"قاموس شخصي"، عنوان لافت لديوان الشاعرة المصرية زهرة يسري الصادر حديثاً عن دار "الأدهم" بالقاهرة، ولا يعود ذلك – فحسب – إلى جدته وعدم اعتياديته، بل لأنه يشير إلى تحول الشعرية المصرية في العقود القليلة السابقة واهتمامها بما هو شخصي فرداني لصيق بالذات الشاعرة. بالإضافة إلى كون زهرة يسري تعيش منذ سنوات فى باريس، الأمر الذي ضاعفَ مِن عزلتها واغترابها وجعل الذات وحالاتها المختلفة محورها الأساسي وربما الوحيد في هذا الديوان.
مِن هذه الزاوية تتكرر تيمة الحصار والمطاردة والمراقبة الدائمة، سواء بدا الأمر حقيقة أو وهماً، فهناك – بناءً على إحساس الشاعرة – شخصٌ دائم المراقبة لها أينما كانت. تقول تحت عنوان "وهم": "ينتظرني على رصيف في الذاكرة/ أقابله صدفة في شقتي/ لا أتذكر ملامحه/ ولا أعرف اسمه/ يدخن معي في حجرة النوم/ يقف أمامي في المطبخ/ أراه خلفي في مرآة الحمام/ شخصٌ ما يحيط بي عِلماً".
ولا شك في أن تغير مفهوم الشعر ودوره هو ما يفسر تلك المغايرة، فقد كانت شعرية الستينات ترتبط في أغلبها بقضايا عامة؛ الأمر الذي جعلها أكثر اقتحاماً للحياة. بينما تستشعر الشعرية الجديدة اغترابها وعزلتها ووطأة العالم عليها، ففي قصيدة "انسحاب"، ولنلاحظ دلالة العنوان، تكتفي الشاعرة بأقل ما يمكن القيام به: "يكفي أن تغلقي عينيك/ أن تكوني مقتنعة أن لا أحد يراك/ لكنك متأكدة في داخلك أن هذا اللاأحد يراقبك/ أن النظرات ما هى إلا سهام ضائعة/ لأنك لستِ هدفاً للمحبة/ أنتِ شىء يتحرك/ بين الآخرين/ تصبحين أكثر عزلة/ بمهارة عنكبوت تغزلين من نظراتهم درعاً كي لا يتسللوا إليكِ". فما كان يبكيه أحمد عبد المعطي حجازي قائلاً: "هذا الزحام لا أحد"، أصبح هو ما تبتغيه الشاعرة الآن. فالانسحاب فعلٌ إرادي بعد أن اكتشفت نظرات الآخرين التي تشبه السِهام، وهي لا تكتفي بالانسحاب المكاني، بل تضيف إليه عزلتها النفسية حين تغزل درعاً حولها كي لا يتسلل إليها أحدٌ.
شخصية اللأحد
وتستدعي تيمة "اللا أحد" الذي يراقبها فكرةَ الوجود الشبحي، وهذا ما تصرح به في قصيدتها الموجزة "شبح" حين تختمها بقولها: "أنفذ عبر الآخرين مثل شبح". بل إن "الحب" نفسه الذي من المفترض أن يشعرها بالتحقق يأتي ويذهب في صورة شبحية حين تخاطبه على هذا النحو: "أراك قادماً كأغنية في عربة مثلجات/ تدخل من الشباك/ ..../ ثم أراك راحلاً/ يدك فى يد الريح". وسوف نلاحظ تتابع الأفعال ما يدل على الانتقالات السريعة بين فعل المجيء والرحيل، ولا شك أن هذا الإحساس بالاغتراب ينعكس على رؤية الشاعرة لكل ما حولها، فحتى "الأشجار"، برمزيتها الرومانسية، تتحول إلى كائنات تعاني الوحدة: "شجرةٌ على الطريق/ شجرةٌ جوار شجرة/ لم تتبادلا أبداً النظر". وهي حالة ينتج عنها ما تسميه الشاعرة بالجُبن العاطفي، فالعلاقات كلها "عابرة"، كما تقول في إحدى القصائد، ويرجع ذلك إلى إيقاع المدينة السريع وغلبة التشيؤ وشيوع النزعة الاستهلاكية التي يصبح فيها "كود المشتريات" أكثر رومانسية "من لقاء قصير فى سوق الحب". وتيمة تشيؤ الإنسان واضحة في الديوان الذي يعبر في مجمله عن "الإنسان الذي قايَض عقله بقرصٍ مُدمج". وتصبح الأفعال كلها بلا جدوى، دلالة على الملل أكثر من دلالتها على الإنجاز: "أغلق الباب ثم أفتحه لأغلقه على شكٍ يتسرب إلى أصابعي/ أعد السلالم خلفي ثم أعيد عدَّها".
