كما هو معروف أُرسل الطهطاوي كمرشد روحي مرافق لبعثة الطلبة إلى باريس. هنا يتناول الكاتب دهشة الشيخ وتوصيفه، في «تخليص الإبريز في تلخيص باریز»، لنسق الحضارة الغربية، منذ أن رست به السفينة، وإخضاعه وصحبه للحجر الصحي، ليبدأ معه التفكير والمقارنة بين سياق ثقافتين.

الطهطاوي: هل «الكرنتينة» حلال أم حرام؟

عبد البديع عبدالله

 

في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باریز"، يصف "الطهطاوي" حالة الحرج الحضارية لدى أول صدمة تلقاها فى ميناء "مارسيليا" عند وضعه ورفاقه في "الحجر الصحي" أو الكورينتينة. ويحکي الطهطاوي أنه ورفاقه احتجزوا في بيت خارج "مرسيليا" معد للكرنتينة "على عادتهم من أن من أتی من البلاد الغريبة لا بد أن يكرتن قبل أن يدخل المدينة"، ويتساءل: هل الكرنتينة حلال أم حرام؟ هذه هي الروح التي وقف بها في وجه كل محدث غربي أن يعرف موقعه من الحل أو التحريم حفاظًا على عقيدته. ولا يجد الجواب سريعا فيستدل بحوار فقيهين مغربيين حول الموضوع نفسه هما الشيخ محمد المناعي التونسي المالكي المدرس بجامع الزيتونة، وقد حرَّم الكرنتينة بحجة أنها فرار من قضاء الله، والشيخ: محمد بيرم مفتي الحنفية صاحب كتاب "المنقول والمعقول" الذي أباح الكرنتينة، بل قال بوجوبها. هذا ما كان يجول في العقل الشرقي في تلك الفترة من إحدى مستجدات العصر الطبية الوقائية، ويختار الطهطاوی أيسرها وأكثرها تمشيًا مع روح العقيدة.

ويترك الطهطاوي هذه الزاوية الجدلية لينقل نمط الحياة الغربي في أول صورة احتك بها فأدهشته: "أحضروا لنا نحو مائة کرسي لنجلس عليها لأن سكان هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض فضلًا عن الجلوس بالأرض، ویلي هذا مباشرة حديثه عن ترتیب موائد الطعام فيقول: "ثم جاءوا بطبليات عالية ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من القزاز وسكينة وشوكة وملعقة وإناء فيه ملح وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حول الطبلية كراسي لكل واحد كرسي. ثم جاءوا بالطبيخ فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا أو صحنين ليغرف أحد أهل الطبلية ويقسم على الجميع فيعطى لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكينة التي قدامه ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده فلا يأكل الإنسان بيده أصلًا ولا بشوكة غيره أو سكينته أو بشيء من قدحه أبدًا. ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عافية.

فانتبه إلى قوله "طبليات عالية" "لكل واحد کرسي" وهذا الوصف المندهش: "شيئًا يقطعه بالسكينة التي قدامه ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده..." لتدرك مدى الإحساس بالاغتراب المدهش لدى الطهطاوي الذي وقف على أشياء بسيطة واصفًا شارحًا "فلا يأكل الإنسان بيده أصلا ولا بشوكة غيره أو سكينة غيره أو بشيء من قدحه أبدا".

وفي حديثه عن الإعداد للنوم يقول: "ثم إنهم أحضروا لنا آلات الفراش، والعادة أنه لا ينام الإنسان على شيء مرتفع نحو سرير". انظر إلى قوله "آلات" التي استخدمها لتدرك مدى إهمالنا لأنفسنا وحقوقها قبل عصر الطهطاوي. ومثل هذه الأشياء البسيطة أو أدوات الحياة اليومية إحدى العلامات الدالة على رقي المجتمع أو تخلفه. ووصفه يبدو كمن ينقل إلى خالي الذهن ما لا علم له به، كما ينقلون في هذا العصر كيفية تناول رجال الفضاء طعامهم وهم داخل كبسولة في منطقة انعدام الوزن.

