تثير إشكالية كتابة القصة القصيرة بإحداثيات وجودها الجديدة والمتغيرة على ساحة الإبداع والنقد معًا، الكثير من الجدل مع القضايا التي تلمس الوعي الإنساني بأزمة الوجود، وإشكالية الاغتراب عن الذات وعن المجتمع على مستويي الشكل والموضوع، بهذا الالتصاق الداخلي الحميم الذي قد يصل إلى درجة التوحد من خلال حالتي الكتابة والتخييل، من حيث مدى قدرتها الاستيعابية والتحليلية النافذة إلى عمق تلك الأزمة الإنسانية بمفرداتها وتنوع مصادرها وتشكلها لتصنع هذا الصراع العنيف بين الذات وما يدور داخلها وحولها، ما يجعل من النص القصصي هنا بوتقة تُختزل فيها كونيتها التي تكشف بها سوءة واقع يفرض طقوسًا مغايرة يُعد التعامل معها فرضًا من الفروض التي تُعتبر مقياسًا ومعبرًا حقيقيًا عن مدى قدرة الكاتب على امتصاصه واستيعابه لها، ومن ثم القدرة على التعبير عنها، من خلال مستويات التعبير عن النص القصصي التي تتفاوت لتصنع هذا الفارق، ومن خلال تقنيات للكتابة تمثل دلالة مهمة على مدى الوعي بهذا الفن وتطوراته وتجلياته..
وربما يضاف هنا أساسٌ آخر وهو أن النص القصصي يُعد وحدة من الوحدات البنائية التي تشكل متن وكيان المجموعة القصصية المتواشجة والمتكاملة في الفكرة والروح، ما يجعلها قادرة على تقديم عالم قد يكون متكاملًا إلى حد بعيد بإحداثيات وجوده وتجسده داخل هذا الحيز الذي ربما شكَّل في أحد المفاهيم الصحيحة لتقنية كتابة المجموعة القصصية ضفيرة كبيرة تعمل على تقديم حالة سردية لا تفقد تماسكها بأي حال من الأحوال، ولا تكون فيها الوحدات القصصية (كل نص على حدة) كجزر منعزلة لا تقدم دافعًا للرؤية العامة التي تمثل رؤية العمل الأدبي..
ثمة تكامل وتواصل شديدا الخصوصية والارتباط بين نصوص المجموعة القصصية "أزمة حشيش"[i] للقاص الشاب "أحمد الملواني" بما تحمله فكرة الكتابة من قضايا تتشبع بعناصر وجودها من خلال مناخ خاص وأجواء ربما تخرج عن النسق المعياري للكتابة القصصية، والتي تنبثق هنا من منطقة أزمة الوعي الوجودي في مجتمع/ بيئة طاردة ربما تحولت فيها كل الأشياء إلى رموز ضاغطة على هذا الوعي لتجره إلى منطقة مضادة أشد عتمة وضراوة، وأكثر قدرة على فرز النموذج الذي يعبر عنها من خلال ذهنية الحالة وترميزها ودخولها في حيز العبث أو اللامعقول بصوره المتعددة والمتصاعدة مع كل نص قصصي كما أشرنا، ما يحيل الحالة العامة للمجموعة إلى تلك التصديرات أو الرسائل الموجهة إلى الواقع بكل مفرداته الضاغطة من خلال نسق عبثي يقترب في كثير من الأحوال إلى حيز اللامعقول، من خلال رؤية ضبابية ولكنها قد تحتفظ إلى حد كبير بشفافية منظورها الخاص أو زاويتها التي تتوجه بها إلى العمل، ومن خلال لا وعي راصد للتغيرات التي تطرأ على الواقع ومن ثم محاولة معالجتها بنفس هذه الغرابة التي يواجه بها الواقع المتغير العنصر البشري المتمثل في طرفي المعادلة الكتابية: المبدع والمتلقي، وما بينهما عملية الإبداع الموجه لمواجهة هذا الضغط أو المد العبثي.. حيث الغرابة في أحد تعريفاتها:
"إحساس حياتي، وإحساس جمالي أيضا، خبرة حياتية وخبرة إستطيقية، تتعلق بالانفعال المترتب على وجود شئ غريب، مخيف، أيضا غير مألوف، وقد تثير الرعدة والرعب، ويمكن أن تكون في الأدب وفي الفن وفي غيرهما"[ii]