وفي هذا السياق يغدو "المحمول على الأكتاف/ أكثر حضوراً/ يترأس الموكب/ كمُبشرٍ يهرول وراءه التابعون". لكن بأي شيء يبشر هذا الميت؟ هل يبشر، على سبيل التهكم، بحضارة فاقدة الروح وآيلة للسقوط؟ هذا ما يوحى به الديوان عموماً، إذ يصبح اللجوء إلى الماضي ضرباً من التشبث بهذه الحياة الذاهبة حتى وإن كانت مجرد صوت هارب "حاولت استرجاعه/ التشبث به في ليلة بعيدة/ كان مختلطاً برجرجة قطار المرج/ مجرد صدى يبتعد مع مصابيح الإنارة". أو حتى إيهام النفس بخيال المجاز الذي يزدهر في الانتظار، فيصبح في قدرة الشاعرة أن ترسم "ظلاً دون شجر/ نوراً بلا شمس/ غيوماً تجري في النهر"، وأن تسرج "صهيلاً أمام الباب".
الخيال المفارق
إن هذا اللجوء إلى الخيال المفارق هو رد فعل لحالة التشيؤ التي أشرتُ إليها والتي تصل إلى رؤية الشاعرة لنفسها كما لو كانت "كرة مطاطية" تضربها بالحائط فترتد إليها أو الحلم المفزع بأنها "جثة في كيس بلاستيكي"، تبحث لها عن مكان للدفن. وهي صورة تعكس ما يسمى بجماليات القبح حين نقرأ: "بحثت يدك عن زجاجة عطر بينما راقبت عيناك الدود/ يأكل أصابعك". ولعل شيوع داليّ الحائط والسقف بصورة مطردة يدل على فكرة الحصار التي تهيمن على إحساس الشاعرة، فيبدو المكان كما لو كان تحت هيمنة قوة متعالية: "تضايقني المدن الكبيرة وأفقد الهوية في تقاطع الطرق/ كاميرات المراقبة حلَّت محل الملائكة". من هنا تصبح الحياة افتراضية أكثر من كونها حقيقية ويصبح "جوجل" وسيلة التواصل مع العالم؛ "يوصلني جوجل إلى قبر أمي/ في الناحية الشرقية من مقابر العائلة/ أرسل لها باقة ورد افتراضية". كل هذا رغم أن الحياة الحقيقية على بعد خطوة وهذا ما تجاهلته "السمكة" التي تصارع الحياة على الشاطىء، بينما كان البحر الذي يمنحها الحياة على بُعد خطوة لا غير.
وفي موازاة هذا الصراع بين الموت والحياة، نجد صراعاً بين حالتي التفاؤل واليأس، والأكثر طرافة أنها تصنع مفارقة بين بين عنوان القصيدة ومتنها فتحت عنوان "حرية" نقرأ: "أربعة حوائط ونافذة/ باب مغلق بإحكام من الداخل"، فهل يمكن أن نقول إن الشاعرة تجد حريتها الحقة بين هذه الجدران وخلف هذا الباب محكم الإغلاق وأنها تفقد هويتها – كما أشارت من قبل – في المدن الكبيرة ووسط زحامها؟ وعلى العكس من هذه المفارقات تماهي الشاعرة بين الليل والنهار حين تقول: "ليلي طويلٌ كنهاري/ أنظر إليه من نافذة قطار/ أتنفس الدقائق التي تمر بسرعة/ وتمر ببطء". ويأخذ الليل في قصيدة "جبل" معنى مجازياً حين تضيفه إلى المحيط الذي يفصل بين الشاعرة ووطنها حيث "يسكنها يقين أنها لن تعود إلى موطنها/ ليل المحيط الأبدي/ ليل لم تستطع الشمس قهره". هذا الليل الأبدي الذي يحيط بالشاعرة يطلق أحلامها بوصفها نوعاً من المقاومة والرغبة في التغيير، حتى على مستوى الاسم الشخصي الذي تود تغييره كل عام، فضلاً عن التجريب الذي يسم الشعرية الجديدة التي تمثل زهرة يسري أحد أصواتها الواضحة.
اندبندنت عربية