إشكالية التحديد المصطلحي
يرى الشاعر أيوب علي لسود، في تصريح لـ"عربي21"، أنه رغم التطوّر الكبير الذي يشهده الشعر الشفوي على المستويين الشكلي والبناء الخارجي، بل وتطوّرا على مستوى الصورة والحقل اللغوي، جعله يعتمد أكثر على الفكرة والصورة والطرح عوضا عن السرديّة والمباشرتية، فإنّه لازال يعرف إشكالية في التسميات والأوزان، ويعتبر أنّ أفضل تسمية تتماشى مع هذا التفرّد الأدبي هي "شعر التفعيلة"، مبررا ذلك بأنّ هذا النوع من الشعر خاضع لأوزان داخل النص وإن اختلف الشكل.
في المقابل، يرى بلقاسم بن جابر، باحث جامعي في الشعر الشفوي، في تصريح لـ"عربي21"، أنّ تصور الراحل محمد المرزوقي يظلّ أقرب إلى الدراسة الموضوعية، فهو يراه "شعبيا" باعتباره ناطقا بلغة الشعب وتصوراته واعتقاداته، رغم إقراره بأنّ "بعض الاكاديميين المهتمين بالثقافة الشعبية يميلون إلى تبنّي مصطلح "الشعر الشفوي"، باعتباره المفهوم الذي استقر عليه الباحثون الغربيون في المأثورات الشعبية ومنهم ميلمان أوبري وأونج وبول زيمتور، مرجعا الاختلاف إلى السّجال الحاصل بين الثقافة العالِمة والثقافة الشعبية"، ويضيف بن جابر أنّ التحديد المصطلحي الإشكالي حول التسميات كان مدار اختلاف بين الباحثين، فمنهم من يراه شعرا "شعبيا" ومنهم من يراه "عاميا" ومنهم من يطلق عليه "الملحون" ومنهم من يتعامل مع تراثه الشعري المحلي 'النبطي/الحسّاني/القول".
من جهته يوافق الشريف بن محمد، باحث في الشعر الشفوي بالجامعة التونسيّة، في تصريح لـ "عربي21"، ما ذهب إليه بلقاسم بن جابر، مرجّحا تسميتَيْ "الشّعر الشّفويّ" أو "الشعر البدويّ"، مؤكّدا على اعتماده على هذين التسميتين في البحث الأكاديمي رغم إقراره بوجود كثير من البدائل المتقاربة أو المتجاورة من قبيل: الشّعر الشّعبيّ/ الشّعر الملحون/ الشّعر العامّي/ الشّعر المحكيّ/ الشّعر الزّجليّ/ الشّعر النّبطيّ/ شعر اللّهجة.
ويحيل الشريف بن محمّد إلى رأي الدكتور مبروك المناعي الذي يرى إنّ "نعت الشعر بـ"الشعبيّ" يتضمّن اقتضاء دلالة دونيّة، كما يتضمّن نعت "الملحون" إيحاء بالتّحريف، لأنّه من اللّحن بمعنى الخطأ، ولهذا نفضّل في الحديث عن هذا الشّعر نعته بالشفويّ لخلوّه من هذه الظّلال المعنويّة السّلبيّة ولأنّه نعتٌ وصفيّ مكرَّس في البحوث الجادّة سواءٌ في الأدبيّات الإنقليزيّة حيث يستخدم مصطلح Oral poetry أو في الكتابات الفرنسيّة حيث تُستخدم تسمية: "Poésie orale".
