تكمن أهمية الهرمينوطيقا الفلسفية في المناهج الحديثة التي تمدّنا بها من أجل قراءة تأويلية موضوعية–ذاتية للنص الديني تفك شفراته وتفتحه على عوالمه الخاصة سواء الداخلية منها أم الخارجية. إن النص الديني لا يحيل على بنيته فحسب، بل إنه يحيل على عالم خارجي يريد الاندماج معه، إنه عالم النص الخارجي الذي يكشف عن بنية أخرى غير تلك التي يعبر عنها النص مباشرة. أستاذ الفلسفة المعاصرة بكلية الآداب والعلوم جامعة فاس د. مصطفى العارف يرصد في كتابه (الهرمينوطيقا الفلسفية وهرمينوطيقا النص الديني عند بول ريكور) ملامح هذه الهرمينوطيقا من خلال محاولة بول ريكور استثمارها وجعلها أرضية لقراءة النص الديني المقدس.
البحث في هرمينوطيقا النص الديني من شأنه أن يفتح مجالاً للنقاش حول القيمة المضافة التي ستشكّلها هرمينوطيقا النص الديني في قراءة النص الإسلامي المقدس، نظراً إلى ما يعرفه هذا النقاش من حدة في المواقف المعبرة حول المنهج المعتمد في قراءة القرآن الكريم والأحاديث الدينية؛ هذه النظرة هي ما يهتدي به الباحث العارف، الذي يعتقد أن مقابل القراءة الحرفية، التي لا تعترف سوى بظاهر النص، والتي سيطرت بشكل يكاد يكون مطلقاً على تاريخ قراءة النص، يمكن الاعتماد هنا على الهرمينوطيقا كمنهجَ بحثٍ معاصر يحاول فكّ شفرات النص، ليس فحسب انطلاقاً من جعل النص معاصراً لنا، وإنّما قراءته وتأويله في سياقه وزمانه الخاصين، وربطه بالسياق المعاصر لنا، فإذا كنا ندّعي أنّ النص القرآني صالح لكل زمان ومكان، فإنّه يجب أن يخضع لقراءة تستحضر سياقه الزمني، ثمّ مجموع السيرورات والأفكار التاريخية التي تشكّلت حوله، وأخيراً إحداث مسافة زمنية بين المُؤَوِّل وسياق إنتاج النص.
ويوضح د. العارف إلى أن ما يُميّز فلسفة بول ريكور هو طابعها السجالي–الجدالي، فقد كان يستند دائماً إلى أرضية فكرية معينة لإنتاج تصوّر فلسفي حول موضوع هذه الأخيرة. ويقول إن الحديث عن هرمينوطيقا النص المقدس يستدعي ذكر تلك السجالات التي دخل فيها ريكور مع مفكرين ومفسرين وباحثين في الفكر الديني المسيحي–اليهودي: -ثنائية الفلسفي والديني: إنّ اهتمام بول ريكور بفلسفة الدين وبالنص الديني المقدّس جعله ينأى بنفسه دائماً عن تسميته بفيلسوف مسيحي. يُصرّح في كتابه (الذات عينها كآخر) بأنّه لا يجعل من النصوص الدينية المقدسة مرجعاً أساسياً يعتمد عليه في تأملاته الفلسفية؛ بل يُميّز بين ما هو ديني وما هو فلسفي خالص.
