إلى / إبي
في شتاءاتنا الباردة
كانت حكاياتك
موقد نار لم ينطفئ
الزمن الذي نلهو به
يلهو بنا
ليوناردو دافنشي
الموت رسماً
كانَ صوتُ المعلمِ رخيماً في طلبهِ. أخرجتُ كراسةَ الرسمِ من حقيبتي، فأخفتْ بحجمها المستطيل جزءاً من وجه الرَّحْلة. كانتِ اللوحة التي تتوسط صفحة الغلاف، تُمَثّلُ منظراً طبيعياً، تحتفي موجوداتُهُ بالحياةِ والجمال. أرضُ خضراء يشقُّ منتصفها نهرٌ متعرج تزخر ضفتاهُ بمياهٍ زرقاء تنعكسُ في مرآتها ظلال رؤوسِ النخل ماسيّةً تتلألأ، وسماؤهُ تخلو من الغيوم أو تكاد.
عند آخر كلمة نطقَها المعلمُ قلبتُ الصفحة ؛ قلمُ الرصاص بيدي وعينايّ تلتهمان البياضَ المفارقَ بنصاعتهِ ما تجلبُهُ إلى منزلنا بائعةُ اللبنِ، أسدى أبي خدمةً لها، حينَ حرَّضَ أخاها على الهرب من الحكومة لئلا تُلقي القبضَ عليه فمقارعتها آنذاك وعدم الانصياع لأوامرها صفةُ رجالِ مدينتي تساعدُهم تضاريسُ البيئة على مواجهتها والاختفاء. ومن أجلِ ردِّ الجميل وإرضائي بوصفي ابن العائلة المدلل, أمسكتْ وجهي بيديها، فلفَحتني أنفاسُها المعطرةُ بالهالِ فتَخيّلتُها تودُّ تقبيلي قَبلَ أن يفْتَرَّ ثغرُها عن ابتسامةٍ، قرأتُ بانطباقِ الشفتين وانفراجهما وعداً تُلْزِمُ نفسَها بهِ.. وفي صباحٍ دافئ جاءتني بالطير وهي خجلةُ لتأخرِها في إحضاره. لم أسمعْ عبارات الاعتذار فقد شغلتني هيئةُ الطير بمنقارهِ الأسود ورقبته الطويلة المتصلة بجسده البيضويِّ يُغطيهِ ريشٌ رماديٌّ مائلٌ للسواد وينتهي بذنبٍ قصير ترفعهُ رجلان طويلتان رفيعتان كأنّه في مشيتهِ يقفز فأحببته على الرغم من عدم إعجابي بشكله، ولأنه لا يمتلكُ الإثارة والفتنة سألتُ صاحبتَهُ: ما اسمهُ؟ أجابتني بعد أن حدّقتْ إلى عينيَّ طويلاً: (ارخيوي) أو هكذا يُعرف في هذه الأرجاء, ويبدو تسميته مأخوذةً من بُطء حركتهِ ولينهِ، ولتدليلهِ كنتُ أُناديه (الرخو) وهو ما شاعَ عنه فأصبحَ لصيقاً به. شَغلني عن لُعَبي وأصدقائي وأحلامي غير المحدودةِ بامتلاكِ الأشياء وما تجابِههُ من رفض لكن ما أحققه وأحصل عليه لا يأتي بسهولة بل بعدَ معاركَ أستخدمُ فيها وسائلي في كسبِ ما أُريده.
لم تألف عائلتي وجودَ الطير بيننا فاصطنعتِ العراقيل لدعمِ رفضها كما في مسألة زراعتي بستاني الصغيرة بأنواعِ الخضراوات فقد اقتطعتُ متراً مربعاً من حديقةِ المنزل وأحطْتهُ بسياجٍ ونثرتُ البذور بعد فِلاحة الأرض. كنتُ فَرِحاً وأنا أُراقبُ البراعمَ تُولدُ من رحمٍ يجدُ صورتَهُ في عينيَّ ممتزجةً برفضٍ يتقنعُ بالخوفِ من توسّعِ مساحة رغباتي وهو ما تحاولُ عائلتي الحدَّ منهُ.
هيّأتُ لشريكي (الرخو) مسكناً يُليقُ به ومختلف عن مكانهِ الأوّل. قضى أيامَهُ نائماً لا يأكلُ إلا مِن يدي وهو ما زادَ من تكاسلهِ وضعفهِ فقد وصلَ به الحال إلى أن أفتحَ منقارَهُ وأضعَ سُميكةً فيه. في البداية كانَ يبتلعُها وبعد أيامٍ أخذَ يُلقيها؛ آلمني وضعهُ فشكوتهُ إلى صاحبتهِ في إحدى زياراتها الصباحية ألقتْ نظرةً عليه وابتسمت قائلةً: لا عليكَ ليس فيهِ شيء. لم أطمئنْ لكلامها، لكن لا حيلةَ باليد.
وفي مساءِ اليوم ذاته رأيتهُ نائماً ؛ منقارهُ الطويل مفتوحٌ قليلاً ونصفُ جسدهِ خارج الخشبةِ التي وضعتُها لهُ لتُشكل مع زاويةِ الجدار قاعدةَ مثلث فتشعرهُ بأنه يعيش في بيئتهِ؛ رأسهُ الصغير يتوسدُ صلابةَ اللوحِ بينما يُغطي الماءُ أقدامَهُ المتدلية. طالَ وقوفي مُتأمِّلاً، يصلني صوتُ المُعلمِ خافتاً، وهو يُعلنُ انتهاء الوقت المقرر. لم أرفعْ عينيَّ لكنّي أحسستُ بهِ قريباً، مدَّ يدهُ، أمسكَ الطيرَ من قدميهِ، فتحرك تُجاه النافذةِ، فتحها وقذفهُ بعيداً. كانت عيونُ التلاميذ تحدّقُ إليهِ. انحنى على ورقتي، وضعَ عليها درجةً كاملةً، عندما اعتدلَ بقامتهِ الطويلةِ مُتجهاً نحوَ السبورةِ، محا نثيثُ سماءِ عينيَّ ما كتبتهُ ليظلَّ المكانُ خالياً إلا من رائحةِ أسماكٍ لا تطاق.
إنَّهُ يتخيّل
مجبول على القصّ؛ حياته حكاية لا تنقضي. كلّما زرته جسّر الفضاء الذي يفصلنا بحدثٍ من تاريخ حياته، يتلوه بحذافير شكله الذي وقع. يرفض تقديم أو تأخير الوقائع. وإذا حاول أحدهم أن يعيد صياغة قصصه يبدو على وجهه الانزعاج. قد يُوقِف المتوغّل في حقله بإشارة من يده أو يعمد إلى قطع كلامه ليعيد إلى عالمه ترتيبه وتنظيمه الخاص, والحفاظ عليه عبر تكّراره المستمر دون مللٍ أو سأم بل يجد متعة في كلّ إعادة كأنه يحكيها للمرة الأولى.
أثارني إحساسه بالكلمات وطريقة نطقها وما يصاحبها من حركات وايماءات. لا يصطنع وضعاً يوهم فيه أو مستمعاً يتملقه مكتفياً بمتلقٍ يتوقع إصغاءه إن شحَ وجوده في الواقع. لا أتصوّر شيئاً لم يحدثني عنه فله ذاكرة لا تصدأ. ضَعُف بصره وقلَ سمعه لكنّه ظلّ نحيلاً كعودٍ يابس منتصب القامة متوقد الذهن، عيناه عسليتان ووجهه أسمر حنطي ,مُعتدّ بنفسه، لا يعتقد بوجود امرأة تتمكن من مقاومة سحره , كبرت أم صغرت، مطمئن لانجذابها. كلماته المشحونة بالشعر والحب تُذيب جبالاً من الثلج. إنه يعرف ذلك ويتحدّث به. ليس متباهياً إنما ليقرَ حقيقةً قد لا يتنبه لها الآخرون.
في أيّ مكان يتواجد فيه يحبّ الأضواء مسلّطة عليه فإذا لم تكن له الصّدارة ينسحب. مهما تطول اللقاءات فلديه خزين لا ينضب لكنه يفضل الحديث عن عنترة والمقداد وأبي زيد الهلالي وبعض حكايات ألف ليلة وليلة والمجنون. لا يكتفي بسرد الحكاية وإنشاد الشعر المتضمن فيها بل له حكم على طبيعة تلك الشخصيات، يُعلي من شأن المقداد، لا لشجاعته إنما لأنه استطاع الزواج بمن يحبّ، بينما لا يمثل مجنون ليلى سوى نموذجٍ تعس يشبههُ تماماً لذلك يرفضه. يهوى قصص العشق والفروسية, ما عدا ذلك لا يهتمّ به إلّا ما تعلق بحياته الشخصية، يذكرها بصفتها مواقف إنسانيّة , ولأنني أبغي مشاكسته قلتُ له محاولاً سرد إحدى حكاياته بطريقة مختلفة: هل تذكر صديقك الذي اختاره الضابط للسفر إلى بابل من أجل تسليم رجل موقوف لأحد السجون هناك. قيّده في أثناء السماح له بالخروج وصوبَ بندقيته تجاهه. كان الوقت صباحاً. توجها إلى ساحة سعد، في المرآب الكبير، سار أمامه. يداه مقيدتان إلى الخلف وفُوّهة البندقية توخز ظهره. رفع يده طالباً التوقف ورافضاً تشويه القصة وباستعدادٍ كافٍ بدأ يروي الحكاية:
عندما اختاره الضابط، تفرستْ عيناه في وجهه، لعلها تُلين غلظة ملامحه، أذعن للأمر. ولما حانتْ اللحظة تسلّم المرأة (وليس الرجل) رافضاً تقييدها (قيّده), أمام محطة قطار المعقل (لا ساحة سعد) ترجلا من سيارة الأجرة , بندقية في كتفه (لا في ظهره), سارتْ أمامه بخطوات بطيئة تستطلع بنظراتٍ فاحصةٍ حركة الناس وضجيجهم. قرب أول مقعدٍ، في جهة اليسار, جلستْ ودعته.
كانت أشعة الشمس الغاربة (لا صباحاً) تُضيء نصف الرصيف, مسافة متر عند قدميهما. يداها القابعتان في حجرها على حقيبتها , تتناغمان ونظراتها المتأملة دور سكن العاملين في دائرة السكك المتميزة بطبيعة بناء متماثلة. لم يطلْ بهما المكوث، فقد شقَ صوت منبه القطار السماء الغائمة وآلت الحيوات الضاجَة المنتشرة في بقعٍ متفرّقة إلى الصمت في انتظار صفّارة أخرى أو وقوف القطار جاثماً, تحدّق أبوابه إلى الأجساد المتدافعة حوله، والمنعكسة وجوهها في زجاجهِ النظيف ؛ ملامح متجهّمة، وأخرى منبسطة، ليس سوى لحظات، واختفى كلّ شيء, ماعدا صورة الرصيف بحجارته الإسمنتية ومقاعده الفارغة، تتربع مرايا الأبواب المغلقة بحركتها تخرج أشياء وتدخل أخرى بالسرعة ذاتها. أبواب تحرف مسار العين وتعلقه بعد خطواتٍ قليلة بآخر, في ممر طويل لا يسع لأكثر من شخصين.
ما زالا يتابعان أرقام غرف النوم، يدفعهما عدم وجود الرقم إلى الاستمرار في البحث، حيث يتخذ الاستفسار سؤالاً عن الهُوِيّة. بعد مسافةٍ قصيرة تعثّرَ حينها بحقيبة مسافر، لاحظ يدَها تمتد، ممسكة بمقبض أبيض، دفعته بنفاد صبر ودخلتْ. عند هذه النقطة، انقطعتُ عنه، تركتُه يتحدّث, ولأنني أحفظ القصّة عن ظهر قلب, أكملتُ السرد, مبتدئاً من نهاية ما وصل، حيث دخولهما الغرفة المؤثثة بسرير مزدوج وكرسي صغير قرب النافذة. جلسَ عليه مغلقاً الباب بإشارة منها.
دارَ بينهما حديث عام، تخلّله نواح القطار في بطائح الظلام قبل أن تنهض لتغيّر ملابسها، حاولَ الخروج، لكنّها منعته, فأعطاها ظهره. لمْ يطلِ الأمرُ. عادَ إلى وضعه حالَ سماع صوتها. كانت تمسك كتاباً وقد غطتْ جسدها بشرشفٍ أبيض. ساد بينهما صمت بدَدَهُ بين النافذةِ العاجزة عن رصد ضوء مصباح وحركة تقليب الأوراق المعبّرة عن رائحة وزمن مضى. أتعبه النظر إلى الأشياء فغالبه النعاس ممتنعاً عن التفكير في الصعود إلى السرير الثاني. تمدّد على الأرض، واضعاً حقيبته تحتَ رأسه. تلك الليلة لم ينمْ.
