مدخل:
لعله يمكن القول إن ثورة 1919 تمثل سردية كبرى تحوي في ثناياها سرديات فرعية عديدة ومتنوعة، مثل سردية الحركة الطلابية التي أشعلت شرارة الثورة وفجَّرتها، وسردية الطبقة العاملة والحركة العمالية، التي لم تعِ نفسها بوصفها طبقة، ويتبلور وعيها الطبقي بذاتها إلا في أتون ما اجترحته من أفعال وممارسات ثورية مصاحبة للثورة، وسردية الحركة النسوية والنوع الاجتماعي، فضلاً عن مولد الهُوية الوطنية الحديثة، وتشكل هُوية المواطنة بمعناها الحديث المجاوز لانغلاق الهُويات الدينية والعرقية والإثنية والنوعية.
ولا شك أن كل سردية من هذه السرديات جديرة بالدراسة والقراءة التحليلية المُفصَّلة لسياق تشكلها التاريخي، ومساراتها النوعية في إطار علاقتها بثورة 1919، ودور وتأثير الثورة في صياغتها لهويتها الخاصة. ولمَّا كان مشروع مثل هذا يتجاوز، بالتأكيد، نطاق الفضاء الورقي المتاح؛ فإن هذه الورقة ستقتصر، مع بعض الإشارات العابرة إلى السرديات الأخرى، على قراءة علاقة الحركة النسوية وسرديتها بالثورة، وسرديتها الكبرى، وتولد وعي النوع الاجتماعي للمرأة بذاته في سياق الممارسات الثورية للنساء، وما يمكن أن نصفه بشعائر تشكيل هُوية النوع التي تولدت مع تلك الثورة من خلال قراءة أول مظاهرة نسائية في التاريخ الحديث، وانعكاساتها على الأدب، خصوصًا الشعر، وعلى الكتابة التاريخية في سياق تفاعلها مع التمثل الأدبي لتلك المظاهرة أو ما يمكن أن نصفه بتناص التاريخي مع الأدبي، مع التركيز تحديدًا على الشعري، أي على قصيدة حافظ ابراهيم «خرج الغواني».
ونظرًا لانطلاق القراءة والتحليل من كل من مفهوم الهُوية السردية لدى بول ريكور، وأدبيات السرد التاريخي لدى هَيْدن وايت ومدرسته، فإن الورقة ستبدأ بتناول علاقة التاريخ بالسرد، ثم تشكل الهُويات المصرية الحديثة، ثم الوعي النسوي في طور التكوين، ثم نمط السرد المهيمن على الكتابة التاريخية لثورة 1919 وما يثيره من أسئلة، ثم مظاهرة النساء وتحليل قصيدة حافظ، ثم رصد بعض صور التفاعل والاستجابة تجاه القصيدة أو ما يمكن أن نطلق عليه تناص التاريخي مع الأدبي، وأخيرًا خاتمة تتناول صورة المرأة قبل الخروج وبعد الخروج.
1. التاريخ والسرد
يؤكد العديد من الفلاسفة والمفكرين، من أمثال لويس مِنك، وهَيْدن وايت وبول ريكور وسواهم، على الطابع السردي للكتابة التاريخية، وقبلهم جميعًا نجد كروتشه يُقرِّر أنه «حيث لا يوجد سرد لا يوجد تاريخ» (White 1987: 5, 28)، كما نجد كانط أيضًا يقطع بأن «السرديات التاريخية بدون تحليل فارغة، والتحليلات التاريخية بدون سرد عمياء«(ibid: 5)، وهو ما يجعلنا نتساءل كما يقول هَيْدن وايت عمَّا هو نوع البصيرة التي يمنحها لنا السرد في طبيعة الأحداث الواقعية، وما هو نوع العمى الذي تصرفه السردية عن الواقع؟ (see ibid).
وإذا كان يمكن القول إن جوابًا نهائيًا وشافيًا عن مثل هذا السؤال قد يبدو أمرًا بالغ التركيب والتعقيد والصعوبة؛ فإن فيما يقدمه هَيْدن وايت من جواب ما قد يُفسِّر لنا، ولو جزئيًا، ولع التاريخ بالسرد إلى هذا الحد؛ إذ يرى أن الأخلاقية الكامنة في السرد هي السر في إضفاء الطابع السردي على التاريخ؛ أو على حد عبارته «أن كل سردية تاريخية تتضمن الرغبة في إضفاء الأخلاقية على الأحداث التي تتناولها بوصفها هدفها الكامن أو الظاهر» (see ibid: 14) ذلك أنه، وكما يذهب ريكور، لا توجد قصة مُحايِدة أخلاقيًا(see Ricoeur 1994: 115) وأن الحَبْكات التي تمنحها السرديات للأحداث التاريخية تفرض معنى على الأحداث التي تشكِّل مستوى قصتها من خلال كشفها في النهاية للبنية الكامنة في الأحداث على امتداد السرد.
وهكذا، فإنه ولكيما يتم تكييف الحدث بوصفه حدثًا تاريخيًا، يجب أن يكون حدوثه قابلاً لأكثر من إمكانية سردية، أي لسرديتين مختلفتين على أقل تقدير. وما لم يكن هذا ممكنًا، بالنسبة لمجموعة الأحداث ذاتها، فإنه لا يوجد مبرر أن يتجشم المؤرخ عناء تقديم حكاية حقيقية لما حدث بالفعل. إن سلطة السردية التاريخية هي سلطة الواقع ذاته، وهذا هو الفارق بينها وبين السرديات الخيالية. ذلك أن الحكاية التاريخية تمنح هذا الواقع شكله وبذلك تجعله مرغوبًا من خلال فرضها على عملياته الاتساق الشكلي الذي لا تحظى به إلا القصص وحدها. وهو ما يمكن القول إنه يُضفي نوعًا من الجمالية والمنطق على تلك الأحداث، ويجعل التاريخي والواقعي، بعبارات لاكانية، مرغوبًا أو موضوعًا للرغبة. وهو ما لا يتوافر في أشكال الكتابة التاريخية الأخرى مثل الحوليات والوقائع أو الإخباريات chronicle، إذ يتمثل الفارق بين إضفاء السردية على التاريخ، أو، إن جاز التعبير، تسريد التاريخ narrativization وهذين الشكلين من أشكال الكتابة التاريخية في أن السردية التاريخية تكشف لنا عالمًا يُفترض أنه مُنتهٍ، ومُنجَز، ومُنقضٍ، ومع ذلك لم يتحلل ولم يتساقط بعد. إذ يرتدي الواقع في هذا العالم قناع المعنى، الاكتمال والامتلاء اللذين لا يمكننا قط أن نخبرهما، وإنما يمكننا فقط أن نتخيلهما. وإن كان بالطبع يمكننا أن نضيف إلى ذلك ما ينطوي عليه السرد من وظائف معرفية عديدة لا تنفصل بدورها عن تلك الوظائف الجمالية، والتي يمكن القول إنها جميعًا تساهم في تغذية ودعم ما يمكن أن نطلق عليه اقتصاديات الذاكرة (حول الوظيفة المعرفية للسردsee Mink 1987: 11 & Ricoeur 2004: 241)
وما دام يمكن للقصص التاريخية أن تكتمل، أي يمكن أن تُمنَح انغلاقًا سرديًا، ويمكن أن تظهر على أنها كانت لها دومًا حبكة، فإنها، هكذا، تمنح الواقع عبير ورحيق المثال. وهذا هو السبب في لماذا تكون دومًا حبكة السردية التاريخية مصدر إحراج ويجب أن تُعرَض بوصفها «موجودة» في الأحداث وليست موضوعة هناك من خلال تقنيات سردية بعينها.
ولذا ليس غريبًا أن نجد هَيْدن وايت (see White 1987: 20-21) يستعير من نورثراب فراي (راجع فراي، تشريح النقد) حَبْكات التراجيديا والكوميديا، والرومانس، والسخرية، والهجاء. وانطلاقًا من أن السرديات التاريخية كثيرًا ما تتخذ حَبْكاتها من أشكال التحبيك السردية المتعارفة في تلك الأنواع، (see White 1975: 7-8, & 1987: 43)، فإن الكشف عن أنماط التحبيك emplotment لدى المؤرخين يكشف عن طبيعة الخيال التاريخي والبنى العميقة الحاكمة لكتاباتهم التاريخية (see Ricoeur 2004: 251, 253). ولعلني لا أجافي الحقيقة، إذا ما قلت، إنه فيما عدا سردية سلامة موسى (انظر سلامة موسى، كتاب الثورات، ص ص 128-129)، وسردية شُهدي عطية الشافعي (انظر شهدي عطية، تطور الحركة الوطنية المصرية، ص ص 76-91)؛ فإن الغالبية العظمى من السرديات التاريخية لثورة 1919 تتراوح، في حدود علمي، ما بين حبكة الرومانس وحبكة الملحمة؛ وهو ما يستأهل دراسة مستقلة لا يتسع المجال هنا لها.
إن هذا المنظور السردي في الكتابة التاريخية يجد تجليه حتى في بعض عناوين كتب التاريخ العربية، على نحو ما نجد مثلاً في قصة ثورة 23 يوليه لأحمد حمروش، وكل من قصة الثورة كاملة، لأنور السادات، وقصة الوحدة العربية للسادات أيضًا، وحكاية ثورة 1919 لعماد أبو غازي وزير الثقافة الأسبق، وأحد ناشطي الحركة الطلابية في السبعينيات، وفي حكاية مشعلي الثورات لأحمد بهاء الدين شعبان، أحد قيادات الحركة الطلابية البارزين في السبعينيات. وحكايات من دفتر الوطن لصلاح عيسى، فضلاً عن المذكرات، والسير الذاتية، كأحد أشكال الكتابة السردية التاريخية التي كثيرًا ما يثير المؤرخون العديد من التساؤلات حول مدى وحدود صدقها وموثوقيتها.
وهكذا، فإن المتابع لدور السرد في كتابة التاريخ يدرك أن دور السرد لا يقتصر فقط على كتابة التاريخ وإنما يُساهِم أيضًا في تشكيل الواقع وبنائه، ومن ثم في صناعة التاريخ، وصناعة وتشكيل الهُويات الصانعة والمحركة للتاريخ، وليس فقط مجرد كتابته.
وبهذا المعنى يمكن القول إن السرديات لا تشكل وتصوغ الأفراد فقط؛ بل إنها أيضًا تشكل وتصوغ الجماعات والشعوب والأمم، وتمنحها هُوياتها التي ليست شيئًا آخر سوى كونها هُويات سردية؛ و«ممَّا يدل على خصوبة مفهوم الهُوية السردية أيضًا أنه يمكن أن ينطبق على الجماعة كما ينطبق على الفرد. إذ يمكننا أن نتحدث عن ثبات ذات جماعة معينة، مثلما يمكننا أن نتحدث عنها مُطبَّقة على ذات فردية. إذ تتشكل هُوية الفرد وكذلك هُوية الجماعة من خلال الاستغراق في سرديات معينة تصبح بالنسبة إليهما تاريخهما الفعلي«.(see Ricoeur 1990: 247)
ذلك أن الهويات، وعلى نحو ما يرى ستيوارت هول، تدور فعليًا حول استخدام موارد التاريخ، واللغة، والثقافة في عملية الصيرورة، وليس في عملية الثبات: ليس ’من نكون‘ أو ’من أين أتينا‘، وإنما ما يمكن أن نصير إليه، وكيف يتم تمثيلنا، وكيف يؤثر ذلك عل الكيفية التي يمكننا أن نمثل بها أنفسنا. ولذا، فإن الهويات تتشكل داخل التمثيل، وليس خارج التمثيل. بل إنها ترتبط باختراع التراث بقدر ما ترتبط بالتراث نفسه الذي يلزموننا أن نقرأه، ليس بوصفه تكرارًا وإنما بوصفه ’المطابق المتغير‘ 'the changing same' الذي لا ينشأ إلا مما يُطلق عليه تسريد الذات the narrativization of the self أو بعبارة أخرى تحويل الذات إلى سردية، سواء كانت هذه الذات ذاتًا فردية أو جماعية (see Hall 1996: 4). وهو ما ينعكس على نحو جلي أيضًا في هذا العنوان اللافت للكتاب الذي أشرف على تحريره المُنظِّر الهندي ما بعد الكولونيالي هومي بابا Nation and Narration الأمة والسرد، الذي يبدو فيه وكأن الأمم تُولَد من أرحام سردياتها، فهو عنوان يشي بمدى وثاقة الصلة ما بين الأمة وما بين السرد، وكأن حروف كلمة الأمة nation المُتضمَّنة والمُحتواة في حروف كلمة السرد narration هي في حد ذاتها تمثيل لتولد وتوالد الأمم من أرحام السرديات التي تشكلها وتحيا عليها وبها. وإذا إن كان جورج ليكوف ومارك جونسون قد وصفا في عنوان كتابيهما الشهير الاستعارات في عالمنا بأنها الاستعارات التي نحيا بها، فإنني أتصور أنه لا يضاهي الاستعارات في كلية وجودها وكونيتها سوى السرديات، بما يجعلنا يمكن أيضًا أن نتحدث عن تلك السرديات التي نحيا بها.
هكذا يمكننا أن نقول إن التاريخ ليس شيئًا آخر سوى مجموعة متكاثرة من السرديات الكبرى والصغرى، ولا شك أن الثورات، وخصوصًا تلك الثورات الكبرى، هي سرديات كبرى بالمعنى الذي يومئ إليه فرانسوا ليوتار في كتابه الوضع ما بعد الحداثي.
2. تشكل الهُويات المصرية الحديثة:
في ظل هذه الوضعية للسرديات، يمكن القول إن ثورة 1919 واحدة من السرديات الكبرى في التاريخ المصري والإقليمي، بل إنها تمثل محطة سردية انطلقت منها وتعود إليها سرديات فرعية عديدة، تولدت من رحمها هُويات حديثة وقديمة، تحولت بدورها لتصبح هي الأخرى في بعض الحالات سرديات كبرى وتأسيسية. إذ يمكن القول إنه من رحم هذه السردية الكبرى تشكلت سرديات وهُويات وأيديولوجيات الوعي الحداثي، مثلما تشكلت أيضًا هُويات سلفية ورجعية كرد فعل على فشلها، مثل سردية الإخوان المسلمين، وسردية مصر الفتاة.
ومما لا شك فيه، بالطبع، أن من أهم وأبرز هذه السرديات التي تشكلت وتولدت من رحم هذه الثورة سرديات النوع الاجتماعي، وهو ما سوف نتوقف عنده بنوع من التفصيل في ظل ما تسمح به هذه الورقة. كما تشكلت أيضًا بعض الهُويات الطبقية والفئوية، على نحو ما يمكن أن نلمح في وعي الطبقة العاملة بكيانها وهويتها؛ وهو ما يمكن القول إنه لم يستوِ وينضج كوعي ذاتي لهذه الطبقة بخصوصيتها وكينونتها وقدرتها على الفعل إلا عبر ما اجترحته من أفعال وأعمال وممارسات ثورية بدأت منذ اليوم الثاني للثورة، فضلاً عن توالد وتنامي الحركات والاتحادات النقابية (انظر عبد العظيم رمضان، تطور الحركة الوطنية في مصر 1918-1936، ص 133، ورؤوف عباس، الحركة العمالية في مصر، ص ص 78- 156، وأمين عز الدين، تاريخ الطبقة العاملة المصرية 1919-1929 من الثورة الوطنية إلى الأزمة الاقتصادية، ص ص 5-23).
كما لم يتشكل وعي الطلاب، الذين أشعلوا شرارة هذه الثورة، بأنفسهم ككيان فئوي وكقوة فاعلة، وإدراكهم لقوتهم هذه ودورهم الفعال على هذا النحو الفارق إلا مع أحداث تلك الثورة التي كانوا هم أنفسهم شرارتها ووقودها الدائم. وهو الوعي ذاته الذي صاغ لنفسه بداية منذ ذلك التاريخ تاريخه الخاص به، وأخذ ينعكس في العديد من الدراسات والأعمال الأدبية الشعرية والروائية، وأصبح يطلق عليه تاريخ الحركة الطلابية التي امتد نضالها على مدار التاريخ المصري الحديث والمعاصر. (راجع عاصم محروس عبد المطلب، دور الطلبة في ثورة 1919: 1919-1922، وراجع للمؤلف نفسه الطلبة والحركة الوطنية في مصر: 1922-1952، وأحمد بهاء الدين شعبان، حكاية مشعلي الثورات، وأحمد عبد الله، الطلبة والسياسة في مصر).
إذ أصبح الطلاب، مع ثورة 1919، يشكلون جزءًا أساسيًا من نسيج الفضاء السياسي، أو على حد عبارة أمل دنقل في الكعكة الحجرية، أدخلتهم يد الله في التجربة، (انظر أمل دنقل، الأعمال الكاملة، ص 322)، فأصبحنا نرى بعد ذلك على حد عبارات الأبنودي:
»الجامعه طالعه رايتها ضِلِّتها
هدّاره جبَّاره..
صادقه فى نيتها
بتتجه يمّ الوطن والموت..!!«
(الأبنودي، مختارات من أعمال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، الجزء الثاني، ص 497).