يقول المفكر: «في إحدى مراحل حياتي، قبل ثلاثين سنة تقريباً، دفعت الثنائية، أي ثنائية ‘الدين والفلسفة’، تحت تأثير كارل بارث، إلى إعلان منع إقامة الرب في الفلسفة، كوني كنت دائماً حذراً إزاء التأمّل الذي نسميه أنطوثيولوجيا، وتبنّيت موقفاً نقدياً تجاه كلّ محاولة تدمج بين فعل الكينونة اليوناني والرب، على الرغم من معرفتي بسفر الخروج (3-14). إنّ الاحتياط من براهين وجود الرب قادني إلى النظر إلى الفلسفة بوصفها أنثروبولوجيا، وهو المفهوم الذي اعتمدته في كتاب (الذات عينها كآخر)، حيث لا أقترب ممّا هو ديني إلا في الصفحات الأخيرة من الفصل المخصّص لـ’نداء الضمير’ (…)، ربما كانت عندي أسباب أخرى لتحصين نفسي من اختراقات مباشرة للديني في الفلسفي، وهي أسباب ثقافيّة إن لم نقل مؤسساتية؛ كنت شديد الحرص على أن يعترف بي بوصفي أستاذاً للفلسفة يدرّس الفلسفة في مدرسة عمومية، ويتحدث لغة متداولة». كان ريكور حريصاً جداً على التمييز بين الدين والفلسفة، اعتباراً لأنّ الفلسفة تختلف عن الدين؛ يعتمد هذا الأخير على الوحي مباشرة، بينما يستند البحث الفلسفي على حجاج من نوع خاص. إن الفلسفة عبارة عن أنثروبولوجيا تحاول قراءة الدين انطلاقاً من أبعاد تاريخية-ثقافية، ولا يمكن الجمع بين المبحثين تحت مظلّة واحدة.
بنية النص الديني المقدّس:
استأثر اهتمام ريكور بهرمينوطيقا الدين عموماً، في محاولة لتحليل مجموعة من المفاهيم الدينية مثل: الإيمان، والعقاب، وأسطورة الوعيد. تكشف تحليلات ريكور لتلك المفاهيم عن حسٍّ نقديٍّ دقيق؛ فقد راح يؤوّل ويحلل الدلالة الفلسفية لمفهوم الذنب في علاقته بالإيمان والعقاب من منظور معاصر. فإذا كانت الخطابات الدينية على مر التاريخ تحاول ربط الذنب بالعقاب، وتروّج لفكرة أنّ الرب يتوعّد المذنبين بعقابه، فإنّ ريكور، على عكس ذلك، يحاول الكشف عن الجانب المتسامح في الدين؛ فمقابل كثرة الخطايا والذنوب، هناك أيضاً وفرة في الغفران والصفح؛ بمعنى أن رحمة الرب ومغفرته تسبقان وتشتملان على مجموع الخطايا والذنوب التي اقترفها الإنسان، ومن ثمّ إن أسطورة العقاب، التي يهدّدنا بها الخطاب الديني، يجب أن تخضع لتحليل هرمينوطيقي عقلاني.
إنّ الإنسان كائن معرض للخطأ، بل إنّ الخطأ منقوش في تكوينه البيولوجي والثقافي، وهو بذلك يختار الشرّ طوعاً، بيْد أنّ مسألة الاختيار تضمر دلالتين متباينتين، فعلى جهة الاختيار نلفي الإنسان هو الذي يختار الفعل حتى وإن كان شريراً. أمّا على جهة المسؤولية فإنّه يتخفّى في هشاشته المتمثّلة في كونه كائناً خطّاءً. إنّ إنسانية الإنسان هي المكان الذي يتمظهر فيه الشر، فتتدخل فيه وساطات داخلية–ذاتية تجعله غير منسجم مع ذاته؛ لكونه حرّاً في اختياراته، وعلى الرغم من ذلك يختار الشر، الأمر الذي يجعله يسقط سقوطاً مدوياً في مفارقة الحرية/ الشر.
ويشير د. العارف إلى أن ريكور يسلط الضوء على إشكاليّة الشر هاته، من خلال مجموعة من المفاهيم مثل: الرمز، والاعتراف، والمدنّس، والخطيئة، والإثم، والمسؤولية ثمّ العقوبة، محاولاً تحليلها انطلاقاً من إشكال عام هو: كيف يتمُّ الانتقال من عدم العصمة إلى ارتكاب الخطأ؟.. يعتقد ريكور أنّ تحليلاً دقيقاً لمفهوم الشر يجب ربطه بمسألة اعتراف الإنسان بأخطائه أمام المقدس، مبرزاً أن أسطورة الخطيئة الأولى وُجدت لكي تعطي تبريراً لمفهوم الاعتراف.