وهو مما قد يبدو من خلال العديد من النماذج التي تتعامل معها المجموعة بداية من العنوان
أزمة الوعي، وغرابة الواقع
تبدو العلاقة بين الوعي المفرط بتداعيات الحالة الإنسانية بداية من خلال عتبة العنوان المثير الدال بجمعه بين مفردتي (الأزمة) بإطلاقها على المفهوم العام، والحشيش تحديدًا، تجسيدًا لمفهوم ضد الوعي، ودلالة سيميائية تضع القارئ في مواجهة مبكرة مع تداعيات هذه الأزمة التي يتراوح تأثيرها بين المادي والمعنوي، وهو الذي ربما كان المغزى الرئيس من دلالتها من حيث التغييب والدخول في هذه المساحة الضبابية التي يرتكن إليها الوعي ليصير كل شئ يدور من خلال اللاوعي الذي ربما كان مدركًا لتداعيات تلك الأزمة الناشئة من خلال العلاقة الشائهة مع الواقع.. وهو ما قد يثير أو يداعب ذهن المتلقي بداية للرهان على تحفيز شعوره واستنتاجاته لمعايير تلك الأزمة وإحداثيات وجودها.. تلك التي ينثرها الكاتب بدرجة عالية من الوعي المضاد في ثنايا نصوصه المترابطة والمتواشجة إلى حد بعيد.. ولعلها براعة من الكاتب بتصدير هذا العنوان اللافت، الصادم والذي تقل معدلات الإحساس بتلك الصدمة مع كل نص من نصوص المجموعة..
ففي نص "أوان المد"، وهو العتبة التالية في بناء الفكر والتوجه لهذا البناء السردي/ القصصي المتواشج.. تبدو الحالة التخييلية التمهيدية للحالة الممتزجة بين السرد وبين الواقع الإنساني الذي يعاني من اختلال القيم والمعايير الثابتة لوجوده، من خلال مركزية وجود الشخصين المتلازمين والمتناوبين على الإحساس بأزمة الوجود، ومن خلال حوارية كاشفة:
"يجلسان في وضعية مريحة على رمال دافئة.. السيقان ممددة، والأجساد مسترخية في استسلامها للجاذبية، وعيون تعبر البحر الممتد إلى أفق غير مفهوم التكوين:
- أي اتجاه هو ذاك؟ الشرق أم الغرب أم الشمال؟
- وما أدراني؟! عندنا كل الاتجاهات تنتهي إلى امتداد البحر، فالشمس تغرب في البحر وتعود لتشرق من البحر.. عندما نقف لنصلي، نيمم وجوهنا شطر البحر، ونولي له في ذات اللحظة أدبارنا
- كل الاتجاهات سواء"[iii]
هنا إلى جانب حالة الاسترخاء التي تعطي انطباعًا باللامبالاة.. يبدو التحفز لفلسفة الحالة الوجودية المتعطلة، والتي تؤدي إلى حالة فقد بوصلة الاتجاه في الحياة عمومًا، وهو ما يمثل تمهيدًا شرعيًا لكل التداعيات أو المؤثرات التي تتوالى لتبرير تلك الحالة الوجودية العكسية أو المفتقدة لجانب الحياة الواقعي ولوجًا إلى عالم آخر مواز مُغيب إلى حد بعيد، ولكنه كاشف من جهة أخرى عن سيل من التخييلات أو التهيؤات الني تجعل استمرار حالة الهذيان أو الدخول في غيبوبة المخدر أمرًا جائزًا ومشروعًا لتخريج كل الدلالات الموجودة بالواقع:
"التقت العيون بنظرات الغيظ، ثم علت إلى حيث انتشر الدخان فوقهما، فأضاع عن إدراكهما منبته.. انطلقا في مسارات عشوائية، كثيرا ما افترقا دون وعي في مسارات عشوائية، كثيرا ما افترقا دون وعي، ثم عادا ليصطدما عفوا ليدركا بعد طول السعي أن الشوارع جرفتهما في تيارين معاكسين، يلتقيان في صمت انقطاع الأنفاس.. يتواجهان بلوم رسم في العيون، تظلله اتهامات لا تغادر الأفواه" [iv]