كما بدأت الأغاني والروايات والأفلام والمسلسلات تزخر بشخصيات الطلاب الثائرين الرافضين لواقعهم السياسي والاجتماعي، مثل عبده ومحسن في عودة الروح، وفهمي ورفاقه في بين القصرين، وعلي طه في القاهرة الجديدة، وعبد العزيز ورفاقه، ومشاعر شكري عبد العال من نظرة الطلبة إليه حين قرر العودة إلى الجيش، في (الشوارع الخلفية)، ومحمد أفندي ورفاقه في (قنطرة الذي كفر)، وابراهيم ورفاقه في (في بيتنا رجل)، وحلمي واسماعيل وزينب ورفاقهم في (الكرنك)، ولطيفة الزيات في (أوراق شخصية)، والقائمة أطول، بالطبع، من إمكانية سردها هنا، وإن كانت جميعًا تشترك في تلك السمة الأساسية التي تمثل الطلاب بوصفهم القوة النقدية والضمير الحي الذي لا يكف عن تأنيب الآباء والثقافة السائدة في المجتمع، وبوصفهم المرايا التي تنعكس على سطحها صورة المجتمع الشائهة ويرى فيها قبحه. ولا شك، في تقديري، أن هذه الهُوية مشتقة ومستمدة من السياق التاريخي لتشكل الحركة الطلابية في ثورة 1919، ولا أدل على ذلك من تلك المواجهة ما بين فهمي والسيد أحمد عبد الجواد في بين القصرين، وإن كان لا مجال هنا لرصد تجليات هذا التمثيل بشكل مُفصَّل في كل هذه الأعمال.
لقد أخذت هذه الهُوية السردية تتشكل وتتبلور نصيًا في الوعي الجمعي منذ الليلة الأولى للثورة في سجن القلعة من خلال كلمات «أغنية يا عم حمزه إحنا التلامذة» والتي تكاد تكون بمثابة البيان الأول للإعلان عن تلك الهوية الطلابية الجديدة في الفضاء السياسي المصري، والمختلف حول كاتبها هل هو محمود الحفني، وفق رواية جابر عصفور (انظر جابر عصفور، عن الثقافة والحرية، ص 324)، أم والد الملحن كمال الطويل، وفق رواية توفيق صالح الذي يذكر أن من ألفها هو أبو كمال الطويل ومن لحنها هو محمود الحفني، (انظر عبد العزيز ابراهيم، ليالي نجيب محفوظ في شبرد، الليلة الرابعة والستين:
يا عم حمزه
إحنا التلامذه
ما يهمناش في القلعة
نبات وللا المحافظة
واخدين على العيش الحاف
والنوم من غير لحاف
مستعدين
ناس وطنيين ..الخ
ليأتي بعد ذلك أحمد فؤاد نجم فيتناص في قصيدته الشهيرة «رجعوا التلامذة» معها، ويصل الحاضر بالماضي، واليوم بالأمس:
رجعوا التلامذة
يا عم حمزه للجد تاني
يا مصر إنتي اللي باقية
وانتــــــــــي
قطف الأماني ... الخ
(انظر أحمد فؤاد نجم، الأعمال الشعرية الكاملة، ص ص 290-291)
وليتغنى أيضًا بأسماء شباب الحركة الطلابية في السبعينيات من أمثال المرحوم أحمد عبدالله رزه، وأحمد بهاء وشوقي الكردي وزين العابدين فؤاد، وسهام صبري، وسواهم في قصيدته «أنا رحت القلعه وشفت ياسين«:
أنا شفت شباب الجامعة
الزين
أحمد وبهاء
والكردي وزين
حارمينهم حتى الشوف بالعين
وفي عز الضهر مغميين
عيطي يا بهيه على القوانين
وقابلت سهام
في كلام إنسان
منقوش ومأثر في الجدران
عن مصر
وعن عمال حلوان (نجم، المصدر السابق، ص ص 33-35)
وهكذا يتغنى أيضًا بنضال العمال المعتقلين مع الطلبة، بما يجعل القارئ أو المستمع للقصيدة يلتفت رغمًا عنه إلى تاريخ أصحاب هاتين الحركتين المولودتين معًا من رحم تلك الثورة (انظر السابق، ص ص 33-36)، ويجعل كل خروج للطلبة أو أي إنشاد حتى لهذه الأغنية يبدو وكأنه طقس من طقوس العودة إلى هذه اللحظة المرجعية الحاسمة في تاريخ مصرالحديث. إن هذه المرجعية الغائرة في الوجدان المصري تعكسها وتجسِّدها تساؤلات الأبنودي المونولوجية في إسقاطه للماضي على الحاضر ورغبته في ألا ينقطع الحاضر عن هذا الماضي الثوري النبيل وأن يكون امتداده الطبيعي:
قلت لنفسي
.. وانا آسف ياما لنفسي باقول:
هل ينفعوا دول لنشيد معدول
واضح في العرْض ووافى الطول..؟
في هذا الغيط الموبوء بديدان الهمّ
هل حتفتّح من تاني أزهار الدم؟
هل من تاني
حترّجع صورْة الشّعلة للبرواز
والقمصان.. تتعاص فى الجاز
والطرابيش.. حتّواجه الجيش
وتعود تتفسّر كل الألغاز
في بساطة وإعجاز..؟
(الأبنودي، مختارات، ج2، ص ص 350-351)
ولا أدل على ما كان للحضور التاريخي لحركة الطلبة من اقتران يوم الطالب العالمي بكفاح الطلاب المصريين في الواحد والعشرين من فبراير عام 1946 (انظر سلامة موسى، ما هي النهضة ص ص 69-70، وانظر عبد المطلب، الطلبة والحركة الوطنية في مصر: 1922-1952، ص 270 وما بعدها).
وهكذا فقد تشكلت لدينا سرديات متعددة خاصة بهذه الهُويات الحديثة، كسردية تحرر المرأة المصرية ونضالها، وسردية كفاح الطبقة العاملة، بل إن هُوية المواطنة المصرية ذاتها اكتسبت معناها الحديث والمعاصر عبر واحد من أبرز شعارات تلك الثورة؛ وهو شعار ’’الدين لله والوطن للجميع‘‘ مصحوبًا بتلك الراية الخفاقة التي يحتضن فيها الهلال الصليب. وهو الشعار الذي مازال يحفظ على الأمة المصرية هويتها ونسيجها المتوحد، والذي لا تفتأ تستدعيه وتلجأ إليه كلما داهمتها الفواجع وحاول أعداء هذا الوطن تمزيق بعض خيوط نسيجه، فإذا به يُجمِّعُنا ويَجْمَعُنا ويُذكِّرنا بشعار آخر من شعارات هذه الثورة أيضًا وهو ’يحيى الهلال مع الصليب‘ مثلما يُذكِّرنا كلاهما بأحداث تلك الثورة وبكيف اتسعت الهُوية الوطنية لتتجاوز نطاق الهُويات الدينية الضيقة والمُغلقة.
إذ مع ثورة 1919، أصبحنا نرى شبرا وهي خارجة ’’تأكِّد التهديد وتجمع التبديد‘‘، لتصل ميدان الفجر في المواعيد، على حد عبارات الأبنودي، (انظر الأبنودي، المصدر السابق ص 355). وبالطبع وكما يشير عبد العظيم رمضان، فإن ’’اتحاد عنصري الأمة في ثورة 1919 هو أعظم إنجازات الثورة إطلاقًا‘‘ (عبد العظيم رمضان، مرجع سابق، ص 132)
إن الهويات، على حد ما يذهب هول، تُنتَج في مواقع تاريخية ومؤسسية مُحدَّدة داخل تشكيلات وممارسات خِطابية مُحدَّدة، ومن خلال استراتيجيات تلفظية مُحدَّدة أيضًا . كما أنها تنبثق داخل لعبة صيغ مُحدَّدة للقوة، ولذا فإنها نتاج تمييز الاختلاف والإقصاء أكثر من كونها علامة على وحدة متطابقة مبنية بشكل طبيعي ـــ ’هوية‘ بمعناها التقليدي (أي تطابق شامل شمولاً تامًا، انسيابي seamless، دون تمايز داخلي). إلا أنها تعمل أيضًا بوصفها نقاط تماهٍ وارتباط فقط بسبب قدرتها على الإقصاء، والتخلي، وتحقير ’الخارجي‘. إن كل هوية يوجد في ’هامشها‘، فائض ما، شيء ما أكثر (see Hall 1996: 4-5).
وهكذا، فإن الهُويات الجمعية غالبًا ما تمارس عمليات المراجعة، وتتشكل وتُصاغ في لحظات التهديد والتحدي والمواجهة، في لحظات القلق والشك، في لحظات التوتر والأزمات، في لحظات غالبًا ما تكون حافلة ومُحمَّلة بالأسئلة والتساؤل حول الأنا والآخر، حول الذات وموقعها أو مواقعها في العالم، وحول موقعها من الآخر، وموقع أو مواقع الآخر منها. ومن ثم فإن كل سؤال هُوياتي غالبًا ما يكون مُضمَّنًا أو مُتضمِّنًا لعلاقة الذات بالآخر على نحو ما. مثلما تتضمن الإجابات الهُوياتية دومًا نوعًا من أنواع الاستبعاد والإقصاء، حيث ينفتح كل إثبات على العديد من صيغ النفي وتبدو كل هُوية، وهي تُثْبِت وتُقررِّ ما هي، وهي تنفي في الوقت ذاته عنها آخرها أو ما ليس هي. وهكذا تبدو كل هُوية وكأنها تتضمن أو تُضمِّن في ثناياها آخرها المنفي، لا من خلال حضوره وإنما من خلال غيابه. فالهُويات ليست سوى تعريفات ومن ثم فإنها تنبني على الاختلاف والتباين والتمييز والتمايز. إلا أنها في مقابل تجريد التعريفات غالبًا ما تتمايز، الهُويات عن التعريفات، بما تتضمنه من قصص وحكايات؛ أي أنها تكاد تكون دومًا سردية الطابع، وغالبًا ما تكون ابنة حكاية وأمًا لحكايات.
كما أن الهُويات تنبني أيضًا على أفعال التماهي، أي أنها بقدر ما تمارس عمليات الإقصاء لآخر جمعي فإنها أيضًا تمارس عمليات تأجيل وإرجاء الاختلاف داخل الجماعة من أجل إمكانية تحقيق التماهي، وبهذا المعنى يصبح الإرجاء هو شرط إمكان تشكل الهُوية عمومًا، والهُويات الجمعية بشكل خاص، إذ دون تأجيل الاختلاف وإرجائه لا يمكن أن يكون هناك نوع من أنواع التماهي، ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك هُوية جمعية في ظل الحضور الكامل لكل الفروق والاختلافات والتمايزات. ولهذا، فإن الهُويات غالبًا ما تتفكك أو يُعاد النظر فيها عندما تتحرك وتنزاح وتنتقل الفروق والاختلافات والتمايزات من خلفية المشهد إلى الواجهة وتتراجع التماثلات والتشابهات إلى الوراء، أو تخرج تمامًا من فضاء المشهد؛ هاهنا وفي مثل هذه اللحظات غالبًا ما تتفجر أسئلة الهُوية بعنف أو تنفتح تلك الثغرات التي تتطلب وتتيح إعادة تشكيل الهُوية.
وبهذا المعنى؛ فإن أسئلة الهُوية لا تُطرَح عادة إلا في لحظات الأزمات التاريخية والاجتماعية بالنسبة لبعض الجماعات أو المجتمعات، وكذلك أيضًا بالنسبة للأفراد، وهي غالبًا ما تكون لحظات مواجهة لآخر ما، تقتضي فض الاشتباك مع هذا الآخر، الذي يمكن أن يكون معاصرًا أو تاريخيًا أو كليهما معًا، أي يكون معاصرًا وله امتدادته التاريخية. كما أن أسئلة الهُوية غالبًا ما تكون لها وظيفة تعبوية، تستهدف حشد وتجنيد جماعة ما حول سردية ما أو أكثر من سردية تكون قادرة على حشد ونسج أفراد تلك الجماعة في خيوط تلك السردية وامتداداتها، وهي في تجمعها هذا حول سردية أو أكثر، غالبًا ما تكون في مواجهة سردية أخرى أو أكثر.
وإذا كان يمكن القول إن أسئلة الهُوية قد أخذت تلوح مخايلها وتومض بوادرها في اللاوعي الجمعي المصري مع ومضات طلقات مدافع نابليون، وهي تقصف الإسكندرية والقاهرة، مما أفضى إلى كل من ثورتي القاهرة الأولى والثانية ثم تنصيب محمد علي واليًا على مصر، ثم ما واكب عصر محمد علي وما تلاه من انفتاح عقلي وفكري وثقافي أدى إلى تلك الولادة العسرة لهذا الشعار البالغ الدلالة ’’مصر للمصريين‘‘ على تشكل حس وطني جديد لم يكن متبلورًا على هذا النحو من قبل، فإنه يمكن القول إن إجابات هذه الأسئلة لم تتبلور وتتجلى وتعلن عن نفسها إلا مع ثورة 1919.
3. الوعي النسوي في طور التكوين:
لقد كان خروج المرأة على هذا النحو الذي قد يبدو مفاجئًا وصادمًا نوعًا ما للوجدان الجمعي، نتاج عوامل عديدة متضافرة، ومن ضمن هذه العوامل التبلور التدريجي لأسئلة الهوية، وعلى رأسها سؤال الهوية الوطنية الذي بدأت تظهر إرهاصات الجواب عليه إبان صعود الحركة العرابية مع شعار ’’مصر للمصريين‘‘ بكل ما يشير إليه من دلالات تتراوح ما بين الإثبات والنفي (انظر الزعيم أحمد عرابي: كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية، المجلد الأول، دراسة وتحقيق عبد المنعم إبراهيم الجميعي، ص 97، وانظر أيضًا محمود الخفيف، أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه، ص، 22، ص 131، وص 461).
ذلك أن الشعار يبدو مزدوج الدلالة؛ إذ بقدر ما يبدو أنه ينطق صيغة تقريرية إثباتية، بقدر ما يبدو أن هذه الصيغة ذاتها تتضمن، في ثناياها، نفيها ونقضها. إذ إن محاولة إثبات أن مصر للمصريين، وليست لسواهم تعني أن مصر ليست للمصريين، وأن ثمة نزاعًا حول ملكيتها ما بين المصريين وبين سواهم، وبهذا المعنى يبدو الإثبات المتضمن في الشعار مُفْعَمًا بنفيه، أو بالأحرى ينطق نفيه أكثر ممَّا ينطق إثباته؛ بما يعكس إشكالية اللحظة وأن الشعار كفعل لغوي ليس مجرد تلفظ تقريري constative utterance على نحو ما تُوحي بنيته النحوية، بقدر ما هو فعل إنجازي performative act see Austin 1995: 5-12, 46-47, 80, 141, 147-148)) يتضمن في ثناياه دعوة إلى، ووعد بـ، أن تكون «مصر للمصريين»، وألا تكون لغير المصريين، وهو الأمر الذي تطلب تحقيقه والوفاء به عقودًا طويلة. وبالطبع، فإن أحد لوازم الشعار على هذا النحو كان يقتضي تحديد من هم المصريون، لكيما يُعرَف من ستؤول إليهم ملكية مصر على نحو ما تدل لام الملكية المُلحَقة بالمالكين المفترضين، أي المصريين. وهكذا، كان من الطبيعي أن تصاحب ظهور هذا الشعار أسئلة عديدة حول مُحدِّدات المصرية، ولذا لم يكن غريبًا أن نجد مجموعة من الكتابات التي تدور كلها في نطاق الحقل الدلالي للهُوية وأسئلتها المُعلنة أو المُضمَرة، على نحو ما نجد لدى رفاعة، حيث يحاول أن يُحدِّد الوطن بأنه «هو عش الإنسان الذي فيه درج ومنه خرج وجَمْع أسرتِه ومَقْطَع سُرَّتِه» (روضة المدارس، العدد 21 السنة الخامسة 1874)، كما نجده في محاولة أخرى لتعريف المواطن يقول «إن ابن الوطن المتأصل به يُنسَب إليه تارة إلى اسمه فيقال مصري مثلاً أو إلى الأهل أو إلى الوطن فيقال وطني .. ومعنى ذلك أنه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق هو الحرية التامة» (روضة المدارس، العدد 22 السنة الخامسة 1874) كما نجد بعد ذلك حسين المرصفي عام 1881 يكتب رسالة الكلم الثمان التي يتناول فيها ثماني مصطلحات حديثة هي: «الأمة»، و«الوطن»، و«الحكومة»، و«العدل»، و«الظلم»، و«السياسة»، و«الحرية»، ولا شك أن المصطلحين الأولين وثيقا الصلة بمفهوم الهُوية وأسئلتها، ومُحدِّداتها أو مكوناتها فيرصد اللغة والمكان والدين، كمُحدِّدات للأمة، بما يعني أنه يجعل الوطن مُحدِّدًا من مُحدِّدات الأمة، ثم يُشبَّه أرض الأمة (أي الوطن) بأنها «كالدار بالنسبة للشخص، كما أن غيرته وحميته وحرصه على مادة حياته لا تستجيز أن يدخل أحدٌ دارَه إلا على سبيل الخدمة أو الضيافة أو السُّكنى ... كذلك الأمة يجب أن لا يدخل أحدٌ أرضَها إلا على تلك السبيل، ولكل من الخادم والضيف والساكن حدود معروفة غير مجهولة، منها أن أحدًا منهم لا يتصرف في الدار إلا عن إذن صاحبها ورضاه، تحصيلاً لمنفعة واعترافًا بمساعدته، والتصرف عن رأيه. كذلك تكون الأمة وإلا كان الإنسان أسوأ حالاً من البهائم العُجم». (حسين المرصفي، رسالة الكلم الثمان، ص 57، وانظر ما بعد).