لما لامستْ أقدامهما أحجار الرصيف ارتدت بغداد ثوبها الماسي الشفيف وانزاح عن كاهله همّ ثقيل، تنفسَ بعمق, ماداً يده ليتأكد من ورقة التسلّم.
آخرالقلاع
لم يصادفه في ظلّ جدار القلعة أحد. واجهَ الشمس باستدارتهِ تجاه البوّابة. كان الحارس جالساً على كرسيّ خشبيّ عتيق. ألقى التحية، ودلف للداخل، على يمينه تقع الغرفة. كنتُ ممدداً على أحد الأسرة. ابتسم لرؤيتي، أخذ البندقية من صندوق الأسلحة. سألني عن أبي، وهو يمررها عبر كوّة في زاوية الجدار. ظلتْ عيناي تراقبانه لكني لم أفعل شيئاً. شغلتني طابوقات السقف (المدروزة)عن التفكير. مرات عدّة، حاولت النهوض لإخبار الحارس، ولا أدري ما الذي منعني من ذلك. كنتُ مسترخياً. أنعم بهدوءٍ قيدني للسرير،قبل أن أسمع صوت إطلاق نار. قفزتُ مسرعاً نحو الكوُّة. رأيتُ امرأة تركض صارخة نحو السوق ؛ عارية إلا من ثوب نوم شفيف بجسدٍ مكتنزٍ بض ؛ تعثرتْ ثم سقطتْ تغطيها الدماء.
* * * *
في مساءاتٍ بعيدة، عندما كانت الشمس تدخل نفقها، أعتلي درجات السلّم متباطئاً في الظلمة. حزمٌ من أشعّة خافتة تتسرب عبر الباب. دائماً أجد صعوبة في معالجة المزلاج. عند فتحهِ تلفحني موجة هواء استنشق من خللها رائحة الأرضِ والنخلِ وسمكِ يشوى. لا أتفلت خلفي، فأنا الوحيد الذي يصعد السلّم، قد تتبعني قطة أو كلب. أقف على الحافة الأمامية قريباً من سارية العَلَم. في الأسفل يجتمع الجنود الستة بأسلحتهم على شكل صفٍّ قبالة الباب الرئيس بمسافة تكفي لرؤية العلَم. أمدّ يدي نحو العقدة حال سماعي صوتاً يحثُّ على تقديم الاحترام، تعقبه قرقعة أسلحة. لا أحد يشغله المشهد هذا سوايَ والجنود القائمون به. أفكّ الحبل ببطءٍ ثم أنزل العلَم ببطءٍ أشدّ، بلا حركة يقفون صامتين، يمسكون البنادق بأكفّ ثابتة،ويحدقون إلى الأمام، كأنهم تماثيل قُدّت من حجر القلعة. أنا أتلهى، بينما هم جادون في أداء الواجب. أترك عملي مهرولاً إلى الجهة المقابلة، أمكثّ زمناً ثمّ أواصل العمل بالبطء النافخ في أعطافي سعادة غامرة. لا أملّ من تكرار تفاصيل لعبتي. أتوقف مرّة أخرى، ناظراً تُجاه مدرستي القابعة في سكون، مواجهة النهر أيضاً، خلفها ينبسط الهور بكائناته الخُضر، منتشياً بهبوط الظلام وتصاعد ألسنة اللهب من تنانير بيوتات القرية المنتشرة شمال القلعة وأسرع نازلاً بعد غلق الباب.
* * * *
لم يتجرأ أحد برفع الجثة 0 ألقت امرأة عباءتها على الجسد المكشوف قبل وقوف السيارة ,ترجّل الأب حاسرَ الرأس ؛ متعثر الخطوات , اقتربَ منها , جثا علــــى ركبتيه. عيون تختلسُ النظرات من أبواب مواربة. ارتفعت يداه , بعينين تختزلان بؤس اللحظة حمل سواد الأرض. أنفاسُهُ حرّى , ثقّبت الأرض الصلدة. في إحدى غرف القلعة , أشعل شمعة. وضعَ الجثة على مصطبة عريضة. خلعَ الثوب. نظّم شعرها الذائب بسواد العتمة. عيناها مغلقتان , رموشهما طويلة. صبّ الماء الدافئ. شعرَ برجفة , فالوجه البلوري عانق رغبة جامحة. مسدّت أصابعه جِيداً أتلفته حمرة الشفاه. اصطدمت يداه بالثدي الأيسر , بإبهامه وسبابته ضغط الحلمة السوداء... ليل مضمخ بالرغبة والحليب والدماء لطخَ وجهه وملابسه , فامتنع عن قراءة الجسد. سمعَ الحراس تأوهاته . كانت غرفة السجن ملاصقة مكتبه. رددتِ الأصداءُ نشيجاً ذرّ الملح في الأحداق.
* * * *
رسا الزورق عند ضفة النهر. نزل احد الرجلين وطوّق جذع شجرة قريبة , تبعه الثاني , أراهما بوضوح. عند باب القلعة سألا الحارس. كنتُ في الغرفة. سمعتُ ما دار بينهم من حديث. تناولتُ حقيبتين كيفما اتفق وأبحرت معهما. ودعتني الشمس الغاربة وغمامة أفق ملطخة بالدماء. ألقيتُ بنفسي على حزم القش , متأملاً المزارع الخضر الشاسعة وطيور السماء المصاحبة هسهسة الزورق المنساب على المياه. كان الرجلان صامتين , كلّ منهما يقفُ على طرف. لا يشغلهما سوى تثبيت مسار يكشف ما فيها من جمالٍ آسر، سحرني بسرقته الوقت , فلم أجدِ القلعة وحراسها وأشجارها حين حانت مني التفاهة للوراء , عرفت أننا قطعنا مسافة لا بأس بها جعلتني أتنبه إلى حوارهما ثمّ هبوطهما أرضاً خضراء , طواها بأقدام داستْ موجات الظلام المندفعة في الفضاء ؛ ذهبا بعيداً. انتابني الخوف فالفضاء بدا كشاي ممتزج بالحليب , من قعره تراكضت مخلوقات هلامية يسبقها نباح حاد. ليس أمامي سوى الغطس في الماء أو الاختباء في حزم القش , وهذا ما فعلت , إذ حشرتُ جسدي بين أجسامها الطرية , وكومت ما استطعت من تلك الحزم عليه. كنت قريباً من حافة الزورق. في الجهة المعاكسة ضفة النهر. كان نباحهما مقروناً بحركة أقدام عدائية. اختض جسدي لها خوفاً. وزفرَ أنفي عبر فتحة رعب مساء ملغز بالأسرار. كنتُ متوجساً من عثورها على مخبأي. مرت اللحظات قاسية قبل انقطاع الحركة وتلاشي الصوت. لم اطمئنْ. لبثتُ في مكاني. أبحث بأصابعي عن ثغرة تسمح بمرور نسمة هواء نقية. تناهى إلى سمعي صوت الرجلين. فنهضت من مكمني. وتبادلنا النظرات. لم ينطقا حرفاً. بل واصلا الإبحار في ليلٍ تتراقص أضواؤه من بعيد.
* * * *
انطرحتُ على حزم عالية مالئة الزورق والمربوطة بحبال غليظة. إذ لم يتسنَ للرجلين رؤية بعضهما أو رؤيتي. أنا النائم في الأعلى.أحصي نجوم السماء. وأتصيد الضوء. أشطب خارطة أعرفها. وأبني معمارية خيالي. صارَ العالم ملكي. حريتي مطلقة. لاينازعني أحد أترك عينيّ مفتوحتين في إبحار يتلمس هدى العلامات. أيقظني الرجلان. أفركُ عينيّ بباطن يدي. ليلٌ تنفث أفواهه حلكة دامسة. ذُبالة ساعدتني في العثور على الباب. واجهتني امرأة بلون الرماد تفرشُ بيديها عجيناً أبيض فوق نار تتوامض. لم ترفعْ بصرها. على جانبها رجل يقلّب الجمر. صرخةُ طفل ويدان تتحركان على حائط. ظلّ يُذّكر الضوء بملاحقتهِ. تعالتْ أصوات الملاعق في أقداح الشاي. والتهم الرجلان ماقُدِم لهما. أما أنا فكنتُ أحلم في ليلٍ وسرير ورحلة لا تنتهي.
قصّةٌ لم تكتمل
يجهل منابع المطر النازّ من كلّ أنحاء جسده، فتشعره بالضيق حركة القطرات المنسابة وهي تلامس منابت شعره الكثيف، في حركة غير منظّمة تقلقه، و تصرف تفكيره عن لحظته المشتعلة حرارةً، تراجع للداخل، متخيلاً انزلاق كرات الماء وما تحدثه من إحساس حفّزه لاجتراح توصيف يعبّر عنه، استغرق زمناً عدّه طويلاً. فشل في الوصول إلى مفردة لغويّة تقابل ما مرّ به من حالة حسيّة.هو ليس عجزاً في البحث وإنما أراد أن يترك متعته تلك بلا تسمية.
حاول إطالة بقائه في متابعة عمل أجزاء جسده و ما يطرأ عليه من تغيير، لكنّ منبه سيارة وقفتْ قربه أيقظه، ففتح عينيه متطلعاً للسائق. أصابه الذهول، ظلّ محدقاً باستغراب من وقوع الأمر، فالرجل الجالس وراء المقود، ليس سوى الشخصية الرئيسة لقصّةٍ لم يكملها بعد.. فتىً أسمر، يمتاز بقامةٍ اقتربت من المترين، دُبغت بشرته بملح ثورة الزنج، إذ كان أجداده المهاجرون من إفريقيا قادتها، فورثَ ملامحهم الحادّة المعبّرة عن قسوة حياتهم.هو المولود في مدينة أحبها، لا ذنب له في ذلك، خطّ في سماء فضائها تأريخاً له، و أنشأ بيتاً للذكريات.
ليس هذا فحسب، ما تذكّره الكاتب في وصف الشخصيّة، متأملاً السائق ليتأكد من حقيقة ما تخيّل له من صورة. مدّ يده ملامساً، ثمّ تركها معلقة في الفراغ إثر التفاتة مصحوبة بنظرات متسائلة، قطعت خيط الشّك وأعلنت وجوداً ملموساً، ما زال يحتاج لمزيد من التعمّق. ستتكفل به نسمات الهواء الساخن المندفعة بقوة من نافذة السيارة، بعد أن تمنح الكاتب شيئاً من الهدوء،يمكّنه من إكمال رسم الشخصيّة، سحب نفساً طويلاً، لغرض المتابعة، لكنّ صوتاً موسيقياً تحرّر من صمته قائلاً:
- اتفق معك في تصوير مظهري الخارجي لكنني لا أعرف شيئاً عما ذكرته عن أجدادي و ما تصفني به وأسلافي البعيد يُبْهِجُني. انتابته أثناء توقف السيارة في تقاطع الجزائر حالة صمت، ظلّ خلالها يُراقب أشجار الكالبتوس المحاطة جذورها بمربعات ( شتايكر) ملّونة، والرطبة تربتها، تظلّلها أغصان متشابكة، تصطاد أيّ خرق يلّوث ما تنعم به، أو ما يطيل حياة لون التربة المتغيّر بفعل الماء.
هو يرصد حركة الأشياء في الخارج، و أنا أتجول في ساحات طفولته، بين أزقة ضيّقة، تخلو شوارعها من التنظيم، يستغلها مع بعض فتيان المحلّة في ممارسة ألعابهم، تلك المرحلة التي غادرها مبكراً، بسبب النمو المتزايد لطوله، إذ حرمته قامته الفارعة من رغبات كُثر، لكنّها وضعته وجهاً لوجه في مواجهة الحياة، مازال غضاً بالكاد يجد له مكاناً في عائلة مكونة من خمسة ذكور وأربع إناث... انتشلته منبهات السيارات من استغراقه، فتابع سيره بالالتفاف حول ساحة عبد الكريم قاسم.
كان صامتاً، أجهلُ بما يفكر. لم يشعر بلهفتي في معرفة ما يُخفى عني. قاطعته سئماً من تلك التفاصيل التي لا أجدها تُغني أو تضُرّ. أردتُ منه أن يروي لي أحداثاً مهمّة في حياته، وليس بالضرورة أن تكون متتابعة، لكنّه انغمس في ذاكرة ما انفكّت تلحّ عليه، وقد تنفس بعمق عندما أوقفته مزيحاً عن كاهله ثقل السنين، مستغرباً من استيائي من تفاصيل معيّنة لا تُضفي شيئاً لشخصيته.