هذه الإحالات التي يحيلها النص على الواقع بفعل المتاهة على أثر الدخان المتصاعد من الرؤوس، والتي يرسمها لتشي ضمنا بالتغييب والخروج عن النسق المعتاد للحياة، والحيرة للخروج من هذه الربقة التي تأتي بها حالة الدخول في تأثير المخدر الذي يحول كل العلاقات الدائرة في محيط الرفيقين - اللذين يمثلان قطاعًا جمعيًا خارجًا عن نطاق الحس المادي لهذا الوجود – إلى دخان في الهواء يتحكم في تحركاتهما السلبية الواقعة في فعل التيه والخروج عن النسق الطبيعي، إذ تأتي تحركاتهما كحالة تنويم أو دوران في فلك حلم/ كابوس أو تهيؤات ربما ساقها أو أفرزها وقوعهما تحت تأثير المخدر، وهو ما أدت إليه نهاية النص التي ربما لخصت الحالة النصية/ الإنسانية واختزلتها في حالة من حالات الإفاقة اللحظية أو الارتدادة النفسية إلى واقع البحر، وواقع الوجود في هذا الحيز المادي الذي حبسهما فيه المخدر، في حين أنه أطلقهما معنويًا في فضاءات واسعة لم يجنيا منها إلا الحيرة والوقوع في براثن المتاهة:
"لم يتلقيا غير صمت وتوجس مقتحم.. كادا أن يتواجها باتهامات طال كبتها.. خوف وضياع ضغطا على مواضع جروح سكن ألمها
- هل ضعنا؟
- أنا لا أعرف أين نحن
قال بعد صمت:
- دعنا نبحث عن طريق للعودة.
لحظتها فقط ابتلت أقدامهما بموجة طالتهما من مد البحر"[v]
لتكتمل للعنوان قوة التأثير والتكامل مع متن النص والنهاية على حد السواء، ومن خلال هذه العلاقة الثنائية التي عبر عنها النص بصيغة المثنى للشخصيتين التي لم ينفصل أي منهما عن الآخر من خلالها إلا عبر تقنية الحوار التي لعبت دورًا بالغ التأثير في تجسيد المفهوم الأمثل للحيرة وأكدت عليه من خلال تضافرها مع السرد، لتعطي للنص حيوية بالغة التأثير في حركته الدينامية، وإن كان من خلال حالة الثبات والسكون التي حبست الشخصيتين داخلها، وهي حالة الأزمة الحقيقية التي ربما كان التغييب - أيًّا كان مصدره - هو المتحكم فيها انسلاخًا عن واقع لا يعطي مفاتيحه بالأمر اليسير..
***
"لم تنبع مظاهر الفزع والخوف في قصصي من ألمانيا، التي بدأ منها هذا النوع من القصص، بل من داخل روحي" – إدجار آلان بو
ذلك الذي يدفع النصوص في تشكيل وعيها الخاص لترتاد مناطق أخرى من الوعي بمدى الأزمة من خلال الإشكاليات التي يسعى فيها الرمز والتشبع بسمات العبث لارتياد مناطق من اللامعقول التي ربما اخترقها ما يمكن أن نسميه باللاوعي الواعي، ومن خلال إحداثيات أشد تطورًا وإيغالًا في تأثير هذا التغييب وتشعبها لينتج أشكالا شبحية وإن كانت هلامية أو أسطورية لتسيطر على المشهد السردي وتفرض عليه سمات وجودها؛ ففي نص "طولة لسان" تبدو هذه النزعة لموازاة الواقع المعيش بالواقع الأسطوري العبثي الذي تكون فيه للكائنات الهلامية القدرة على التحول عن خصائصها لتمثل رعبًا وضغطًا، إمعانًا في غرابة ما يطرحه الواقع من أشكال للعنف ينتجها الخيال المتأثر بحالة من حالات الوقوع تحت سيطرة المخدر الذي تتنوع مصادره، ربما قابلها الوعي المدرك بالسخرية منها أو محاولة التخفيف من وقعها من خلال إيقاعات صوتية/ لفظية تلعب دورًا مهمًا في حركة النص:
"أقبل صديقي على مجلسنا المعتاد بالمقهى.. نظراته زائغة.. حركته سريعة مضطربة بين الموائد شبه المتلاصقة.. كل ما فيه ينطق بكارثة ما سيلقيها حالًا على رأسي.. في خيالي أنصت لعشرات المصائب التي يمكن أن تنسكب من شفتيه، ولكنني أبدًا لم أتوقع أن يقول:
- صديقنا عصفور.. أكلت الأناكوندا رأسه!.. تا تا تااااااااااااااااااااا"[vi]
ليضع للنص هذه الإيقاعات اللفظية المصاحبة المتكررة مع مقاطع الحوار، كي يعقد جدلية الحالة التي تعاقر السخرية والعبث كما تحرك في ذات الوقت الوظيفة/ آلية الاقتناص أو القتل، التي يقوم بها حيوان الأناكوندا من الامتصاص إلى القضم، في حالة هستيرية للرعب والخوف يقوم السارد بالعمل على تنميتها والتجول بها ليثير العديد من المتواليات أو الأمور المتعاقبة؛ حيث يتحول الواقع المرئي/ المتخيل إلى مشفى وهمي كبير يعمل على الإبقاء على هذه الحالة من غياب الرأس وما تحويه من عقل كقاعدة رئيسة للتفكير، كنوع آخر من أنواع التغييب أكثر تأثيرا وإيغالا:
"في البدء تعجبت لهذا الهدوء، فنبهني صديقي إلى أن كل من في العنبر فقدوا رؤوسهم بعد أن التهمتها الأناكوندا، وبالتالي فقدوا قدرتهم على الكلام"[vii]
يمثل الهدوء هنا نوعًا آخر من أنواع الاستسلام أو الانقياد الذي أصبح سمة سلبية من سمات المتعاملين مع هذا الواقع، والذي ربما ألمحنا له في النموذج السابق من النصوص، تجاه الحالة الدالة على تفشي هذا الفعل الوحشي الذي يثير رعبًا فيمن يملك الوعي بتلك الأزمة على الجانب الآخر بما يمثل مدًا آخر من أنواع المد التي تصر نصوص المجموعة على إبرازها وتحويلها إلى سمة غالبة مرتبطة إلى حد كبير بإحداثيات الواقع الضاغط، إلى أن يصل بها السرد في محاولة غلق هذه الدائرة على الجميع، حتى العنصر السارد المشارك في تنمية الحدث السردي بتواجده الشاهد، والذي يشير بإصبعه إلى موضع العوار ومظاهره لا أسباب الخلل، فنجد هذه المواجهة للسارد منفردًا مع هذا الشبح:
"لا أعرف كيف تسللت إلى حجرة نومي، ولا كيف صعدت إلى فراشي، عندما وجدتها تنظر إلي بوجهها القبيح، قلت:
- أنا لم أعرف أبدا أنك قريبة مني إلى هذا الحد (دوم دوم.. دوم دوم.. دوم دوم)
فأجابت بفحيح غاضب حمل إلي مقاطع جملة تقول: "أنت رجل طويل اللسان"[viii]
وعي الأزمة، والخروج عن النسق
إذا كان "وعي الأزمة هو جزء من حلها" – بحسب اتجاهات علم النفس المطور - فإن الحلول قد تأتي في بعض الأحيان من خلال الخروج عن النسق المعتاد لمعالجة الواقع ومنح الذات فرصا أخرى للتعانق مع مفاهيم الحياة بصورة أكثر عبثية أو دخولًا في حيز الغرابة التي ربما استلهمت عدة معايير جديدة لاختراق التابو الإنساني أو المحذور من خلال تحريك هذا الوعي في اتجاه التهويمات أو الإشارات أو التحولات التي تعتري الواقع الإنساني.. وربما إسقاطًا على جماد أو رمز من رموز التحول والتجمد الإنساني في هذا العصر الذي يمنح قدرات سلبية على مواجهة الواقع بالهروب إلى واقع مواز.. ذلك الذي ينقل أجواء المجموعة إلى ملمح من ملامحها المائزة من خلال نموذجين سرديين، حيث يختزل النص الأول "خيال الضل" في قصة حياة كفين ظل يتصاعد بهما السرد حتى صارا إلى عدم من خلال الاتكاء على تآكل الجسد، في حين يبدو في النص الآخر "رقصة بينوكيو الأخيرة" فقد شخصية بينوكيو الخشبية الشهيرة لإنسانيته الاستثنائية، عندما أراد له صانعه أن يتحول إلى كائن من دم ولحم، ولكن رفضه جعله يفقد مقومات وجوده..