وتمتد استعارة الدار للوطن في تحديده لمفهوم الوطن (انظر السابق، ص 83) بكل ما يُوجد للدار من حقوق على بانيها وقاطنها. وهو ما يبدو معه كل من الشعور بملكية الوطن والانتماء إليه حاضرًا في خطاب النهضة، ليأتي النديم بعد ذلك ويقدم مفهومًا نظريًا للهوية الوطنية أكثر نضجًا وعمقًا، يرى فيه أن «الوطنية تجمع أجناسًا شتى يدعوهم حب الوطن إلى توحيد المعاملة والسير في كل ما من شأنه حفظ الوطن وعَمَارِه وانتظامه وامتداد تجارته وتحسين صناعته لا يفرق بينهم جنس ولا دين لسير الجميع خلف مَقْصِدٍ واحد» (الأستاذ العدد الأول، ص 13)، مما يعني أن الهوية الوطنية لا تنبني على أساس عرقي، أو ديني وأن الوطن يقبل التعددية العرقية والدينية، وأن المواطنة تحكمها قيم العدل المتمثلة في توحيد المعاملة، كما نجده في مقال آخر يطرح مصطلح «الجامعة الوطنية» التي تتيح أن يعود «المسلم منكم إلى أخيه المسلم تأليفًا للعصبية الدينية، وليرجع الاثنان إلى القبطي والإسرائيلي تأييدًا للجامعة الوطنية، وليكن المجموع رجلاً واحدً يسعى خلف شيء واحد هو حفظ مصر للمصريين.» (الأستاذ، العدد الثاني والعشرون، ص 526) ثم يأتي في مقال آخر بالغ الأهمية بعنوان «تجاذب الجنسيات والأديان» (الأستاذ، ع30، ص ص 705-712)، ليطرح تصورًا للهُوية يتجاوز دلالاتها الدينية والطائفية والعرقية والإثنية، ولا أدل على هذا من تلك العبارة الكاشفة التي يقول فيها «إن عز الاستقلال بالوطنية خير من الإذلال بجامعة الدين»، وبهذا المعنى يبلور شعار «مصر للمصريين» مفهوم المواطنة ومن يدخل أو لا يدخل في دائرتها، ثم ما الذي يترتب من حقوق وواجبات على من ينطبق عليه حد المصرية. ثم يأتي لطفي السيد ليعمق مفهوم الشعار ومفهوم المواطنة على نحو ما ينبئنا سلامة موسى الذي يحتفي كل الاحتفاء بالدور الذي لعبه لطفي السيد في تكريس وترسيخ هذا الشعار بمقالاته في الجريدة التي «كان يُلقن بها تعاليمه الجديدة» (سلامة موسى، تربية سلامة موسى، ص 55) وتمكينه، وهو غير المسلم، من أن يكون «وطنيًا في مصر». (انظر تربية سلامة موسى، ص ص 43-44)، أو كما يؤكد على قيمة تأكيد فحوى هذا الشعار في كتاب آخر من كتبه؛ حيث يقول
»واحتجنا إلى أن ننتظر «أحمد لطفي السيد» الذي شرع حوالي ١٩٠٧ في تعليم الشعب أن مصر للمصريين فقط، وليست للأتراك ولا للإنكليز ... وكان لهذا الاتجاه في الوطنية المصرية أثر كبير بين الأقباط الذين كانوا ينفرون من الدعوة السابقة التي كانت تقول بأن مصر جزء من الدولة العثمانية» (سلامة موسى، كتاب الثورات، ص ص 120-121)
لقد ساهم كل هذا في توليد مشاعر المواطنة بمعناها الحديث، والشعور في الوقت ذاته بالخطر والمهانة في ظل الاحتلال. وهو ما يمكن القول إنه قد ترتب عليه تغير مشاعر الأفراد ووعيهم بذواتهم وتفجر أسئلة الهُوية على الصعيدين الفردي والجماعي على حد سواء. وبالطبع لم تكن النساء، خصوصًا المثقفات منهن، بمنأى عن هذه الأسئلة، ولا عن كل تلك النداءات التنويرية المتعاقبة منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
وهنا يمكن القول إنه كان هناك نوع من التمفصل ما بين أسئلة الهُوية على أصعدة مختلفة، على صعيد عام جامع حول الهُوية الوطنية لمصر، وهو ما أتى شعار مصر للمصريين، الذي يمكن القول إنه ظل يعتمل ويتبلور في الوجدان المصري منذ إرهاصات الحركة العرابية وحتى نشوب ثورة 1919 أي خلال ما يقارب نصف قرن، ليتجاوب معه ويُحدِّد من يدخل في دائرة المصريين أو لا يدخل، انطلاقًا من مفهوم مادي ملموس هو مصر الوطن-الأرض، وليس انطلاقًا من أي انتماء أيديولوجي، ديني أو عرقي أو إثني، وكذلك على الصعيد الفردي، أي فيما يخص استقلال هُويات الأفراد الذين كانت تحكم الغالبية العظمى منهم ذكورًا وإناثًا، تراتبيات النوع والعمر والطبقة الاجتماعية.
وبالطبع، وفي ظل كل هذا، كان من الطبيعي أيضًا أن تتفجر أسئلة الهُوية لدى جماعات عديدة، ومن ضمنها أسئلة الهوية النوعية لدى المرأة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجمعي أيضًا في إطار علاقتها بمفهوم المواطنة، وكنوع يشعر بتفاوت لافت في الحقوق، وأسئلة أيضًا خاصة بالمكانة الاجتماعية لطبقات وشرائح طبقية بعينها. هذا فضلا عما ترتب على أسئلة الهُوية تلك من خلق رؤيا جديدة لمفهوم الوطن والمواطنة؛ ومن ثم لمفهوم الهُوية على كل تلك الأصعدة المختلفة، رؤيا تتجاوز التقسيمات الدينية والمذهبية والنوعية والعمرية والعرقية والإثنية للهُوية.
وفي ظل هذا الجدل كانت هُوية المرأة المصرية كنوع اجتماعي تتشكل كإمكانية، إلا أن خروجها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة لم يكن بالأمر المتاح، لولا هذا السياق التاريخي الأكبر الذي أتت فيه الأحداث المُفجِّرة للثورة لتطلق هذه الهُوية الكامنة للمرأة من مكامنها، وتنقلها من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل. وبهذا المعنى يمكن القول إن السرديات المُصاحِبة للهُويات القديمة، سرديات الخلافة، وسرديات العرق، وسرديات الحريم قد أخذت تتفكك وتتراجع إلى حد غير قليل لتُفسِح السبيل لسرديات أخرى جديدة وحديثة هي سرديات المواطنة والنوع الاجتماعي، والحرية والإخاء والمساواة.
لقد بدأت المناداة بتعليم البنات محدودة في ظل دعوة الرائد والأب المُؤسِّس للتحديث المصري، رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه الشهير المرشد الأمين للبنات والبنين الصادر عام 1872، ثم تلت هذه الدعوةَ دعوةُ رائد آخر هو قاسم أمين لا إلى مجرد تعليم المرأة، وإنما إلى تحرير المرأة وتجديد وعيها، والوعي بها، لكيما تصبح امرأة جديدة تتوافق مع طبيعة هذا العالم الجديد، على نحو ما تجلى في عنوان كتابيه التأسيسيين تحرير المرأة 1899 والمرأة الجديدة 1901. ثم بدأت الصحافة النسوية الشامية فالمصرية توسِّع الدائرة تدريجيًا على نحو ما تبدى في مجلة الفتاة لهند نوفل عام -1892-1894، وأنيس الجليس لمليتادي أفرينو 1898، وصولاً إلى جريدة السفور لعبد الحميد حمدي وسواها، إذ منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى نشوب الثورة كان قد صدر ما يقرب من ثلاثين مجلة وجريدة خاصة بشئون المرأة والمناداة بمنحها بعض الحقوق، (انظر بث بارون، النهضة النسائية في مصر، ص 9)، إضافة إلى باحثة البادية ودورها الرائد الذي سرعان ما داهمه موتها الفاجع عام 1918 (راجع كلاً من: ملك حفني ناصف، النسائيات، ومي زيادة: باحثة البادية).
لكن على الرغم مما كان لكل هذه النداءات والدعوات والمناشدات والمطالبات من قيمة؛ فإنه يمكن القول إن الهُوية النسوية لم تكن قد تشكلت بعد على المستوى الجمعي، وإنه حتى يوم الأحد السادس عشر من مارس 1919 لم تكن المرأة المصرية قد عبرت بعد بوابات الحداثة، ولا تخطت العتبة الفاصلة بين عالم الحريم والعالم الحديث، أي أن شعيرة عبور المرأة المصرية إلى هذا العالم لم تظهر للوجود إلا في ظهيرة هذا اليوم الفاصل، ومع هذا الخروج الجماعي احتجاجًا على نفي الزعيم ورفاقه، وسقوط من سقطوا قتلى وجرحى من شهداء الوطن برصاص وحراب الإنجليز، وإن كانت المشاعر كلها قد تبلورت بالأساس حول نفي الزعيم؛ إذ غالبًا ما تجد الهُويات الجماعية تجليها الأكثر «تجسيدًا» في فرد رمزي مفرد (see Joseph 2004: 6).
وهكذا فقد شكَّل خروج هذه المظاهرة النسوية الأولى في تاريخ مصر والعالم العربي مولد الهُوية النسوية للمرأة كنوع اجتماعي وصاغ وعيها الجمعي بهُويتها الجمعية على مستوى النوع. أي أن هذا الخروج المتلاحم لما يربو على ثلاثمائة سيدة وآنسة في تقديري قد ولَّد جَسَد النوع وجسَّده في آن واحد. وكان بمثابة شعيرة عبور المرأة المصرية من زمن إلى زمن، ومن عصر إلى عصر، ومن عالم إلى عالم، من بوابات الحريم إلى آفاق الحداثة، ومن عالم الحريم إلى الفضاء السياسي العام the political public sphere على حد مصطلح هابرماس (see Habermas 1991: 56) الذي كان محظورًا على النساء وكن مُسْتَبْعَدَاتٍ منه ومَقْصِيَّاتٍ عنه حتى هذه اللحظة.
لقد كانت الضربة مزدوجة؛ إذ لم يكن «خروج النسوة في المظاهرات ... ثورة على الإنجليز وحدهم بل كان ثورة أيضًا على ألف سنة من ظلام الحجاب» (سلامة موسى، تربية سلامة موسى، ص 101). وهو ما يتوافق مع ما يرصده أيضًا عبد الحميد حمدي عام 1915 في افتتاحية أول عدد من جريدة السفور؛ حيث يتخذ من نقيض السفور المُتمثِّل في (الحجاب) استعارة ممتدة يُعمِّمها على كل أشكال ومظاهر الكذب والنفاق الاجتماعي المُسْتَشْرية والسارية في المجتمع؛ ولذا فإنه يعيد تأويل معنى تلك الثنائية الضدية الماثلة في السفور والحجاب في ظل إدراكه لهذا المتصل ما بين المظر الخارجي للنساء والمظهر الخارحي للمجتمع كله وسلوكياته؛ فيرى أن ’’ للسفور معنى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة التي جرت بها أقلام الباحثين في مسألة المرأة المصرية:
’’ليست المرأة وحدها هي المُحجَّبة في مصر. ولكنها مُحجَّبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا. كل شيء عندنا يبدو على غير حقيقته. فنحن أمة مُحجَّبةٌ، حقيقتها بادية، منها ظواهر كاذبة لا تتفق مع ما فُطِرت عليه الأمة في شيء.‘‘ (السفور، ع1، ص1) ويمضي الكاتب ليُعدِّد ظواهر ومظاهر هذا الكذب والنفاق؛ ويصف الأمة بأنها أمة مُرائِية ومُداجية في مشاعرها وأخلاقياتها وفي كل سلوكياتها، أمة تُظْهِر غير ما تُبْطِن، وتبطن غير ما تظهر، تمامًا مثلما هو الحجاب الذي لا نرى الوجه المستتر وراءه.
هكذا هي الأمة وفق ما يراه مُحرِّر السفور الذي يطابق ويُماهِي بين الأمة والمرأة. ولذا فإن حجاب المرأة، وفق هذا المنظور، ليس، في مستوى من مستوياته سوى مجاز مرسل علاقته الجزئية، يُحيل فيه الجزء (المرأة) على الكل (المجتمع)، وهو ما يجعله جزءًا من رياء ونفاق وكذب اجتماعي مُعمَّم وشامل؛ ومن ثم فإن المُناداة بسفور المرأة ليست قاصرة على مجرد رفع الحجاب عن المرأة فقط، وإنما عن المجتمع كله، بكل ما عليه من براقع وأقنعة كاذبة وحاجبة؛ ممَّا يجعل المطالبة برفع الحجاب والسفور دعوة أشمل وأكمل لسفور المجتمع كله ورفع الحجاب عن مشاعره وأمانيه وأخلاقياته، أو على حد ما يذهب، ويختتم مقاله الافتتاحي؛ إن اسم السفور الذي هو شعار الجريدة هو دعوة «تنادي بالسفور الشامل في كل أبواب التقدم والإصلاح» (السفور ص 2).
ومع ذلك، فما كان للمرأة أن ترفع الحجاب وتُسقِط النقاب، وتكشف وجهها قبل أن تخرج على هذا النحو الذي خرجت به مع ثورة 1919، وهكذا، وكما أكرِّر لم تتشكل الهُوية النسوية وتولد إلا مع خروج هذا الجمع من النساء المصريات في مظاهرة الأحد، السادس عشر من مارس 1919، التي يمكن القول إنها كانت بمثابة سفر الخروج للمرأة المصرية، بعد أن سبقه ومهَّد له سفر التكوين الذي صاغ تكوين الوعي النسائي منذ نداءات وكتابات رفاعة وقاسم وما رافقها وتلاها من جهود للصحافة؛ إلا أن كل هذه الجهود منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ما كان لها أن تنضج وتتبلور على النحو الذي نضجت وتبلورت به لولا ثورة 1919، التي كانت بمثابة العنصر الكيميائي المحفز في التفاعل catalyst، الذي حوَّل عنوان كتاب قاسم أمين الثاني المرأة الجديدة من مجرد دعوة وحلم إلى واقع حي، مُتجسِّد وملموس. لقد كان التصور الحريمي التحريمي هو التصور المُسْتَغْرِق لهُوية النوع على مدار قرون، خصوصًا لدى الطبقتين العليا والمتوسطة.
ولعله يمكن القول إن هذه الهُوية قد تمركزت وتمحورت حول قضية واحدة ذات مسارين متصلين، وهي قضية التحرر أو التحرير؛ إذ يتمثل المسار الأول في القضية الوطنية المُتمثِّلة في تحرير البلاد من المحتل، ويتمثل المسار الثاني في تحرير النوع (المرأة) من منظومة الحريم، أو نسق القيم الحريمي بكل مكوناته ومعوقاته التاريخية.
وهكذا لم تكن القضية النسوية في معناها ومغزاها العميق منفصلة بأي حال عن القضية الوطنية، ما دام أن خروج المرأة ومشاركتها الفعالة واكتسابها المزيد من مساحات الحركة والحرية يزيد من فعالية الممارسة الوطنية ضد المحتل. ومع ذلك فقد ظل البعض يحاول أن يُصوِّر الحركة النسوية بوصفها لا تعدو أن تكون حركة فئوية تسعى إلى الخروج على التقاليد، وأن كل همها هو مزاحمة الرجال من أجل تحقيق مصالح خاصة على حساب المجتمع؛ بما يحصرها ويختزلها في نطاق مجموعة من المصالح الفئوية المحدودة والضيقة، التي هي أبعد ما تكون عنها، (حول تفنيد هذه المزاعم، انظر مذكرات هدى شعراوي، ص 161) ولا أدل على ذلك بالطبع من المشاركة الفعالة للمرأة المصرية في كل القضايا الوطنية والقومية منذ ثورة 1919 وحتى اللحظة الراهنة. وقد وسم هذا الاقتران بين خروج النساء من فضاء الحريم والقضية الوطنية الحركة من مبتداها بهذه السمة الوطنية الفارقة، وجعلها سمة مُؤسِّسة للنوع وهويته، وجعل كل خطوة من خطوات تحرر المرأة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبعد الوطني العام، بداية من التعليم، والعمل والتصويت، ووصولاً إلى البرلمان.
بعبارة أخرى لقد كانت سردية كفاح النوع جزءًا لا يتجزأ من سردية كفاح الوطن، وحلقة من حلقاتها المتعددة. وإذا كان يمكن القول إن الحركة النسوية قد دُفِعت في بعض اللحظات للتركيز على مطالبها، فإن هذا لم يحدث إلا حين كان يتجاهل السياسيون الرجال المطالب النسوية (انظر السابق ص ص 166-169)، ويحاولون إزاحة النساء من واجهة المشهد السياسي، ولعل فيما كان يوجد بين هدى شعراوي وسعد زغلول من اختلافات ومواجهات حادة حول بعض الممارسات الخاصة بالقضية الوطنية ما يدل على هذا ويؤكده. (انظر نفسه، ص ص 214-218).