وقد قال الطهطاوي كثيرًا عن أحوال الإنسان في المجتمع الشرقي وخضوعه لبطش أصحاب القوة بدءًا من الوالي إلى أي عسکري في أي نقطة أو "ثُمن" حين قال: "هذه المزايا لا نفع لها إلا في الاجتماع والتحضر لا في الشريعة".

وينتقل الطهطاوي إلى الحديث عن وسائل ضبط الإيقاع الاجتماعي وحفظ توازنه من أي خلل وهو الصحافة، بشرط أن تكون حرة وعادلة فتخدم حقوق الإنسان في المجتمع وترفع صوته وتعبر عن طموحه وآلامه وآماله: "وأما المادة الثامنة فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه خصوصًا الورقات اليومية المسماة بالجرنالات والكازيطات. الأولى جمع جرنال والثانية جمع كازيطة، فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة سواء كانت داخلية أو خارجية".

وتركيز الطهطاوي على الصحافة قائم على ما تمثله في المجتمع من قيم فهي أحد أعمدة العدالة في الحكم بما تتميز به من حرية تخدم الديمقراطية والعدالة، ومن فوائدها أن الإنسان إذا فعل فعلًا عظيما أو رديئًا، وكان من الأمور المهمة كتبه إلى أهل الجرنال ليكون معلوما للخاص والعام لترغيب صاحب العمل الطيب وردع صاحب الفعلة الخبيثة. وكذلك إذا كان الإنسان مظلومًا کتب مظلمته في هذه الورقات فيطلع عليها الخاص والعام، فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها أو تبدیل.

ومن الجلي أن هذه الأدوات والوسائل الإعلامية لم يكن لها وجود في عصر الطهطاوي أو قبله، إذ كان للإعلام وسيلة واحدة هي: "المنادي" أو استخدام الخطب في صلاة الجمعة.

ثم يتجه للحديث عن الخصائص النفسية والعقلية والعلمية للفرنسيين كما لاحظها فيقول: "اعلم أن الباریزیين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في العويصات... بل أنهم يحبون دائما معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه حتى إن عامتهم يعرفون القراءة والكتابة ويدخلون مع غيرهم في الأمور العريقة... فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام کعوام أكثر البلاد المتبربرة".

الملاحظ أن الطهطاوی ربط ذكاء العقل ودقة الفهم والغوص في العويصات بمعرفة القراءة والكتابة لدى عامتهم، وهي فيما يبدو -وكما نعرف- كانت مجهولة في مجتمعاتنا ونادرة إلا فيمن أتيح لهم أن يتعلموا ويقرأوا. لهذا رفع قدر العوام الفرنسيين في مقارنته بينهم وبين العوام في بلاد أخرى "يقصد بلاده وما في مثل ظروفها من بلاد الشرق".

للطهطاوی رأى في فن الباليه شرحه وأطال الشرح، ولكن الجدير بالذكر هو رأيه في الرقص كما رآه وتمييزه بين الرقص عند الفرنسيين والرقص في بلادنا، ولم يوقعه اشتراك الاسم في عدم تمييز المسمى، بل وقف مقارنة بين هذا وذاك مستعينا برأي المسعودي في "مروج الذهب"، فقال: "وقد قلنا إن الرقص عندهم فن من الفنون وقد أشار إليه (المسعودي) في تاريخه (مروج الذهب) فهو نظير المصارعة في موازنة الأعضاء ودفع قوي بعضها إلى بعض فليس كل قوي يعرف المصارعة بل قد يغلبه ضعيف البنية بواسطة الحيل المقررة عندهم، وما كل راقص يقدر على دقائق حركات الأعضاء. وظهر أن الرقص والمصارعة مرجعهما شيء واحد يعرف بالتأمل. ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العياقة أو "الشلبنة" لا من الفسق، فلذلك كان دائما خارجًا عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء لأنه لتهييج الشهوات، وأما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدًا".

