رباعيات الخيام الأثر الأدبي القديم الحي المتواتر عبر العصور، التي كان لها حظ الانتشار في الغرب على يد الشاعر الانكليزي ادوار فيتزجيرالد، قبل أن يتعرف عليها عالمنا العربي وتدخل في صميم اهتمامات أدبائنا من خلال ترجماتهم التي تعكس فهمهم وتمثلهم لأفكارها ذات البعد الفلسفي المفتوح الأفق والخارجة عن السائد المقولب، يعيدها لواجهة المشهد الثقافي الباحث والشاعر العراقي محمد مظلوم بكتابه الصادر عن دار الجمل بيروت 2015، الخيام بشخصيته؛ حياته القلقة؛ فلسفته؛ والأهم رباعياته بتحقيقه ثلاث ترجمات عراقية رائدة، لكل من: أحمد الصراف وجميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي، يستهلها بترجمة لستة أبيات منها نقلها للعربية عيسى اسكندر المعلوف في أول ترجمة لها نظماً نورد قسما منها:
أبذل قصارى الجهد في عمل الذي
تبغيه في هذي الديار مشمرا
من قبل ما داعي الردى يبدي الندى
أنت الثرى ومن الثرى والى الثرى
من غير خمر أو مغن أو غنا
وبلا انتهاء سوف ترقد في العرا
قرن كامل انشغلت الثقافة العربية بهذه الرباعيات، ترجمةً وتحليلاً وتفسيراً، كما لم يحظ به عمل عربي أو أجنبي آخر، قرن كامل تركزت الدراسات المقارنة على الترجمات المنظومة وزناً وقافية متجاهلة الترجمات الحرة منطلقة من ذهنية تقليدية متأتية من طبيعة فهم كلاسيكي للشعر في بدايات القرن العشرين، مما حدا بصاحب هذه الدراسة لتسليط الضوء على الترجمة الحرة لأحمد الصراف بعد انحسار موجة الترجمات التقليدية كوزن وقافية، وما تنضوي عليه من التحليق بالمعنى التي يتيحها الانفلات من قيود النظم.
وكانت قد استقبلت الرباعيات كشأن الاعمال العظيمة في تراث الشعوب مزيداً من الجرعات الإضافية والنحل والتطويل، وذلك طبيعي لبقائها ثلاثة قرون يتداولها الناس شفاهاً قبل أن يجري تدوينها بما في ذلك نسبة الكثير منها للخيام، وهي لغيره، مما تظهره شخصية هلامية متعددة الملامح فتارة يبدو دهرياً، وتارة صوفياً زاهداً، وطوراً ماجناً؛ باطنيا هنا، ومتحللاً هناك، مما يعكس طبيعة الصراع الثقافي السائد إبان ذلك العصر، عصر الهيمنة السلجوقية وتطور البعد الثقافي للصراع بين الباطنية والسلفية.
كما يظهر مظلوم انعكاس الاطار الفلسفي الأبيقوري للمكبوت الإيراني خلال ثلاث عقود كفضاء شعري في تقارب الترجمات العراقية للرباعيات، لاعتماد كل من الصراف والنجفي على نسختين بالفارسية هي نسخة المستشرق الألماني فريدريك روزون، وهي أقدم من النسخة التي اعتمد عليها فيتزجيرالد ومثله أحمد رامي، حيث جرى تمثل الرباعيات وفق المزاج الروحي لمترجمه، ووفق أفكاره وقناعاته، رغم ما فيها من خيانة لروح النص الأصلي، حيث تعددت أشكال هذه (الخيانات) تبعا للبنية الفكرية التي يحملها صاحب الترجمة حيث يعمد الصافي النجفي مثلاً إلى تخفيف النبرة الشهوانية والإنكارية والتجديفية، ويعزوها إلى سوء قراءتها وليس إلى الرباعيات الدخيلة، بينما ترجمها احمد رامي في مناخ نفسي بعد فقده لأخيه فأهداها لروحه، لذلك غلب على جزء كبير منها الزهد والتنسك وبطلان الحياة متجاهلين -رامي والنجفي- هيمنة النزعة الأبيقورية للحياة في الرباعيات، الأمر الذي أبرزه كل من الزهاوي والصراف بشكل أكثر وضوحاً لأنَّ الرباعيات في روحها اقرب ما تكون (للقلندريات) وللشطحات الخليعة المشحونة بالتمرُّد. والقلندريات حسب موسوعة التهانوني هي: (أن يأتي الشاعر بما هو مخالف للعرف والعادة وأن لا يكون مبالياً بما يجب الاحتراز منه) والرباعيات في قسم منها تنتمي إلى هذه (القلندريَّات) التي تثير أكثر من إشكالية خاصة لأنَّ بدايات التصوف القلندري غير موثقة تماماً لكنها، يبدو أنها كانت موجودة فعلاً خلال حياة الخيام حتى وفاته.