ويخلص المناعي إلى أنّ "نَعْتَ الشّعر الشّفويّ بأنّه شعرٌ "شعبي" يحمل دلالةً تمييزيّة سلبيّة، فكأنّ هناك ثقافةً عَالِمَةً عمادُها العربية الفصحى (المعيار)، وهناك ثقافة العامّة وعمادُها اللّهجة والفولكلور والخرافة. غير أنّ هذا الوَسْمَ السّلبيّ تغيّر انطلاقا من البحوث الجديدة في الأدب والأنثروبولوجيا والعرفانيّات، فلا يعني "الشّعبيُّ" أبدا الرّكونَ إلى البساطة أو انحدارَ المنزلة، وليس هو صِنْوًا للنّعوت التّهجينية من قبيل "الحيّ الشّعبيّ" أو "القرض الشّعبيّ" أو "السيّارة الشّعبيّة" وغيرِها من التّسميات الدالّة على التّحقير والحطّ من المنزلة، ولكنّه يدلّ على لونٍ من الإبداع مُتَمَايِزٍ صار يسمّى الشعرَ الشّفاهيّ أو الشّفويّ أو البدويّ".
حريّة الابتكار الوزني
يؤكّد الباحث بلقاسم بن جابر على أنّ تاريخية الشعر الشفوي الشعبي متجذّرة في مسار التطور الذي شهده الشعر الفصيح نفسه، مذ ظهرت الأزجال والموشّحات ومذ تلاقحت أشعار الهلاليين في القرن الخامس هجري مع الأنماط الشعرية المحلّية والأندلسية، مضيفا أنّ ذلك يظهر جليّا في الشعر الشفوي الأقرب إلى العوالم البدوية، والمستشف من الأغراض المتّصلة بالإبل والخيل والرحلة والطبيعة والملاحم رغم التمايز الواضح في الأوزان والإيقاعات.
في ذات المنحى، يشير بن جابر إلى أنّه "لقد تقرر من خلال الأبحاث التي قام بها حسن حسني عبد الوهاب وعبد المجيد بن جدو ومحمد المرزوقي، وقبلهم ما وصل إليه المستشرقان هانز شتومه وبول مارتي، أنّ الأوزان والإيقاعات الشعبيّة لا يمكن ضبطها انطلاقا من أوزان الشعر العربي الخليلية، وذلك بحكم ظاهرتين: أولهما صوتية وهي النبر وثانيهما عروضية وهي عدم وجود سبب خفيف في الشعر الشفوي، ولذلك فإنّه لا يمكن ضبطه إلّا سماعيا أو موسيقيا أو مقطعيا، ويرى محمد المرزوقي أنّ هذه المرونة الإيقاعية جعلت بعض الشعراء يعمدون إلى اختراع أوزان جديدة مثلما يفعل شعراء الحمارنة بولاية قابس".
التأنيس الصوتي في الشعر الشفوي
يرى الأزهر بلوافي، باحث وشاعر من أعلام مدرسة المهاذبة الشعريّة، أن رائحة تراث بني هلال لازالت تتضوّع في ربوع جهة المهاذبة (منطقة ممتدّة بين محافظتي سيدي بوزيد وصفاقس) وهو ما جعل الكلمة التّعبيريّة ذات الجَرَسِ الإيقاعِيّ الجَميل، بِمَوزونِ كَلامِه ونَثْرِهِ وَسَجْعِهِ، تجري على أفواهِ العوام من ساكني تلكم الربوع إلى يوم الناس هذا، فإذا بكلامِهمِ لُغْزٌ، وَحَديثِهم رَمْزٌ، ولا تزالُ وطأة إبِلِ الهِلاَلِيّين ماثِلَةً أمامَهم حَقيقَةً أَوْ مَجَازًا.
ويضيف بلوافي بالقول: إنّ الجملة الشعريّة ذات الخمائر البدويّة الهلاليّة لازالت تَغرِف من شَتّى المناحي التّعبيريّة، فتُقْرِي بِهِ عُشّاقَ التّراث ومُتَذَوِّقِي رَقائِقِ أَدَبِيّاتِهِ، حتى تغدو طَبقًا ثقافيًّا يُطفئُ سُرُجَ العَصْرِ المـُقْلِقَةَ وَ تُشَنِّفُ آذانَ المتلقّي بِحكاياتِهِ ومَلاَحِمِه وَسِيَرِ أَعْلاَمِهِ وَصانِعِي أمْجادِهِ، وهو ما جعل من فِعلِ تأنيس الشعر وتطويعه لفائدة الأغنية البدويّة مساهما إلى حدّ كبير في ديمومة التعبيرة الفنيّة المقاومة، وإخراج المعاني الشعرية من دائرة التكلّس والجمود الفنيين.