يعبِّر حدث طرد آدم من الجنة عن أصل الشرور الإنسانية، ويُظهر تجربة الاعتراف باعتبارها تأسيساً للإيمان الديني وتجاوزاً للخطيئة الدينية، فينتج عنها تجارب دينية نفسيّة أهمها المدنّس. يرى الإنسان، في هذا المقام، أنّ كل مدنّس شر، ومن ثمّ وجب تفاديه، إلا أنّه ليس شرّاً خالصاً يأخذ صوراً مختلفة كالنجاسة، التي لا تعدُّ لطخة فيزيائية مادية بل رمزية أيضاً؛ لكونها تحيل، في الوقت نفسه، على بعدين مختلفين ومتعارضين أحياناً؛ فالجنس مثلاً يحمل صفتين متعارضتين؛ الطهارة والدناسة. تنجلي إذاً تجربة الاعتراف بوصفها تعبيراً عن حالة شعورية نفسيّة مسبقة، لكنّها لا تحمل ملامح الخوف فحسب؛ بل أبعاد الصفح والمحبة أيضاً؛ فسموّ الخشية أو الخوف إلى مستوى المحبة يجعل من الدين أفقاً للتسامح والصفح، وليس للعقاب والمحاسبة فحسب.
تتمظهر إيجابية الدين في العلاقة الذاتية بين الإنسان والرب، فهذا الأخير يواجه الإنسان بالغضب والسخط على ارتكاب الخطيئة، وإذا كانت هذه العلاقة تبدو لنا موضوعيّة، فإنها علاقة ذاتية أيضاً، تتمظهر في اعتراف الإنسان أمام الرّب، والتضرّع وطلب العفو والصفح، وهنا مكمن الذاتية بالنسبة إلى ريكور؛ أي كما لو أنّ الإنسان يرى نفسه في الرب، والعكس صحيح.
يرى د.العارف أن النص الديني، بالنسبة إلى بول ريكور، يُعَبِّرُ عن بنية قصصية سردية تجعل منه نصّاً سردياً بامتياز، يُعبّر عن تعدديةٍ للأصوات تجعلنا نتساءل عن من هو المتحدث الأساسي في النص؟ يحيلنا هذا التساؤل إلى وضعية الكلام داخل النص الديني؛ فالمرور من الكلام إلى الكتابة يشكّل لحظة تأسيسية للنص الديني؛ ذلك أن الانتقال من الشفوي إلى المكتوب يُحدث مباعدةً بين المتلقي والمرسِل، ليس لأن المكتوب يُعبّر عن شيء آخر غير ذلك الذي يُعبّر عنه الشفوي؛ بل لأن هذا الأخير يمكنه أن يتلاشى ويندثر، عكس المكتوب الذي يُحدث نوعاً من المقاومة؛ إنّه يمثل نصباً تذكارياً لا يمكن مقاومته. يفتح النص المكتوب آفاقاً للانفصال عن القصدية الأولى والمعنى الأصلي، فيدخل في علاقة جدلية مع القارئ، الذي يوظّف كل أساليبه وعتاده المعرفي والثقافي والتراثي لقراءته. تحاول الكتابة أن تُحدث علاقة تباعد بينها وبين المؤلّف؛ فالنص المكتوب يفصل بين القصد الشفهي والذهني أو النفسي للمؤلّف، وتشكّل الكتابة عالماً خاصّاً بها ينفصل عن عالم المؤلّف؛ لذلك نجد أن النص تاريخياً يبقى منفتحاً على تأويلات لامتناهية.
ويشير د.العارف إلى أن الكتابة تعمل على الانفصال، أيضاً، عن شروط ووضعية إنتاجها الأصلية، فعلى الرغم من وجود كلام وراء الكتابة تُعبّر عنه بطريقة مباشرة داخل سياق معيّن معطى، لا تحتفظ سوى بالمعنى المعبَّر عنه داخل بنيتها، والذي يمكننا أن نتحدث عنه بصيغة الجمع وليس المفرد؛ فعندما يكتب المؤلّف فمن المؤكّد أنه يقصد معنى ما، لكن هذا المعنى لا ينفك ينفلت من بين يديه ليصل إلى يد القارئ الذي يستقبل النص كما لو كان نصّاً بكراً جديداً يحتمل معاني متعددة.