تلك التيمة من الاستيحاش والفقد الموازي التي وظفها الكاتب توظيفًا رمزيًا بالغ التأثير، في كلا النصين تجسيدًا للرؤية الفلسفية التي قام عليها جدل العلاقات والدلالات والتهويمات على مدار المجموعة، ففي النموذج الأول يبرز نموذج التعويض الجسدي لشلل البدن وضموره في الكفين الذين يحركان العملية الحياتية من خلال التخييل:
"ولدا يوم أن رسم الضوء خيال جسد يتآكل، تتماهى حدوده بكيان معدني ذي عجلتين كبيرتين، ليشكل على الجدار الأبيض مخلوقا مشوها لا اسم له.. لحظتها جذبته لعبة الظلال، فأطلقهما من فوق مرقدهما على فخذيه الميتين"[ix]
هنا تأتي براعة ودقة الوصف والحركة المقيدة فيزيقيا، والمفتوحة في ذات الوقت على المستوى الميتافيزيقي الذي تحفل به أجواء النصوص بصفة عامة، حيث تنشأ كل العلاقات في فضاء التخيل وفي أجواء تسعى فيها الأرواح كي تعانق وجودها غير المحدد والمنطلق في كل المسارات التي تشبع لا وعيها الواعي لتتوازى معها من خلال سمة التشيؤ التي "تَحوِّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء المادية الجامدة" فترتقي الكفان هنا لتحلا محل العلاقات الإنسانية المكتملة، كما تحل علاقة بينوكيو الدمية الخشبية بالواقع محل علاقة البشر العاديين الذين صنعوه، ليصبح شيئا حيا ملموسًا:
"كن صادقا.. أمينا ولا تكن أنانيا.. عندما ستختفي الخيوط التي تقودك وتستحيل مفاصلك المعدنية عظاما وأطرافك الخشبية لحما.. وسيكسو عينيك جفنان.. وتظلل فمك شفتان.. وتصير ولدا حقيقيا يا بينوكيو.. تماما كما أراد لك صانعك"[x]
هذا الأمر بالتحول/ التشيؤ الذي يمثل خروجًا سافرًا عن الأنساق المعتادة إلى أنساق حياتية غير معتادة كصورة من صور رفض الواقع، وكحالة عكسية مضادة للنص السابق، وكمحاولة للنهوض بالفكرة القائمة على منح من لا يستحق الحياة، حياة أخرى قد تغير نمط التعامل مع العالم مما سيلغي آدمية ويعطى أخرى بمعطيات وإحداثيات جديدة.. يبني فرضيات وجود تتوازى مع صاحب الكفين في النص الأول الذي يقيم معادلة هدم تأتي في مقابل معادلة البناء الأخرى، والتي ربما كان لهما نفس المصير:
"هزة رأس يائس من طبيب يعلن أن الشلل بات رباعيا، كانت كفيلة للشاب كي ينفذ وصية عمه الأخيرة. من الطين نحت هو – هرمين – ثبتهما فوق الفراش كقبرين، يحتوي كل منهما كفا"[xi]
لكن الوعي الاستباقي لدى الدمية في النص الثاني يرفض هذا التحول الذي من شأنه تغيير طبيعة البنية الأسطورية لها على المستوى الذاتي الذي يعمق من وجود لا يستطيع تحمل تبعات الواقع الغريب عليه غرابة وجوده في هذه الحالة من التحول:
"كما وعده محرك العرائس، عاد لزيارته في زنزانته.. هذه المرة لم يجد بينوكيو الذي يعرفه.. لم يجد النظرة الطفولية التي اعتادها ترتسم في عينيهن وإنما وجد عينين زائفتين لا معنى لهما. أطرافه متدلية بجواره، وجسده مطويٌ على نفسه على المقعد الحجري البارد، ليس كجلسة صبي بائس، وإنما كما يليق بدمية ماريونيت لا يقبض أحد على مقودها.. دفعه فسقط على جانبه محدثا طقطقة خشبية.. ناداه: "بينوكيو".. فلم يجبه.. اختلطت مشاعره وقد أدرك أن الدمية الخشبية فقدت حياتها الذاتية"[xii]
ما يعمق إلى حد كبير من أزمة الوجود، والبحث عنها من خلال هذه السمة من التشيؤ التي نجح السرد إلى حد بعيد في التعامل معها لتصنع واقعا أشد وطأة وأكثر تعبيرا عن مفهوم الاغتراب الذي يغلف نصوص المجموعة بمعادلاته وظلاله..