مضغ انزعاجه حائراً في أمري ونادباً حظّه لهذا القدر اللعين الذي وضعني في طريقه، فليس صمته مقبولاً، وكلامه عن حياته الماضية لا يَشُدّني، وجلّ ما وجدته فيها أنها رتيبة ومتشابهة مع حيوات أخرى. أردته أن يحدثني عن اللحظة التي وجّهه بها مدرس الرياضة بأنه لا يصلُح إلا لكرة السلة، و قد أخذ بنصيحته وخضع لتدريب منظّم في الّلياقة و المهارات و قد حدث ما توقعه مدربه بفوز مدرسته بكأس المحافظة. ضُمّ إلى فريق التربية الذي حصل على المرتبة الأولى في نهائيات البلاد، وعلى إثرها مثّل البلد في منتخب الشباب، وشارك في البطولة العربية بتونس ومازالَ طعم تلك الرِحلة عالقاً في لسانه، وهي المرّة الأولى التي يغادر فيها مدينته، فقد حدّث أصدقاءه عندما عاد عن الناس و المكان هناك، كانوا متحلّقين حوله جلوساً ووقوفاً، بينما هو مسترخٍ على مصطبة خشبية.
لم تمضِ سوى سنة واحدة التحق بعدها في المنتخب الوطني، فذهب إلى بغداد واستقر فيها. عاش حياة حافلة بالنشاط والإبداع و تصدّرت صُوَره المجلات والصحف الرياضية و ظهر في التلفاز متحدثاً عن انجازاته الرياضية، موثقاً تلك الانتصارات بصورٍ ملّونة.
سنوات من التمرين والسفر واللعب، وخزائن مُلئت بأنواع من الميداليات والكؤوس و الهدايا، وارتقاء مُتكرّر لمنصّة التكريم، اختلفت فيها مشاعره بمرور الزمن. هزّ رأسه وابتسم، مصوّباً نظراته تجاه الشركة العامة للسيارات.. المكان الذي احتجزنا فيه بسبب الاختناقات المرورية، ولوجود فائض في الوقت، ذكر متألماً لحظة اعتزاله وعودته إلى البصرة، وحصوله على دار سكن للعائلة، بعد بيع شقته في بغداد، وما تبقى اشترى به سيارة، ليُؤمّن بها متطلبات الحياة.
يستيقظ مُبكّراً، ويلفّ شوارع المدينة بحثاً عن راكبٍ، وفيها يحاول إعادة اكتشاف مدينته وما طرأ عليها من تغيير، إذ لم يترك حيّاً أو ناحية أو قضاء إلا ووطأته قدماه، كان يشعر بفرحٍ يكتسح ما يُعانيه و يُكحّل عينيه بجمال أخاذ، باثاً بين حناياه نشاطاً و همّة و حيوية دفعته إلى الدخول في الجزء الأول من تقاطع عبد الله بن علي بعد تحرك السير، استدار بسرعة متجاوزاً تمثال الفراهيدي الواقف في بداية شارع الاستقلال، وعابراً الجسر المُتربّع فوق نهر العشار، المخفِيّ سياجه بأسلاك تستحوذ على نصف الرصيف، تاركين مسافة نصف مترٍ للمارّة. أكمل ما تبقى من الساحة، متجنباً الدخول إلى ( أم البروم ) و مُحاذياً الجدار العالي لمبنى المحافظة القديم، بقربه أوقف السيارة، ووضع يديه على المِقود، وسادةً أراح عليهما رأسه، أثارني تصرّفه، سألته:
- ما الأمر ؟
لم يجبْ، أعدت السؤال مرّة ثانية ولما تعذر سماع صوتٍ أو همهمة، ارتبكت، نزلت مضطرباً و طلبت من حرس المحافظة مساعدتي، فلما دنا من السائق، أجابني:
- إنه ميت.
لم أصدق ما جرى، كيف يعقل هذا ؟ وهل يحق له أن يضع النهاية لقصة لم أكملها بعد. كنت آمل أن أكتب شيئاً آخر ؛ خاتمة تبقى مفتوحة لقارئ مُدركٍ تأويلها، لكن تصرف الشخصية، خذلني، وأشعرني بمحدوديّة قدرتي في عالمي المتخيّل، وهو ما حدا بي إلى الابتعاد، بعد تجمّع نفر قليل من الناس، ليغدو المشهد في بداية الجسر الذي يربط شارع المغايز بسوق حنا الشيخ، أشبه بضباب أذابته أشعة حادّة، سواء كان في الواقع أو ذاكرتي.
جئت كي أبني قبراً
حررني تسلسلي، الممحو بقطرة ماء من أسر ورقة، تواقة للجدار، ماضيةٍ في طريقها إلى قاع سلة المهملات.كان الجو حاراً.تشير اللافتة أمامي إلى مركز الشرطة واجهته مغطاة بمثلثات كونكريتية ضخمة، تستعير فضاء أوسطهن كباب للدخول ساورني الشك بتغيير المكان، فيما ترددت ذاكرتي بمراقبة التفاصيل. إنه المكان الأول، مازالت غرفة الاحتجاز تقع إلى اليسار، إحدى جدرانها كشفت عن آثار خوفي الملتصقة به، فتسربت عبر كوة صغيرة في الأعلى أنفاسي المتسارعة. كنت وحيداً.أفتش عن أقدامي في وجه الشارع، عن نعلٍ ودشداشة رمادية، عن جسدٍ ترك ظله لذاكرة مهملة.لم أطلب توضيح ما يعزز افتراضاتي ستة عشر عاماً، قادرة أن تنسيني كل شيء، لكن ما يغريني صورة الأشياء العالقة بذهنٍ مشوش، يعجز سائله ألحامضي عن تسويد البياض كي يحقق لي وجوداً يوحي بعلاقةٍ، تدلني على الطريق هل اقتادوني عبر دار الأنشطة، أم من خلال شارع المستوصف، وفي كلتا الحالتين تقف ثانوية البنات في المفترق،محتفظة بهيئتها و بما يحيطها، ماعدا الساحة المجاورة للمخبز قد أصبحت مرآباً في زاويته اليمنى محطة لبيع الماء الحلو.
تتفرس عيناي بوجوه تخلو ذاكرتي من صورة سالبة لها ,لكنها الوجوه ذاتها، متلصصة كانت، من فوق الأسطح, أم من خلف أبواب مواربة، رأت شاباً في عشرينيات عمره يتوسط رجلين، يحدد انتفاخ قميصيهما جهة اليمين, فوق الحزام, هويتهما. كانا أنيقين.امتنعا عن وضع الأصفاد في يديّ أو شبكهما بأيديهم، حتى لا يجذبا انتباه المارّة، المبتعدة أقدامهم بحجم الخوف المتسربل في النفوس، و الكاشف عن نظراتٍ جانبية، تحدق خائفة لحظة لا تكفي لفهم ما يجري، ثم تهرب باتجاه آخر، تتعثر بالهواء الماسح بيده وجه الشارع المعفّر.إني أعرف الناس بقدر معرفتي نفسي، أقدّر ذلك على مستوى ما، لكن أن أُنكر بهذا الشكل هذا ما لا أفهمه. أشعر بالتراب المتطاير من نعلي يسبقني ليكون جداراً يمنعني (يمنعهما) عن الرحيل بي. يطرق سمعي باب يغلق، ونعيق غراب بعيد، و صرير عربة يجرها حصان، ولا شيء آخر لأننا في عطلة الصيف، و الوقت يقرب من الظهر، و لهيب السماء يكاد يفرّغ الشارع من سالكيه.لم أسمع تأوهات أمي، و ولولة نساء البيت من كثرة ضيوفي، فقلبي مثل بيتي، باب مفتوح للريح و الضوء...باب يقابل سياج مدرسة ابتدائية، احتفظ كلاهما بالمسافة الفاصلة بينهما، بين نهايتي الزقاق يتوازى شارعان، تعمد الرجلان اللذان اقتاداني عدم الخروج من النهايتين المفتوحتين, ودلفا بي عبر ممرٍ يقع في الوسط، يخترق زقاقاً آخر في منتصفه أيضا، لنواجه - نحن الثلاثة - ساحة عريضة، تعجز عن دفع موجوداتها لملء حدقتيّ المفتوحتين لالتهام كلّ شيء.مازالت الفتحة قائمة، لا تجلب سوى رياح الشرق المحملة بالرطوبة، و روائح الأقوام الراسية سفنها في شط العرب، عرضها كان يسع سيارة، تنقلُ أثاث مشترٍ جديد أو مستأجر، النصف الأول منها لم يتغير, بينما ضيق الثاني لم يسع لمرور دراجة هوائية، مع أنه بمساحة بيتين، كان جدُّ واسع لرجالٍ مسرعين، يتلبسهم خوف من وقوع أمرٍ ما، استغرقوا أسبوعا في المراقبة، ساعدهم زميلٌ لهم كان جاراً لي، سمح بوقوف سيارتهم أمام باب بيته، و اصطنعوا المزاح و اللهو، و في اليوم الذي قرروا فيه فيه اعتقالي، لم تظهر السيارة في الزقاق ,و لأنهم رتّبوا خطةً ما استبعدوا إحدى نهايتيه , و اختاروا هذا الممر لقصر مسافته عن المنزل، و لمزيّته في تحقيق اختفاء سريع.صوت أحذيتهم يتردد في الفضاء الساكن. تصطدم نظراتي بالجدار, لقد تغير، يبدو انه ارتفع أكثر، يئن ليلاً لغياب حارسه*. أصبحت قريباً...كنا ثلاثة أصدقاء، بيننا صينية صغيرة، فيها أقداح شاي، و صحن مملوء نصفه بالكعك، احتسى أحد ضيفيّ شايه و استأذن بالخروج، بينما أكملنا نحن الاثنان احتفالنا البسيط بمناسبة نجاحنا للمرحلة الثالثة من كلية الآداب / قسم اللغة العربية، بالحديث عن مواقفٍ مرت بنا.كنا فرحين، يردد المنزل صدى سعادتنا، نخطط لاستثمار العطلة بإنجاز مشاريع قراءة، حين سمعنا (على الباب نقر خفيف.. على الباب نقر بصوت خفيض.. ولكن شديد الوضوح )* نهضت من مكاني مترعاً بضحكة، تلاشتْ بامتصاص عقب سيجارة داستها قدمي بعد إلقائها. تعودتُ قبل فتح الباب النظرَ من ثقبٍ صغير يقع في أعلى جهة اليمين، لكن هذه المرّة امتدت يدي و أمسكت مقبض الباب و حركته ببطء.ألقى أحدهم التحية قائلاً:
- هل أنت...؟
- نعم
- تفضل معنا
- أتسمحان لي بتغيير ثيابي ؟
- لا... لا حاجة لذلك.
- اجلب هويتي..أو..
- لا.لا لا نأخذ منك سوى خمس دقائق...
ظل نصف الباب مفتوحاً يدور في فضائه حوارنا المقتضب، قد لا يكون الباب نفسه، بل آخر أكبر حجماً نمت بقربه شجرة، جلستْ تحت ظلها امرأة عجوز، ترتدي نظارة طبية و بيدها عصا. أمرُ من أمامها دون أن تشعر، أدخل باباً أستبدل أيضا. في غرفة الاستقبال أعلق صورتي ثم أخرج... كان المرآب مزدحماً، أركب سيارة لا على التعيين. يزعجني لغط المسافرين.الصحراء تملأ حدقتيّ المتأملتين ذبالة نهارٍ،أسدلهما لأوقظ مكاناً تطلُّ بيوتاته على نهر، مويجاته المداعبة ضفة رخوة تشتدّ لصدى صرخات تكسرُ صمتَ فجرٍ ريفي...هكذا كانت ولادتي في مدينة أستعيدها عبر رائحة الجدران الطينية و عفونة الأرض. حملتني أمي بعد أربعين يوماً إلى بغداد، في غيابنا فتح أبي القرآن و اختار لي اسما، بينما تعددتْ الأسماء التي نوديتُ بها هناك، و لأن الاسم الذي وقع عليه كان جميلاً فقد ثبّتَ و تلاشى ما عداه. تنقلت في مدنٍ كبيرة، غابت ملامحها عن ذاكرتي , لكن المكان الذي أبى مغادرتها , يتمثل بشارع طويل , في بدايته على اليمين , مركز شرطة , تقابله مدرسة ابتدائية , ملاصقة لمركز صحي , كنا نقرأ في ممراته المضاءة ليلاً بالاتفاق مع الحارس الذي يتركنا ليغط في نوم عميق. ولما ينتابنا الملل أو النعاس, نحوك المكائد ضد الآخرين. كانت أياماً افتقدتها في الحرب التي نجوتُ منها بإكمال دراستي الجامعية , فأقبلتُ على الحياة مغتنماً الفرصة التي وفرها الحظ , ويبدو أنها محدودة , لم تمهلني كثيراً , فتداخل صوت عقاربها بطرقات الباب. كانت نظراتي متوجسة , غير راغبة بمعرفة الزائر , حين نهضت , سمعتُ أصوات حقائب وأطفال وسعال وبكاء , ويداً تمتد لتلامس كتفي , تمطيت شابكاً كفيّ في الأعلى , وهممت بالنزول , لا أحمل شيئاً. أعرف الطريق , فلا حاجة لمن يدلني عليه. كان الوقت ليلاً , اختصرتُ المسافة نحو مكتب الدفن. لم أجد الرجل الذي أعرفه , كان أخوه ينوب عنه. اتفقنا على المبلغ , ثم اتجهنا نحو المكان المحدد. عمِل بسرعة كبيرة , ليس من أجلي , بل للقادمين. عندما أنهى الحفرة , سألني: أين الجثة. قلتُ له: ابتعد , ثم نزلتُ وتمددت بداخلها
قال: ماذا تفعل
أجبته: اكتب على شاهدة القبر ؛ اسمي وتولدي وتأريخ وفاتي ,أعد الثرى
رجاءً.