والملاحظ في كلام الطهطاوی عن الرقص الغربي كما شاهده أمران: الأول أنه فن من فنون الرياضة البدنية وليس فنًا من فنون العهر والفسق وإثارة الغرائز کحال الرقص في بلادنا، والأمر الثاني أنه وجد نظيرًا للرقص الغربي الذي شاهده في فرنسا في فنون الشعب هو "العياقة والشلبنة"، وهي مهارات الأبطال المبارزين في اللعب بالدبوس، وجامع الفنين معا العياقة والشلبنة، والرقص الغربي هو مقدرة اللاعب على تحکیم قدراته الجسدية أو ما يقال بلغة الرياضة الحديثة "التحكم العضلي العصبي"، فشتان بين رقص ورقص وغاية وغاية.

وموقف الطهطاوي لا يتميز بالجرأة بل بعمق الفهم ومعرفة المتشابهات ونظائرها، وتصحيح تصورات سائدة ولعلها خاطئة عن فن من فنون الرياضة الجسدية.

ويميز الطهطاوي بين معني كلمة "عالم" و"علم" من خلال عرضه لبعض ما أنجزت القريحة الفرنسية من أفكار وعلوم والصناعة الفرنسية من أشياء لا يراها مستحيلة التحقق في مصر إن أخذنا بأسباب ظهورها ونهوضها. يقول: "ولا تتوهم أن علماء الفرنسيين هم القسوس، لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط. وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا. وأما من يطلق عليه اسم العلماء فهو من له معرفة في العلوم العقلية. ومعرفة العلماء في فروع الشريعة النصرانية هينة جدًا. فإذا قيل في فرنسا هذا الإنسان عالم لا يفهم منه أنه يعرف في دينه بل يعرف علمًا من العلوم الأُخر، وسيظهر فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم، وبذلك تعرف خلو بلادنا عن كثیر منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفاس، ومدارس بخاری ونحو ذلك كلها زاهرة بالعلوم النقلية وبعض العقلية كعلوم العربية والمنطق ونحوه من العلوم الآلية. والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم فهي دائمًا في الزيادة فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئًا جديدًا فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة أو صناعات جديدة أو وسائط أو تكميلات".

والطهطاوي يطلب ما ينقصنا من علوم وهي العلوم العقلية والتجريبية المادية التي تخلو منها بلادنا. العلوم التي قرأها في خزائن الكتب الكثيرة، وعاين نتائجها مترجمة في حياة الفرنسيين رفاهة عيش ونظافة ونظام. ولا يرى في وصول مصر إلى مستوى هذه الأمة الفرنسية شيئا من الغرابة أو الصعوبة بشرط أن تتوفر لها الأسباب: "فلو تعهدت مصر وتوفرت فيها أدوات هذا العمران لكانت سلطان المدن ورئيسة بلاد الدنيا كما هو شائع على لسان العامة من قولهم مصر أم الدنيا".

وخلاصة القول إن الطهطاوي فعل في كتابه ما تفعله الكاميرا للمشاهد مع اختلاف جوهري أن الكاميرا قد تستخدم للترفيه، أما الطهطاوی فكان يضع أساس منهج الحياة الاجتماعية والفكرية العصرية بتقديم المثل ونقل صورة الحياة التي سعى ليراها في وطنه ولذلك كانت كتابته تصب في هذا المجال سواء في "تخليص الإبريز" أو "مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية" أو فى مترجماته للدساتير الفرنسية وشرحه نظام الحكم في فرنسا كنظام مثالي يتعين على المصريين احتذاؤه ليسيروا في الطريق الصحيح، طريق المجتمع المصري والدولة الحديثة الديمقراطية التي يتمتع أبناؤها بحريتهم، ويؤدون دورهم الواجب للرقي.

كما أضاف الطهطاوي في تحليله أن الحرية قيمة إنسانية وممارسة فردية في المجتمع، أي تحدث عن الحرية "بمعناها السياسي والمدني" المختلف عن الحرية بالمعنى الفردي، وأذنت كتاباته بظهور الوعي القومي المصري والوعي القومي لدي من تأثروا به في كتاباته المبكرة في أوائل القرن التاسع عشر في عصري محمد علي وإسماعيل.