في ذات السياق يُبين بلوافي أنَّ البُذور الثّقافيّة والتُّراثيّةَ التي بصمتها "التّغربية الهِلاليّة" في برّ المْهاذْبَة، المزّونة على وَجْه الخُصوص، تُعْتَبَرُ المادّة الخام لِمُخْتلف التّعابير، بوصفها رِئَةً مَحَلِّيةً يتنفّسُ بِمُقتضاها الفاعلون الثّقافيّون، في حِلِّهمْ و تِرحالِهمْ وَحديثِهمْ وكلامِهــمْ ولُغْزِهمْ وإيحاءاتِهمْ ومَعاريضِهمْ.
ويشير بلوافي إلى أنّ التّجاوُزَ الفنّي في سَرْد القصص والملاحِمِ من طَرَفِ صانعيها وقصّاصيها المُحترفين مُستساغٌ من النّاحية الفنّيّة لأنّ كُلّ أدَبٍ إذا لم ينطوِ على مُحَسِّناتٍ بديعيّة أو لَفْظِيّة فإنّه يكون فاتِرَ القبول عند النّاس، مذكّرا بأنّ التّراث الهلالي اللّا مادّي، هندَسَهُ شعراءُ المهاذبة طارفًا عن تالد، ابتداءً بأولاد بوزيّان والشّاعر الكبير عبد السلام المصوري والعياشي اللطيفي ومنصور بلحاج علي والشّاهد لبيض وصولا إلى الشّعراء الحاليين الذين يمثلهم الأزهر بلوافي ومحمّد الغزال الكثيري والمولدي هضب، مستدلاّ على ذلك بما يراه من إضافاتٍ ثقافيّة بادِيَةٍ للعَيان تراكَمَت عَبْرَ ألفِ سنة مَضَت منذُ أَنْ دَبّتِ الثّقافة واللُّغَة العربيّة عَمودِيًّا وأُفُقِيًّا في أرجاء برّ تونس حَمَلَت لِواءَها جحافلُ بَني هلال.
الشعر الشفوي وهمّ الأمّة
يتفق عمّار الجماعي والشريف بن محمّد، في التأكيد على أنّ هزيمة الأيام الست سنة 1967 كانت فاصلة في ارتحال غرض الشعر الشفوي من همّ القبيلة إلى همّ الأمّة، حيث يرى بن محمّد أنّ حضور الشّعر "القومي" بدا طاغيا بعد اتفاقية كامب ديفيد التي أقرّت الصلح بين النظامين المصري والكيان الصهيوني.
من جهة أخرى، يرى رضا عبد اللطيف، من أعلام شعراء المرازيق، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ شعر البادية التونسيّة لم يتحرّر بعد من شعر الحنين رغم أنّ البوادي لم تبق إلاّ طللا وأن الحديث عنها غدا ضربا من الفلكلور، وبقي الشعراء مرتبطين بها حنينا ليس إلاّ.
وجوابا عن سؤال حول مدى قدرة الشعر الشفوي على التحرر من غرض "الحنين"، الطّاغي على الشعر الشفوي البدوي، يجيب رضا عبد اللطيف بأن الشعر الشفوي لم يتحرر بعد من غرض الحنين وإنّما استبدل حنينا بحنين، أي أنه استبدل الحنين إلى النجع والحنين إلى القبيلة بالحنين إلى الأمّة، وبالتالي فإنّ همّ الأمّة هو في النهاية غرض حنيني، مضيفا: "إن قضايا الأمة كانت قضايا هامشية وضيقة جدّا قبل أن تفيض مع ما شهدته الأمّة من احتلال أمريكي وغطرسة صهيونيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، فضلا عن حالات الوهن والتشتت العربيين".