وأجرتي..
......
جسدٌ موشومٌ بالأزيز
وصلتني رسالة عبر بريدي الإلكتروني ولأن اسم مرسلها باللغة الانجليزية فقد أهملته مؤقتاً لحاجتي إلى وقتٍ طويل كي أتهجاه. في البداية انتابني استغراب لما يروى، فالمرسل يدّعي معرفتي ولتأكيد كلامه يذكر بعضاً من سلوكي ويرى أنه مختلف لكنه يتلاءم وشخصيتي المعتزلة الجميع دائماً والمنفردة بمكان خاص يضيئه ليلاً ضوء فانوس شاحب لا يجرؤ على التسرّب من فجواته القليلة، كاشف عن سريرٍ مغطى ببطانيتين وحقيبة جلدية تجاور الوسادة ملقى على قماشها الباهت كتاب مقلوب ورقعة شطرنج تضعها تحت إبطك وتبحثٌ في ممرّات متعامدة أو متقاطعة عن متحدٍ يجيد اللعبة حتى عثرتَ عليه أو عثر عليكَ وأقمتما اللقاء، احتفى به أصحابه متجهين من ساحة وقوف العجلات بوصفه لاعباً لا يقهر، وأنت الذي لا يعرفك أحد ولم يرافقك سوى شخص وثق بقدرتك على الفوز وقد تحقق ذلك في وسط استغراب الجمهور الذي لم يصدق خسارة لاعبه الفذ.
كانت أمسية رائعة، شربنا فيها الشاي ولفقنا تاريخاً جديداً للمكان... هل تذكّرتني ؟..أنا أعرفك جيداً. لم اسعَ بكتابتي لك أن اجترّ زمناً قد تكون طويت صفحاته ولا أنوي أن ابتدئ معكَ علاقة جديدة، كلّ ما في الأمر قرأتُ لك شيئاً بسيطاً في مجال القصة ويسعدني أن تكتب عني إذا وجدتَ ما يشدّك في ما أقوله أو أرويه.
جمعتني وصديق مدرسة عسكرية، كنا شباباً ننحدر من أسرٍ فقيرة، أحلامنا بصغر امكاناتنا، طموحاتنا لا تتجاوز ظلالنا. لم نفترق حتى بعد تخرّجنا إذ كان سريرانا متجاورين في صحراء البصرة.. فتى بقوام ممشوق وعينين خضراوين وشعر أشقر وابتسامة جذابة وهي الصفات التي أهلته لأداء مهمة صعبة فمن بين عشرين عسكرياً وقع الاختيار عليه، رجوته ألّا يذهب فرحلته طريق مجهول لا تعرف تفاصيلها. كنت خائفاً من فقدانه. فقد أسبغَ عليّ شعوراً لم أجده عند الآخرين، توسلتُ إليه أن يجد عذراً يتعلّل به، مع تردده أُذعن للأمر.. انقطعت أخباره بعد سفره، وعُتّم عليه فظلّتْ أسئلتي تدور في فضاء ملتبس وغامض.
تضاءل ذكره واختفى من ألسنتنا التي تلهج بكلّ شيء تافه ومبتذل وهو نتاج علاقتنا وبلورة سلوكنا التي تحاول المؤسسة تثبيته في شخصياتنا فهي لا تريد منا سوى الطاعة لأيّ فعلٍ وإن كان مغايراً قناعتنا، ما يهمّها تحقيق ما تفكر فيه وما تبتغيه.. وما نحن سوى بيادق شطرنج تحركنا أصابع صُلبة قاسية لا تترد في اتخاذ أيّ قرار يديم استمرار العمل فاخترت من ضمن لجنة تنفيذ الإعدام بعسكري خانَ وطنه حسب ما ورد في أمر صادر من الجهات العليا. لم أسأل عن اسمه فمعرفته لا تغيّر من المحتوم، وما دام الموضوع قد بتّ فيه، فماذا ينفع السؤال، وفلسفتنا التنفيذ ثم المناقشة ؛ الدرس الذي سكبوه في أذهاننا فتخثّر واتخذ شكلاً ثابتاً غير قابل للمراجعة أو الحوار.
وفي الليلة التي سبقت الواجب كنت مع زميلٍ لي نتجاذب حديثاً تزجية للوقت حين باغتني بسؤالٍ عن الشخص الذي سوف يعدم غداً ولما أبلغته بجهلي عما اقترفه، سرد ما توصل إليه بتحرّياته الخاصّة بأن الرجل قد أُرسل للتجسّس في بلدٍ مجاور، بعث تقاريره بشكل مستمر للجهة التي أوفدته، تحدّث فيها عن كلّ ما طلبوه منه، فهو رجل مطيع، الواجب عنده مقدّس، والتهاون به أمر خاطئ. ولما يتحلّى به من صفات، و لاجتيازه اختبارات الذكاء الانضباط والتحمّل الجسدي، أنيطت به المهمّة لوحده مع وجود مرشحين آخرين.
بعد مُضيّ فترة من الزمن انقطع الاتصال به. وعُرف أنه تزوج امرأة من هناك وعمل في متجر بيع الأقمشة. وفي ليلة شتائية باردة، تحرّك الحنين في صدره فترك زوجه وأطفاله يغطون في النوم وانسلّ بهدوء راسماً في مخيلته طريق العودة. فرح به أهله وأحاطوه بكلّ ما لديهم من حبّ وشوق فأرواحهم خاوية وأبدانهم مجدبة وعيونهم منطفئة، كان قد اكتشف ذلك، وقبل أن يكمل التحري حول الأشياء اقتحمت الدار وألقي القبض عليه. مع تركيزي الشديد لما ذكره الرجل لم يخطر في ذهني أن الشخص المعني هو صديقي، تخطّينا الموضوع، لكن صورة الغد أبت أن تفارق تفكيري فبقيتُ متيقظاً، تحدّق عيناي إلى ظلام القاعة الكبيرة باحثاً عن سبب أرقي، منزعجاً من صلابة الوسادة هذه الليلة، وخشونة أغطيتي. أسمع للنوم صوتاً يعلن عن وجوده، يستبيح الأجساد إلا أنا أبى الاقتراب مني جاعلاً من زمنه حبلاً يصل السماء التفّ حول عنقي، غادرتني الأرض ؛ قدماي ترفس الفراغ كدتُ أصرخ ؛ كفان بصلابة الحجر أطبقا فمي، شعرت باهتزاز جسدي، تكرر الأمر، حين فتحتُ عينيَّ، كان زميلي يأمرني بالنهوض.
غمرنا الفجر ببرودة منعشة، تخلّلت غطاء العجلة المسرعة في طريق ترابي، تفادت نظراتنا افتضاح هواجسنا فلاذت لتحدّق خارج الحوض الخلفي، منغمسة بالتراب الحاجز الرؤية إذ لا شيء سوى اللون الكالح واهتزاز الأجساد على مقاعد حديد.
عندما وصلنا كان الضابط قد سبقنا إلى المكان المعدّ أساساً ساحة للرمي، احتل مركزها ساتر ترابي أعلى من قاماتنا. ثبّتنا في منتصفه عموداً خشبياً، ثم ربط عليه الرجل المحكوم بالإعدام. أمرنا الضابط بالتمدد أرضاً مصوبين الأسلحة تُجاهه. وقبل الإيعاز رفع غطاء وجهه فتأملته ملياً. انتابني شعور بالفزع، الرجل الذي أصوب بندقيتي تُجاهه هو صديقي الذي فارقته قبل سنوات. لقد تغيّر لكنّ ملامحه مازالت ثابتة. عيناه تأكلاني، في سوادهما ألم وحزن كبيران. نهضت واقفاً قبل أن يكمل الضابط جملته المعهودة، أخبرته بانسحابي فهددني بأقسى العقوبات، لكنه لم يزحزحني عن قراري، أعطيتُ ظهري لهم، وأزيز يلطم أُذنيّ.
أکیاس
لا مكانَ محدّداً يرتاده في حرکته الیومیـة بل يترك قدميه تحدّدان وجهته , عند خروجه صباحاً من بيته بعد تناول إفطاره , يقف لحظات ثمّ يستدير يساراً , ليقابل النسوة العائدات من السوق , يحيي بعضهن ويتحدث مع من يرغبن بالحديث معه فهو يجيد سرد القصص وقراءة الشعر العاميّ الذي يجذبهنّ إليه , تضع ما تحمله على الأرض , وتطلب منه بيتاً شعرياً , أو حكايةً ما , دون أن يعيرا اهتماماً لأشعة الشمس أو زخّات مطر خفيف , فما يشيعه هذا اللقاء من متعة , هو الأهم. يواصل طريقه بعد توقفات عدّة , قرب مدرسة ابتدائية أو روضة أطفال تتناهى إلى سمعه أصواتُ الباعة في صباح رائق، تدعوه بعضها مازحة , ليقف أمام امرأة شاركته ذات يومٍ بيع الخضراوات والفاكهة والتمر. تطلب منه الجلوس , يرفع دشداشته واضعاً قدمه في فراغ وتاركاً نعله تتعامد على خطّ مستقيم , تتراصف على حافته البطاطا والطماطم والبصل والخيار والباذنجان ويدخلان في حوارٍ ينقطع بتلبية حاجات زبون ثمّ يتواصل منخفضاً فبينهما مودّة قديمة. يسترجعان تأريخاً من القصص والحكايات في مدينة لا وجود لها إلّا في ذاكرتيهما. بين الحاضر والماضي, مسافة لا يملآنها , تمتد لسنوات خضراء حافلة بالحياة , لا تعني ما يحيطهما , تغدق عليهما لذة باجترارها , لا تخلو من جديد يطفو على السطح , ناضاً عنه عتمة القاع. ينهض عندما تلسع نار الظهيرة أصابع قدميه , يودعها سالكاً الطريق ذاتها لكن عودته خالية من أيّ لقاء , تراب يغلي لا غير, وأقدام هاربة منه. عيون سئمة تحتمي بظلّ جريدة أو قطعة من كارتون. لم يرَ أحداً في مدينته يحمل مظلة شمسية. لا حاجة به لطرق الباب , يكفي دفعه , ليدخل: على يمينه صنبور الماء وحوضه الجاف. سرير واحد يشغل الزاوية الملاصقة المخبز , بعض أضلاعه المكسورة مربوطة بخرق أو حبال يختفي جزء منها تحت فراشه الملفوف في أحد طرفيها. يجتاز ثلاثة أبواب للمرفق والحمّام والمطبخ , غير متجاورة , لاختلاف طبيعة وظيفتها لكنها تسمح لبابين آخرين بالتلاصق وإظهار نصاعة خشب الصاج أمام رمادية الطين المفخور. يدلف عبر أحدهما إلى غرفة لا يشاركه فيها أحد. ينطرح على فراشه سارقاً من زمنه البطيء قيلولة ليستحضر ماضياً وادعاً عاشه وفرحاً يفتقده في الآن.
