مرحلة تتوه منا مواضع القطع، ونختلف على موضع قطعة هل هي هنا أم هناك ونحن نشير إلى رقعة متخيلة.

وبعد سنوات، دفعني هذا الاهتمام القديم بالشطرنج ومشهد المطار إلى قراءة آخر روايات فتحي غانم (القط والفأر في القطار)، بعدما لمحت وأنا أتصفحها مصطلح "زوج زفانج Zugzwang كلمة ألمانية لا تجد ترجمة لها في أية لغة أخرى". ويعني المصطلح وضعا غالبا ما يكون قرب نهاية دور شطرنج، ويجد فيه أحد اللاعبين أن تحريك أية قطعة من القطع المتبقية معه سيزيد موقفه سوءا، ومواصلة اللعب تشبه سيره نحو موته الذي يعلم موعده بدقة، وقد يتمنى عدم القيام بأية نقلة أو إن أمكن اختفاء رقعة الشطرنج بما عليها.

وكنت وأصدقائي في بداية تعلمنا لعبة الشطرنج لا نقبل بالاستسلام والتوقف عن اللعب حينما نكون في هذا الوضع الذي لم نكن نعرف اسمه، ونصر على مواصلة اللعب أملا في أن يخطئ الخصم، وهو احتمال قائم في ظل قلة خبرته وتسرعه في تحريك القطع دون تدبر. وحتى عندما كنا نلعب مع من هم أكبر سنا وخبرة، ويشرحون لنا بوضوح كيف سيموت الملك بعد عدة نقلات، فإننا كنا نصر على المواصلة، فاللعبة لا تنتهي إلا بسماعنا كش مات، ولا معنى للانسحاب قبل هذا. وكنا نأمل بالطبع في أن يقع الكبار في خطأ مثل زملائنا الصغار، أو يضطر الكبار إلى المغادرة قبل اكمال الدور، وقبل الإعلان عن هزيمتنا بشكل رسمي. وبالتالي نصر على عدم احتساب الدور ضمن هزائمنا المتتالية على أيديهم.

ومصطلح “زوج زفانج" تذكره شخصية الزعيم في رواية (القط والفأر في القطار)، تلك الشخصية التي يتضح للقارئ منذ البداية أن المقصود بها جمال عبد الناصر رغم عدم ذكر اسمه. وقد استعان الزعيم المحب للعبة الشطرنج بهذا المصطلح ليشرح ويبرر به ما فعله طول فترة حكمه، فتتضح عبثية الوضع الذي كان فيه. وتدفعنا كلماته الى تخيلها على لسان احدى شخصيات رواية القلعة لكافكا:

«أنت لا تستطيع أن تلعب الشطرنج دون أن تحرك القطع. ولا تستطيع أن تقود ثورة وتحكم دون أن تتصرف وتصدر القرارات، وهذا أمر لابد منه، وبعد ذلك عليك ثانيا أن تواجه أي تصرف تقدم عليه وأنت تعلم مسبقا أن أي إجراء تتخذه يسيء إليك وضرره أكثر من نفعه، ومع ذلك لابد من التصرف، ولابد من قبول الأضرار حتى تجد نفسك أخيرا وثالثا في حالة اختناق، ومع ذلك لابد أن أتصرف، لا مفر من أن أصدر القرار بعد القرار».

يماثل الزعيم بين المصطلح وقيادته الثورة والحكم وكأنهما وجهان لعملة واحدة، على الرغم من أنه في بداية الروايةK وقبل الثورة كان إذا انهزم في دور شطرنج قال باستخفاف «إن رقعة الشطرنج ليست وطنا ولا مجتمعا. وهذه القطع لا علاقة لها بالبشر

وبقدر ما ساعد مصطلح زوج زفانج الزعيم على تبرير أفعاله، فانه بشكل غير مباشر صار دليلا ضده. فلاعب الشطرنج عند وقوعه في هذا الوضع يتحمل بمفرده الخسارة وأسبابها، أما الزعيم باصداره القرار تلو القرار فإنه لا يكبد نفسه الخسارة فقط، بل يكبدها لشعب متفرج على اللعب وغير مسموح له، بأن يكون لاعبا يتحمل مسؤولية دور بأكمله. كما أن أي لاعب من ذوي الخبرة القادرين على رؤية مصير قطعهم يسارع بالانسحاب ما أن يقع في هذا الوضع، ولا يصر على الاستمرار – كما فعل الزعيم، وكما كنا تفعل في صغرنا – في دور لا نجاة فيه من الهزيمة. بالإضافة إلى أن انفراد لاعب الشطرنج بقراراته من طبيعة اللعبة، وليس من طبيعة الحكم، إلا إذا كان الزعيم يرى من يحكمهم مجرد قطع يملك وحده تحريكها كما شاء. ويذكر الزعيم هذا المصطلح مرة ثانية في نهاية الرواية، ليعبر عن فرحته باستطاعة شخصية المحامي - الذي طالما شارك الزعيم لعب الشطرنج - من الخروج من هذا الوضع نهائيا، بعدما تخلص من كل قواعد اللعبة التي قيدته، وفرضت عليه أدوارا ظل يؤديها، ونجا من أسر حب الزعيم، ومن تمثل مواقفه وشخصيته في حياته وبعد مماته.

ومن المفارقات الملفتة في الرواية، أن المرتين اللتين ذكر فيهما الزعيم هذا المصطلح كانتا بعد مماته، في لقاء معه تخيله المحامي. كأن الموت فقط هو من يجبر الزعماء على عدم التشبث بالاستمرار في وضع "زوج زفانج"، ويجبرهم على التوقف عن إصدار القرارات التي تزيد الموقف سوءا.