ويستحضر رضا عبد اللطيف في هذا المضمار قصيدة الشاعر البشير عبد العظيم، والذي يعُدُّه عملاق الشعر الشعبي، والتي يقول في مطلعها:
عجب ما دريـت الوطن موش وطنا
والرزق حتى رزقنا خاطينا
عجب ما عرفت أحوال مستقبلنا
ولا قدرت نقرأ جزء من ماضينا
عجب ما دريت علاش
ينزف الجرح ما يبراش
ولنا زمن بالربح مااحلمناش
وفي اديارنا غرّد البُوم علينا
احذانا الغدير وبايتين عطاش
حتى بلل الريق ما قدينا
عجب يارفيقي ما دريت علاش
نامت ضمايرنا ومااستاعينا
عجب والتعجب لاش غير اهماش
ما دام قسموا الرزق ملاّكينا
و انبات نتناطح مثيل اكباش
متقاسمين الليل في تركينة
متناطحين الواش ماافهمناش
حال الزوايل شيءما يعنينا
لاش نفهموا ما دام ما اوعيناش
جزارنا حاضر تربص بينا
ولو كان تبغي الحق ما ظلمناش
احنى من ظلمنا ارواحنا بأيدينا
الرّاحل علي لسود وطفرة "الشعر القومي"
ينسب الشريف بن محمّد تأسيس "الشعر القومي" إلى الشّاعر الكبير الراحل علي الأسود المرزوقي، صاحب القصيدة الشهيرة: "تلاقوا في مخيم داوود، ثلاثة يهود، لا عليهم راقب لا شهود"، ويعتبره أبرز من برع في هذا الغرض الشعري المستحدث، مشيرا إلى أنّ "علي لسود شاعر ملتزم وصاحب حسّ قوميّ جارف ورأسُ مدرسة في هذا الاتّجاه، وقد كان حاضرا في كل المحطّات الكبيرة في تونس وفي الوطن العربي، فكتب عن ثورة الخبز ومعاناة الشعب التونسي، كما كتب عن فلسطين وعن حربي الخليج الأولى والثانية".
وينوّه الشريف بن محمّد بتناسل أسماء شعرية كبيرة ورثت المشعل عن الراحل علي الأسود المرزوقي، وأكّدت المنزع القومي في الشعر الشفوي مثل محمّد الملوّح باللّطيّف، الذي طغت على شعره النزعة القومية والذي اشتهرت قصائده إبّان حرب الخليج الأولى وفي الفترات الحرجة التي مرّ بها الوطن العربي، من ذلك قوله:
مازلت باطي
ومازال ماضي حدّي
ومازلت في الميعاد فايح ندّي
دلالات في صمّ الحجر بصماتي
ومازلت من سوق البلا متعدي
صيود الوغي تجفل تهاب عياطي
أنا من سلالة بو جبين مندّي
اللى لغير ربي لا ركع لا يطاطي
حني من كسب لشقر وليه تجدّي
رجال تنكسر تركع قداه تواطي
ومن شعراء مدرسة دوز الشعريّة، نبغ الشاعر البشير عبد العظيم الذي حبّر قصائد تتفجّر غضبا في وصف الوضع العربي الراهن المتّسم بعجز الأنظمة العربيّة التّام، والذي صوّره عبد العظيم في قصيدته "عجب" التي يقول مطلعها:
عجب يا عجب كانوا العرب كيفاش
وكيفاش فتحوا أسوار كل مدينة
ويا ريتها عاقر وما تضناش
وماتت وما جـــابت وجوه غبينة
ويخلص الشريف بن محمّد إلى أنّ الحسّ القومي، في الشعر الشفوي التونسي، لم يجفّ حبره رغم تغيّر الظروف، فبقي متوهّجا يناصر قضايا المحرومين والمظلومين لا يكلّ ولا يملّ من تذكير الجمهور الواسع بأنّ وظيفة الشاعر ليست مدح الأنظمة الحاكمة بقدر ما هو الاحتجاج على رداءة الممارسة السياسية.