بغتة يعلو صوته على أثر انفعال مصاحب موقفاً أو حواراً ما لكنّه يجهر بالغناء معبّراً عن لوعته وأساه , بأنغام لا تطرب سواه , بعد قدحين من الشاي يخرج , متحسساً مسبحته السوداء الطويلة , وعلبة سجائره المتنوعة (بغداد، سومر، روثمن، كريفن) مع أنّه لا يَدَّخِنُ لكنّه بين أوقات متباعدة يجرب واحدة. ينحني مجتازاً الباب غير متوقف في عتبته بل يتجه شمالاً مغايراً حركة الصباح ومَنْ يلتقي بهم , لا نساء في حركة المساء.أصدقاء قدماء وأقارب. لا يقطع من الشارع الطويل إلّا نصفه فاحصاً البيوتات المتقابلة وما طرأ من تغيير على معماريتها. قرب أحد المتاجر المتناثرة على جانبي الشارع , رأى صفّ أفراد سأل آخرهم وانتظم في الطابور. لا شيء يشغله فهو يقف صامتاً لكي يحرص على سدّ الثغرة التي تحدث بينه والذي أمامه في أثناء الحركة حتى لا يندس أحدهم ويسبقه فتصبح الطيبة ونكران الذات والتسامح أباطيل تشبه ما تنفثه ساقية تصريف المياه القريبة منهم , الممتدة بموازاة الشارع.
لم يبقَ سوى ثلاثة أشخاص. مدّ يده إلى جيب دشداشته , أخرج كيساً من الورق , فتحه , أدخل فيه إصبعين لسحب قطعة النقود , كما هو متوقع , لكن ما ظهر كان كيسٌ آخرُ أكثر جدة من سابقه وأصغر حجماً , عالجه متناولاً آخر يفوقه بريقاً. التقط الشاب الواقف خلفه ما يقع منه دون أن يشعر بذلك, فقد كان غارقاً في عمله , منقطعاً عمّا يحيط به. ضغط على جانبي الكيس فانفغر فاهه , قلّبه ليرى ما يحوي واضعاً كفّه تحت فمه المفتوح متنقلاً بعينيه بين اليد المبسوطة وباب الكهف. يهزّ كفه فتُلقي أحشاؤه كيساً مصفوفاً بعناية. دسّ يده في داخله , صار مواجهاً صاحب المتجر , أعطاه ضالته عابراً جسراً خشبيّاً مغطىً بتراب صائِك. سمع صوتاً يناديه:
ـ ألا تأخذ أكياسك ؟
ابتسم له قائلاً:
ـ لديّ كثير.
قصة حذاء
لم ينظر للورقة التي سلّمتها له الموظفة. أمسك أحد طرفيها بإبهام وسبابة يده اليسرى قربها من عينيه الكليلتين, ثُمّ حدّق في وجهها المبتسم وكلماتها الناعمة التي كانت تأمل أن تخفّف وطأة الموضوع , وهي في نهاية المطاف , لا يحمل جرسها سوى نغمة الوداع.
لا يتذكر أنه قال شيئاً قبل خروجه من الغرفة , ولم يسمعْ صوت حذائه, أو دقات قلبه , قادته قدماه بحركتهما البطيئة إلى حيث يريد , ضجّة المسافرين في المرآب عجزت عن إثارة انتباهه , جلس في مقعدٍ خلف السائق , بانتظار المغادرة جنوباً.
لحظتان يفصلُ بينهما زمن تفتح الريح نوافذه , وتغلقها , مرّة تعانق رئتاه نسيماً عذباَ , وأخرى هواءً محملاً بالأتربة ,يحيل نهار حياته ليلاً , ويرى في سواده بياض عيونٍ تتوامض, لها مخالب طويلة ,لكنها لن تصله.
يخلع حذاءه , ويكفّ بنطاله , ثمّ يخوض في مياهٍ قاعها قريب , تتلألأ أرضه الطينية من بين سيقان النباتات. المدرسة تقع في أرضٍ مرتفعة , تغرق بالماء ؛ الطريق الموصلة إليها في ساعات المدّ, ولأنه جديد , أوّل مرّة تطأ قدماه أرضَ هذه المدينة , أخطأ في معرفتها , رفع يده اليمنى لقلبه , لا ليحبس نبضاته , بل ليتأكد من الورقة التي في جيب سترته الداخلي ,عندما دعك القماش , سمع صوتاً ينطلق من الداخل....ألم الجسد الورقي وهو يتلوى ؛ توجع لحروفٍ بارحتْ مكانها.
خطوات قليلة تتسلّق فيها أقدامه ظهر الأرض , خلا شكلها المحدب من أيّ نبات يمنح وجهها الكالح طراوةً أو لوناً , ينسجم وزرقة السماء, المستمدّة عمقها من مياهٍ تتعمد بها الأشياء كلّها. أخرج منديلاً , فرشه ليجلس , ارتدى جواربه وحذاءه , ومسحتْ عيناه بنظرة سريعةٍ حزام المدينة المنحني, وبيوتاتها المتألقة بأشعة شمس الصباح.
كلّ شيء خارج من الحُلم , صفة جمعت الزمن والأشياء , وما حولهما , وقراءة هويّة الأحوال المدنيّة للشمس والمدرسة وأشجار المدينة ونهرها؛ تبيّن تقاربها في الولادة وتفارقها في العلامات الدالة.
إنها اللحظة الأولى , لحظة إكماله الخامسة عشرة , سنة التخرّج من دار المعلمين الريفية. كان الشعر أسود , وملامحُ الوجهِ نضرةً , والشغفُ بالحياة كبيراً, وحركة الزمن بطيئة قياساً بسرعتها الآن , وعيناه تتسعان لاحتواء كلّ ما تقعان عليه.
لم تكن المدّة طويلة , بين تقديم طلبه التعيين , وإعلان النتيجة , ولأنه معفو من الخدمة العسكرية الإلزامية , استغرقت الإجراءات الإدارية وقتاً قصيراً , في كلا اللحظتين هناك اختلاف كبير بين يده وهي تتسلّم الأمر الإداري, لا يقتصر على لون شعر الرأس , وتجاعيد الوجه , ووهن الحركة , بل في الحلق غُصّة , وفي القلب وجع.
أرسل نظرات متسائلة لشارع راحتْ خطواته , تطرق حجارة رصيفه المغطى نصفه بصناديق فارغة ,قُلِبت على ظهورها , وفرشت عليها حصيرة ملونة , توزّعت عليها أحذية مختلفة الأحجام والأشكال. كانت هذه أحشاء محلٍ، جلس في منتصف فضائه رجل ,يتمتع بظلمته الخفيفة. لما رآه يتطلّع إلى بضاعته , نهض من مكانه وأغراه بشراء حذاء. ضمّ قدميه ,كلّ تلك المدّة الممتدة بين لحظتين ولم يبلَ جلده أو يَضعُف بريق لونه , بل أحتفظ بجدّته, وهو أمر استغرب له ,وأضعف رغبته باستبداله , فتلازما منذ عام 1940 إلى نهاية الحرب العراقية الإيرانية ؛ علاقة حملت بين طيّاتها عقوداً ساخنة من تاريخ البلاد , ظلّ فيها محتفظاً بمكانه كمراقب , يُطعم أفواه البردي حروفَ لغة تتعثّر ألسنتها بالاخضرار, وتمضغ أعينها براءة فجر ؛ عيونه تتأبط الزرقة حقيبة سفر , لا يمسّ جلدها أرض مطار أو مرفأ. مسافر دائماً يبحث في المكان عن تأريخ للجلود الحيوانيّة, رغبة منه في التعرّف على خصائصها, واختبار تلك الميزات في مواجهة الظروف, وصمود جلد ما واحتفاظه بطراوته ونضارته مع تقادم الزمن، منصتاً لتلقي همس الأشياء, عبر عطر الريح, فما يصله يجعله لا يثبت في مكانٍ محدد, يده مرفوعة , تمسك طبشوراً لا يكفّ عن تكرار السواد.. درجة لونيّة أخرى لحذائه.
الوحيد الذي أبت الحياة أن تترك أثرها فيه , مما دعا الرجل لتأمله من جديد. حرّك قدميه أمامه , بجوار أسفل الكرسيّ الذي يتقدّمه , غرق بنظرةٍ طويلة أنسته وحشة الطريق , ووعورته , كان يسترجع فيها تفاصيل مهمّة من رحلته الطويلة.. الورقة هي نفسها , مرّة مكتوبة بقلم , وأخرى مطبوعة بآلة كاتبة , ويدٌ وابتسامةٌ تواجهه , وفرحٌ ووهن , والطريق مسافتها قصيرة , تلتهم ما يحفّ بكَ من أشجارٍ وأنهار وسماء زرقاء صافية وغائمة , مملٌ التطلّع لطبيعةٍ فقدتْ عنوانها ,عبر زجاج سيارة ملّوث بأجساد الذباب والبق وحشرات أخرى.
ما يزال يحدّق بالحذاء وكأنه اشتراه الآن , بريقه يعشي البصر. متأكد من عينيه , فهو يرى بصورة جيّدة. شعر بشيء في داخله , قوة ترفض هذا الوجود القسري , حاول تهدئتها , امتصاص شحنة العنف المستشرية , لقد شملت كلّ أعضائه , وكان لابدّ من الاستجابة , فأوقف السيارة وهي تعتلي جسراً حديدياً , نزل متباطئاً , حاذى الجدار , سرّح بصره بالمياه المنسابة بهدوء , العيون المحدّقة به من خلال زجاج السيارة القذر , والذي بدتْ فيه الوجوه موشومة , تنتظر خطوته الثانية.
طالَ وقوفه , شمّ رائحة النخل والماء والأرض والطيور التي عادتْ تحلّق في سماءِ المدينة. سجّل في ذاكرته تلك اللحظة , إذْ رفع قدمه ووضعها على درابزين الجسر , فتح شريط الحذاء , خلعه , تمعّن به قليلاً , ثمّ رفع يدّه , قاذفاً إياه إلى عرض النهر. أحدث فرقعة خفيفة , وتوارى في الأعماق. عاد النهر يجري هادئاً , وكأن شيئاً لم يحدُثْ. استدار نحو العيون المرتابة , ومشى حافي القدمين.
النّاي
أغلق عينيه، معلناً عماه. عندما امتزجت موسيقاه بنعيق الغراب. كانت النغمات جافة، تحمل أصوات الضفاف المتعرية.
- الدم هو الدليل.
قال ذلك.
خط متعرج، يمتد من الكوخ، مطرزاً الوشاح الأسود بنقاط حمر، مسرعة كانت تنحدر نحو النهر المتقلص إلى ساقية. أقدام عابثة تبدد لزوجة الدم في الماء الكدر.
إنه يعرف أكثر من ذلك، فالشاعر صديقه.
نافذة الغرفة، عين ثالثة، يراقب من خلالها كل حركة. لم ينم. الضوء المنطفئ يجعله ملتصقاً بالليل الصاخب. نسمات لافحة تعكر مزاجه. عازف الناي قبل عماه، ابتاع عصا، ممازحاً سأله صاحب المحل:
- وما حاجتك بها؟
- للضرير الذي سأكون
ضحك الرجل لطرافة المزحة، لكنه عندما رآه يتوكأ عليها، مطّ شفتيه.
كان العازف المتعامي، يطرق الشوارع مستدلاً بعصاه. لا تغيّر في التفاصيل الثابتة في ذهنه.
إنه يتقن الدور بلا شك.
مرّ بالمتاجر المهجورة. بناء الحائط الفاصل المدينة عن النهر، كان سبباً في انتقال الحركة إلى الطرف الآخر. فتكدست الأشياء في مكان غير منتظم, بدل المقاهي المتعددة، سُمِح بإقامة واحدة، صاحبها مريب. استقبله الصبي، آخذاً بيده إلى أقرب كرسي. شمّ رائحة الشاي. فرش يده في الفضاء.. سقف أعاق الدخان المتصاعد. العصا تتوسد صدره. اليد المهومة تبحث عن الملعقة. ذبابة حطّت على شعيرات سود نافرة. اللوامس الطويلة، تمسك الرأس الساخن. يرتج الجسد الزجاج، ثمّ يستقر. عيون مبتسمة تحدق إليه. لا يبالي. إنه مقتنع بما يفعل. تحسّس الحصير. كان الشاعر يجلس هنا.
يثرثران قليلاً، ثمّ يتجهان لاحتساء الخمرة.
لقد عزف عن كل شيء. لا يهمه الذي يضحك أو يسخر. إنه يرى ما لا يراه الآخرون.
ثبّت يده على العصا، ظهره تجاه باب المرآب المغلق. ما زال علم المدرسة القديم يرفرف عالياً, تاركاً ظلّه للمسافر الذي لن يأتي. بدا مترباً, فقد غادر الصفاء سماء المدينة بعد تصحرها. عازف الناي يصل نهاية الشارع، باستدارته يكتنفه ظلام لا حركة فيه، عدا إيقاع على الإسفلت. عزف منفرد لرجل يحاول اكتشاف ذاته.
