يمثل رحيل المفكر عبدالكبير الخطيبي علامة فارقة اليوم في المشهد الثقافي المغربي والعربي والإنساني، ويتوقف هذا المقال للباحث المغربي على مكانة الراحل ودوره الرائد في الفكر النقدي وكذا أهم الأسئلة التي توقفت عندها كتاباته سواء في المجال الفكري أو الإبداعي.

عبدالكبير الخطيبي: رحل الجسد وبقي الإبداع

أحمد بلخيري

يعتبر عبد الكبير الخطيبي واحدا من جيل يرجع له الفضل في تأسيس الثقافة المغربية الحديثة. هذه الثقافة التي بقيت، ولقرون طويلة، أسيرة التقليد والاجترار والانشداد إلى الماضي دون أن تتمكن من تكسير قيود هذا الأخير، قيوده الذهنية التي جعلت الفكر والإبداع مستقرين ثابتين في نقطة ثابتة لا تتحرك لا يبرحانها. من هنا كانت السمة الغالبة عليها هي الثبات والجمود. لكن مع المثاقفة التي عرفتها الثقافة المغربية في العصر الحديث، بفضل التعليم العصري الذي وضعت أسسه فرنسا زمن الحماية وتعمق زمن الاستقلال، عرفت هذه الثقافة تحولا ملحوظا، يمكن للمؤرخ، مؤرخ الفكر، أن يقف عند تفاصيله وعلاماته. وقد كان لعبد الكبير الخطيبي دور في إحداث ذلك التحول. يتجلى هذا في كتابته المتعددة الاتجاهات. فقد شملت دراساته وأبحاثه المكتوب والرسم والوشم والحرف والحناء والمثل الشعبي. لذلك كان اهتمامه العلمي جامعا ل"لثقافة العالمة"، أي ثقافة النخبة، والثقافة الشعبية. وقد ساعده انتسابه إلى علم جديد يومئذ هو علم الاجتماع في ذلك. وقد أدار معهدا للسوسيولوجيا في ظرف سياسي يطبعه التوتر. كون المعهد أطرا، لكن مع ذلك أغلق المعهد!.

وبالنظر إلى أهمية كتاباته فقد لفتت إليها الأنظار. لذلك لم يكن اهتمام محمد بنيس بكتاباته، على سبيل المثال، وترجمته لكتاب أساسي هو "الاسم العربي الجريح" بدون مغزى. فكلاهما، بالتتابع، انخرطا في مشروع الحداثة الثقافية بالمغرب والعالم العربي، بعد أن تغير المرجع الثقافي بالنسبة للمغرب إذ عوض الاتجاه شرقا كان الاتجاه شمالا. يشير محمد بنيس في إحدى ملاحظاته التي صدر بها ترجمته لهذا الكتاب إلى تأثير هذا الأخير القوي عليه. قال في هذا الصدد: "لقد أدركت منذ السطور الأولى للكتاب، أنني أمام إبداع ملغز ومحير، معجب في رؤيته ومعجز في نظمه. ومع تقدم القراءة اتسعت الحيرة، وضؤل الأمل. أول ما تأكدت منه هو أن أعيد النظر في معرفتي ككل. هل هناك رعب أكثر؟إذن، عدت إلى بعض المراجع بالفرنسية والعربية، أقرأها لأول مرة أو أعيد قراءتها بوعي مغاير، وقررت في النهاية أن أفتتح المغامرة. هذا كتاب يمتلك سلطة البداية، وما أندر أمثاله في الثقافة العربية" (الاسم العربي الجريح، ص/ 9).

تعرفت على عبد الكبير الخطيبي من خلال بعض كتاباته. فقد قرأت سيرته الذاتية التي استهل بها حياته الثقافية "الذاكرة الموشومة" (ترجمة بطرس الحلاق). وكنت قد استوحيت هذا العنوان بالذات، أشرت في أول الهوامش لذلك، فجعلته عنوانا لتحليل قمت به لنصوص درامية للكاتب المسرحي العراقي قاسم مطرود. هذا فضلا عن "الاسم العربي الجريح" و"النقد المزدوج"... يمكن القول بأن كتاباته الأكاديمية تتميز بالعمق المعرفي، وسعة الاطلاع مع حاسة تحليلية لافتة للرموز والعلامات، مختلف الرموز والعلامات. لاسيما وأنه كان مطلعا اطلاعا حقيقيا بل وممارسا فعليا للتحليل السيميائي أو السيميولوجي. من هنا كانت العلاقة المعرفية وطيدة مع الناقد الفرنسي رولان بارط.

ولايجب أن ننسى تدشينه للبحث في الأدب المغاربي وخاصة الرواية المغاربية، ودراسته ل"ألف ليلة وليلة" الخ . وهو لم يكن باحثا أكاديميا فقط، ولكنه كان أيضا مبدعا. لقد سبقت الإشارة إلى سيرته الذاتية "الذاكرة الموشومة". في إطار الإبداع أيضا يدخل إبداعه الدرامي المسرحي. لقد كان العدد المائتان وواحد وستون (261) من سلسلة "من المسرح العالمي" الكويتية خاصا بنص درامي لعبد الكبير الخطيبي هو "النبي المقنع". ترجم هذا النص الدرامي محمد الكغاط. لكن خطأ تسرب إلى اسم المؤلف إذ عوض كتابة عبد الكبير الخطيبي كتب اسم عبد الكريم الخطابي. والنتيجة هي أن الراحل جمع بين النقد الأدبي والسوسيولوجيا والإبداع، جمع قل نظيره؛هذا فضلا عن تعدده اللغوي وإن كانت كتابته باللغة الفرنسية بحكم التكوين. لقد ترك ذخيرة ونفائس ثقافية مهمة ستبقى منقوشة في ذاكرة الثقافة المغربية والعربية عموما. ولئن اختفى جسد عبد الكبير الخطيبي، الذي بقدر ما كان عالما بقدر ما كان متواضعا تواضعا حقيقيا-إنها شيم العلماء- لا تواضعا كاذبا، فإن هذه النفائس لا ولن تختفي، إنها حية باستمرار. وفي ذلك بعض العزاء.  

باحث من المغرب