ولا شك أن مقال فكري أباظة «تحيتي للجنس اللطيف» المنشور في جريدة السياسة في نوفمبر 1924 بالغ الدلالة في هذا الصدد أيضًا (انظر نفسه، ص ص 198-199)
4. السؤال الحائر: هل نجحت الثورة؟
إن ثمة سؤالا ظل حائرًا منذ بدايات التأريخ للثورة وربما لا يزال كذلك إلى يومنا هذا، وهو: هل نجحت ثورة 1919؟ لقد طرح عبد الرحمن الرافعي في خاتمة كتابه عن ثورة 1919 التساؤل حول «هل نجحت ثورة سنة 1919؟ وفيم نجحت؟» (انظر الرافعي، ثورة 1919 تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921، ص ص 564- 585). وكما يتضح من عرض الرافعي ذاته؛ فإن السؤال كان مطروحًا من قبل، وكذلك أعاد طرح السؤال آخرون، ومنهم على سبيل المثال فقط، عماد أبو غازي في كتابه (حكاية ثورة 1919)، (انظر أبو غازي، حكاية ثورة 1919، ص 56 وما بعدها) ومعظمهم، في حدود علمي، وفيما عدا سلامة موسى وشهدي عطية يذهب إلى نجاح الثورة.
وفي هذا السياق، يرى الرافعي أنه لا بد من وضع قاعدة للبحث لكيما يُجاب عن هذا السؤال، و القاعدة، هي «تعرُّف الحالة التي كانت عليها البلاد قبل الثورة، والحال التي وصلت إليها بعد الثورة» (الرافعي، ثورة 1919: تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921، ص 564) ويتوصل الرافعي، ويوافقه أبو غازي، إلى أن الثورة قد نجحت، نجحت على كافة الأصعدة، السياسية والمؤسسية والمعنوية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية. ويرى أنها على المستوى السياسي قد نجحت في رفع الحماية وإن لم تنجح في إجلاء الاحتلال، وأنه من الحق أن نعتبر إلغاء الحماية مكسبًا دوليًا لمصر وربحًا سياسيًا وأدبيا لكرامتها القومية، «لأن هناك فرقًا كبيرًا بين دولة مشمولة بحماية دولة أجنبية ودولة مستقلة يحد من استقلالها احتلال أجنبي، ليست له بأي حال صفة شرعية» (المرجع السابق، ص ص 565-566). كما يرى عبد العظيم رمضان، على الرغم من انتقاده لتصريح 28 فبراير، وأنه لم يكن إلا «تتويجًا متواضعًا لرحلة من الكفاح الشعبي استمرت ثلاث سنوات وبضعة أشهر» أن «اعتراف انجلترا في التصريح بمصر دولة مستقلة ذات سيادة قد رفع من شأن مصر بإزاء انجلترا ذاتها، ولو من الناحية المظهرية على الأقل، وبإزاء الدول التي اعترفت من قبل بالحماية» (عبد العظيم رمضان، تاريخ الحركة الوطنية، ص ص 365-366، والتشديد، دومًا، من عندي).
إلا أن حِجاج الرافعي وجوابه على هذا السؤال بهذه الكيفية المنطلقة من تضاد أو تعارض ظرفي الزمان (قبل وبعد) يخلط الأوراق في تقديري ويضع البيض كله في سلة واحدة، إذ إن ما تمخض من نتائج إيجابية عن الثورة في مجالات مختلفة اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وسواها لا يعني بالضرورة نجاح الثورة. ذلك أن نجاح الثورة أو فشلها يفترض أن يُقاس على ما حققته من الأهداف التي قامت من أجلها، وحددتها بوصفها أهدافها المعلنة، خصوصًا أن ثمة نتائج قد تولدت عن الثورة لم تكن تقع أساسًا في نطاق أهدافها، وإن أتت كمنتجات ثانوية وفرعية لتدافع الأحداث.
كما أن بعض هذه النتائج قد استقلت بذاتها بعد ذلك لتصوغ سردياتها الخاصة، دون أن تكون قد كانت في يوم من الأيام هدفًا تستهدفه الثورة، بل يمكن القول إن رجال الثورة وممثليها قد أعاقوا تطور بعض هذه السرديات وناهضوها، ومنها سردية حقوق المرأة، (وتكفي في هذا الصدد، على سبيل المثال فقط، مراجعة مذكرات هدى شعراوي، وثورة في البرج العاجي لمنيرة ثابت.(
وبالطبع فإن أي طرح يرى أن الثورة بإعلان تصريح 28 فبراير 1922 قد حققت الاستقلال لا يمكن وصفه سوى بأنه طرح شكلي تمامًا، مثله مثل إعلان 28 فبراير ذاته. ذلك أن إلغاء الحماية وإعلان استقلال مصر لم يتجاوزا حدود المظهر الخارجي على حد عبارات عبد العظيم رمضان، التي ينقض بعضها بعضًا، أو إن جاز القول تتسم بالتنافي الدلالي oxymoron ، والمفارقة هنا هي أن الشاعر والتفسير الشعري يتجاوز المُؤرِّخ والتفسير التاريخي في هذه القضية، إذ يرى شوقي أن كل ما حدث هو أن تبدلت قيود مصر من كونها قيودًا من الحديد لتصبح قيودًا من الذهب:
طلبوا الجلاءَ على الجهادِ مَثُوبةً لم يطلبوا أجْرَ الجهادِ زهيدا
واللهِ: ما دون الجلاءِ ويومِه يومٌ تُسميهِ الكِنانةُ عيدا
وجَدَ السجينُ يدًا تُحَطِّمُ قيْدَهُ من ذا يُحطَّمُ للبلاد قيودا؟
رَبَحَتْ مِنْ (التصريحِ) أن قيودَها قَدْ صِرْنَ مِنْ ذَهَبٍ، وَكُنَّ حديدا
أوَ ما تَروْن على (المنابع) عُدَّةً لا تنجلي، وعلى الضّفاف عديدا؟
يا فِتيةَ النيل السعيدِ: خذوا المدى واستأنِفوا نَفَسَ الجهادِ مَديدا
وتنكَّبوا العدوان، واجتنبوا الأذى وقفوا بمصرَ الموقِفَ المحمودا
الأرضُ أليقُ منزلاً بجماعة يبغون أسبابَ السماءِ قُعودا
أنتم غدًا أهلُ الأمور، وإنما كنَّا عليكم في الأمور وُفُودا
فابنوا على أسُس الزمان وروحِه رُكنَ الحضارة باذخًا وشديدا
الهدمُ أجملُ من بناية مُصْلحٍ يَبْني على الأسُسِ العتاقِ جديدا
)الشوقيات، ج1، ص150(
صحيح أن الذهب ألين من الحديد، إلا أن كليهما قيد، وبالطبع لا تخفى النبرة الساخرة في بيت شوقي وأن تغيير مادة القيد ليس إلا من قبيل التجميل الشكلي لمظهر الاحتلال، ولذا تأتي إشاراته فيما يتلو إلى تواجد القوات البريطانية الموجودة على منابع النيل وضِفافه، ومن ثم يحرض ويحفز المصريين وأولي الأمر ألا يُؤسِّسوا جديدًا على قديم لأنه لن يكون جديدًا وأن الهدم في مثل هذه الحال أولى من البناء، أو على حد عبارته:
الهدم أجملُ من بناية مُصْلحٍ يَبْني على الأسُسِ العِتاقِ جديدا
ومن ثم؛ فإن القول إن الثورة قد نجحت في إلغاء الحماية وإعلان إنجلترا استقلال مصر هو قول شكلي تمامًا؛ وإلا فأي استقلال هذا الذي هو (استقلال تحت الاحتلال)؛ بما يحعل العبارة تنفجر داخليًا نتاج ما فيها من تنافٍ دلالي. ولذا يفترض أن نطرح معيارًا آخر نقيس به النجاح والفشل، معيارًا يجاوز مستوى الجزئيات والظواهر الشكلية.
إن كون في بنية الثورات العلمية يجعل من تغير البراديم (النموذج التفسيري) الحاكم للمجال معيارًا لحدوث أو عدم حدوث ثورة في مجال العلم. إذ «إنه عندما تتغير البراديغمات، فإن العَالَم نفسه يتغير معها» (بنية الثورات العلمية، ص 205). كما أن حنا آرِنْدِت في رصدها للثورات السياسية، في كتابها عن الثورة، لا تبعد هي الأخرى عن هذا الطرح؛ إذ تؤكد أن ما ينطبق عليه لفظ الثورات هي تلك الثورات التي تُحدِث التغيير، بمعنى أنها تُشكِّل بداية جديدة، يكون العنف مُسْتخدَمًا فيها ليُشكِّل حكومة مختلفة الشكل كلية بما ينتج عنه تشكيل كيان سياسي جديد يهدف إلى التحرر من الظلم على أقل تقدير وإيجاد الحرية، حينئذٍ، وحينئذٍ فقط، يمكننا أن نتحدث عن الثورةSee Arendt 1990: 35))، كما يُشدِّد قبل ذلك غوستاف لبون في روح الثورات والثورة الفرنسية على دلالات التحول والانقلاب والتغيير فيما يتعلق بنجاح الثورات (انظر لوبون، ص 30)، مثلما يؤكد أيضًا كوهان أن التغيير أو التحول الجذري هو السمة المميزة لنجاح الثورات (انظر كوهان، مقدمة في نظريات الثورة، ص ص 18-19) يرى لينين في الدولة والثورة أن الثورة هي فرض لإرادة الجماعة الثائرة بقوة السلاح (انظر لينين، المختارات المجلد السابع، ص 80)، وقبل كل هؤلاء يرى ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي أن الثورة «هي القطيعة الأشد راديكالية مع النظام التقليدي» (ماركس-إنجلز، البيان الشيوعي، ص 124). وإذا ما تركنا الطروح النظرية حول الثورة وانتقلنا إلى الشعر، والتمثل الشعري للتاريخ، نجد الأبنودي في قصيدته المد والجزر، يفرِّق بين الثورة وبين ما يدخل في نطاق الهَبَّات والانتفاضات الجماهيرية الأشبه برقصات الزار منها بالثورة جاعلاً، هو الآخر، من تغيير العصر معيارًا لحدوث الثورة:
إلتفتْ صاحبي يقوللي:
»لسه نايم..؟
مش مظاهرات..
دي حاجات يفهمها شعبك.
إقفل العقل القديم وافهم بقلبك..
رقصة الزار القديمه.. الفرعونيه
ع الخصيبه السندسيه
لما يجتاحها الألم
لمَّا تُغْمُرها الإهانه .. والقدم..
تسحق الإنسان وتدهس القيم..
إبتسمتْ
رقصة الزار القديمه..
الحميمه..
العظيمه لحدّ فكرناها ثوره.
فرق بين رقصه وثوره،
لا هى جايّه فوق حصان..
ولا فى لحظة زمان
حتهب نابْته فى الغيطان
ولا رقصه برجْل حافيه
ف مهرجان.
دكهه هاديه،
تيجي هاديه .. وصوتها دامي
تعزل الكداب وتقبض ع الحرامي
تعرف الناس مش كُتل..
تعرف الناس بالوجوه.. وبالأسامي.
تيجي فاتحه القبر
نادغه الصبر.. قابضه الجمْر.
تنصب محاكم الشعوب فى كل قصر
تغيّر العصر..
إلى آخر الصفحات فى سِفْر الثوره.
(الأبنودي، مختارات ج2، ص ص 356- 358)
هكذا إن تحول النموذج لدى كون الذي يماثله تغيير العصر لدى الأبنودي هما معيار حدوث الثورة أو نجاحها وهو ما يفرقها عن سواها من انتفاضات أو هَبَّات عشوائية غير منظمة. وبناءً على هذا المعيار الموضوعي تمامًا، والمتمثل في تحول البراديم وتغيير العصر، وبعيدًا عن الإسقاطات العاطفية المُفعمة بالحنين للماضي، فإنه يمكن القول إن ثورة 1919 لم تنجح على الصعيد السياسي، بل إن تشكل بعض التنظيمات الفاشية مثل تنظيم الإخوان المسلمين عام 1928، ثم مصر الفتاة في 1933 لم يكن، في تقديري إلا نتاجًا لفشل الثورة على الصعيد السياسي، إذ لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون وفاة زعيم الثورة وأيقونتها سعد زغلول في عام 1927، وأن تكون نشأة حركة الإخوان في العام التالي مباشرة على هذا النحو اللافت لأي قارئ واعٍ للتاريخ؛ مما يعني أن ثمة فراغًا أحدثه فشل الثورة وأن هذا الفشل قد وجد تتمته في غياب زعيمها، وأن الثورة لو كانت قد نجحت حتى على الصعيد الاجتماعي كما يذهب البعض لما كان لجماعة الإخوان أن تلقى كل هذا التجاوب والقبول، وأن تتسع الساحة لتيارات مختلفة كمصر الفتاة والتيارات اليسارية. وهو الفشل الذي لولاه لما تم، في تقديري، استبدال هويات أخرى دينية وإثنية وأيديولوجية بالهُوية الوطنية، لدى الكثير من المصريين.
إلا أن ما يستدعي التساؤل هو ما المُضْمَر في مثل هذا الإصرار على نجاح الثورة، وماذا يحمل في ثناياه في ظل العديد من الوقائع المضادة والمناقضة لحدوث مثل هذا النجاح؟ لماذا تصر الغالبية العظمى من المؤرخين على نجاح الثورة على هذا النحو، وأن نجد هذا الإصرار يتكرر لدى مؤرخين ينتمون إلى أيديولوجيات مختلفة ومتباينة إلى حد بعيد، أيديولوجيات تتباين تباين المحافظة والراديكالية، أو الليبرالية والماركسية في بعض الحالات، ما السر في ذلك؟ وهل ما يحكم القول بنجاح الثورة هو الوعي التاريخي أم اللاوعي التاريخي؟
هل هو الخوف من أن يكون القول بالفشل مدعاة لتشويه الحدث، وبالتالي تشويه الصورة المثالية الطوباوية للثورة؟ أم أن القول بالفشل قد يعني ضمن ما يعني الدفع باتجاه النسيان، وتفريغ الذاكرة الوطنية من مكون من أهم مكوناتها؟ أم أن هذا الإلحاح على نجاح الثورة هو نتاج أن الثورة قد أصبحت مكونًا هُوياتيًا مُستدمجًا في الذات المصرية، ومن ثم يمثل القول بفشلها قلقلة وخلخلة لاستقرار تلك الذات في علاقتها بذاتها، والتقليل من شأن ما بُذِل من بطولات وتضحيات من أجل بناء الهوية المصرية، ومن ثم يحمل هذا النزوع إلى تطويب الثورة في ثناياه نزوعًا إلى تطويب الذات الجمعية؛ مما يجعل القول بفشلها يسحب من رصيد جدارة تلك الذات؟ إلا أن الأمر إن كان على هذا النحو، وهو ما أميل إلى القول به، فإنه يكون ثمة خلط بالتأكيد في استنتاج أن القول بفشل الثورة يعني أو يلزم عنه التقليل من قيمة ما بُذِل من بطولات وتضحيات؛ خصوصًا أن هذه البطولات والتضحيات قد نجحت في أن تبني لمصر العديد من مكونات هويتها الحديثة.
إن الجواب عن هذا السؤال ليس بالسهل، وربما يكون الجواب الوحيد عنه هو طرح المزيد من الأسئلة حول اللا وعي الحاكم والمُحرِّك لهؤلاء المؤرخين، أسئلة من قبيل، هل هي دماء الشهداء، هل هي عبادة الآباء والخوف من اتهامهم بالمساومة، وتحطيم الرموز؛ وبالتبعية الاتهام الضمني لجموع الأمة بالسذاجة السياسية، ومن ثم الإهانة الجماعية للأمة، أي هل ما يحكم الجواب على سؤال هل نجحت أم لم تنجح الثورة لدى هؤلاء المؤرخين هو إعلاء لمبدأ الرغبة على مبدأ الواقع، في ظل واقع راكد إلى حد بعيد، واقع تبدو معه أحداث ومبادرات تلك المرحلة مقارنة بركود الواقع وآسانته في فضاء مغاير تمامًا لفضاء الواقع الخاص بزمن التقييم والجواب على هذا السؤال، ومن ثم نكون إزاء حالة من حالات السقوط في الحنين للماضي، على هذا النحو الذي نلتمس أصداءه في تساؤلات الأبنودي السابقة حول ما يوجد من انقطاع بين الحاضر والماضي، وإمكانية وصل الحاضر بالماضي؟
قلت لنفسي
وانا آسف ياما لنفسي باقول:
هل ينفعوا دول لنشيد معدول
واضح في العرْض ووافى الطول..؟
في هذا الغيط الموبوء بديدان الهمّ
هل حتفتّح من تاني أزهار الدم؟
هل من تاني
حترّجع صورْة الشّعلة للبرواز
والقمصان.. تتعاص فى الجاز
والطرابيش.. حتّواجه الجيش
وتعود تتفسّر كل الألغاز
فى بساطة وإعجاز..؟
(الأبنودي، مختارات، ج2، ص ص 350-351)
بعبارة أخرى هل إنكار الفشل واستبدال النجاح به هو نتاج لتلك الصدمة الناتجة عن تلك المسافة الشاسعة وذلك التباين الشديد ما بين حجم التضحيات والتطلعات والحجم الحقيقي الفعلي لما تم التوصل إليه على مستوى أهداف الثورة المُعْلَنة؟ ومن ثم كان هذا البحث عن نجاح الثورة في تلك الفضاءات الأخرى المتولدة من فضاء الثورة، وعلى هامش الثورة، والتي سرعان ما أصبحت فائضة عن قدرة الثورة على استيعابها أو لنقل التي استطاعت أن تنتزع فضاءاتها الخاصة وتحافظ عليها في تلك اللحظات التي عجز فيها فضاء الثورة عن الاتساع لها نوعًا من التعويض؟. ولعله يمكن القول إن هذه الفضاءات، مثل الفضاء النسوي، والفضاء العمالي، والفضاء الطلابي، وفضاء المواطنة المجاوزة للانتماء الديني، امتلكت جميعًا وعيها الذاتي مع الثورة إلا أن الثورة لم تكن قادرة بعد ذلك على استيعاب آفاق هذا الوعي، وهو ما نتجت عنه تحولات عديدة في علاقة تلك الفضاءات بالثورة.