الشعر الشفوي ومقاومة المحتل الفرنسي
يذكر الشاعر الأزهر بلوافي أنّ سيرة ابراهيم بالساسي، شاعر وفارس من قبيلة بني يزيد حامّة قابس، شارك في مقاومة المحتل الفرنسي للبلاد التونسيّة، ثمّ هاجر إلى ليبيا صحبة علي بن خليفة النفاتي، شيخ قبائل الأعراض والملقب بالعجوز المتمرّد، بعد سقوط مدينة "صفاقس" (جنوب تونس) بأيدي المحتل الفرنسي في 16 تموز (يوليو) 1881، توثق أحسن توثيق لمدى سبق الشعر الشفوي في التحريض على المحتل وشحذ عزائم التونسيين لمقاومة المحتل الوافد، مضيفا أنّ من أشهر ما كتب ابراهيم بالساسي في هذا الغرض قصيدته التي يحاور فيها أخاه "علي بالساسي"، الذي آثر البقاء في تونس حينها، إذ ينشد على لسان أخيه قائلا:
الطّلح وطويل العجاجة سالوا
طال الرجاء يا غائبين تعالوا
الطلح قالوا عدّى
والسقي وصّل لغدير الفدّة
والنجع في كمّ الحميلة سدّى
فاقدين كان بيوتكم مازالوا
طال وحشكم ياسر علينا كدّه
وفي هالساعة الوطن كنت نجالوا
فيردّ هو عليه بالقول:
ززناه وطن العز وامّالينا
حالف يمين اللي هجر على دينة
والحي عينه تشوف ما يديروله
والله يا الأحباب لا نولّيلة
ززنا النخل والغابة
وززنا الجبل والقصر والدبدابة
قول لعلي خوتك عليك غضابة
مْنِينَه فْرَقْهُمْ مالقِدَحْ مرحوله
مسلم وخش الكفر غرّه دينه
مكتوبله سطر الشقاء في جبينه
المسلم يولّي كافر
لا تفرز اللي رايم من النافر
أحصنة المجاهد يضربوا بالحافر
من ضبطهم ينسى الظنين ظنينه
الشعر الشفوي خارج دائرة الاهتمام الأكاديمي
لم يخف الشريف بن محمّد وجعه عند الحديث عن الشعر الشفوي، واصفا الحديث عنه بأنّه حديث بعيد الهِمّة موجعٌ كيفما قَلَّبْتَه، مبديا استياءه من الإهمال الذي يلقاه هذا الشعر الذي يعتبره ممثّلا لعمق الأمّة وضميرَها ولسان حال مبدعيها التلقائيّين وشعرائها المنجّزين.
في ذات السياق يشير بن محمّد إلى أنّ مقارنة بسيطة بين ما هَفَا إليه رائد دراسة المأثور الشعبي مَحمد المرزوقي عندما نادى قبل وفاته بسنتين (1979) بضرورة تخصيص كرسي في الجامعة التونسية للأدب الشعبي وبين منزلة الشعر الشفوي في الوقت الرّاهن، يمكن أن نفهم موقف الارتياب الذي تقفه الجامعة التونسيّة، فهي وإن كانت لا تنكر على الشعر الشفوي حساسيتة في القول والتعبير (ضمن منطق اللّسانيات)، فإنّها لا تراه يرتقي إلى مقام الدّرس الأكاديمي والبحث العلمي.