في معرض حديثه عن إيقاع الترجمات يعرفنا الباحث بطريقة كتابة الرباعيات، اذ أنها صيغت على وزن (الدوبيت) أي بصيغة البيتين الممقطعين، وليس الشطرين المتصلين، (والدوبيت) بيتان في أربعة أشطر يكونان متفقين بالوزن والقافية ووحدة المعنى. وله ثلاثة أقسام الأول بأربع قوافٍ كالمواليا أي بجناس لفظي ولكن بمعنى مختلف كما في قول ابن الفارض:
لما نزل الشيب برأسي وخطا
والعمر مع الشباب ولى وخطا
أصبحت بسمر سمرقند وخطا
لا أفرق مابين صواب وخطا
والثاني المردوف وهو بأربع قواف بالأشطر الأربعة، ولكن بلا جناس لفظي كقول جلال الدين الرومي:
الخمر من الزق تناديك تعال
واقطع لوصالنا جميع الاشغال
فزنا وصفونا وسبقنا الاحوال
كي نعتق بالنجدة روح الاعمال
والثالث الخصي أو الأعرج وهو بثلاثة أشطر، ومنه قول العتابي في القرنين الثاني والثالث الهجري:
يا ساقياً خصني بما تهواه
لا تمزج اقداحي رعاك الله
دعها صرف فإنني أمزجها
اذ اشربها بذكر من أهواه
وقد نظمت أغلب الرباعيات وفق هذا النوع من الدوبيت، إضافة إلى بعض التنويعات من نوعي (الدوبيت) الآخرين.
كما يقدم الباحث مقارنة بين الرباعيات وبيت القصيد بالشعر العربي وكذلك مع الهايكو اليابانية حيث يؤكد على أن البحر الشعري المتداول بالرباعيات بحر مستحدث خارج بحور الخليل الخمسة عشر ومتداركها على يد الاخفش.
وأشار للتأثير القوي لشكل التوزيع الهندسي لأبيات الخيام على الشعر العربي خاصة عند ابراهيم ناجي وعلي محمود طه كما تجلى في تكثيف المعنى والاقتصاد في التعبير عن الفكرة مشيراً لتنوع الترجمات بين موزون وحر واعتماد الموزون منها على أكثر من بحر مضيئاً بذات الوقت على الترجمات الحرة على ما فيها من تحرُّر المعنى وانطلاقه وتجاهلها من قبل الدارسين ويخص بالذكر ترجمة احمد الصراف الذي يعدُّ أوَّل من ترجمها عن الفارسية ترجمة حرة غير موزونة عام 1921 والتي لفَّت بظلالها معظم الترجمات التي لحقتها نورد منها قول الصراف:
يا رفقتي! أقيتوني بالخمرة،
واجعلو وجهي المصفر اصفرار الكهربا... أحمر كالياقوت
وإذا مت فاغسلوني بالمدامة
وانحتوا تابوتي من أعواد الكرم.