لكن على الرغم مما تؤول إليه دومًا ثوراتنا من احتواء لها أو التواء بها عن مساراتها، فإنه على الرغم من ذلك غالبًا ما تتناثر أو تفيض بعض طاقاتها في فضاءات أخرى سوى الفضاء السياسي بمعناه المباشر والصريح.
ولعل هذا ما يمكننا أن نلمسه في حالة ثورة 1919 وانعكاساتها وتجلياتها المختلفة على الأصعدة الاجتماعية والثقافية وعلى أصعدة الوعي الجمعي والذات الفردية والجمعية على حد سواء، وفي القلب من كل هذا بالتأكيد انعكاسها على الوعي بالنوع الاجتماعي.
5. سفر الخروج: خرج الغواني:
لقد كان من الصعب للروح الثورية التي تفجرت في التاسع من مارس 1919 مع خروج الطلاب المصريين والتي سرت واستشرت في الوطن كله استشراء النار في الهشيم أن تتجاوز المرأة التي ظلت تختمر أسئلة الهوية لديهاعلى مدار قرابة نصف قرن. ولذا لم يكن من الغريب أن تكون تلك اللحظة، لحظة تعبير أسئلة الهوية الوطنية عن ذاتها، هي ذاتها لحظة تفجر أسئلة النوع حول وجوده وكينونته وهويته الإنسانية، وأن تشرع الذات النسوية، في خضم تلك الروح الثورية السارية في كل أنحاء الفضاء الوطني، في أن تدرك نفسها وهويتها بوصفها ذاتًا جديرة بممارسة بعض طقوس المواطنة. وهكذا، وفي تلك اللحظة المُفعمة بتلك الروح الثورية المتجاوزة لحدود السائد والمتعارف والمستقر كان من الممكن، بل ومن الطبيعي، أن تمتد عدوى الرفض والاحتجاج والخروج إلى المرأة، كما كان من الممكن والطبيعي أيضًا للمجتمع أن يتجاوب هو الآخر في تلك اللحظة الاستثنائية مع هذا الخروج.
وهكذا، فقد كان الخروج من أجل قضية الوطن فاتحة لإمكانية الخروج أيضًا من أجل قضية النوع، وبهذا المعنى فقد تم العبور إلى النوع عبر البوابة الكبرى للوطن؛ وهو ما أكسب قضايا النوع زخمًا خاصًا ما كان لها أن تكتسبه لو كانت عبرت إلى النوع عبر بوابة النوع وحده. كما كان لهذا الخروج الوطني دوره في تغيير نظرة الرجل أيضًا إلى المرأة ووعيه بها، بقدر ما أضفى أيضًا على الحركة النسوية المصرية أبعادها الوطنية التي توافق لها أن تلازمها منذ مولدها ونشأتها،على العكس مما يذهب إليه أمثال ليلى أحمد ممن يرون أن الحركة النسوية كانت أداة في يد الاستعمار يتلاعب بها (see Ahmed 1992: 174-5).
وبهذا المعنى مثلت القضية الوطنية للنساء غاية ووسيلة في آن واحد، وكانت بمثابة حصان طروادة الذي استطعن النفاذ عبره بنجاح إلى الفضاء العام عمومًا، وإلى الفضاء النسوي بشكل خاص. ذلك أن الخروج من أجل القضية الوطنية مسألة تصعب المزايدة عليها وتَجُبُّ وتنسخ أي منطق وأي حُجَّة أو حِجَاج. فالقضية الوطنية تملك قوتها الحِجاجية الخاصة وقدرتها البلاغية الفائقة لما عداها من بلاغات، ذلك أنها تدخل في نطاق القداسة والمُقدَّس.
ولذلك ومع هذا الخروج، لم يكن من الغريب أيضًا أن تأتي استجابة شاعر النيل حافظ ابراهيم الذي كان يبدي نوعًا من التعاطف من قبل مع المرأة، وإن كان بشكل حذر بعض الشيء، كأسرع وأول استجابة لتأريخ هذا الحدث الفارق في قصيدته السردية أو لنقل في سرديته الشعرية التاريخية: خرج الغواني، والتي لا تُسجِّل فقط الحدث بقدر ما تعكس أيضًا اختلاف صورة المرأة من منظور الشاعر الرجل كذلك. وكما سبق القول فقد كانت ثورة 1919 بمثابة سفر الخروج الحقيقي للمرأة المصرية، ولذا لعلها ليست صدفة أن يبدأ حافظ قصيدته تلك بفعل الخروج مُسْنَدًا إلى النساء على هذا النحو: خرج الغواني:
خَرَجَ الغَواني يَحتَجِجــ ـــنَ وَرُحتُ أَرقُبُ جَمعَهُنَّـــــــــــــــــــه
فَإِذا بِهِنَّ تَخِذنَ مِــــن سودِ الثِيابِ شِعارَهُنَّــــــــــــــــــه
فَطَلَعنَ مِثلَ كَواكِبٍ يَسطَعنَ في وَسَطِ الدُجُنـّـــــــــــَـــــــــه
وَأَخَذنَ يَجتَزنَ الطَريـــ ــــقَ وَدارُ سَعدٍ قَصدُهُنَّـــــــــــــــــــه
يَمشينَ في كَنَفِ الوَقارِ وَقَـــــــد أَبَــــــنَّ شُعورَهُنَّـــــــــــــــــــه
وَإِذا بِجَيشٍ مُقبِلٍ وَالخَـــــــــيلُ مُطلَقَةُ الأَعِنّــــــــــــــــَـــه
وَإِذا الجُنودُ سُيوفُها قَد صُوِّبَت لِنُــــــحورِهِنَّــــــــــــــــــــه
وَإِذا المَدافِعُ وَالبَنــــا دِقُ وَالصَوارِمُ وَالأَسِنّــــــــــــــــــــــه
وَالخَيلُ وَالفُرسانُ قَد ضَرَبَت نِطــــــــاقاً حَولَهُنَّــــــــــــــــــــه
والوَردُ وَالرَيحانُ في ذاكَ النَــــــــهارِ سِلاحُهُنَّـــــــــــــــــــه
فَتَطاحَنَ الجَيشانِ سا عاتٍ تَشيبُ لَــــــها الأَجِنَّـــــــــــــــــــه
فَتَضَعضَعَ النِسوانُ وَالـ ـــنِسوانُ لَيسَ لَهـنَّ مُنَّـــــــــــــــــــــــــه
ثُمَّ اِنهَزَمنَ مُشَتَّتاتِ الشَملِ نَحوَ قُصورِهِنَّــــــــــــــــــــــــــه
فَليَهنَأَ الجَيشُ الفَخورُ بِنَصرِهِ وَبِكَسرِهِنَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
فَكَأَنَّما الأَلمانُ قَد لَبِسوا البَراقِعَ بَينَهُنَّـــــــــــــــــــــــــــــــــه
وَأَتَوا بِهِندِنبُرجَ مُخـ ـتَفِياً بِمِصرَ يَقودُهُنَّــــــــــــــــــــــــــــــــــه
فَلِذاكَ خافوا بَأسَهُـ ـنَ وَأَشفَقوا مِن كَيدِهِنَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــه
(ديوان حافظ ابراهيم، ص ص 87-88 )
تنقسم القصيدة إلى ثلاثة مقاطع:
الأول: 1ــ 5
الثاني: 6ــ 13
الثالث: 14ــ 17
في المقطع الأول يصوِّر الشاعر فعل الخروج وموكب النساء؛ إذ ينبئ أول بيت في القصيدة عن دهشة الشاعر مما يراه وهو خروج النساء مُحْتجَّات، وهي دهشة تدفعه إلى هذا الفعل اللافت، فعل الرقابة الذي هو استمرار وامتداد لقيم النموذج القديم، نموذج الرقابة والاسترابة المُتشكِّك في أي حركة للمرأة، ولا شك أن واو العطف الرابطة بين فعل الخروج وانطلاق المراقبة الفورية تعكس بُعد المفاجأة الكامنة في الحدث، بقدر ما تعكس المنظور الذكوري المُهيمن تجاه حركة المرأة وخروجها، إلا أنه سرعان ما يُبدِّد هذه الاسترابة جلال مظهر النساء، على نحو ما ينعكس في عبارة ’’فإذا‘‘ الدالة أيضًا على المفاجأة، ممَّا يغير من منظور تلك العين الراصدة التي تدرك أن اتخاذهن السواد شعارًا لا ينفصل عن شعيرة الحداد المقترنة بالسواد، ومن ثم تنساب القصيدة لترسم المشهد في حركيته ولتشير إلى المظهر الخارجي للنسوة وقد اتشحن بالسواد، الذي هو دال من دوال الحداد على شهداء الوطن بقدر ما هو أيضًا علامة من علامات الحشمة والرصانة والوقار.
ثم هو يُشبِّهُهُنَّ بالكواكب المُنيرة التي تسطع في وسط الظلمة (الدجنه)، ليجعل من خروج المرأة واحتجاجها على هذا النحو حدثًا تنويريًا ومضيئًا وسط الظلام بكل ما يرمز إليه الظلام من دلالات ومعاني سواء كان ظلام الاحتلال والقهر، أو ظلام التقاليد التعيسة والبائسة، الساجنة والحابسة للمرأة التي أنارتها المرأة بخروجها واحتجاجها هذا، على نحو يُذكِّرنا بعبارات سلامة موسى السابقة، وبرغبات عبد الحميد حمدي في السفور، وهو ما يُضْفِي نوعًا من القدسية على مظهر النساء، وكأنهن أجرامٌ سماوية نيرة ومنيرة، ولا شك أن الصورة على هذا النحو تربط النساء بالسماوي والمقدس على نحو ما.
ثم يواصل تسجيل ووصف المشهد الذي يحدوه الفضول لرصده فيُصوِّرهُنَّ وهُنَّ يَعْبُرْنَ الطريق نحو دار سعد التي أصبحت قصدًا ومقصدًا لهن ولكل الأمة، بما يعكس ويجسد وحدة الهدف ويُبئِّر في الوقت ذاته هذا الهدف عبر صيغة من صيغ المجاز المرسل التي يدل فيها المكان على صاحبه، أو المحل على الحال به، على هذا النحو الذي يُماهِي ما بين دار سعد وسعد نفسه؛ مما يجعل الذهاب إلى دار سعد صورة من صور الاستدعاء والاستحضار لسعد ذاته في وجدان الأمة. ثم نجده حريصًا على وصف ما يمكن أن ننعته بلغة الجسد لهؤلاء النسوة من خلال حالين أحدهما شبه جملة «في كنف الوقار»، والآخر جملة «وقد أبنَّ شعورهنَّ»، وهنا فإن الحال شبه الجملة يجعلهن مُسْتغرقات تمامًا في الوقار ويجعل الوقار مُحيطًا بهن من كل جانب من خلال هذه الاستعارة الفضائية «في كنف الوقار»، وكأنه يومئ من خلال هذا الاستعارة إلى أن خروج المرأة لا يعني نقائض الوقار مُستبِقًا ومُفنِّدًا بهذا أي دعاوى مُناهِضة لخروج المرأة باسم الفضيلة، وهو ما يتجاوب مع صورة الكواكب السابقة ويعزِّز ما يقترن بها من علو وسمو.
ثم هو يؤكد من خلال الجملة الحالية ’’وقد أبنَّ شعورهنَّ‘‘ ما يؤكد دلالة الوقار المقترن بالحداد،وهو ما أومأ إليه في البيت الثاني من خلال إشارته إلى كون السواد شعارهنَّ. وهنا ينبغي أن نعي أن الشعور هنا هو إحساس النساء تجاه قتل الشهداء الأبرياء وليس إظهارهن لشعر رؤوسهن، على نحو ما قد يلتبس على البعض. وهو بهذا المقطع وما ينطوي عليه من حِجاج شعري واعٍ يُفنِّد أي احتجاج محتمل يمكن أن يُوجَّه ضد خروج المرأة.
ثم ينتقل إلى المقطع الثاني من القصيدة الذي يُصوِّر فيه المواجهة بين النسوة وجيش المُحْتل لينقلنا إلى صورة واستعارة ممتدة على مدار ما تبقى من القصيدة، وهي استعارة الغواني بوصفهن جيشًا من المُجاهِدات والمُحارِبات يُواجهن جيش المُحْتل في معركة يعتلي فيها جيش المُحْتل صهوات الجياد، ويُشهِر المدافع والبنادق والسيوف الصوارم والرماح في وجوه النساء، في الوقت الذي لا يملك فيه جيش النساء سلاحًا سوى الورود والرياحين المُهداة إلى أرواح الشهداء، لنصبح إزاء مواجهة بين عنف وهمجية المُحتل وتحضر ورقي النساء المصريات اللائي يُعبِّرن عن مشاعرهن بقوة وتحضر في آن واحد، لنصبح إزاء مواجهة بين قوة فيزيقية مادية غاشمة، وقوة معنوية روحية ناعمة.
ومع ذلك وعلى الرغم من عدم تكافؤ الجيشين من حيث القوة والعدة والسلاح، فإن ثبات الغواني في مواجهة عنف جيش الاحتلال ومُطاحنتهن لهذا الجيش بكل ما لديه من قوة يُحتمل استخدامها، فضلاً عن محاصرته للنساء من أجل إرهابهن يستمر لساعات يصفها حافظ بأنها ساعات مُرعِبة، عسيرة «تشيب لها الأجنة»، على نحو ما يُصوِّر في بيته القائل:
والخيل والفرسان قد ضربتْ نطاقًا حولهنَّ
وهو ما يعني محاصرة النساء محاصرة تامة في محاولة لإرهابهن، ثم ما يتلو هذا الحصار من تصعيد درامي، يتم فيه تضييق الخناق إلى حد الاشتباك والتطاحن؛ ممَّا يُسفر عن تضعضع النساء اللائي لا تعادل قوتهن الفيزيقية قوة جنود المُحْتل الفيزيقية، ومن ثم فإنهن يَتَضَعْضَعْن وينهزمن ويتشتت شملهن مما يدفعهن للعودة إلى قصورهنه.
وهنا نأتي إلى المقطع الثالث والأخير من القصيدة الذي يقلب فيه حافظ المُعادلة؛ إذ يُنكِّل فيه حافظ بالمحتل تنكيلاً مريرًا من خلال تهنئته الساخرة لجيشه:
فَليَهنَأَ الجَيشُ الفَخور بِنَصرِهِ وَبِكَسرِهِنَّه
وهو لا يكتفي بهذا بل يصور ردود فعل الجنود الانجليز تجاه النساء وكأن النساء المصريات قد تشبَّهن لهم في صور الجنود الألمان الذين لطالما أذاقوهم الويلات، وكأن زعيمتهن (هدى شعراوي) التي قالت للجندي الذي رفع بندقيته في وجهها إننا لا نخشى الموت، وأنها تريد أن تكون مس كافل أخرى، قد تمثلت لهم في صورة القائد العسكري الألماني باول فون هندنبيرج، ليختتم بعد ذلك القصيدة ببيت يؤكد فيه أن هذا هو سبب خوف وخشية جيش الاحتلال من مظاهرة النساء.
إن هذه الخاتمة تقلب السحر على الساحر، إذ تجعل هؤلاء الجنود، بقضهم وقضيضهم، يبدون خائفين مرتعدين وقد تبدت لهم صورة النساء المصريات الخارجات على ظلمهم وبطشهم في صورة أعدائهم الألداء الذين كانو يخشونهم على الدوام، وهم الألمان وقائدهم العسكري هندينبيرج إلى الحد الذي يدفعهم إلى الإشفاق على أنفسهم. إن ظاهر المشهد، وإن كان يُوحي بأن الانجليز هم المنتصرون إذ شتَّتوا النسوة وردُّوهن إلى قصورهن؛ فإن عمق المشهد وحقيقته هو أن الانجليز هم من هُزموا وأن النسوة المتظاهرات هن المنتصرات عليهم.
إذ في هذا المقطع الختامي من القصيدة الذي تتمثل فيه الغواني للإنجليز في صورة الألمان وقائدهم هَيْدنبيرج يخاف الإنجليز بأس النساء ويشفقون على أنفسهم منه، بينما لا يخاف الغواني ولا يشفقن على أنفسهن من كيد الانجليز، وعلى هذا النحو يبدو وكأن ثمة شكلاً من أشكال التناظر والتكافؤ الشكلي بين الطرفين: طرف خائف ومُشْفِق على نفسه (الإنجليز)، وطرف مُتَضَعْضِع ومهزوم إلا أنه ليس خائفًا ولا مُشْفِقًا على الرغم من تضعهضه وهزيمته، وهكذا نصبح إزاء منتصر جبان في مقابل مهزوم شجاع.