عندما تهدم الحائط لم تفتح المتاجر أبوابها. أفق مزدحم بسيارات عسكرية وشارع يمتد بلا نهاية. اختفى الاخضرار، مانحاً الغابة حرية اختيار لونها المفضل. الجسر الذي شكلّ حلماً للمدينة، لم يثرها بناؤه, بل نظرت نحوه بلامبالاة، كما هو حال الأشياء التي تأتي متأخرة.
التصق الرجل بالنافذة حتى الفجر، شجيرات مغبرّة انبثقت من جسد الأرض. تنذر من يراها بالرحيل، لا ينفع اجتثاثها, أغصانها متشابكة, ملمسها خشن, لها قابلية على النمو السريع والانتشار.
المدينة النائمة غير مكترثة بالأنين. الرؤيا ليست خافية. لم تترك الأشجار أحداً. الكل استيقظ مذعوراً، مكذباً ما رآه.
الشوارع فارغة. ريح صرصر وشمس صفراء. الأجساد مؤرقة، الأشجار المتطاولة، وجوه طيور الغابة الممسوخة وحيواناتها وأسماكها وحشراتها. أصبح الليل لا يطاق، والنوم معناه الجنون. الريح تلقح التراب، والجسد الصحراوي يعلن ظمأه. مازالت الأرض منغمسة في تفاصيل الرؤية الأولى. لم يكن اصرارها كلاماً محضاً أمام ظهوره الحتمي.
- لقد اعتلاها
قال ذلك.
ثمّ مدّ يده تجاه النهر الجاف. كانت الجثة معلقة بين الأغصان. أصابع قصيرة ممتلئة. ندّت صرخة، ثم تشبثت العيون بالرجل الذي خرج. في هذه اللحظة لم يبق أحد في المدينة إلا وتحلق حول عازف الناي.
بمرارة أعلن:
إن الشاعر كان الضحية.
لن أدعك تمرّ
خلفه تقبع البناية التي قضى فيها ثلاث سنين, باجتياز عتبتها , وقف متأملاً.. شارع طويل, لا أشجار عالية تحيطه, أو نهر يحاذيه.. طريق مقفرة , لا تطرقها إلاّ سيارات خاصّة أشبه بصندوقٍ مستطيل، له بابان , الأول: يغلق بقفل كبير , و الثاني بمزلاج من حديد، وما بينهما , يجلس حارسان على كرسيين من حديدٍ أيضاً , مثبتين في طرفين متقابلين, ترصد أعينهما أية حركة عبر فتحات الباب ذي الدرفتين.
ما زال الشارع فارغاً , وهو هكذا دائماً, لا تسلكه إلاّ سيارات محدودة، ولن يؤدي إلا إلى بناية قديمة , معزولة, تقع على أرضٍ مرتفعة، يشعر النازل فيها بأنه يسرع قليلاً. لم ينتابه هذا الإحساس قبل ثلاث سنوات ,كان الزمن فيها سريعاً. أمضى ثلاثة أيام في الحجز , بعد إكمال التحقيق قـُّدِم للمحاكمة, ثم جاءوا به ملقىً في إحدى زوايا المستطيل ؛ يداه موثقتان , وعيناه غارقتان في ظلامٍ حالك , ما عدا رائحة كريهة تطوّف في المكان, تبددتْ حال فتح الباب. مازالت البناية على حالها, لم يتغيّر فيها شيء , لقد احتفظت بثبات تفاصيلها..تلك المفردات التي أرغمته على متابعتها مستعيناً بما يكشفه الضوء الشحيح في الغرفة , قبل مباغتة الحارس له واستسلامه لذراعه القوية في إنهاضه والذهاب معه إلى مكانه المخصّص.
طالعَ الوجوه المحدّقة به , عرف بعضها, واختار زاوية وغطّ في نومٍ عميق , رأى فيه رجلاً اجتاز عتبة سجن ما، بعد ثلاث سنوات وقف متأملاً الشارع المحاط بأشجار ضفة نهر محاذٍ , يفصله سياج حجريّ قصير , تخترق مساحته الطويلة سلالم نازلة. عندما أبلغته إدارة السجن مساءً بالإفراج, عاد إلى القاعة, وكدّس أشياءه في كيسٍ من النايلون , بعد أن حلق لحيته وأخذ حماماً أزال ما علق به من غبار.
ليس متعجلاً للقاء أحد، بل يرغب في تغيير أوكسجين شهيقه ورؤية بعض وجوه الجسر الذي كان يجلس على حافته, ومن تحته تنساب المياه هادئة , في أماسٍ تشتاق لنسمة هواء وحوار تحمله النوارس بعيداً في الأعماق. كان يفكر بحديقة بيته التي تركها بلا تشذيب , ذؤوباتها تتشبّث بأذيال ملابسه , محاولة فكّ قيده , وإغراق الزورق الذي حمله إلى مركز الشرطة.
قرب مرفأه الخشبي تناهى لسمعه صوت شجيّ اعتلى مويجات الماء المتولّدة من حركة المجذاف , مثلما تتلمس قدماه برودة درجات السّلّم الصاعد نحو قاعدةٍ خشبية مستطيلة , تمتد كلسانٍ في عرض النهر, انتشرت عند قاعدتهِ مجموعة أشجار طويلة, تظلّل أغصانها الجزء الملتصق برصيف الكورنيش صباحاً , بينما تفترش أرضيته مساءً أشعة ورديّة تلامس أرجل الكرسيّ الخشبيّ والمنضدة الخالية إلاّ من كوب شاي تتصاعد منه أبخرة دخان خفيف , متراقصة على أنغام خرز مسبحة تلاعبها أصابع متدلّية نحو الأرض , نظر له بتمّعن , ثمّ رفع يده الأخرى, الحاملة بين أصابعها سيجارة (روثمن)، سحب نفساً عميقة , وبإشارة اختفى نصفها بالدخان المتصاعد من فمه. قاده الحراس إلى غرفة فارغة إلا من ضوء شاحب، ظلّ في زاويته يتابع حشرة تسعى لعبور سلك الكهرباء, عنود في سلوكها، لم يعقها فشلها في تكرار المحاولة , استمر في مراقبتها طويلاً حتى نفد إحساسه بالوقت، قبل اقتياده في منتصف اللّيل إلى غرفةٍ أخرى , مؤثثة , لم يطلْ الحديث معه, إذ رُحّل قبل شروق الشمس بصحبة حارسين رفضا تقييده , دامتْ رحلته ساعات تعرّف بعدها على بناية السجن التي نُقل إليها للمرة الأولى. حدّق في الوجوه المحيطة به عاقداً صداقة مع البعض تجاوزت امتدادات السجن إلى الحياة بعمقها وتقاطع مساراتها. لقد عاش في فضاءاتها المتنوّعة , ووجدها تستطيع ابتكار أدواتها الخاصّة في الاستمرار. فكرّ بأشياء معينة , لكنه لم يفلح.
أتاح تواجده يوميّاً في المكتبة لغرض تنظيمها , عقد آصرة علاقة, نمّتّ عنده عشقاً للكتاب ولرائحة أوراقه الصفر ؛ ذلك العبق الذي يصيبه بالدّوار حال الإحساس به. انقطع عن المكان , وعاش في عزلةٍ أبحرت به بعيداً عن الواقع والأفكار غائصاً، في أعماق عالم آخر ,ولّد في نفسه ألفة غير متوقعة مع المكان , أو ما احتواه من تحفيز ترتّب عليه إشباع رغبة أو تحايل على زمن تقنّع بهيئة سلحفاة، عندما وضع قدمه على تُرسها الصلب أيقظته أصوات الباعة المتوزّعة على جانبيّ الجسر , تختلط صيحاتهم بضجّة الزوارق البخاريّة. اقترب من فتحه الجدار, لا يوجد سوى زورق واحد سوف يغادر إلى مدينته ؛ سائقه يحجز أي راكب يحاول اجتيازه, معلناً:
-الأجرة أولاً
وقف حائراً , لقد وزّع كل ما لديه من نقود على زملائه, ظانّاً لا حاجة له بها.ابتسم بوجهه قائلاً:
- إلا تعرفني.
- نعم, ولكن الأجرة أولاً.
إزاء صرامته وحدّته غير المبرّرة ,بادره:
-سأضاعف لك المبلغ حال وصولي.
-كلا , لا أريد سوى حقي.
انحنى قليلاً , متطلّعاً داخل السقف الخشبي عسى أن يعرف أحداً, لكنه وجد الأمر أكثر صعوبة , موقف ملتبس , غامض وكأنه مقصود. أبى أن يستسلم وحاول ثانية, وثالثة, ورابعة ,فأضطر للانسحاب ,متكئاً على جدار واطئ , وعيناه تراقبان الوجوه, ليتأكد من عدم وجود مزحة.
أحدث الاستغراب في نفسه فجوة كبيرة، أخذت تتسع كلّما طال الحسم، لكنه ظلّ متعلقاً بأملٍ ضعيف، خابَ ظنّه بذلك، بل بات ذلك الإحساس يتناقض حتى تلاشى مع أوّل دفقات دخان لطختْ وجه السماء.
وللّيل شموع
كان ليل الصحراء مضاءً، شموعه ضخمة، تخترق نهاياتها حلكة دامسة. هذا ما بدا لنا ونحن في مكانٍ بعيد نستعدّ إلى خنق شُعلاتها بالتراب فالضوء الفاضح يكشفُ الخوفَ في تضاريس الليل... مرآة نخشى أن نُبْصِر وجوهنا فيها كلّما نقترب تتمرد أيدينا بحمل التراب فتزحمها ظلال أجسادنا المسرعة الخطى.
هي ليست لعبة من ألعاب طفولتنا نؤجل نهايتها لإطالة متعتنا في أخيلة بريئة فاللعبة أكبر منا نحن وسائل تحقق بنا غاياتها لا غير. ارتمينا على جسد الصحراء ولأننا أطفال نخاف من الظلمة فتحتْ لنا رحمها الحنون. فضمّتنا في ثنايا حناياها. أمٌّ عطوف. غمرنا الضوء، بشكله الممطوط نحو الأعلى، يراقب طفلاً مصاباً بالتهاب الكبد الفيروسي ولأننا نرفض الاقتراب قبعنا نرقب انبلاج الفجر بعيونٍ كليلة تتملق أشعته الأولى ؛ ذلك الانتظار الذي لن يقودنا إلى أسرّة النوم أو دفء الفراش، وأحلامنا وهي تتبخر بوخزات يقظة ملحة بل يقذفنا في فضاء تتنفس رئتاه خوف وجوهنا المذعورة عبر اشعاعات ضوء عابرة.
ثقيلة هي الساعات في انقضائها ولمحو سلطتها على وجودنا الطارئ ابتكرنا ألعاباً تليق بالمناسبة وأفضل ما أنتجته أذهاننا أو مللنا، لعبة الخرز، نخرج أصابعنا أو نبعدها عن السلاح لنضغط الإبهام في منتصف السبابة، كنا نضحك عندما يُضرَب رأس أحدهم الخارج من رحمه فيصرخ ليوقظ الأماني المتدثرة بدفء الحليب فيسيل مبتكراً ممرّات ضوء وريح. قضينا في اللعب وطراً، قبل أن يغسل ماء الأفق صدأ الصحراء.
تقدّمنا تجاه الشعلات التي خفَّ توهجها، كان المكان خالياً، ماعدا آثار أقدام على الرمل، بصمات منفردة وأخرى متداخلة، ستختفي بعد لحظات. تحلقنا ثانية نفكر في تكرار (عسكر وحرامية) لكنّ الانتظار أرهقنا واللّيل والفجر البعيد فقررنا أخذ استراحة قصيرة نسترد بها قوانا. الغريب في الأمر أنّ الرحم الذي احتوانا، أنا وكريم عبدالله، شقّ لا يزيد عن المتر طولاً، ونصفه عرضاً، كان مملوءً بالمعلبات والشاي والخبز والبطّيخ. أشعل كريم ناراً وهيأ لنا وجبة غذاء أردفها بقدح من الشاي أشاع الخدر في أجسامنا. كنت أراه بعينين مغمضتين قد نهض مغلقاً الرحم ببطانية سوداء... انسل الضوء من ثقوبٍ تتراقص في أشعته كائنات صغيرة بحجم شعرة رأس تتلوى متخذة أشكالاً هندسية.
كان أكثر من عمود ضوئي يخترق عتمة الفضاء ويضيء جسدينا الساكنين بين جدران من الرمل. اجتاحني سكون عميق زاحفاً ببطء من قدميّ نحو أعلاي فشعرت بكثافة الظلمة. أخذ العالم ينسحب على شكل شريطين متوازيين، بعيدة نقطة انبثاقهما، يتحركان بسرعة كبيرة تشوّه معالم ما يُعرض، وكلما حاولت التركيز تزداد حركتهما فارتأيت إهمال ما يجري لكن اقترب الشريطان بصوت مدويّ كريح غاضبة أيقنت أنني في موقفٍ آخر.