ويؤكد أن هذا التجاوز، الذي تحدثه الكتابة في علاقتها بالمؤلف، يتجه بالضرورة إلى القارئ، الذي يفتح النص على تأويلات متعدّدة اعتماداً على مبدأ المباعدة، الذي يُعَدُّ ضرورة هرمينوطيقية داخل الكتابة؛ “فالمباعدة ليست إنتاجاً للميتودولوجيا بما يعني ذلك أنها مجرد أمر مفروض أو طفيلي؛ بل إنها تشكل ظاهرة النص ككتابة، وفي الوقت نفسه هي شرط للتأويل”.
إن استقلالية النص الثلاثية عن مؤلّفه وسياقه ومرسله الأوّل تبين لنا أن النصوص مفتوحة على عدد لا يُحصى من التناصية بوساطة الاستماع والقراءة، وأيضاً على لا تناصية تُوجد بقوّة داخل فعل الكتابة نفسه، فهم النص هنا لا يعني بالضرورة استنفاد القدرات الخاصّة والنهائية للفهم مقابل النص؛ بل هو التفاعل معه من أجل كشف عالمه الخاص، الذي قد يكون مختلفاً عن العوالم التي سبق اكتشافها. عالم النص، إذاً، هو المفتاح داخل النص، فما يمكن تأويله داخل النص هو العالم الكامن فيه، وهو نفسه العالم الذي توجد فيه كينونة القارئ.
ويلفت د.العارف إلى أن مقال ريكور حول الرمز، الذي نُشر في كتابه “فلسفة الإرادة التناهي والذنب”، يُعدُّ علامةً فارقةً في الهرمينوطيقا الفلسفية بشكل عام. يرى ريكور أن الرمز يمنح التفكير، فهو لا يتحقّق إلا بطريقة تأويلية بالمرور عبر ثلاث مراحل أساسية: الفينومينولوجيا والهرمينوطيقا والتأمُّل؛ تُمثّل المرحلة الفينومينولوجية الفهم الكلّي المتسق للرمز، حيث تجعلنا قريبين جداً منه؛ بل نحيا فيه، لكن الرمز يحتاج إلى مقاربة ثانية أكثر أهمية من المقاربة الفينومينولوجية تتمثّل في الهرمينوطيقا.
وهنا يقترح ريكور الحلقة الهرمينوطيقية: “يجب أن نفهم لكي نعتقد، لكن يجب أيضاً أن نعتقد لكي نفهم”. لا تعدُّ هذه الحلقة مفرغةً بقدر ما تُعبّر عن حيوية كبيرة. إنّ الاعتقاد الموجود في هذه الحلقة الهرمينوطيقية ليس بالضرورة اعتقاداً دينياً، فما يجب أن نعتقده، أو نؤمن به، من أجل أن نفهم، هو أنَّ المعنى موجود مسبقاً في صميم اللغة. تعني هذه المرحلة من الفهم “الرمز يمنح التفكير” أنّ المؤّوَل ليس هو من يملك المعنى أو يفرضه؛ بل إنه مُعطى مسبقاً من قِبَل الرمز. ينتج عن هذا الافتراض المسبق القائل: إنَّ المعنى موجود مسبقاً في امتلاء وغنى اللغة، استحالة حصول بداية جذرية في الفلسفة.
كلّ رمز قابل للقراءة وإعادة القراءة؛ أي أنّه قابل للتأويل، فهو يشير إلى دلالة من الدرجة الثانية والثالثة، حيث يجعل كلّ دلالة تُوَلِّدُ دلالة جديدة، وهذا ما جعل ريكور يُخضع الرمز لمقاربة ثالثة سمّاها التأمّلية أو الفلسفية عبر عملية التأويل الخلّاق، التي لا ترى في الرمز حجاباً أو فكراً متنكّراً يجب كشفه؛ فتأويل الرمز يهدف إلى الكشف عن كينونة الذات وفهم كينونتها في الكينونة.