كما ينبغي أن نلتفت هنا إلى أن هذه النسخة من كيد النساء التي يشير إليها حافظ هي نسخة جديدة من الكيد؛ مع ملاحظة أيضًا أنها آخر كلمة في القصيدة؛ إذ إنه ليس كيد نسوة يوسف، ليس كيد الشهوة المقترن بالنساء على هذا النحو الذي تحيلنا عليه هذه العبارة (كيد النسا) في الموروث الديني والثقافي. وإنما هو كيد الوقار والتحضر بكل ما ينطوي عليه من قوة هي قوة الحق، أو بعبارة أخرى إنه كيد السياسة حين تمارسها النساء بحكمة وحِنكة وتحضر. إن هذه النسخة الحديثة من كيد النساء ليست شيئًا آخر في حقيقة الأمر سوى لعب السياسة الذي تبدو النسوة، رغم تفريقهن وتضعضعهن الفيزيقي من جيش الإنجليز، ورغم حداثة عهدن به منتصرات فيه على جيش الإنجليز.
إن حافظ هنا في حقيقة الأمر يفكك ما اقترن بدال الكيد في علاقته بالمرأة من خلال وضع هذا الدال القديم، قدم قصة يوسف، في هذا السياق الجديد تمامًا الذي ينقل كيد النساء من سياق الخُبْث والحِطَّة والانحطاط والتدني والخضوع المطلق للشهوة إلى سياق ونطاق آخر مخالف ومغاير تمامًا على مستوى القيم المقترنة به التي هي قيم الشرف والوطنية والارتفاع والسمو على نحو ما يحيلنا البيت الثالث من القصيدة الذي يقرن خروج النساء للاحتجاج بطلوع الكواكب الساطعة وسط الظلمة الحالكة.
إنه كيد من طراز آخر جديد سوى كيد الشهوات المُحْبَطة، كيد جليل وجميل ومنير وسام وسامقٍ، إنه كيد نسوة مصر الحديثة اللائي خرجن به على المُحْتل الغاصب ليكون مقدمة للخروج على كل ما يحول بينهن وبين المستقبل.
واللافت على مستوى التشكيل اللغوي والإيقاعي للقصيدة أننا نجد أن حافظ سواء بشكل واعٍ أو لاواعٍ يتخذ من النون المُشدَّدة المُشْبَعة رويًا له؛ بما يجعلنا على امتداد القصيدة مع هذا الحضور اللافت لنون النسوة وبنيتها الإيقاعية حتى مع الكلمات الخمس الخالية منها، وهي: (الدُّجُنَّه، الأعنَّه، الأسنَّه، الأجنَّه، مُنَّه)؛ إذ تأتي هذه النون المُشدَّدة بحكم كونها جزءًا طبيعيًا من بنية الكلمة متماثلة مع نون النسوة، وكأنها هي تمامًا، بينما هي جزء من بنية كل كلمة من هذه الكلمات الخمس؛ مما يجسد هذا التمثيل الأنثوي الطاغي على مستوى التشكيل اللغوي.
وعلى المستوى الموسيقي، فإن القصيدة من مجزوء الكامل المُرفَّل، أي أن القصيدة تتشكل من تفعيلة (مُتفاعِلن) أربع مرات بدلاً من ست، لكن التفعيلة الأخيرة من كل بيت تأتي مُرفَّلة، أي بها علة الترفيل التي هي عبارة عن زيادة سبب خفيف على ما آخره وتد مجموع لتصبح على هذا النحو (مُتفاعِلاتُن). واللافت أنه كان بوسع حافظ أن يأتي بنون النسوة ساكنة وتكون التفعيلة الأخيرة هكذا كاملة غير منقوصة (مُتفاعِلنْ)، إلا أنه لم يلجأ إلى هذا الخيار ولجأ إلى خيار الترفيل الذي تصبح معه نون الهُوية مُشدَّدة ومُؤكَّدة. وكأنه بهذا يريد أن يُشدِّد على ما تتيحه بنية نون النسوة المُشدَّدة من انتقال من السكون إلى الحركة، أي أن يُشدِّد على هذا التحول ويبرزه من خلال تلك النون المُشدَّدة وما تنطوي عليه من سكون فحركة تعكس هذا التحول من عالم الصمت والموات والسكون والاختناق الذي كانت تحيى فيه النساء إلى عالم النطق والحركة، والتنفس، والحياة؛ وكأن بنية القافية ذاتها تعكس وتمثل في تكوينها طبيعة الحدث، وما ينطوي عليه من انتقال من عالم الحَجْب والكَبْت والقَمْع والمَنْع والموات إلى عالم الظهور والتعبير والإعلان والسفور والتجلي، من عالم الانغلاق والحدود والجمود والقيود إلى عالم الانفراج والانفتاح والانطلاق والتحرر.
كما أن نون النسوة تأتي سبع مرات كفاعل متصل بفعله، كما تأتي بوصفها جزءًا من الحضور الطاغي لضمير الجمع الإشاري المؤنث هُنَّ الذي يبدو بتكراره في قافية اثني عشر بيتًا من أبيات القصيدة السبعة عشر وكأنه نوع من أنواع التجسيم والتجسيد المُتكرِّر لهذا الحضور الأنثوي النوعي، بما يجعل تكرار هذا الضمير الجمعي المؤنث في القافية، فضلاً عن تكراره ثلاث مرات أخرى في متن الأبيات، يبدو وكأنه تدشين وتعميد لميلاد النوع.
وكأن القصيدة هنا تتحول إلى قابلة لِمَوْلِد النوع بمعناه الاجتماعي؛ إذ إنها ليست صدفة أن يختار حافظ ضمير الجمع المؤنث ليُعبِّر به عن أول فعل جمعي للنساء، وأن تتوالد بعد ذلك الأفعال الجمعية لهن. كما أن هذا التكرار للضمير هُنَّ في القافية، أي في خاتمة كل بيت من أبيات القصيدة، يُرسِّخ صورة ومشهد هذا الخروج الأنثوي النوعي في الوعي الجمعي والذاكرة الجمعية على حد سواء. بعبارة أخرى، لقد عمد النص إلى أن يحفر ويُطبْعِن naturalize ضمير جمع المؤنث المتمثل في نون النسوة هُنَّ في الفضاء العام والضمير والوجدان المصري من خلال اختياره رويًا وقافية لقصيدته.
كما أن ثمة بعدًا آخر بالغ الأهمية في نص حافظ، وهو بعد فارق النوع. بعبارة أخرى، إن المعركة ليست مجرد معركة بين جيشين من نوع واحد، وإنما هي معركة بين نوعين مختلفين، جيش من الذكور وجيش من الإناث. ومن ثم فإن معركة النساء لم تكن مجرد معركة على الصعيد الوطني فقط، وإنما أيضًا معركة على صعيد النوع؛ معركة تجري بين نوعين مختلفين ومتفاوتين من حيث القوة الجسدية. وبالتالي فإن النصر الرمزي الذي تُحرزه النساء على الصعيد الوطني كان يعني ضمنيًا نصرًا آخر على الصعيد النوعي. وهو ما يعني أن استعارة المعركة كان لها بُعدها الرمزي على مستوى النوع، وهو البعد الذي يمكن القول إنه ساهم في تأطير الهُوية النسوية للمرأة المصرية الحديثة ووسمها، منذ مولدها، بمجموعة من السمات الإيجابية المُشْتَقة من تلك الاستعارة القتالية بوصفها هُوية صامدة، قادرة على التحدي والمواجهة والثبات، وهي عناصر ومكونات هُوياتية أخذت تتحول معها النساء من كونهن مجرد جنس فحسب ليصبحن أيضًا نوعًا بالمعنى الاجتماعي والتاريخي والثقافي، وإن كان بوسائل سلمية متحضرة. أي أنهن أخذن يكتسبن خواصهن النوعية، أو لنقل الخواص المشكلة لهن كنوع، والمجاوزة لطبيعتهن الجنسية، أي التحول من تلك الحدود المغلقة لهويتهن الأنثوية إلى آفاق هويتهن الإنسانية والاجتماعية. ولا شك أن الفضل في تصدير هذا التأطير يعود لاختيار حافظ لهذه الاستعارة الممتدة، والمزدوجة الدلالة على صعيد معركة الوطن ومعركة النوع في آن واحد.
ومن اللافت أيضًا هذه الإشارة الصريحة التي يشير فيها الشاعر إلى نفسه بوصفه راويًا يعلن عن حضوره كراوٍ، وكأنه يريد أن يُثْبِت نفسه كجزء من المشهد، أي أن يدخل في ذاكرة الحدث، ويُثْبِت نفسه على مستوى الراوي المُشاهِد للمشهد، وليس الراوي الناقل عن آخرين. إن الراوي هنا يبدو مُلحقًا بالمشهد، وهي وضعية جديدة تبدو فيها النساء في وضعية المتن والرجل في وضعية الهامش لهذا المتن، كما أنه اختار موقع الراوي العليم بكل شيء إلى حد معرفة دواخل الجنود الأنجليز أنفسهم واستيهاماتهم إزاء النساء.
وإذا كان لنا أن نتبنى نموذج هَيْدن وايت التفسيري في قراءة أنماط التحبيك التاريخي، وإذا كان التحبيك، كما يقول، هو الكيفية التي تتكشف بها سلسلة الأحداث المصوغة في قصة من نوع معين؛ (White 1975: 7)، فإنه يمكننا القول إن الحبكة التي صاغ بها حافظ سرديته الشعرية حبكة مزدوجة أو حبكة ذات وجهين: وجه أول رومانسي شبه ملحمي يمثل بطولة الغواني في تصديهن للعنف الفيزيقي للقوات الإنجليزية، يتمثل فيما يومئ إليه وصف ’’تشيب لها الأجنة‘‘، من بطولة للطرف الأضعف، الطرف الذي لا يحمل سلاحًا ولا يعتلي صهوات الجياد، ولا يحمل سوى الورد والريحان، وهو وصف يربط السردية بالرومانس، فضلاً عن بعد المغامرة المقترنة بفعل الخروج ذاته، إضافة إلى السعي إلى هدف سامٍ ونبيل وهو الوصول إلى دار الحبيب، حبيب الأمة كلها وبطلها «سعد»، سعيًا لتحريره هو ورفاقه من منفاهم، إن كل هذه المكونات تربط السردية وتربط حبكتها بالرومانس، ووجه آخر هِجائي ساخر يمثل تلك القوات الجبانة الخائفة على الرغم من قوتها الفيزيقية والعسكرية الفائقة في مواجهة مجموع من النساء. ذلك أن القصص ذات الطابع الهِجائي تكتسب تأثيرها وفعاليتها، وفق فراي، من خلال إحباطها لآفاق التوقع المعتادة على نحو ما يبدو في خوف القوات الإنجليزية وإشفاقها على أنفسها من كيد النساء، على الرغم من فارق القوة الهائل بين الطرفين، والمُتمثِّل نصيًا في هذه المجموعة من التقابلات الدالة والمُولِّدة للمفارقة والسخرية:
نساء واقفات على أقدامهن # جنود على صهوات الجياد
مدافع وبنادق وصوارم وأسنة # الورد والريحان.
والنتيجة الطبيعية والمتوقعة لمثل هذه المواجهة اللامتكافئة بالمرة ألا يخشى الطرف الأول الطرف الثاني وألا يشفق على نفسه من كيده، وأن يكون الطرف الثاني هو الطرف الخائف والمُشْفِق على نفسه، إلا أن المُفارقة المُولِّدة للسخرية والمُحْبِطة للتوقع والصانعة أيضًا لبطولة الغواني في هذه المعركة هي أن العكس هو ما يحدث، إنها حبكة السخرية الممزوجة بحبكة البطولة هي الحبكة التي يتناسج من خلالها التاريخ والقص والشعر في قصيدة حافظ. وإذا كانت طبيعة الحبكة الساخرة والهِجائية على حد ما يذهب فراي هي إحباط التوقع، فإن الرومانس بالأساس عبارة عن دراما لبناء الهُوية (see ibid: 8-9)، وهو ما أتاح بالطبع لحافظ أن يجعل الرمزي والأخلاقي ينتصر على المادي والفيزيقي، رغم فارق القوة المهول بين الاثنين. وهكذا، فإن الذكور يمكن أن ينتصروا على الصعيد الفيزيقي إلا أنهم مهزمون على الصعيد الرمزي والأخلاقي.
ومن اللافت أيضًا في هذه المواجهة أن الغواني يُشار إليهن ويُمثَّلن من خلال تكرار ضمير جمع المؤنث في كل بيت من أبيات القصيدة وتحديدًا في مقطع القافية، وفي بعض المواضع الأخرى كذلك، بينما لم يُشر إلى جيش الذكور من خلال ضمير جمع المذكر المتمثل في واو الجماعة إلا مرة واحدة فقط، وفيما عدا ذلك تُذكَر الأسلحة الحربية وأدوات الحرب المُوجَّهة ضد النسوة، وكأن جيش الذكور يتم تجريده هكذا من إنسانيته، ويتم تشْييئُه ويُختزَل في أدواته الحربية التي تصبح وكأنها مجازات مرسلة تنوب عنه وتمثله بقدر ما يتماهى هو معها. وهو ما يجعل هذا الحضور الذكوري العسكري حضورًا مُجرَّدًا تمامًا من إنسانيته حتى على مستوى التمثيل اللغوي، والضمائر اللغوية المُستخدَمة العاكسة حضورًا وغيابًا لهذه الدلالة، وهو ما قد ساهم بدوره في بناء الحبكة وتشخيصها على هذا النحو.
إن التاريخي والتخييلي يتناسجان معًا من خلال تلك التمثيلات التي تصوغها القصيدة، إذ من خلال تلك الاستعارات، ومن خلال تلك التمثيلات لا يقتصر دور القصيدة هنا على التسجيل، ولكنها تتحول إلى موتيف ثوري سواء على مستوى النوع الاجتماعي أو على مستوى الفعل الثوري بعامة، أي أنها تتحول إلى مُولِّد لأفعال وأحداث أخرى في متن
السلسلة السردية للثورة. إذ يعد هذا الحدث من الأحداث التي يطلق عليها ريكور الأحداث الصانعة للحقبة، والتي تستمد معناها المُحدَّد من قدرتها على تأسيس أو تعزيز وعي الجماعة بهُويتها، هُويتها السردية، وكذلك هُوية أعضائها. وتتسم مثل هذه الأحداث بأنها ’’تولد مشاعر ذات كثافة أخلاقية جديرة بالاعتبار، سواء كان هذا تخليدًا محمومًا لذكرى أو إظهارًا لبعض المَقْت أو النِّقمة أو بعض الأسف أو الإشفاق». (Ricoeur 1990: 187) ذلك أن «هُوية شخص ما أو جماعة ما تصوغها، في جزء كبير منها، هذه التماهيات، مع قيم ومعايير ومُثل عُليا ونماذج وأبطال يتعرف فيها الشخص أو تتعرف فيها الجماعة ذاتها» (Ricoeur 1992: 121).
لقد كانت هذه المظاهرة هي المرآة التي انعكس فيها وعي النوع على نفسه، أو بعبارة أخرى اللحظة التي تماهي فيها النوع مع صورته لأول مرة على نحو يُذكِّرنا بخبرة الطفل في مرحلة المرآة اللاكانية، (حول مرحلة المرآة، See Lacan 2001: 1-7). وقد أتت قصيدة حافظ على الفور وكأنها مرآة أخرى مُجسِّمة لصورة الذات التي يرى فيها النوع نفسه ويراه المجتمع كذلك فيها. بعبارة أخرى مُسْتَعَارة أيضًا من الأدبيات اللاكانية، فإن القصيدة تبدو وكأنها قد أتت لتحمي جسد النوع من التجزوء والتفتت والتشظي، سواء على مستوى علاقة النسوة بأنفسهن أو إدراك المجتمع لخروجهن، من خلال التأطير الأخلاقي الذي أضفته القصيدة على النسوة، ولتنقل إدراك النوع في الوعي الجمعي من الخيالي إلى الرمزي بالمعنى اللاكاني (see Evans 2006: 84-85 & 203-204 ما دام أن الرمزي، على حد طرح لاكان، هو ما يقيم الذات ضمن اللغة. وهكذا تأتي القصيدة لتمارس نوعًا من أنواع التدشين والتعميد لصورة النوع الجديدة في جسد اللغة؛ وبذلك تحمي جسد النوع من التجزوء، عبر تلك الفعالية الرمزية التي يُجسِّدها جسد القصيدة، كامتداد وبديل للجسد الأنثوي الذي يصفه حافظ بانعدام القوة أو المُنَّة على حد عبارته «والنسوان ليس لهن مُنَّة».
بعبارة أخرى، إن القصيدة في الوقت ذاته الذي تصوِّر فيه الضعف الجسدي للنوع على مستوى الواقعي تمنحه جسدًا رمزيًا بديلاً، ينتصر فيه الرمزي على الواقعي عبر وساطة الخيالي، وكأن القصيدة هنا هي الترميم والتتميم الرمزي للضعف الجسدي للنسوة. (حول مرحلة المرآة، See Lacan 2001: 1-7)
إن تحويل الوقائع، والأحداث الأدائية عمومًا، كالتظاهرات والاحتجاجات والإضرابات وسواها من أشكال الفعل السياسي، إلى أفعال لغوية، يُعد أمرًا بالغ الأهمية، إذ إنه يُحرِّر الحدث من راهنيته وموقفيته الزمكانية المحدودة ويلقي به في أفق التاريخي، وهذا تحديدًا ما فعلته قصيدة حافظ. وهكذا، فقد خلدت قصيدة حافظ الحدث. ذلك أن منح الحدث مُعادله اللغوي يجعله ممتد المفعول، ويجعله مُجاوِزًا للحظة؛ إذ يُحرِّره من حدود الزمان والمكان ويفتحه على آفاق الديمومة، والقابلية اللا نهائية للتكرار.