لم يكن ما يحدث لعبة أو مزحة توقف أحد الشريطين ليظهر من خلف التلّ رجل ملتحٍ مترب، المسافة التي بيننا تكفي للتمّعن. لمْ أقرأْ على ملامحه الخوف مع أنّ شيئاً منه قد ساورني حين التقتْ أعيننا لم تمتد أيدينا إلى سلاحينا بل احتفظتِ الكتفانُ بثقليهما. نظراتنا بفعل الريبة، ظلت تراقب أيّ حركةٍ. اقتربنا أكثر وعند مسافة قصيرة ختمنا اللقاء بتلفت متبادل وثّق تلك اللحظة وسجلت غرابة سلوكينا. ابتعدنا كلٌّ إلى جهته حالمين في لقاء آخر قد يطول أو يقصر حتى غدونا نقطتين في أفقين مختلفين أو بالأحرى أفق واحد يرتدي عباءة رصاصية يسيل من كُمّيها مساءٌ ثقيل وشمس خلف غبار، أثقلت أنفاسي فنهضت مزيحاً الغطاء لأجد أصدقاء اللعبة جدّ بعيدين أشبه بحبات الفاصولياء، رفست كريماً بحذائي فانتفض منزعجاً متذمراً وقال:
- ما الأمر ؟
لم أكلمه بل رفعت يدي بإشارة واضحة فمدّ رأسه ليتأكد ثمّ نظر إلى عينيّ وقام مسرعاً يجمع أشياءه، كنت قد سبقته، يحدونا الأمل في اللحاق بأصدقائنا وهي رغبة قد لا تتحقق إذا حلّ الليل. حبات الفاصولياء أمامنا والأفق الرصاصي يطبع على ظهري تاريخ الصحراء.
كنا نمنّي نفسينا بالوصول إلى مكانٍ آمن، خطواتنا تحثّ خطاها نحو الاتجاه الصحيح، تحاول اللحاق بالضوء المتسرب من بين أصابع السماء. تمكّنا من الوصول إلى طريقٍ تمرُّ بها عجلاتٌ كُثر. حجبنا التراب المثار من حركة إطاراتها. انتظرنا زمناً طويلاً، ضاعت في زوابعه إشاراتنا، ولأننا محاطان باللّيل والخوف حسمتُ الأمر بالوقوف في منتصف الشارع شاهراً سلاحي بوجه من يأتي، وفعلاً وقفتْ إحدى العجلات فارتقينا سطحها مسرعين، شعتْ عينانا بفرح عابر قبل أن أبعد وجهي عن عينيّ كريم، ارتفع غطاء الحديد الدائري الذي على يمين السائق ثم بانتْ في ظلمته كفّ تؤشر لي عندما ولجتُ الداخل اكتشفتُ أنّ السائق صديقي، ابتسمنا بعد أن تصافحنا فبادرني بسؤال:
ـ هل ستطلق النار فعلاً ؟
قلت له وأنا أرتدي قناع الجدّ
ـ نعم لكنك لن تموت.
ـ كيف ؟
ـ لأن البندقية ليست سوى لُعبة.
هزّ رأسه ساخراً من مزحةٍ ثقيلة لكنه آوانا في تلك الليلة مبتعدين عن أصدقائنا الذين توهموا أننا أسرى فأذاعوا اسمينا عبر المذياع.
طهيثا
جفّ النهر، فاتخذه ذريعة للرحيل. كان قراره مفاجئاً. في المساء رتّب شؤونه الخاصة. مكث قليلاً، ثمّ حمل حقيبته وخرج في الشارع، احتفظ التراب بآثار قدميه، وبتغير ملامح وجهه. بدا غريباً. لم يتعرف عليه أحد. مرّ على متجره المغلق. حدجه بنظرة جانبية. أمام المقهى، كان مكانه فارغاً، امتلأ بأسئلة أصحابه القدامى. الساعة السادسة، كالمعتاد لا حركة تبقي المتاجر مفتوحة. مدينة خراب. يهجرها أهلها بعد المغيب.
على سرير الفندق استلقى عارياً. حدق إلى السقف، فتوهم استمرار فضاء الغرفة بالصمت, شكّ انه في مدينة أخرى, فليل مدينته مستفز, نجومه..عيون جاحظة حمر, تطرف لكل اطلاقة نار.
في بيته, كان يسمع دويّ الانفجارات, يقف في الساحة ويحدد مواقعها تبعا لقوتها أو ضعفها، أما الآن، فليصعد إلى السطح، أفضل مكان للرصد. عند رابع أو خامس درجة من السلّم، تبعه عامل الفندق وأبلغه بأمر المنع. لم ينم، ظلّ يتأمل آخر ارتباطات خيوط الفضاء الممزق/.. نهرٌ إحدى ضفتيه غابة بردي والأخرى حاجز كونكريتي، يعلو الشارع المبلط قليلاً، ثبّت عليه سياج حديد، ترك لسلالم النهر فتحات بعددها. داخل مربعات في الرصيف المحاذي ارتفعت أشجار الكالبتوس، بقربها صفّت تخوت متواجهة، بينها مناضد للعب الدومينو والنرد.
في الفيضانات التي تتعرض إليها المدينة في أواخر الصيف، توازي المياه الحاجز، وأحياناً تتجاوزه، مكتسحة الشارع والمتاجر، فيضطر الأهالي إلى تكديس حزم القصب. وجه آخر سرعان ما يزول، على الرغم من وقتيته اشتق اسم المدينة منه. لا يتذكر عدد المرات التي تغيّر فيها وجهها، لكن آخرها، كان جداراً لا منفذ فيه. ارتفع ثلاثة أمتار، خلفه تعالت زمجرة آلات وزوابع تراب، غطّت كل شيء. ضباب رمادي يهمي فيخترق الأبدان، ويمتزج بالدم. بدّل زفير الأفواه, لون الغائط , نظرات الأعين. ألغى بكثافته رؤية الموجودات، فكثرت اصطدامات الأجساد, الوقوع في الحفر, طرق أبواب بيوت أخر, تداخلت الأشياء, الدوائر, المتاجر, الأزقة, المنازل، حتى غرقت المدينة في غلالة كالحة. ستارة سوداء أمسى أفقه الأخضر. ينعق باستمرار. صوت جرّد الحناجر من ذبذبتها. طنين يتعالى كلما اقترب من الجدار. أصبح التفاهم بالإشارة. تغيرت طباع الناس. استبدلت البيوت بالأعشاش، وأضحى فعل الجنس مكشوفاً. تهدمت الجدران, السقوف. اختفت السلالم, الأشجار, الطيور, الزوارق. بدت الأرض كرأس شجرة جرداء تنوء بحملها الثقيل...
خرج مبكراً، تاركاً الليل يواجه باب الفندق. الشوارع خالية. البيوت نائمة تحت جناحيّ فجر. كان أول راكب انضوى تحت السقف المعدن، يتبعه نعيق الأفق الأسود. خمسون عاماً، ولم يفارق هذا المكان. عجب لجرأته. كيف واتاه التحدي. قطع الحبل المانح لهم البعد, الاقتراب, النوم, اليقظة. الموجه الوهمي لكل سلوك
أو تصرف. بالعدّ، كان يوزع الكلمات. لو نفدت ذخيرة أحدهم اللغوية، لبتر حديثه كأنه مفتاح كهربائي. لا يحق له الاستعارة، لسانه يلوك الهواء بفم مفتوح. أحياناً تشتبك مفاتيح السمع والنظر. انغلاق وانفتاح، بوابات تتحكم بالإيقاع والحركة، لا يصاحب اختلالها تغيرات في الشخصية. الجواب لمرة واحدة. عدم الرد واضح. الوقوف في الطريق طبيعي. سمعك حفيف أقدام لا يعني الأخذ بيدك. شاي مرّ. غذاء بلا طعم. كل ذلك لا غرابة فيه، لكن وجود شخصية رافضة، أمر شاذ، على الرغم من حصرها أساساً في المعاقبين إدارياً، لأن المدينة منفى ليس للغرباء فقط، بل حتى لسكانها. لم يكن الأول أو الأخير. كل يوم تسجل المدينة حالات هروب، تساعدها في ذلك طبيعة الأرض وتنوع وسائل النقل.
السماء بحر من كتل ثلج، احمرّت فراغاتها الزرق، فانعكس الخليط على التراب المتطاير من حركة السيارة. غبار كالمطر، ضمخ الأنفاس والأجساد، كلما توغلوا خفّ التراب، وبهت بياض الغيوم. عبر زجاج النافذة يصل النعيق خافتاً. في الخلف مكثت الأحجار تسحق باستمرار. دقيق يتصاعد من كل الجوانب، متشبثاً بالشعر والملابس والوجه، بإزاحته يعبق الهواء برائحة الإسفلت تحت الأقدام. ظنّ انه ابتعد كثيراً، ولن يرى رأس الشجرة ثانية. ألقى حقيبته وخلع ملابسه، مكوراً إياها. وشم حبل تحت السرّة يطوّق خصره. شعر بالهزيمة، وتابع بنظرات آلية، يد المرأة تمسد ضفيرة شعرها الخشن. لم يطل به الأمر. لملم أشياءه. كان الجدار قد اكتمل في المرآة، فانبعث من الزجاج نعيق عكّر بريق الصورة. ملأ الصوت الغرفة، طلى الجدران بعازل مقاوم. ترك ما لم تكتشفه عيناه، وخرج غالقاً الباب خلفه، يلاحقه النعيق في الصورة التي اتخذت شكل غراب.
لقاء لن يتكرر
أطلقنا عليه (مقهى صلاح) تيمّناً بابن صاحبه فقد كان صبياً يلبّي طلباتنا ويطلعنا على أخبار غير مؤكّدة في أغلب الأحيان , يطلقها بابتسامة تفرّق شاربه الخفيف فوق شفتيه الممسوحتين تغرق في لجّتهما عينيه , يظلّلهما حاجب كثّ, لا يتناسب لونه الأسود وصفار بشرته.
إنه يعرف مكان جلوسنا. لمقهاه واجهتان , نحن نشغل (تخوت) الجانب الأيسر, ولأنها قليلة , نتوزع وقوفاً حلقاتٍ متقاربة تعرقل حركة الناس المتبضّعة والخارجة للشارع الرئيس بحثاً عن سيارة أجرة. لا نمكث سوى ساعة أو أكثر تجنباً أعين الرقباء ثم نهرب صوب كورنيش شطّ العرب هابطين درجات سلّم طابوق , ومحاذين نهر العشار, بمياهه المسوّدة بالنفايات. نمرُّ ببقايا الجسر الذي يربط (سوق المغايز) بـ (سوق حنا الشيخ) فنستحضر صورته في مخيلتنا، غالباً ما نتطلع لما يحيطنا، رؤوسنا مطأطئة وأقدامنا تطبع على وجه الرصيف محنة الأثر.
جسر آخر يحتضن ساحة (أسد بابل) الذي هو (عبارة عن هيئة أسد يجثم على جسد بشري طولها يقارب المترين , موضوعة على منصة (زقورية) بارتفاع متر. وقد سُميّ عبر الزمان بأسد بابل. عثر على هذه القطعة الحجرية المصنوعة من (البازلت الأسود الصلب) في آذار في سنة 1776م من قبل فرقة تنقيب آثارية ألمانية في القصر العيني لمدينة بابل الذي بناه الملك البابلي الرابع من سلاسة (أبسن الثانية) نبوخذ نصر الثاني) نتأمل التمثال المُترب قبل ولوجنا مدخل شارع الوطني ؛ المكان الأكثر احتفاءً بالحياة في المدينة , لم تسلم مكوناته من التغيير , لكنّه ما زال باقياً ينوء بقسوة الزمن وأحكامه المتبدلة , وبطوله الشبيه بنهر تتفرع منه جداول بمسافات متساوية. احتفظ باسمه خلافاً لشوارع أخرى , استُبدلتْ أسماؤها , لأنه يحمل الوطن سمة تذوب في داخلها الأشياء ومسمياتها لتعود متأثرة به فتطلقه مرسوماً على واجهاتها يتلألأ بالأضواء.