وينوّه الشريف بن محمّد بالمحاولاتٌ المحتشمة لتناول الشّعر الشّعبي صلب الجامعة التونسيّة، مذكّرا بالبحوث ورسائل التخرّج التي أنجزها طلبة التّنشيط الثّقافي والتي بقيت حبيسةَ النّظرة الفلكلوريّة والتصوّر الثقافي العام لهذا الجنس الأدبي، رغم جدّية كثير منها، ولم تقدّم الخطوة الحاسمة في دراسته من حيث هو لذاته وبذاته، وهو "عكس ما يلقاه الشعر نفسه من اعتراف جامعاتٍ عريقة في مصر وليبيا والجزائر والمغرب والأردن ودول الخليج العربية بالأدب الشّعبي والشّعر منه على وجه الخصوص، واعتباره معينا لا ينضب في المستويين المضمونيّ والفنّي".
محاولات بحث جامعيّة محتشمة
ينوّه الشريف بن محمّد بما أقدم عليه الدّكتور مبروك المنّاعي، أستاذ الأدب القديم بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة، من خطوة حاسمة، حين سمح لبعض طلبته بإنجاز رسائل ماجستير تهتمّ بالمقارنة بين الشّعر العربي القديم والشّعر الشفوي التونسي، فقدّم الباحث عمّار الجماعي بحثا مقارنا بين صورة الجواد في الشعر الجاهلي والشعر الشفوي التونسي، وقدّم الشريف بن محمد بحثا عن المطر في موروث الشعر الشفوي التونسي، وقدّم الباحث بلقاسم بن جابر بحثا عن الإبل، وكلّها بحوث تتوسّل هذا المدخل الأكاديمي حين تنطلق من الشّعر العربي الفصيح لتقارنه بالشّعر الشعب، مضيفا بالقول أنّ هذه اللبنات الأكاديمية يمكن أن تشكّل مدخلا لتحسّس الطريق نحو إرساء عادات أكاديمية في البحث واعتبار هذا اللون الأدبي حريا بالدّرس والتمحيص، يضيف بن محمّد.
جهود تجميع الشعر الشفوي
يثمّن الشريف بن محمّد ما أسماها بالجهود المحمودة التي يبذلها هواةٌ لهذا الأدب من جامعي الشّعر الشّعبي والرّاغبين في دراسته من باب المحبّة والميل الوجداني، ذاكرا في ذات الصدد جهود "الضاوي موسى" و"الحمروني الحمروني" و"أحمد الخصخوصي" وغيرهم ممّن مهّد السّبيل ووفّر مادّة ثريّة للبحث، ومنوّها بالخصوص بجهود الشاعر والباحث الأزهر بلوافي، الذي أصدر سنة 2017 مؤلفا بعنوان "التراث اللامادّي في مراتع الهلاليين وبر المهاذبة والوسط الشرقي للبلاد التونسيّة"، والذي قام من خلاله بمسح الوعاء الجغرافي المستهدف في هذا البحث الثقافي المتناول للتراث غير الملموس.
في ذات السياق، يشيد الشريف بن محمّد بـ"مدونة الشعر الشعبي التونسي" التي أصدرتها وزارة الثقافة التونسيّة سنة 2015، وهي مدوّنة واقعة في عشرة مجلدات حوت كنوزا ونفائس ودرر رغم ما شابها من هنات ونقائص.
على أهميّة الاختراقات المعرفيّة التي تقوم بها البحوث الأكاديميّة المستجدّة والمتناولة لمبحث الشعر الشفوي بين ظهراني الجامعة التونسيّة، من ذلك بحوث عمار الجماعي والشريف بن محمّد وبلقاسم بن جابر، والتي ترنو إلى الارتقاء به إلى مصاف الدّرس الأكاديمي والبحث العلمي الناجز، يظلّ التحدّي الأكبر الذي يواجه الشعر الشفوي، هو مدى القدرة على مواكبة الواقع والزمن المعاشين، والتحرّر من محاولات سجنه ضمن قوالب فلكلورية جامدة، كثيرا ما قذفت به على هامش الفعلين الثقافي والسياسي محليا وعربيّا.
(نقلا عن عربي 21)