6. تناص التاريخي مع الأدبي:
لقد صنع الحدث القصيدة على مستوى الواقع إلا أن القصيدة قد حرَّرت وصاغت فضاء جديدًا للحدث والنوع على حد سواء؛ إذ نقلته إلى آفاق التاريخي. فقد حفر حافظ بقصيدته تلك الحدث في الذاكرة الجمعية، وحوَّله إلى سردية شعرية خالدة أخذت تتداولها الأيدى نَسْخًا وتوزيعًا وحِفظًا حتى قبل طباعتها ونشرها على نحو ما تخبرنا هدى شعراوي في مذكراتها من أن القصيدة كانت توزَّع «دون توقيع نظرًا للظروف القائمة في ذلك الوقت» (مذكرات هدى شعراوي، ص 124)، وكأنها منشور سياسي يُوزَّع دون توقيع، ليزف للأمة المصرية هذه السردية الاستثنائية المجيدة.
ولذا؛ لم تكن صدفة أن تتحول القصيدة إلى أيقونة تُورِدها معظم كتب التاريخ المُتناوِلة للحدث، بل إن العديد من الأعمال الأدبية، بما فيها المذكرات والسير الذاتية والروايات أيضًا تستشهد بها في إشارتها للحدث، على نحو ما نجد مثلا في بين القصرين لمحفوظ الذي يورد الأبيات الأربعة الأولى منها على لسان فهمي في حواره عن الثورة مع أخيه ياسين، (انظر محفوظ، بين القصرين، ص ص 430-431)، أو كما نجد في سيرة سلامة موسى الذاتية تربية سلامة موسى (انظر موسى مصدر سابق، ص 102) الذي يُورِد القصيدة كاملة، مثلما تُورِدها مذكرات شخصية عديدة خاصة بالمرحلة، كما هو لدى هدى شعراوي، وعبد الرحمن فهمي الذي يشير إلى الحدث بهذه العبارات الدالة التي تكشف عن مدى تجاوب وفرح الجماهير بهذه المبادرة النسوية المجيدة، بقدر ما تكشف أيضًا مدى شجاعة النساء وثباتهن وتؤكد أن استعارة حافظ الممتدة عن جيش النساء كان لها ما يُبرِّرها، وليست من قبيل المبالغة: «لم تشأ المرأة المصرية أن تُحْجِم عن المساهمة في تلك الثورة التي اشتد لهيبها فأرادت أن تحظى بشرف هذا العمل المجيد، حتى تبرهن على أنها ليست أقل ثورية وعزيمة عن أختها الغربية، وحتى تُذكي نار الحماسة الوطنية في قلوب الرجال. ففي 16 مارس انطلق كثير من عقائل العائلات الراقية بين أنحاء القاهرة هاتفاتٍ بحياة الحرية والاستقلال ومُنادِيات بسقوط الحماية، وقد مررن بموكبهن بدور القنصليات ومُعتمِدي الدول الأجنبية والناس من حولهم يُصفِّقون لهن ويهتفون والنساء من نوافذ بيوتهن يزغردن ويهتفن فكان ذلك منظر جميل رهيب يأخذ بمجامع القلوب. ولكن لم يكن للسلطة أن تترك مثل هذا الموكب الرائع دون أن تشوِّه من جلاله، فضرب الجنود الانجليز نطاقًا حولهن وسدَّدوا إليهن فُوَّهات بنادقهم وحرابهم، على أن السيدات لم يَرْهَبْنَ هذا التهديد ولم يفُتْ في عَضُدِهنَّ مشهد أولئك الجند المسلحين، بل تقدمت واحدة منهن إلى جندي كان قد وجَّه إليها بندقيته وقالت له بالإنجليزية أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر كافل ثانية فخجل الجندي وتنحى للسيدات عن الطريق بعد أن لبثن في وهج الشمس أكثر من ساعتين. وقد حيَّا شاعر مصر العظيمة حافظ بك ابراهيم هذه المظاهرات بقصيدة لاذعة استهلها بقوله:» (مذكرات عبد الرحمن فهمي، ج1، ص 147، وانظر ص 148)
كما يُورِد أيضًا محمد علُّوبة الحدث ولكن من زاوية أخرى «ولم يقف الاستياء من هذه المعاملة القاسية لأمة غير مُحارِبة عند حد الرجال. فإن السيدات المُخَدَّرات لم يطقن أيضًا احتمال هذه الصدمة، ولم يقف حِجابهن الكثيف في طريق إظهار عواطفهن، بل قمن نحو الثلاثمائة من عقائل أعلى البيوتات في القاهرة بمظاهرات نشرت الجرائد صُبْحَ يومها .. أنها مُصرَّح بها. فلما نزلن من عرباتهن وقطعن مسافة من طريقهن حتى وصلن إلى بيت سعد زغلول أحدق بهن الجنود البريطانيون مُصوِّبين أفواه البنادق وسِنان السنج نحوهن فوقفن في الشمس محصورات بقوة السلاح نحو الساعتين، لا يُسمح لهن بالسير ولا بركوب عرباتهن والانصراف إلى منازلهن.» ( محمد علي علوبة، ذكريات اجتماعية وسياسية، ص 110)
وإذا كان علوبة قد رصد الحدث من زاوية المُفارقة بين الحجاب الكثيف والتظاهر؛ فإننا نجد السربوني يرصد هو الآخر الحدث ولكن من زاوية أخرى تتجاوب مع الأولى، وهي زاوية علاقة الحدث بالحرملك: «لقد تركت النساء المصريات الحرملك بالمئات ليتظاهرن ويتحادثنَ في أمور السياسة. لقد قدَّمت إحدى مظاهراتهن ـــ التي صُرِّح بها أولاً، ثم أوقفت بالقوة المُسلَّحة ـــ مشهدًا شديد التأثير، وكشفت عن شجاعة المرأة المصرية التي تماثل المرأة الرومانية، وحين أن كانت المُتظاهِرات مُحاطات بصفين من الجنود الذين كانوا يُهدِّدونهنَّ بسِنج البنادق ويمنعونهنَّ من السير أو العودة إلى منازلهنَّ تقدَّمت إحداهن. وفتحت صدرها لجندي كان قد هدَّدها قائلة له: "اقتلني إذن لكي يكون هناك ميس كافيل أخرى"». (محمد صبري السربوني، الثورة المصرية، ج1، ص 52)
وإذا كان حافظ ابراهيم قد صدَّر قصيدته بالفعل خرج «خرج الغواني»، فإن عبد الرحمن فهمي يصف فعل النساء بأنه انطلاق «انطلق كثير من عقائل العائلات»، بكل ما يحمله فعل الانطلاق في ثناياه من دلالة على القوة والزخم والطاقة الدافعة للحركة؛ وكأنهن قذائف تنطلق من مكامنها. كما يُلاحَظ أيضًا أن فهمي يستخدم بعض مفردات القصيدة في تجسيد المشهد، كما يُصدِّر السربوني الفقرة التي يُصوِّر فيها مبادرة هؤلاء النسوة بفعل آخر يتجاوب مع الفعل الذي اختاره حافظ ويُجسِّد مدى ثورية تلك المبادرة، وهو الفعل «تركت» بكل ما له من دلالة على الانفصال عن عالم الحريم وكيف أن هذا الترك يُشكِّل قفزة نوعية: «لقد تركت النساء المصريات الحرملك بالمئات ليتظاهرن ويتحادثن في أمور السياسة.» وكأنه يشير ضمنًا إلى هذا التحول النوعي الذي نقلهن من عالم الحريم إلى الفضاء السياسي العام، إن لام التعليل هنا في إطار ما قبلها وما بعدها تعكس مدى التحول ومدى القفزة، ومدى ما بين العالمين من اختلاف ومسافة بين عالم الحريم وعالم التظاهر والحديث في السياسة.
إن الأفعال الثلاثة الاستهلالية التي يتم تأطير الحدث بها شديدة الدلالة على استثنائية الحدث، وما ينطوي عليه من قطيعة بين ما قبله وما بعده، أو ما ترتب عليه. كما يعكس تصوير فهمي أيضًا أبعادًا شديدة الأهمية في دلالاتها، وهي أبعاد لم ترصدها عدسات حافظ، وهي هذا التجاوب الجماهيري المتمثل في تصفيق الناس، المفترض أنهم في الأغلب رجال، إضافة إلى هذا الاحتفاء النسائي من نوافذ المنازل بالزغاريد، وهي بدون شك استجابات تفتح سردية الخروج على آفاق اجتماعية وتاريخية جديدة وممتدة يتم تدشينها بمجموعة من الأفعال الجسدية الأدائية: تصفيق وزغردة، وهو ما يُضْفِي أبعادًا شعائرية وطقوسية على الحدث، لنغدو إزاء سردية شعائرية بامتياز، مُجاوِزة ومُتعدِّية لحدود القائمات بها، وكأن المظاهرة التي هي في جوهرها فعل سياسي بامتياز تتحول من خلال هذه الأفعال الأدائية الجسدية الكنائية الاستعارية في آن واحد إلى عرس وزفاف، أو بعبارة أخرى، وكأن المسافة بين الشعري والواقعي تتلاشى تمامًا؛ وهنا يبدو وكأن الواقعي يكمل الشعري. بل إن هذه المشاهد التي تسجلها كل تلك السرديات للحدث تجسد لنا لحظة من لحظات تشييد وبناء الهوية الوطنية والهوية النسوية على حد سواء، إذ لا يمكن فهم مثل هذه الأفعال الأدائية من تصفيق وزغردة بعيدًا عن آلية تشكل وانبناء الهويات المتمثلة في عملية التماهي بما هي عملية تتمثل فيها الذات الآخر وتتحول كليًا أو جزئيًا طبقًا للنموذج الذي يقدمه، فالتماهي يلعب دورًا في تشكيل الهويات الفردية والجماعية على حد سواء، إلا أنه في حالة الهويات الجماعية غالبًا ما يحث أفراد الجماعة المظلومة أو المُهمَّشة تاريخيًا على التماهي مع مجموعة كامنة أو واعدة بما يصنع من الجماعة جماعة من خلال الكشف لها عن آفاقها الممكنة (حول دور التماهي في تشكيل الهوية (see Culler 1997: 113-115، وهو ما يعني أنها كانت لحظة من لحظات التشكيل الجمعي للهوية. كما يكشف، أيضًا، أن هذه المظاهرة وإن بدا أنها مُنغلِقة طبقيًا؛ قد استطاعت أن تتجاوز تلك الحواجز الطبقية مع مثل هذا الطقس الوطني المهيب الذي يصفه فهمي بأنه «جميل رهيب يأخذ بمجامع القلوب.«
وإذا كان فهمي قد صوَّر تجاوب الجماهير مع مظاهرة النساء بوصفه تجاوبًا فرحًا، فإن أحمد شفيق باشا يُصوِّر لنا الحدث من منظور آخر أكثر درامية، هو منظور الصدمة والدهشة والجمع ما بين مشاعر مختلطة: «وفي يوم 16 اجتمع لفيف من عقائل الأسرات الراقية في القاهرة. وألَّفْنَ مظاهرة كبرى منهن سارت في شوارع العاصمة. فوقفت القلوب لمنظرها الرهيب. ودُهِش الناس لجرأة هؤلاء السيدات التي لم يروِ التاريخ شبيهًا لها. وأخذ السيدات يُلوِّحن بأعلام صغيرة مُحيِّياتٍ الوطن مُنادِياتٍ بالحرية والاستقلال وبسقوط الحماية والظلم والاستبداد وأخذن بموكبهن يطفن بدور الوكالات السياسية يحف بهذا الموكب الجلال والجمال والكمال. فلم تُطق السلطة صبرًا على هذا المنظر الذي يدل على بلوغ الاستياء منها مبلغًا لم يكن له نظير وتمسك المصريين كافة بأمانيهم في الحرية والاستقلال. وأخذ الجنود يتعرضون لهؤلاء السيدات ويضربون عليهن نطاقًا منهم فجعلوا عليهن سياجًا من بنادقهم في أفواهها الحِراب، كأنهم قبالة أسود الوغى وأبطال الكفاح. وما هم في الواقع إلا ربَّاتِ حِجَال أخرجهنَّ سخطُهُنَّ عن مألوفِهِنَّ واجتمعنَ يَصِحْنَ في وجه الظلم والعسف صيحاتِ الاستنكار ولم يتسلَّحْنَ إلا بالبراقع والعقود! ومع ذلك فإنهن لم يَرْهَبْنَ هذا التهديد ولم يفلّ من عزمهن مشهدُ آلات الفتك في أيدي هؤلاء الرجال الأشداء، بل تقدمت سيدة منهن وقالت لجندي شهر عليها بندقيته وفي فمها شبح (أي في فم البندقية حربة) وقالت له: «أطلق بندقيتك في هذا الصدر لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية!» قالت هذه العبارة باللغة الفرنسية، ففهمها الضابط الذي كان يقود الجند، فخجل وتنحى لهن عن الطريق، بعد أن أوقفهن في وهج الشمس أكثر من ساعتين. ولقد كان منظر هؤلاء السيدات يتعرض لهن الجنود المُدجَّجون بالسلاح، من أحدث طراز، ممَّا يثير في النفوس شعورًا مختلفًا وإحساسات متناقضة. فمن إعجاب بهذا الإقدام إلى روعة ووقار إلى دهشة إلى احتقار إلى استفظاع» (أحمد شفيق باشا، حوليات مصر السياسية: التمهيد، الجزء الأول، ص ص 265-266)
وسواء كات هدى شعراوي قد تلفظت العبارة بالإنجليزية أو بالفرنسية، على ما يوجد من خلاف في الروايات، فإن المؤكد هو أن وقع الحدث من منظور شفيق كان صادمًا للحس العام إلى حد تقف معه القلوب لمنظره الرهيب، وهو، على حد ما يُصوِّره، حدث لا نظير له في تاريخ مصر أو على حد عبارته لم يرو التاريخ شبيهًا له، ومصدر الصدمة والدهشة هو جرأة هؤلاء النسوة اللائي لم يُرهِبْهن ما تسلح به الجنود البريطانيون والمتأمل لتصوير صاحب الحوليات يجد أنه يقدم لنا خُطاطة سردية مماثلة لتلك الخُطاطة السردية التي وظفها حافظ في قصيدته وأنه يستخدم نفس الاستراتيجية السردية ذات الحبكة المزدوجة الجامعة ما بين البطولة والهجاء والسخرية. ولعلنا لا نغالي هنا إذا ما قلنا إن الكتابة التاريخية عن الثورة تصبح هي ذاتها جزءًا من بلاغة الثورة.
وهكذا تصبح سردية هذه المظاهرة حلقة من حلقات السردية الكبرى للثورة، وحلقة أيضًا من حلقات سردية أخرى هي سردية النوع، كما تصبح جزءًا من ذاكرة الشعر، والرواية، والمذكرات والتاريخ في آن واحد، ومن ثم تصبح جزءًا من سرديات الهوية الوطنية والهوية النوعية للمرأة على حد سواء. وفي ظل كل هذا، يمكن القول إن القصيدة قد ساهمت في إدماج مفردة النوع ضمن مكونات الهوية الوطنية المصرية الحديثة، أي أنها كانت تبني الهوية النسوية للنوع في المِخْيال المصري الحديث. وبهذا المعنى يمكن القول إن القصيدة كانت تبني أيضًا هوية قرائها. وأنها قد منحت أيضًا خروج المرأة من خلال كتابته على هذا النحو، ما يطلق عليه دريدا، تلك القابلية للتكرار iterability، التي هي جزء لا يتجزأ من طبيعة كل شفرة (see Derrida 1982: 315-317).
ولا شك أن كل هذه النصوص تؤكد أن ثمة شيئًا قد تغير في الفضاء العام بخروج هؤلاء النسوة، وأن هذا الفضاء لم يعد بعد خروجهن هو الفضاء ذاته الذي كان قبل خروجهن. إذ أخذت أصوات وأصداء هتافاتهن تتردد في الفضاء العام، بعبارة أخرى لقد أصبح للنساء صوت ينطق ويتكلم ويقول فيُسمَع في هذا الفضاء الرحب الذي ظل مُحْتكَرًا لقرون من قبل الذكور، وهو ما يعني أن هذا الخروج قد منح المرأة نوعها وصوتها في آن واحد.
إن شيئًا جديدًا قد ولد ليعيش ويبقى ويواصل الحياة ويواصل الحضور، وهو هذا الحضور الجديد والخلاق للمرأة كنوع اجتماعي قادر على المبادرة والفعل والإقدام، ومن ثم نجد أنه لم تمضِ أربعة أيام حتى كنَّ قد خرجن في مظاهرة أخرى في العشرين من مارس لتتوالى أفعال الخروج (انظر الرافعي، مرجع سابق، ص ص 234-235).