هما رصيفان , يتحرك عليهما المارّة , لشارع ضيّق مزدحم بالسيارات. لا أظن أحداً يرفع رأسه لرؤية الأبنية وطرزها , الكل مشغول بالحوار, غير معنيّ بما تعرضه الواجهات الزجاجية من سلعٍ مستوردة أو ما تعكسه من صورِ السيارات المركونة بموازاة الرصيف , وهو يتخلى عن قدمٍ زلتْ من حافته الملونة أثر ملامسة أو محاولة اللحاق بعد نظراتٍ باردة تصوّب إلى أهمّ مَعلَم في هذا الشارع.
لم يبقَ من (سينما الوطني ) سوى كومٍ متناثرةٍ من الطابوق تعلوها قطع من الحديد , في انتظار خارطة جديدة تحوّل المكان إلى محال ألبسة جاهزة أو أحذية وهو مصير ينتظر البارات والملاهي المنتشرة على جانبي الشارع ؛ أقفالها البارزة لا تحتاج سوى يدّ تمتدّ لفتحها ومحو هويّتها.
لقد انتهى عصر يقظة هذا الشارع للصباح فهو لا يعرف النوم بفعل ما تسبغه عليه أشياؤه من حياة ؛ تلك الضوضاء وذلك الصخب لا أثر لهما الآن , ماعدا بعض المطاعم التي تبدو كنبضات قلبٍ يحتضر , متفرقة , تفصل بينها محال مقفلة يزداد عددها على امتداد الشارع ولكي لا نتابع طبيعة الخراب الذي حلّ بالمكان نستدير يساراً , تتعالى خلفنا في الفضاء وقع خطواتنا وهو يطرق الصمت.
تحت جدار بناية على يمين تقاطع فرع جلس رجل , ساقه مبتورة , بنظراتٍ منكسرة يطلب مساعدة المارّة. ليس لدينا ما نمنحه سوى حبّنا للإنسان وهو في زمننا عملة قديمة. سرتُ خطوات قليلة ثمّ عدتُ إليه , حاول التهرّب بعينيه , فبادرته:
ـ أنت كريم عبد الله , صحيح
أطرق برأسه , لم يزل شعره أسود كثيفاً
ـ أهلاً كامل
اختزل بنطق اسمي عمراً بأكمله , أنفق في حرب الثمانينات. كان يردّد أنه لن يموت في هذه الحرب , هكذا كانت تقول له زوجة أخيه وقد صدقت في ما ذهبت إليه , إذ خرج سالماً , ولم يطلْ به المكوث شهراً حتى طردته فوجدَ نفسه في الشارع لا يملك شيئاً , ولسوء حظه جُرحت قدمه فأهملها مُوقناً بأنه سيشفى ثم أنه ليس لديه من المال ما يدفعه للذهاب إلى المشفى فتفاقمت حالته وشعر بخطورة الوضع , فغالب ألمه وطرق بعضَ الأبواب خجلاً , جمع نقوداً قليلة , حفزّته لزيارة الطبيب الذي نصحه ببتر ساقه لانتشار الـ (غنغرينا) أدخل المشفى , وبعد أيام , خرج بساقٍ واحدة ليستقبله الشارع بيتاً كبيراً بلا سقف وجدران وأبواب يأكل ما يتيسّر له وينام حيثما وجدَ ظلاً تحتَ حائط مهجور أو في زاوية من رصيف يحاذي نهراً أو في حديقة أسد بابل كثيفة الأعشاب، مدّدتُ يدي إلى جيب قميصي فأخرجتُ كلّ ما أملكه , أخذتُ ما يؤمن لي عودتي ووضعتُ ما تبقى في يدّه وأنا أودعه وفي ذهني أسئلة منها ما يتعلّق بالحرب وأخرى بالحياة لكنّني بعد أيام عندما جئتُ سالكاً الطريق ذاتها رآني من بعيد فدلف زاحفاً إلى زقاق فرعيّ كأنه أحد جنود نبوخذ نصر الثاني العائدين من الفتوحات ومعهم منحوتة أسد بابل... الكنز الثمين الذي ظلّ في طبقات الأرض سنوات قبل أن تكتشفه فرقة الآثار الألمانية , بطل بلا مأوى ولا تاريخ.
Kodak
لا يتذكر آخر مرة تصفح فيها ألبوم الصور، حتى أنه نسي أين وضعه، بعد أن حالت الظروف دون استمرار متابعة هوايته، كان يمارسها، كإحدى الرغبات التي داعبت خياله المرهف في صباه، فكان يلتقط أدق التفاصيل و يحفظها، حتى أصبح لديه تاريخ مصور، يحثّه على الكتابة، لكنه ظلّ أميناً لحلمه.
تردد، قبل أن تمسك أصابعه مقبض الباب، وبملامستها له، شعر بقشعريرةٍ اجتاحت كيانه. انتظر برهة ليهدأ جسده، ثم فتح الخزانة، لفحته رائحة (اسفنيك) يكرهها، مدّ يدّه في أكثر من مكان و لما عثر عليه، جلسَ على سريرٍ قريب من دولاب الملابس، واضعاً زمنه المنصرم و أحداثه في حضنه. كانت كفّه اليمنى مستقرّة على الغلاف، يدقّ إبهامه على حافته الحادّة، بنقراتٍ خفيفة.
في أوّل صفحة , استقرت صورة الكامرة، بحجمها المربع وواجهتها ذات العيون الثلاث، اثنتان في الأعلى، تجلسان على نهايتي مربع أسود، والثالثة في المنتصف أكبر من الأخريين، أما السطح العلوي فتضمّن شاشة لمعاينة الشيء المصوّر، بقربها زر الالتقاط. كانت ملازمة له، تحتفظ بمكانها في حقيبته. صوّر فيها كلَّ ما مرّ به. رصد الموت في أوضاع مختلفة، و لاحق ما يخلّفه على الأشياء والبشر، لكنها الآن ليست سوى صورة يغطيها غلاف شفاف من النايلون.
أهم ما ضبطته عدستها، في صباح شتويّ، كان قد أنهى نوبته في الحراسة ودخل الموضع ليحظى بقسطٍ من الراحة، وعلى الرغم من تعبه و انحلال جسده، إلا أنه لم ينمْ، فقد سرقتْ الجرذان لذة النوم من عينيه، ولعجزه عن إيجاد حلٍ لها، وضع قطناً في أذنيه لعل ذلك يساعده في الحصول على إغفاءة ما، انقطعت بأصوات صراخ، حملته على النهوض مسرعاً، كان أحد زملائه يسحب جسداً من الممر، طرحه أرضاً، ثم وضعه على ظهره، لحق بهما رافعاً الرجل المهشمة إلى الأعلى، بعد أن ربطها من منتصف الفخذ.
عند مقر السرية وضعاه على نقّالة، وانطلقا به في رِحلة شاقة بين حدّين: حافة الممر الغارقة للسطح بالماء، وسياج حقل الموت المسّور ؛ مسافة لا تتعدى نصف المتر، أرضها رطبة زلقة، بفضل الأمطار التي هطلت ثلاثة أيام متتالية، ملأت الممرّات والمواضع بالمياه والألغام، وجه آخر يتربص بالجسد البشري، أما باتراً أو مطفئاً. فلا مفرّ من الأمر، أقدامهما تخمش وجه الأرض المائع، و تثبّت بصعوبة، يقع أحدهما كلّ مترٍ أو مترين، يتبرّم، لكن الصوت النازّ ألماً ينهضه، فهو خارج من نقطة معتمة في أعماق الروح، يستحثّ ما بداخلهما من عاطفةٍ.
أصبحا قطعة من طين. في منتصف المسافة، أوقفتهما لجنة الإعدامات، فتشوهما ثم أجروا مكالمة هاتفية، ممتزجة بالأنين وغضب الدم المتدفق، ولأنهم عاجزون عن الإصغاء لاستغاثات الوجع البشري، فقد اجتازاهما عنوة غير مبالين بالنتائج، وأصواتهم المتعالية خلفهما تردد نشيداً خاوياً. كنا أشبه بمجنونين، يسقطان و ينهضان و الأنين يعلو و يخفت، راسماً في ضوء الفجر: ثلاثة أشباح تطفو هياكلهم فوق مياه الممرّات و حقول الألغام.
وضعاه في سيارة الإسعاف، وانطلقت مسرعة.
غادرتْ عيناه الصورة إلى صور أُخر، فهو في استحضار ماضيه لا يودّ سوى مراجعة هذا القسم منه، مقلّباً صفحات الطفولة والشباب وما تبعها في الحاضر، شعوراً منه، بأن حياته هُدرت هناك، و تمكّن بآلته من رصدها، مدناً وصحارى ووجوهاً خائفة، لائذة، كوجه المعلم الذي بُترَت ساقاه. كان فرحاً لعقد قرانه. تشتعل عيناه بسعادة غامرة، لا تسعها الصحراء، كآسُ مترعة بالحب راحَ ينثرُ حبيباتها البنفسجية في الفضاء ؛ مصابيحَ بهجةٍ و جيشان، أضاءت ليلنا، و علاقتنا بالمكان، قطعة معزولة تشعّ فرحاً، كلُّ شيءٍ فيها: البطانيات العتيقة التي نجلس عليها، إبريق الشاي وأقداحه، عيوننا وهي تعزف أغنية مؤثرة للحياة، حباتُ الرمل التي تهمي على وجوهنا إثر نسمة عنيفة.
لفرحنا كل الموجودات مبتهجة، لها طعم آخر؛ نكاتنا ؛ قصصنا ؛ أغانينا؛ ضحكاتنا، ملابسنا و كأنها بدتْ مختلفة، كنا نوهم أنفسنا و نحاول إطالة الفرح، حتى نبعد مجيء الفجر، لكنه داهمنا، وبدأنا نشعر بمغادرة لحظات اللّيل المتوهجة بالحبّ والأمنيات، و افتضحت هيآتنا بالضوء الماسي، و كأن شيئاً لم يحدث، حمل سلاحه بيده، ومعه كلّ ما حلم به أو تمناه، و شقّ طريقه مُوغلاً في متاهة الحقل بأسلاكه الشائكة.
كان يروم الوصول إلى مكانٍ ما، عندما اقترب منه، هبط ببطء، ثمّ توقّف ناظراً أسفل قدميه، تطلّع إلى جهاتٍ عدّة، و صوبَ نظرةً طويلة نحو السماء، و تخيّل أنه بعد لحظات سيكون وجوداً معلقاً بين أرضٍ وسماء، فعزم على قطع الخيط الفاصل بينهما، رافعاً قدمه اليسرى، ليحرّر الكائن المخبوء تحتها، بظهوره اختل توازنه، سقط على عجيزته صارخاً. كانت عيوننا تحرسه. ردّد الهواء صوته الملفوف بثياب الصحراء:
لو كنت ميتاً وسكت، لكنه سقى بدمه صورة الحلم، لتتغذى عبر خيطها حياة أخرى.
استمرت يده تحاور تأريخاً حدّد مصائر أفراده، مرتْ في ذهنه ابتسامة البدويّ جازع، رافعاً إصبعه في لحظة يأس أو تحدٍ، استجابة غير معقولة، اغتنمها الآخرون تنفيذاً لأوامر عليا، لم يسأله أحد عن جريمته، وماذا فعل، هو الذي احتفظ بسجله العسكري نظيفاً، دون أن يترصع بسواد أفقه الخالي من اخضرار يُحفز روحه على المُضِيّ، اثر إيقاف تدفق صور الموت والانفجارات و الدخان المتصاعد و الأسلاك الشائكة و سيطرات الإعدام و خطوط المواصلات الملآى بالمياه والألغام أثناء المطر والقصف و رصاصات الفجر الأولى و سيارة القصعة و الحيوانات المُعلّبة في المواضع والمراصد و خلف المدافع والدبابات و الرشاشات، معلناً عدم إعادة وقوعها أو تخيّلها، فارتضى الوقوف قُبالة بنادقهم، رافضاً تغطية عينيه أو ربط يديه، كانت نظراته تتحدى الفوّهات، كتم صرخة حين دوتْ، و ببطءٍ شديد أغلقهما على حياةٍ لا يجب أن تتكرر.
ألقى الألبوم بعيداً، وفكّر في حرق حياة وحكايات وقصص القسم الثالث منه، لكنه هل يتمكن من امحاء ذلك التاريخ من ذاكرته..؟
كامل فرعون
* ماجستير أدب عربي، كلية الآداب، قسم اللغة العربي
جامعة البصرة، عن رسالته ( فاعلية الشكل في القصة
القصيرة في العراق) 2010
* بكالوريوس أدب عربي، كلية الآداب، قسم اللغة العربية،
جامعة البصرة.
* قاص وكاتب، صدر له:
ـ الخارج من ظلّه، قصص / 2010
ـ جماليات الشكل القصصي، دراسة، منشورات ضفاف،
بيروت،2013
بريد الكتروني
Kamlfruon79@gmail.com