بين السرد والسرد الموازي
من خلال أزمة الوعي، أو اللا معقول الذي أصبح معقولًا من خلال هذه المحاولات اليائسة للخروج من حالة اللاوعي/ التغييب التي أدت في نهايتها إلى التعاطي مع النماذج الأخرى التي أريد لها أن تلعب الدور الذي يقوم به البشر في علاقة عكسية متمادية في العبث والدخول في غمار اللا معقول.. تبدو على الجانب الآخر الموازي للمتن السردي إشكالية التعامل مع النص الموازي المعاش/ الهامش الطويل الذي يتعقب حالة السرد من أول قصة إلى آخرها وصولا إلى لحظة التحقق من الحالة البعيدة عن الوعي المصاحبة لفعل الكتابة أو ما يمكن تسميته ما وراء الكتابة (الميتا سرد)؛ فهل هذه هي لحظة الوعي الحقيقي أم بداية للعودة إلى الوعي؟.. من بعد سلسلة من التعليقات والسجالات والوقائع الموازية التي يصوغها وجود مواز لأشخاص آخرين واقعين تحت سيطرة المخدر سيطرة فعلية
"دار الكوب الصغير المعبأ بدخان قطعة الحشيش المشتعلة على أنفينا، فاستعدنا أحاسيس كدنا ننساها.."[xiii]
ذلك مما يجعل ملمح التجريب يطفو على سطح هذه المجموعة أيضا من خلال تقسيم العملية السردية إلى نص أصلي (وحدة قصصية) ونص آخر موازي ربما اكتملت خطوطه (كما أراد لها الكاتب/ السارد المتورط في الفعل القصصي) لينتج نصًا واحدًا قادرًا على إبراز رؤية المجموعة أو ما وراء السرد فيها، أو التفاعل المنطقي المعايش لعملية الكتابة التي ربما أنتجت شكلًا أقرب إلى المتوالية القصصية أو إلى روح العمل السردي الطويل القائم على تقسيم فصوله، تلك التي يظهر فيها الملمح التجريبي على مستوى الفكرة أو الروح الداخلية للعمل التي تحركه على نحو بعض الإشارات الممتدة التأثير التي ربما وجدنا لها صدى متبادلًا بين نص المتن ونص الهامش في تكاملية لعبت دورًا مهمًا في تجسيد رؤية المجموعة القصصية كعمل سردي ممتد، وربما متكامل إلى حد بعيد..
Mohamad_attia@hotmail.co.uk
[i] أزمة حشيش – مجموعة قصصية - أحمد الملواني – المكتبة العربية للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى - 2013
[ii] الغرابة.. المفهوم وتجلياته في الأدب – د. شاكر عبد الحميد – سلسلة عالم المعرفة – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت – العدد 384 يناير 2012
[iii] أزمة حشيش.. ص9
[iv] المجموعة ص11
[v] المجموعة ص12
[vi] المجموعة ص 57
[vii] المجموعة ص 59
[viii] المجموعة ص 63/64
[ix] المجموعة ص 80
[x] المجموعة ص108
[xi] المجموعة ص 85
[xii] المجموعة ص 116
[xiii] المجموعة ص117