7. خاتمة: صورة المرأة قبل الخروج وبعد الخروج:
لقد كان خروج السادس عشر من مارس إذًا أشبه بخروج المارد من القمقم بعد ما يربو ويزيد عن ألف عام، ومن ثم فما كان يمكن لأحد أيًا من كان أن يعيده إلى ما كان عليه قبل هذا التاريخ. وإذا أردنا، أخيرًا، أن نستجلي الفارق جيدًا بين ما كانت عليه وضعية المرأة قبل 1919 وما بعدها، أو لنقل قبل الخروج وبعد الخروج، يمكننا أن نراجع قصيدة أخرى لحافظ، قالها قبل قرابة عقد من قصيدته هذه، ونقارن بين نبرة حافظ ذاته تجاه المرأة في كلتا القصيدتين، وهي هذه القصيدة الشهيرة التي يرد فيها هذا البيت الشهير:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
والذي لطالما يتم الاستشهاد به واقتباسه دون ما عداه، والتي أنشدها في التاسع والعشرين من مايو عام 1910 في مدرسة البنات ببور سعيد، والتي يقول في المقطع الأخير منها:
مَن لي بِتَربِيَةِ النِساءِ فَإِنَّها في الشَرقِ عِلَّةُ ذَلِكَ الإِخفاقِ
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ
أَنا لا أَقولُ دَعوا النِساءَ سَوافِراً بَينَ الرِجالِ يَجُلنَ في الأَسواقِ
يَدرُجنَ حَيثُ أَرَدنَ لا مِن وازِعٍ يَحذَرنَ رِقبَتَهُ وَلا مِن واقي
يَفعَلنَ أَفعالَ الرِجالِ لِواهِياً عَن واجِباتِ نَواعِسِ الأَحداقِ
في دورِهِنَّ شُؤونُهُنَّ كَثيرَةٌ كَشُؤونِ رَبِّ السَيفِ وَالمِزراقِ
كَلّا وَلا أَدعوكُمُ أَن تُسرِفوا في الحَجبِ وَالتَضييقِ وَالإِرهاقِ
لَيسَت نِساؤُكُمُ حُلىً وَجَواهِرًا خَوفَ الضَياعِ تُصانُ في الأَحقاقِ
لَيسَت نِساؤُكُمُ أَثاثاً يُقتَنى في الدورِ بَينَ مَخادِعٍ وَطِباقِ
تَتَشَكَّلُ الأَزمانُ في أَدوارِها دُوَلاً وَهُنَّ عَلى الجُمودِ بَواقي
فَتَوَسَّطوا في الحالَتَينِ وَأَنصفوا فَالشَرُّ في التَقييدِ وَالإِطلاقِ
رَبّوا البَناتِ عَلى الفَضيلَةِ إِنَّها في المَوقِفَينِ لَهُنَّ خَيرُ وَثاقِ
وَعَلَيكُمُ أَن تَستَبينَ بَناتُكُم نورَ الهُدى وَعَلى الحَياءِ الباقي
(ديوان حافظ ابراهيم، ص ص 282-283)
هكذا يبدو البون شاسعًا ما بين نبرة حافظ في قصيدة الخروج، وتحفظه وقلقه هنا من أن يُفهم من خطابه أنه يدعو، لا سمح الله، إلى أن تتجول النساء في الأسواق كما يتجول الرجال، أو أن يدرجن، أي يذهبن، حيث أردن، أو أن يفعلن أفعال الرجال، وكل هذا الحرص على حصرهن واختزالهن في الدور الأمومي فحسب وجعله هو وحده المبرر والذريعة لتعليمهن، ولكيما يسمح لنفسه أن يطالب بأن ينلن قدرًا بسيطًا من الحرية، ولكي لا يُحْبَسْنَ مثلما تُحْبَس الأمتعة أوالحلى والجواهر في الأحقاق، وأنهن بشر ولسن متاعًا أو أثاثًا لا يبرح البيوت والمنازل، حيث هوية النساء في هذه القصيدة مُشْتَقَّة ومُسْتَمَدَّة من كونهن فقط أمهات ولا أكثر.
ثمة بون شاسع، إذًا، ما بين نبرة التوسل والاستعطاف التي تعكس وضعية النساء وأنهن كن في وضعية لا تعدو وضعية الجماد أو وضعية الحلى والجواهر والأثاث التي ينفيها عنهن حافظ بوصفهن بشرًا وكائنات إنسانية تستحق قدرًا من الحرية وبين جيش النساء الصامد في وجه القوات الإنجليزية. لقد كانت استجابة حافظ ابرهيم الشعرية، إذًا، هي أول استجابة تؤرِّخ لبداية الحركة النسوية المصرية. ولعله من اللافت أن تكون الحساسية الشعرية هي الحساسية الأسرع والأبكر في التجاوب مع حدث الخروج.
وهكذا، يمكن القول إن الثورة وإن كان قد تم احتواؤها والالتواء بها عن مسارها على الصعيد السياسي من خلال إيقاظ النزعات الفردية والطموحات الشخصية لزعمائها، فإن ما فاض على جنباتها وهوامشها كان ثورة أخرى، أكثر قدرة على الصمود والتحدي ورفض الاحتواء أو الالتواء بها، وهي ثورة النوع الاجتماعي في تلك الحقبة وفي ذلك الزمن.
لقد انطلقت المرأة بوعيها النسوي الوليد لتمارس طقوس وشعائر هويتها الحديثة وتغير مشهد الفضاء العام تغييرًا جذريًا، إذ أخذت تُنظِّم المسيرات والمُظاهَرات والاحتجاجات، وتعقد الاجتماعات، وتشكل لجانًا، وتُؤسِّس اتحادات وطنية وإقليمية، وتشارك في المؤتمرات الدولية والإقليمية، وتنشئ مجلات بالفرنسية والعربية، وتلقي المحاضرات في المنتديات والجامعة، وتعقد ندوات ومؤتمرات، وتنشر بيانات ومقالات، وتقيم صالونات ثقافية وأدبية، وتدعو إلى تشريعات جديدة وتغيير بعض القوانين الجائرة الخاصة بالمرأة، والدعوة إلى حق المرأة في التعليم الجامعي والتصويت والتمثيل البرلماني.
وقد كان من أوائل التنظيمات التي أنشأتها النساء في نفس العام 1919 جمعية المرأة الجديدة التي تحمل اسم كتاب قاسم أمين الثاني، وكأنهن بهذا يقلن أن الفكرة قد أصبحت واقعًا بعد أن كانت دعوة وبشارة، وأن حلم قاسم قد تحقق. كما تشكلت في 12 يناير عام 1920 لجنة الوفد المركزية للسيدات، برئاسة هدى شعراوي؛ ثم بعد أن نضج هذا الوعي النسوي بالنوع من خلال كل الأنشطة المُشار إليها وسواها تأسَّس الاتحاد النسائي المصري.
إذ دعت هدى شعراوي بعد أربع سنوات بالكمال والتمام، وفي ذكرى يوم الخروج الأول على وجه التحديد، أي في 16 مارس 1923، «زميلاتها من "لجنة الوفد المركزية للسيدات" ومبرة محمد علي، وكذلك جمعية "المرأة الجديدة" لاجتماع في قاعة الاستقبال الكبرى في ٢ شارع قصر النيل لتأسيس اللجنة الدائمة للمرأة المصرية، إطارًا لإنشاء منظمة نسائية سوف تُعرف باسم الاتحاد النسائي المصري. وتم انتخاب هدى رئيسة، وشريفة رياض نائبة لها، وعطية فؤاد أمينة للصندوق وإحسان أحمد للأمانة. وانْتُخِبت أخريات للعمل في الاتحاد مِنهنَّ سيزا نبراوي ونبوية موسي، المثقفة المرموقة والناشطة النسوية المعروفة.» (سنية شعراوي، وكشفت وجهها، ص 179)
وهكذا فإنني لا أغالي إذا ما قلت كأحد هواة قراءة التاريخ أن أقوى أثر من آثار ثورة 1919 العديدة والمُمتدة هو حركة المرأة في سبيل التحرر والحرية والمساواة الاجتماعية والسياسية؛ بما يجعلني حتى أمضي إلى القول بأن ثورة 1919 هي في وجه من وجوهها ثورة المرأة بامتياز، وأن قيمتها الحقيقية قد تجلت في تفجير الطاقات الكامنة، وتوليد كل تلك الهُويات الحديثة.
وبهذا المعنى، يمكن القول إنه إذا كانت ثورة 1919 قد أخفقت وفشلت على الصعيد السياسي بالمعنى المباشر في تحقيق أهدافها الخاصة بالتحرر الوطني، فإن بعض القوى الدافعة للثورة قد نجحت، حين وجدت آفاق الثورة تنغلق في وجهها، في أن تصوغ لذاتها مسارات وعيها الذاتي وآلية حركتها وهويتها الثورية الذاتية الخاصة بها، وهذا تحديدًا هو ما حدث مع الحركة النسوية التي تولدت من رحم الثورة، إلا أنها أخذت تشق طريقها تدريجيًا بعيدًا عنها، في ظل ما نشأ بينها وبين زعمائها من صدامات.
وهكذا، فقد انتقل هذا الخروج بالمرأة المصرية من حدود ومحدودية الأنثوية إلى آفاق ورحابة الإنسانية. وبهذا المعنى، يمكن القول إن سردية الخروج سردية مزدوجة الحضور بوصفها حلقة من حلقات سردية ثورة 1919، ومكون من مكونات الهوية الوطنية، وبوصفها أيضًا حلقة من حلقات سردية النوع ومكون من مكونات الهوية النسوية.
المصادر والمراجع
أولاً، المصادرالعربية:
ابراهيم (حافظ): ديوان حافظ ابراهيم، تقديم فاروق شوشة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.
الأبنودي (عبد الرحمن): مختارات من أعمال الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007.
الزيات (لطيفة): أوراق شخصية: سيرة ذاتية، الكرمة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016.
السادات (محمد أنور): قصة الثورة كاملة، دار الهلال، القاهرة، 1954.
ــــــــــ : الوحدة العربية، دار الهلال، القاهرة، 1957.
أمين (قاسم): تحرير المرأة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة،
2012.
ـــــــــ: المرأة الجديدة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
- (توفيق): عودة الروح، جزآن، مكتبة الآداب، القاهرة، 1933.
السربوني (محمد صبري): الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة، ترجمة مجدي عبد الحافظ وعلي كورخان، الجزء الأول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
الشرقاوي (عبد الرحمن): الشوارع الخلفية، دار الشروق، القاهرة، 2008.
المرصفي (حسين): رسالة الكلم الثمان، تحقيق ودراسة أحمد زكريا الشلق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2014.
حمروش (أحمد): قصة ثورة 23 يوليو، الجزء الأول، ط3، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1983.
ثابت (منيرة): ثورة في البرج العاجي: مذكراتي في عشرين عامًا عن معركة حقوق المرأة السياسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013.
دنقل (أمل): الأعمال الكاملة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2013.
شعراوي (سنية): وكشفت وجهها: حياة هدى شعراوي أول ناشطة نسائية مصرية، ترجمة نشوى الأزهري، مراجعة وتقديم طارق النعمان، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2019).
شعراوي (هدى): مذكرات هدى شعراوي، تقديم هدى الصدة، ط1، دار التنوير، بيروت ــ القاهرة ــ تونس، 2013.
شفيق (أحمد): حوليات مصر السياسية: التمهيد، الجزء الأول، تقديم ودراسة أحمد زكريا الشلق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012.
شوقي (أحمد): الشوقيات، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
علوبة (محمد): ذكريات اجتماعية وسياسية، تحقيق أحمد نجيب أحمد وآخرين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1988.
فهمي (عبد الرحمن): مذكرات عبد الرحمن فهمي، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988.
محفوظ (نجيب): بين القصرين، دار الشروق، القاهرة، 2005.
ـــــــــ: الكرنك، دار الشروق، 2015.
مِشَرَّفة (مصطفى): قنطرة الذي كفر، منشورات بتانة، القاهرة، 2017.
موسى (سلامة): تربية سلامة موسى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
ــــــــ: كتاب الثورات، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
ــــــــ: ما هي النهضة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
ناصف (ملك حفني): النسائيات: مجموعة مقالات نشرت في الجريدة في موضوع المرأة المصرية، دراسة تقديمية منى أحمد أبو زيد، دار الكتاب المصري اللبناني، القاهرة ـــ بيروت، 2015).
ثانيًا، المراجع العربية:
أبو غازي (عماد): حكاية ثورة 1919، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2009.
الشافعي (شهدي عطية): تطور الحركة الوطنية المصرية: 1882-1956، مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، القاهرة، 2018.
الرافعي (عبد الرحمن): ثورة 1919: تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921، ط4، دار المعارف، القاهرة، 1987.
زيادة (مي): باحثة البادية: دراسة نقدية، مؤسسة نوفل، بيروت، 1983.
شعبان (أحمد بهاء الدين): حكاية مشعلي الثورات، سلسلة حكاية مصر، العدد 26، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2014.
شلبي (علي): مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية: 1933-1941، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010.
عبَّاس (رؤوف): الحركة العمالية في مصر 1899-1952، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2016.
عبد العزيز (ابراهيم): ليالي نجيب محفوظ في شبرد، الجزء الثاني، دار بتانة، القاهرة، 2017.
عصفور (جابر): عن الثقافة والحرية، مركز الأهرام للنشر، القاهرة، 2015.
عبد العظيم (رمضان): تطور الحركة الوطنية في مصر 1918-1936، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998.
عبد المطلب (عاصم محروس): دور الطلبة في ثورة 1919-1922، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998.
ـــــــــ: الطلبة والحركة الوطنية في مصر: 1922-1952، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2007.
عز الدين (أمين): تاريخ الطبقة العاملة المصرية 1919-1929 من الثورة الوطنية إلى الأزمة الاقتصادية، دار الشعب، القاهرة، 1970.
عيسى (صلاح): حكايات من دفتر الوطن، البهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998.
ثالثًا، المراجع المترجمة:
بارون (بث): النهضة النسائية في مصر: الثقافة والمجتمع والصحافة، ترجمة لميس النقاش، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999.
فراي (نورثروب): تشريح النقد: محاولات أربع، ترجمة محمد عصفور، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1991.
كون (توماس): بنية الثورات العلمية، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، مراجعة محمد دبس، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2007.
كوهان (ا. س.): مقدمة في نظريات الثورة، ترجمة فاروق عبد القادر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979.
لوبون (غوستاف): روح الثورات والثورة الفرنسية، ترجمة عادل زعتير، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
لينين (فلاديمير): المختارات، المجلد السابع، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم موسكو، 1977.
ليوتار (جان ـــ فرانسو): الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 1994.
ماركس- إنجلز: البيان الشيوعي، ترجمة العفيف الأخضر، منشورات الجمل، بيروت ــ بغداد، 2015.
رابعًا الدوريات:
- (جريدة علمية تهذيبية فكاهية، الجزء الثلاثون من السنة الأولى)، مطبعة المحروسة، القاهرة، 1893.
السفور (جريدة اجتماعية نقدية أدبية تصدر مرة في الأسبوع) المجلد الأول من 21 مايو إلى 31 ديسمبر 1915، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2017.
روضة المدارس، دار الكتب، والوثائق القومية ط2، القاهرة، 1998.
خامسًا، المراجع الأجنبية:
Ahmed, Leila (1992) Women and Gender in Islam, New Haven and London: Yale University Press.
ARENDT, Hannah (1990). On revolution. New York: Penguin Books.
Austin, J.L. (1995), How to do Things with Words. Edited by J.O. Urmson and Marina Sbisa, Cambridge: Harvard University press.
Bhabha, H. K. (2013). The Location of Culture. London: Routledge.
Culler, Jonathan. (1997): Literary Theory: A Very Short Introduction. Oxford: Oxford University Press.
Derrida, J. (1982), Margins of philosophy, translated with additional notes by A. Bass, Chicago: The university of Chicago press.
Evans, Dylan. (2006) An Introductory Dictionary of Lacanian Psychoanalysis. London and New York: Routledge.
Gennep, Arnold van (1960) The Rites of Passage. Translated by Monika B. Vizedom and Gabrielle L. Caffee. London and New York: Routledge and Kegan Paul.
Habermas, J. (1991) The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society, T. Burger (trans.). Cambridge, MA: MIT Press.
Hall, Stuart (1996) Introduction: Who needs ‘identity’? In Stuart Hall and Paul du Gay (eds.) Questions of Cultural Identity. London: Sage, pp. 1–17.
_______ (1992). The question of cultural identity. In S. Hall, D. Held, and T. McGrew (eds.) Modernity and its futures. Cambridge: Polity.
- J. (2004) Language and Identity, London: Palgrave Macmillan.
Lacan, J. (2001). Ecrits: A Selection, trans. Alan Sheridan. London and New York: Routledge.
Miller, D. (1995). On Nationality. Oxford: Clarendon Press.
Ricoeur, P. (1990). Time and Narrative (Vol. 3). translated by Kathleen McLaughlin and David Pellauer. University of Chicago Press.
______ (1994). Oneself as Another. translated by Kathleen Blarney University of Chicago Press.
______ (2004). Memory, History, Forgetting, translated by Kathleen Blarney and David Pellauer. University of Chicago Press.
White, H. (1975). Metahistory: The Historical Imagination in Nineteenth-Century Europe. Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press.
_____ (1987). The Content of the Form: Narrative Discourse and Historical Representation. Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press.