وترجم البحريني ابراهيم العريض الرباعية ذاتها على بحر المتقارب:
اذا آذنت بانخماد حياتي
فشيع بمشبوبة الراح ذاتي
وتحت ظلال الكروم لقبري
بأوراقها هي كفن رفاتي.
ومن الجدير بالذكر ان الصراف هو أول من قدمها للجمهور العراقي بعد أن كان (فيتزجيرالد) قد عرَّف العالم العربي بها، ويورد الميثيا الشعبية المتداولة عندما صعد الخيام الى قمة جبل مصطحبا معه إبريق الخمر فتهبُّ الريح محطمة إناءه فيروي غاضباً:
حطمت يا إلهي إبريق خمري
وأوصدت باب الأنس بوجهي
وسكبت على الأرض خمرتي الوردية
تراب في فمي .. فهل أنت سكران مثلي؟
وما أن أتمَّ إنشاده حتى اسودَّ وجهه واضحى كالفحمة.. فندم وأنشد:
يا إلهي قلْ من الذي لم يأثم في الدنيا
وكيف يلبث من لا يأثم
فإذا كنت تقابلني على سيئتي
بمثلها اذا فما الفرق بيني وبينك؟
وما أن انتهى من إنشاده الثاني حتى عاد وجهه كما كان.
مع التداخلات الثقافية والفكرية للمستشرقين، ودورهم البارز في قراءة الرؤى الفلسفية والوجدانية في الرباعيات، يتساءل الباحث عن دور العرب ككيان ثقافي فاعل، ومنفعل بفكرها ونظمها يرى فيها امتداداً لفكر المعري مقارنة مرة ومقاربة مرة أخرى، إذ أنَّ للمعري كما هو متعارف عليه عشرات الأبيات بالموت والفناء والوجود وفلسفة الحيرة والتيه نورد منها:
خفف الوطء ما أظن اديم الارض الا من هذه الاجساد.
يقابلها قول الخيام عن ترجمة الصراف:
احذر وخفف الوطء عن التراب
فإنه كان حدقة لعين حبيب.
ترجمة الزهاوي لذات الفكرة:
رب أرض وطأتها حيث كانت
عين حسناء في قديم الزمان.
والنجفي في ذات الموضوع:
طأ برفقٍ هذا التراب فقدماً
كان إنسان عين ضبي أغر.
إنَّ الرباعيات وما تحويه من حشد فني وفكري حول الوجود والموت والفناء والمجون وإنكار البعث، الشهوانية الأبيقورية، التناسخ، محاورة الإله، لا تقودنا إلى الوصول لتصور كامل ونهائي عن شخصية الخيام، لتبقي الباب مفتوحًا أمام تفسيرات المترجمين وهم يضعون قارئهم أمام تفسيراته الخاصة كذلك.
قراءة مستنيرة وجهد جلي للشاعر محمد مظلوم غطى مساحة مهمة من إرث الرباعيات كفن أدبي وشخصية الخيام كشخصية إشكالية مازالت مثيرة للإعجاب والتساؤل والالتباس؛ كما سلط الضوء على صورتها في نتاجات شعراء عالمنا العربي، ترجمة وفكراً وتأثراً، وإن كان أهمل أن يعرج على تجلياتها في الموسيقى العربية والفارسية لما لها من روح غنائية. الأمر الذي قد يقتضي كتاباً آخر في تفصيل امتداداتها، وأيضاً إغراقه في التفاصيل التي قد تشتت القارئ أحياناً ولكنها قد تبدو ضرورية للمهتمين، وما تقتضيه أمانة البحث العلمي والمصداقية الفكرية، وهو بذلك يرسخ وعياً مفتوح الأفق لجماليات اللغة التعبيرية والميراث الثقافي للإنسانية العابرة للعصور والجغرافيا.
(نقلا عن نخيل عراقي)